surah_name
stringclasses
113 values
revelation_type
stringclasses
2 values
ayah
stringlengths
2
1.15k
tafsir_book
stringclasses
84 values
tafsir_content
stringlengths
0
644k
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)
قال عامة الـمفسرين: تأويـل قول الله تعالـى: { ذَلِكَ الكِتَابُ }: هذا الكتاب. ذكر من قال ذلك: حدثنـي هارون بن إدريس الأصم الكوفـي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مـحمد الـمـحاربـي، عن ابن جريج، عن مـجاهد: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } ، قال: هو هذا الكتاب. حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: أخبرنا خالد الـحذاء، عن عكرمة، قال: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ }: هذا الكتاب. حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا الـحكم بن ظهير، عن السدّي فـي قوله: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } قال: هذا الكتاب. حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج قوله: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ }: هذا الكتاب. قال: قال ابن عبـاس: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ }: هذا الكتاب. فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون «ذلك» بـمعنى «هذا»؟ و«هذا» لا شك إشارة إلـى حاضر معاين، و«ذلك» إشارة إلـى غائب غير حاضر ولا معاين؟ قـيـل: جاز ذلك لأن كل ما تقضي وقَرُب تقضيه من الأخبـار فهو وإن صار بـمعنى غير الـحاضر، فكالـحاضر عند الـمخاطب وذلك كالرجل يحدّث الرجل الـحديث، فـيقول السامع: إن ذلك والله لكما قلت، وهذا والله كما قلت، وهو والله كما ذكرت. فـيخبر عنه مرة بـمعنى الغائب إذ كان قد تقضَّى ومضى، ومرة بـمعنى الـحاضر لقرب جوابه من كلام مخبره كأنه غير منقضٍ، فكذلك ذلك فـي قوله: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } لأنه جل ذكره لـما قدم قبل ذلك الكتاب**{ الۤـمۤ }** [البقرة: 1] التـي ذكرنا تصرّفها فـي وجوهها من الـمعانـي علـى ما وصفنا، قال لنبـيه صلى الله عليه وسلم: يا مـحمد هذا الذي ذكرته وبـينته لك الكتابُ. ولذلك حسن وضع «ذلك» فـي مكان «هذا»، لأنه أشير به إلـى الـخبر عما تضمنه قوله:**{ الۤـمۤ }** [البقرة: 1] من الـمعانـي بعد تقضي الـخبر عنه { بألـم } ، فصار لقرب الـخبر عنه من تقضيه كالـحاضر الـمشار إلـيه، فأخبر عنه بذلك لانقضائه ومصير الـخبر عنه كالـخبر عن الغائب. وترجمه الـمفسرون أنه بـمعنى «هذا» لقرب الـخبر عنه من انقضائه، فكان كالـمشاهد الـمشار إلـيه بهذا نـحو الذي وصفنا من الكلام الـجاري بـين الناس فـي مـحاوراتهم، وكما قال جل ذكره:**{ وَٱذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَذَا ٱلْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ ٱلأَخْيَارِ \* هَـٰذَا ذِكْرٌ }** [ص: 48-49] فهذا ما فـي «ذلك» إذا عنى بها «هذا». وقد يحتـمل قوله جل ذكره: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } أن يكون معنـيا به السور التـي نزلت قبل سورة البقرة بـمكة والـمدينة، فكأنه قال جل ثناؤه لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: يا مـحمد اعلـم أن ما تضمنته سور الكتاب التـي قد أنزلتها إلـيك هو الكتاب الذي لا ريب فـيه. ثم ترجمه الـمفسرون بأن معنى «ذلك»: «هذا الكتاب»، إذ كانت تلك السور التـي نزلت قبل سورة البقرة من جملة جميع كتابنا هذا الذي أنزله الله عز وجل علـى نبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكان التأويـل الأول أولـى بـما قاله الـمفسرون لأن ذلك أظهر معانـي قولهم الذي قالوه فـي ذلك. وقد وجه معنى ذلك بعضهم إلـى نظير معنى بـيت خُفـاف بن نُدبة السلـمي: | **فإنْ تَكُ خَيْـلـي قَدْ أصِيبَ صَميـمُها** | | **فَعَمْداً علـى عَيْنٍ تَـيَـمَّـمْتُ مالكا** | | --- | --- | --- | | **أقُولُ لَهُ والرُّمْـحُ يَأطِرُ مَتْنَهُ** | | **تَأمَّلْ خُفـافـاً إنَّنـي أنا ذَلكا** | كأنه أراد: تأملنـي أنا ذلك. فرأى أن «ذلك الكتاب» بـمعنى «هذا» نظير ما أظهر خفـاف من اسمه علـى وجه الـخبر عن الغائب وهو مخبر عن نفسه، فلذلك أظهر «ذلك» بـمعنى الـخبر عن الغائب، والـمعنى فـيه الإشارة إلـى الـحاضر الـمشاهد. والقول الأول أولـى بتأويـل الكتاب لـما ذكرنا من العلل. وقد قال بعضهم: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ }: يعنـي به التوراة والإنـجيـل، وإذا وجه تأويـل ذلك إلـى هذا الوجه فلا مؤنة فـيه علـى متأوله كذلك لأن «ذلك» يكون حينئذٍ إخبـاراً عن غائب علـى صحة. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ }. وتأويـل قوله: { لاَ رَيْبَ فِيهِ }: «لا شك فـيه»، كما: حدثنـي هارون بن إدريس الأصم، قال: حدثنا عبد الرحمن الـمـحاربـي، عن ابن جريج، عن مـجاهد { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ، قال: لا شك فـيه. حدثنـي سلام بن سالـم الـخزاعي، قال: حدثنا خـلف بن ياسين الكوفـي، عن عبد العزيز بن أبـي روّاد عن عطاء: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } قال: لا شك فـيه. حدثنـي أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد الزبـيري، قال: حدثنا الـحكم بن ظهير، عن السدّي، قال: { لاَ رَيْبَ فِيهِ }: لا شك فـيه. حدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: { لاَ رَيْبَ فِيهِ }: لا شك فـيه. حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } قال: لا شك فـيه. حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } يقول لا شك فـيه. حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } يقول: لا شك فـيه. وحدثت عن عمار بن الـحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبـي جعفر، عن أبـيه عن الربـيع بن أنس قوله: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } يقول: لا شك فـيه. وهو مصدر من قولك: رابنـي الشيء يريبنـي ريبـا. ومن ذلك قول ساعدة بن جُؤيَّة الهذلـي: | **فَقَالُوا تَرَكْنا الـحَيَّ قَدْ حَصَرُوا بهِ** | | **فَلا رَيْبَ أنْ قَدْ كانَ ثمَّ لَـحِيـمُ** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويروى: «حصروا»، و«حَصِروا»، والفتـح أكثر، والكسر جائز. يعنـي بقوله: «حصروا به»: أطافوا به، ويعنـي بقوله: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } لا شك فـيه، وبقوله: «أن قد كان ثم لـحيـم»، يعنـي قتـيلاً، يقال: قد لُـحم إذا قتل. والهاء التـي فـي «فـيه» عائدة علـى الكتاب، كأنه قال: لا شك فـي ذلك الكتاب أنه من عند الله هدى للـمتقـين. القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { هُدًى }. حدثنـي أحمد بن حازم الغفـاري، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن بـيان، عن الشعبـي: هُدًى قال: هدى من الضلالة. حدثنـي موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط بن نصر، عن إسماعيـل السدي، فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } يقول: نور للـمتقـين. والهدى فـي هذا الـموضع مصدر من قولك: هديت فلاناً الطريق إذا أرشدته إلـيه، ودللته علـيه، وبـينته له أهديه هُدًى وهداية. فإن قال لنا قائل: أو ما كتاب الله نوراً إلا للـمتقـين ولا رشاداً إلا للـمؤمنـين؟ قـيـل: ذلك كما وصفه ربنا عز وجل، ولو كان نوراً لغير الـمتقـين، ورشاداً لغير الـمؤمنـين لـم يخصص الله عز وجل الـمتقـين بأنه لهم هدى، بل كان يعم به جميع الـمنذرين ولكنه هدى للـمتقـين، وشفـاء لـما فـي صدور الـمؤمنـين، ووَقْرٌ فـي آذان الـمكذّبـين، وعمي لأبصار الـجاحدين، وحجة لله بـالغة علـى الكافرين فـالـمؤمن به مهتد، والكافر به مـحجوج. وقوله: هُدًى يحتـمل أوجها من الـمعانـي أحدها: أن يكون نصبـاً لـمعنى القطع من الكتاب لأنه نكرة والكتاب معرفة، فـيكون التأويـل حينئذٍ: الـم ذلك الكتاب هاديا للـمتقـين. و«ذلك» مرفوع ب«الـم»، و«الـم» به، و«الكتاب» نعت ل«ذلك». وقد يحتـمل أن يكون نصبـاً علـى القطع من راجع ذكر الكتاب الذي فـي «فـيه»، فـيكون معنى ذلك حينئذٍ: الـم الذي لا ريب فـيه هادياً. وقد يحتـمل أن يكون أيضا نصبـاً علـى هذين الوجهين، أعنـي علـى وجه القطع من الهاء التـي فـي «فـيه»، ومن الكتاب علـى أن «الـم» كلام تام، كما قال ابن عبـاس. إن معناه: أنا الله أعلـم. ثم يكون «ذلك الكتاب» خبراً مستأنفـاً، ويرفع حينئذٍ الكتاب ب«ذلك» و«ذلك» بـالكتاب، ويكون «هدى» قطعاً من الكتاب، وعلـى أن يرفع «ذلك» بـالهاء العائدة علـيه التـي فـي «فـيه»، والكتاب نعت له، والهدى قطع من الهاء التـي فـي «فـيه». وإن جعل الهدى فـي موضع رفع لـم يجز أن يكون «ذلك الكتاب» إلا خبرا مستأنفـا و«الـم» كلاماً تاماً مكتفـياً بنفسه إلاّ من وجه واحد وهو أن يرفع حينئذٍ «هدى» بـمعنى الـمدح كما قال الله جل وعز:**{ الۤـمۤ تِلْكَ ءايَـٰتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لّلْمُحْسِنِينَ }** [لقمان: 1-3] فـي قراءة من قرأ «رحمة» بـالرفع علـى الـمدح للآيات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والرفع فـي «هدى» حينئذٍ يجوز من ثلاثة أوجه، أحدها: ما ذكرنا من أنه مدح مستأنف. والآخر: علـى أن يجعل الرافع «ذلك»، والكتاب نعت ل«ذلك». والثالث: أن يجعل تابعاً لـموضع «لا ريب فـيه»، ويكون «ذلك الكتاب» مرفوعاً بـالعائد فـي «فـيه»، فـيكون كما قال تعالـى ذكره:**{ وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ }** وقد زعم بعض الـمتقدمين فـي العلـم بـالعربـية من الكوفـيـين أن «الـم»مرافع «ذلك الكتاب» بـمعنى: هذه الـحروف من حروف الـمعجم، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إلـيك. ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نقضَه، وهدم ما بنى فأسرع هدمَه، فزعم أن الرفع فـي «هدى» من وجهين والنصب من وجهين، وأن أحد وجهي الرفع أن يكون «الكتاب» نعتاً لـ«ذلك»، و«الهدى» فـي موضع رفع خبر لـ«ذلك» كأنك قلت: ذلك لا شك فـيه. قال: وإن جعلت «لا ريب فـيه» خبره رفعت أيضاً «هدى» بجعله تابعاً لـموضع «لا ريب فـيه» كما قال الله جل ثناؤه:**{ وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ }** [الأنعام: 92] كأنه قال: وهذا كتاب هدى من صفته كذا وكذا. قال: وأما أحد وجهي النصب، فأن تـجعل «الكتاب» خبراً لـ«ذلك» وتنصب «هدى» علـى القطع لأن «هدى» نكرة اتصلت بـمعرفة وقد تـمّ خبرها فتنصبها، لأن النكرة لا تكون دلـيلاً علـى معرفة، وإن شئت نصبت «هدى» علـى القطع من الهاء التـي فـي «فـيه» كأنك قلت: لا شكّ فـيه هاديا. قال أبو جعفر: فترك الأصل الذي أصّله فـي «الـم» وأنها مرفوعة ب«ذلك الكتاب» ونبذه وراء ظهره. واللازم له علـى الأصل الذي كان أصّله أن لا يجيز الرفع فـي «هدى» بحال إلا من وجه واحد، وذلك من قبل الاستئناف إذ كان مدحاً. فأما علـى وجه الـخبر لذلك، أو علـى وجه الإتبـاع لـموضع «لا ريب فـيه»، فكان اللازم له علـى قوله إن يكون خطأ، وذلك أن «الـم» إذا رفعت «ذلك الكتاب» فلا شك أن «هدى» غير جائز حينئذٍ أن يكون خبراً لـ«ذلك» بـمعنى الرافع له، أو تابعاً لـموضع لا ريب فـيه، لأن موضعه حينئذٍ نصب لتـمام الـخبر قبله وانقطاعه بـمخالفته إياه عنه.القول فـي تأويـل قوله تعالـى: { لِّلْمُتَّقِينَ }. حدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا أبـي عن سفـيان، عن رجل، عن الـحسن قوله: { لِّلْمُتَّقِينَ } قال: اتقوا ما حرم علـيهم وأدّوا ما افترض علـيهم. حدثنا مـحمد بن حميد، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل، عن مـحمد بن إسحاق، عن مـحمد بن أبـي مـحمد مولـى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس: { لِّلْمُتَّقِينَ } أي الذين يحذرون من الله عز وجل عقوبته فـي ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته بـالتصديق بـما جاء به. حدثنـي موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسبـاط، عن السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } قال: هم الـمؤمنون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: سألنـي الأعمش عن الـمتقـين، قال: فأجبته، فقال لـي: سل عنها الكلبـي فسألته فقال: الذين يجتنبون كبـائر الإثم. قال: فرجعت إلـى الأعمش، فقال: نرى أنه كذلك ولـم ينكره. حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم الطبري، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال: حدثنا عمر أبو حفص، عن سعيد بن أبـي عروبة، عن قتادة: { هُدًى للْـمُتَّقِـينَ } مَنْ هم نعتهم ووصفهم فأثبت صفتهم فقال:**{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }** [البقرة: 3] حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمار، عن أبـي روق، عن الضحاك، عن ابن عبـاس: { لِّلْمُتَّقِينَ } قال: الـمؤمنـين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتـي. وأولـى التأويلات بقول الله جل ثناؤه: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } تأويـل من وصف القوم بأنهم الذين اتقوا الله تبـارك وتعالـى فـي ركوب ما نهاهم عن ركوبه، فتـجنبوا معاصيه واتقوه فـيـما أمرهم به من فرائضه فأطاعوه بأدائها. وذلك أن الله عز وجل إنـما وصفهم بـالتقوى فلـم يحصر تقواهم إياه علـى بعضها من أهل منهم دون بعض. فلـيس لأحد من الناس أن يحصر معنى ذلك علـى وصفهم بشيء من تقوى الله عز وجل دون شيء إلا بحجة يجب التسلـيـم لها، لأن ذلك من صفة القوم لو كان مـحصوراً علـى خاصّ من معانـي التقوى دون العام منها لـم يَدَع الله جل ثناؤه بـيان ذلك لعبـاده، إما فـي كتابه، وإما علـى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذْ لـم يكن فـي العقل دلـيـل علـى استـحالة وصفهم بعموم التقوى. فقد تبـين إذا بذلك فساد قول من زعم أن تأويـل ذلك إنـما هو: الذين اتقوا الشرك وبرءوا من النفـاق لأنه قد يكون كذلك وهو فـاسق غير مستـحق أن يكون من الـمتقـين. إلا أن يكون عند قائل هذا القول معنى النفـاق ركوب الفواحش التـي حرمها الله جل ثناؤه وتضيـيع فرائضه التـي فرضها علـيه، فإن جماعة من أهل العلـم قد كانت تسمي من كان يفعل ذلك منافقاً، فـيكون وإن كان مخالفـاً فـي تسميته من كان كذلك بهذا الاسم مصيبـاً تأويـل قول الله عز وجل للـمتقـين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ)
فإن قلت لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد؟ قلت وقعت الإشارة إلى الم بعد ما سبق التكلم به وتقضى، والمقضى في حكم المتباعد، وهذا في كل كلام. يحدّث الرجل بحديث ثم يقول وذلك ما لا شك فيه. ويحسب الحاسب ثم يقول فذلك كذا وكذا. وقال الله تعالى**{ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ }** البقرة 68. وقال**{ ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى }** يوسف 37، ولأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه، وقع في حد البعد، كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئاً احتفظ بذلك. وقيل معناه ذلك الكتاب الذي وعدوا به. فإن قلت لم ذكر اسم الإشارة ـــ والمشار إليه مؤنث وهو السورة ـــ؟ قلت لا أخلو من أن أجعل الكتاب خبره أو صفته. فإن جعلته خبره، كان ذلك في معناه ومسماه مسماه، فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير، كما أجرى عليه في التأنيث في قولهم من كانت أمّك. وإن جعلته صفته، فإنما أشير به إلى الكتاب صريحاً لأنّ اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له. تقول هند ذلك الإنسان، أو ذلك الشخص فعل كذا. وقال الذبياني | **نُبِّئْتُ نُعْمَى على الهِجْرَانِ عاتِبةً سُقْيَا ورُعْيَا لِذَاكَ العاتِبِ الزَّارِي** | | | | --- | --- | --- | فإن قلت أخبرني عن تأليف { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } مع { الم }. قلت إن جعلت { الۤمۤ } اسماً للسورة ففي التأليف وجوه أن يكون { الۤمۤ } مبتدأ، و { ذٰلِكَ }. مبتدأ ثانياً، و { ٱلْكِتَـٰبِ } خبره، والجملة خبر المبتدأ الأوّل. ومعناه أنّ ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وأنه الذي يستأهل أن يسمى كتاباً، كما تقول هو الرجل، أي الكامل في الرجولية، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال. وكما قال | **هُمُ الْقَوْمُ كلُّ الْقَوْمِ يا أُمَّ خَالِدِ** | | | | --- | --- | --- | وأن يكون الكتاب صفة. ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود، وأن يكون { الۤمۤ } خبر مبتدأ محذوف، أي هذه الۤمۤ، ويكون ذلك خبراً ثانياً أو بدلاً، على أن الكتاب صفة، وأن يكون هذه الۤمۤ جملة، وذلك الكتاب جملة أخرى. وإن جعلت الۤمۤ بمنزلة الصوت، كان ذلك مبتدأ خبره الكتاب، أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل. أو الكتاب صفة والخبر ما بعده، أو قدّر مبتدأ محذوف، أي هو ـــ يعني المؤلف من هذه الحروف ـــ ذلك الكتاب. وقرأ عبد الله { آلم، تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ }. وتأليف هذا ظاهر. والريب مصدر رابني، إذا حصل فيك الريبة. وحقيقة الريبة قلق النفس واضطرابها. ومنه ما روى الحسن بن علي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول 10 **" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشك ريبة، وإنّ الصدق طمأنينة "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | أي فإن كون الأمر مشكوكاً فيه مما تقلق له النفس ولا تستقرّ. وكونه صحيحاً صادقاً مما تطمئن له وتسكن. ومنه ريب الزمان، وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه. ومنه 11 أنه مر بظبي حاقف فقال **" «لا يربه أحد بشيء ".** فإن قلت كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق؟ وكم من مرتاب فيه؟ قلت ما نفى أنّ أحد لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى**{ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ }** البقرة 23، فما أبعد وجود الريب منهم؟ وإنما عرفهم الطريق إلى مزيل الريب، وهو أن يحزروا أنفسهم ويروزوا قواهم في البلاغة، هل تتم للمعارضة أم تتضاءل دونها؟ فيتحققوا عند عجزهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة. فإن قلت فهلا قدّم الظرف على الريب، كما قدّم على الغَوْل في قوله تعالى**{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ }** الصافات 47؟ قلت لأنّ القصد في إيلاء الريب حرف النفي، نفي الريب عنه، وإثبات أنه حق وصدق لا باطل وكذب، كما كان المشركون يدّعونه، ولو أولى الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد، وهو أنّ كتاباً آخر فيه الريب فيه، كما قصد في قوله { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة، وقرأ أبو الشعثاء { لاَ رَيْبَ فِيهِ } بالرفع والفرق بينها وبين المشهورة، أنّ المشهورة توجب الاستغراق، وهذه تجوّزه. والوقف على { فِيهِ } هو المشهور. وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على { لاَ رَيْبَ } ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً. ونظيره قوله تعالى**{ قَالُواْ لاَ ضَيْرَ }** الشعراء 50، وقول العرب لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز. والتقدير { لاَ رَيْبَ فِيهِ }. { فِيهِ هُدًى } الهدى مصدر على فعل، كالسرى والبكى، وهو الدلالة الموصلة إلى البغية، بدليل وقوع الضلالة في مقابلته. قال الله تعالى**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ }** البقرة 16. وقال تعالى**{ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ }** سبأ 24. ويقال مهدي، في موضع المدح كمهتد ولأن اهتدى مطاوع هدى ـــ ولن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله ـــ ألا ترى إلى نحو غمه فاغتم، وكسره فانكسر، وأشباه ذلك فإن قلت فلم قيل { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } والمتقون مهتدون؟ قلت هو كقولك للعزيز المكرم أعزك الله وأكرمك، تريد طلب الزيادة إلى ما هو ثابت فيه واستدامته، كقوله { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }. ووجه آخر، وهو أنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم 12 | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **" من قتل قتيلاً فله سلبه "** وعن ابن عباس 13 «إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض وتضل الضالة،وتكون الحاجة» فسمى المشارف للقتل والمرض والضلال قتيلاً ومريضاً وضالاً. ومنه قوله تعالى**{ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً }** نوح 27، أي صائراً إلى الفجور والكفر. فإن قلت فهلا قيل هدى للضالين؟ قلت لأن الضالين فريقان فريق علم بقاؤهم على الضلالة وهم المطبوع على قلوبهم، وفريق علم أنّ مصيرهم إلى الهدى فلا يكون هدى للفريق الباقين على الضلالة، فبقى أن يكون هدى لهؤلاء، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال، فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا، فقيل هدى للمتقين. وأيضاً فقد جعل ذلك سلماً إلى تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني، بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده. والمتقي في اللغة اسم فاعل، من قولهم وقاه فاتقى. والوقاية فرط الصيانة. ومنه فرس واق، وهذه الدابة تقي من وجاها، إذا أصابه ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه. وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. واختلف في الصغائر وقيل الصحيح أنه لا يتناولها، لأنها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر. وقيل يطلق على الرجل اسم المؤمن لظاهر الحال، والمتقي لا يطلق إلا عن خبرة، كما لا يجوز إطلاق لعدل إلا على المختبر. ومحل { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } الرفع، لأنه خبر مبتدإ محذوف، أو خبر مع { لاَ رَيْبَ فِيهِ } لذلك، أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدّم خبراً عنه. ويجوز أن ينصب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف. والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحاً. وأن يقال إن قوله { الۤمۤ } جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها. و { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } جملة ثانية. و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ثالثة. و { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } رابعة. وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض. فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة. بيان ذلك أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدّى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال. فكان تقريراً لجهة التحدي، وشدّاً من أعضاده. ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلاً بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة. وقيل لبعض العلماء فيم لذتك؟ فقال في حجة تتبختر اتضاحاً، وفي شبهة تتضاءل افتضاحاً. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرّر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثم لم تخل كل واحدة من الأربع، بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا النظم السري، من نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه. وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة. وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف. وفي الرابعة الحذف. ووضع المصدر الذي هو { هُدًى } موضع الوصف الذي هو «هاد» وإيراده منكراً. والإيجاز في ذكر المتقين. زادنا الله إطلاعاً على أسرار كلامه، وتبييناً لنكت تنزيله، وتوفيقاً للعمل بما فيه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ)
القراءة: قرأ ابن كثير فيهي هدى بوصل الهاء بياء في اللفظ وكذلك كل هاء كتابية قبلها ياء ساكنة فإِن كان قبلها ساكن غير الياء وصلها بالواو ووافقه حفص في قولـه فيهي مهاناً وقتيبة في قولـه فملاقيه وسأصليه والباقون لا يُشبعون وإِذا تحرك ما قبل الهاء فهم مجمعون على إشباعه. الحجة: اعلم أنه يجوز في العربية في فيه أربعة أوجه فيهو وفيهي وفيهُ وفيهِ والأصل فيهو كما قيل لهو مال فمن كسر الهاء من فيه ونحوه مع أن الأصل الضم فلأجل الياء أو الكسرة قبل الهاء والهاء تشبه الألف لكونها من حروف الخلق ولما فيها من الخفاء فكما نحواً بالألف نحو الياء بالإمالة لأجل الكسرة أو الياء كذلك كسروا الهاء للكسرة أو الياء ليتجانس الصوتان ومن ترك الإشباع فلكراهة اجتماع المشابهة فإن اكتنفها ساكنان من حروف اللين كان كأنّ الساكنين التقيا لخفاء الهاء فإنهم لم يعتدوا بها حاجزاً في نحو فيهي وخُذُ وهُو كما لم يعتد بها في نحو ردّ من أتبع الضم الضم إذا وصل الفعل بضمير المؤنث فقال ردها بالفتح لا غير ولم يتبع الضم الضم وجعل الدال كأنها لازقة بالألف وأما من أشبع واتبعها الياء قال الهاء وإن كانت خفية فليس يخرجها ذلك من أن تكون كغيرها من حروف المعجم التي لا خفاء فيها فإذا كان كذلك كان حجَزها بين الساكنين كحجز غيرها من الحروف التي لا خفاء فيها. اللغة: ذلك لفظة يشار بها إلى ما بَعُدَ وهذا: إلى ما قرب والاسم من ذلك ذا والكاف زيدت للخطاب ولاحظَّ لها من الإعراب واللام تزاد للتأكيد وكسرت لالتقاء الساكنين وتسقط معها هاء تقول ذاك وذلك وهذاك ولا تقول هذا لك والكتاب مصدر وهو بمعنى المكتوب كالحساب قال الشاعر: | **بَشَرْتُ عِيالي إذ رَأَيْتُ صَحِيفَةً** | | **أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ يُتْلى كِتَابُها** | | --- | --- | --- | أي مكتوبها وأصله الجمع من قولـهم كتبت القربة إذا خرزتها والكتبة الخرزة وكتبت البغلة إذا جمعت بين شفريها بحلقة ومنه قيل للجند كَتِيبَة لانضمام بعضهم إلى بعض والريب الشك وقيل هو أسوأ الشك وهو مصدر رابني الشيء من فلان يريبني إذا كنت مستيقناً منه بالريبة فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن بالريبة منه قلت أرابني من فلان أمر إرابة وأراب الرجل إذا صار صاحب ريبة كما قيل ألام أي استحق أن يلام والهدى الدلالة مصدر هديته وفُعَل قليل في المصادر. قال أبو علي: يجوز أن يكون فعل مصدر اختص به المعتل وإن لم يكن في المصادر كما كان كينونة ونحوه لا يكون في الصحيح والفعل منه يتعدى إلى مفعولين يتعدى إلى الثاني منهما بأحد حرفي جر إلى أو اللام كقولـه: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ }** [ص: 22] و**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا }** [الأعراف: 43] وقد يحذف منه حرف الجر فيصل الفعل إلى المفعول نحو: { إهدنا الصراط المستقيم } أي دلنا عليه وأسلك بنا فيه وكأنه استنجازٌ لما وعدوا به في قولـه:**{ يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ }** [المائدة: 16] أي سبل دار السلام والأصل في المتقين الموتقين مفتعلين من الوقاية فقبلت الواو تاء وأدغمتها في التاء التي بعدها وحذفت الكسرة من الياء استثقالاً لها ثم حذفتها لالتقاء الساكنين فبقي متقين والتقوى أصله وقوى قلبت الواو تاء كالتراث أصله وراث وأصل الاتقاء الحجز بين الشيئين يقال: أتقاه بالترس أي جعله حاجزاً بينه وبينه قال الشاعر: | **فَأَلْقَتِ قِنَاعاً دُونَها الشَّمْسُ واتَّقَتْ** | | **بِأحْسَنِ مَوْصُولَيْن كفٍّ ومِعْصَمِ** | | --- | --- | --- | ومنه الوقاية لأنها تمنع رؤية الشعر. الإعراب: ذلك في موضع رفع من وجوه: أحدها: أن تجعله خبراً عن ألم كما مضى القول فيه وثانيها: أن يكون متبدأ والكتاب خبره وثالثها: أن يكون مبتدأ والكتاب عطف بيان أو صفة له أو بدل منه ولا ريب فيه جملة في موضع الخبر ورابعها: أن يكون مبتدأ وخبره هدىً ويكون لا ريب في موضع الحال والعامل في الحال معنى الإشارة وخامسها: أن يكون لا ريب فيه وهدى جميعاً خبراً بعد كقولك هذا حلو حامض أي جمع الطعمين ومنه قول الشاعر: | **مَنْ يَكُ ذا بَتٍّ فَهذَا بَتّي** | | **مُقَيّظٌ مصَيّفٌ مُشَتّي** | | --- | --- | --- | وسادسها: أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا ذلك الكتاب وإن حملت على هذا الوجه أو على أنه مبتدأ ولا ريب فيه الخبر أو على أنه خبر ألم أو على أن الكتاب خبر عنه كان قولـه هدى في موضع نصب على الحال أي هادياً للمتقين والعامل فيه معنى الإشارة والاستقرار الذي يتعلق به فيه وقولـه: { لا ريب } قال سيبويه: لا تعمل فيما بعدها فتنصبه بغير تنوين وقال غيره من حذاق النحويين: جعل لا مع النكرة الشائعة مركباً فهو أوكد من تضمين الاسم معنى الحرف لأنه جعل جزءاً من الاسم بدلالة إنك تضيف إليه مجموعاً وتدخل عليه حرف الجر فتقول جئتك بلا مال ولا زاد فلما صار كذلك بني على الفتح وهما جميعاً في موضع الرفع على الابتداء فموضع خبره موضع خبر المبتدأ وعلى هذا فيجوز أن تجعل فيه خبر ويجوز أن تجعله صفة فإن جعلته صفة أضمرت الخبر وأن جعلته خبراً كان موضعه رفعاً في قياس قول سيبويه من حيث يرتفع خبر المبتدأ وعلى قول أبي الحسن الأخفش موضعه رفع والموضع للظرف نفسه لا لما كان يتعلق به لأن الحكم له من دون ما كان يكون الظرف منتصباً به في الأصل ألا ترى أن الضمير قد صار في الظرف. وأما قولـه: { هدى } فيجوز أن يكون في موضع رفع من ثلاثة أوجه غير الوجه الذي ذكرناه قبل وهو أن يكون خبراً عن ذلك أحدها أن يكون مبتدأ وفيه الخبر على أن تضمر للا ريب خبراً كأنك قلت لا ريب فيه فيه هدى والوقف على هذا الوجه يكون على قولـه لا ريب ويبتدئ فيه هدى للمتقين وإن شئت جعلت فيه هذه الظاهرة خبراً عن لا ريب وأضمرت لهدى خبراً كأنك قلت لا ريب فيه فيه هدى والوقف على هذا الوجه على قولـه لا ريب فيه ويبتدئ هدى للمتقين والوجه الثاني أن يكون خبراً عن ألم على قول من جعله اسما للسورة والوجه الثالث أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره هو هدى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | المعنى: المراد بالكتاب القرآن وقال الأخفش ذلك بمعنى هذا لأن الكتاب كان حاضراً وأنشد لخفاف بن ندبة: | **أقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يأطِرُ متْنُهُ** | | **تأمَّل خُفَافاً إِنَّني أنا ذلِكا** | | --- | --- | --- | أي أنا هذا وهذا البيت يمكن إجراؤه على ظاهره أي إنني أنا ذلك الرجل الذي سمعت شجاعته وإذا جرى للشيء ذكر يجوز أن يقول السامع هذا كما قلت وذلك كما قلت وتقول أنفقت ثلاثة وثلاثة فهذا ستة أو فذلك ستة وإنما تقول هذا لقربه بالإخبار عنه وتقول ذلك لكونه ماضياً وقيل إن الله وعد نبيه أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الرد فلما أنزل القرآن قال هذا القرآن ذلك الكتاب الذي وعدتك عن الفراء وأبي علي الجبائي. وقيل معناه هذا القرآن ذلك الكتاب الذي وعدتك به في الكتب السالفة عن المبرد. ومن قال إن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل فقولـه فاسد لأنه وصف الكتاب بأنه لا ريب فيه وأنه هدى ووصف ما في أيدي اليهود والنصارى بأنه محرّف بقولـه:**{ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ }** [النساء: 46] ومعنى قولـه لا ريب فيه أي أنه بيان وهدى وحق ومعجز فمن ههنا استحق الوصف بأنه لا شك فيه لا على جهة الإخبار بنفي الشاكين وقيل إنه على الحذف كأنه قال لا سبب شك فيه لأن الأسباب التي توجب الشك في الكلام هي التلبيس والتعقيد والتناقض والدعاوى العارية من البرهان وهذه كلها منفية عن كتاب الله تعالى وقيل إن معناه النهي وإن كان لفظه الخبر أي لا ترتابوا أو لا تشكوا فيه كقولـه تعالى:**{ لاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ }** [البقرة: 197] وأما تخصيص المتقين بأن القرآن هدى لهم وإن كان هدى لجميع الناس فلأنهم هم الذين انتفعوا به واهتدوا بهداه كما قال إنما انتفع بإنذاره من يخشى نار جهنم على أنه ليس في الإخبار بأنه هدى للمتقين ما يدل على أنه ليس بهدى لغيرهم وبيَّن في آية أخرى أنه هدى للناس. فصل في التقوى والمتقي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" جماع التقوى في قولـه تعالى: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } "** [النحل: 90] وقيل: المتقي الذي اتقى ما حرم عليه وفعل ما أوجب عليه. وقيل: هو الذي يتقي بصالح أعماله عذاب الله وسأل عمر بن الخطاب كعب الأحبار عن التقوى فقال: هل أخذت طريقاً ذا شوك. فقال: نعم قال: فما عملت فيه قال حذرت وتشمرت. فقال كعب: ذلك التقوى ونظمه بعض الناس فقال: | **خلِّ الذنوبَ صغيرَها** | | **وكبيرَها فهو التُقى** | | --- | --- | --- | | **واصنع كماشٍ فوق أر** | | **ض الشَوك يحذر ما يَرى** | | **لا تحَقِرنَّ صغيرة** | | **إن الجبال من الحصى** | وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" إنما سمي المتقون لتركهم ما لا بأس به حذراً للوقوع فيما به بأس "** وقال عمر بن عبد العزيز: التقي ملجم كالمجرم في الحرم. وقال بعضهم: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ)
قوله تعالى: { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } وفيه مسائل: المسألة الأولى: لقائل أن يقول: المشار إليه ههنا حاضر، و «ذلك» اسم مبهم يشار به إلى البعيد، والجواب عنه من وجهين: الأول: لا نسلم أن المشار إليه حاضر، وبيانه من وجوه: أحدها: ما قاله الأصم: وهو أن الله تعالى أنزل الكتاب بعضه بعد بعض، فنزل قبل سورة البقرة سور كثيرة، وهي كل ما نزل بمكة مما فيه الدلالة على التوحيد وفساد الشرك وإثبات النبوة وإثبات المعاد، فقوله: { ذٰلِكَ } إشارة إلى تلك السور التي نزلت قبل هذه السورة، وقد يسمى بعض القرآن قرآناً، قال الله تعالى:**{ وَإِذَا قُرِىء ٱلْقُرْءانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ }** [الأعراف: 204] وقال حاكياً عن الجن**{ إنا سمعنا قرآناً عجباً }** [الجن: 1] وقوله:**{ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـٰباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ }** [الأحقاف: 30] وهم ما سمعوا إلا البعض، وهو الذي كان قد نزل إلى ذلك الوقت، وثانيها: أنه تعالى وعد رسوله عند مبعثه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماحي، وهو عليه السلام أخبر أمته بذلك وروت الأمة ذلك عنه، ويؤيده قوله:**{ إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }** [المزمل: 5] وهذا في سورة المزمل، وهي إنما نزلت في ابتداء المبعث، وثالثها: أنه تعالى خاطب بني إسرائيل، لأن سورة البقرة مدنية، وأكثرها احتجاج على بني إسرائيل، وقد كانت بنو إسرائيل أخبرهم موسى وعيسى عليهما السلام أن الله يرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وينزل عليه كتاباً فقال تعالى: { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } أي الكتاب الذي أخبر الأنبياء المتقدمون بأن الله تعالى سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل، ورابعها: أنه تعالى لما أخبر عن القرآن بأنه في اللوح المحفوظ بقوله:**{ وَإِنَّهُ فِى أُمّ ٱلْكِتَـٰبِ لَدَيْنَا }** [الزخرف: 4] وقد كان عليه السلام أخبر أمته بذلك، فغير ممتنع أن يقول تعالى: { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } ليعلم أن هذا المنزل هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ. وخامسها: أنه وقعت الإشارة بذلك إلى «ألم» بعد ما سبق التكلم به وانقضى، والمنقضى في حكم المتباعد، وسادسها: أنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد، كما تقول لصاحبك ـ وقد أعطيته شيئاً ـ احتفظ بذلك. وسابعها: أن القرآن لما اشتمل على حكم عظيمة وعلوم كثيرة يتعسر اطلاع القوة البشرية عليها بأسرها ـ والقرآن وإن كان حاضراً نظراً إلى صورته لكنه غائب نظراً إلى أسراره وحقائقه ـ فجاز أن يشار إليه كما يشار إلى البعيد الغائب.«ذلك» يشار بها للقريب والبعيد: المقام الثاني: سلمنا أن المشار إليه حاضر، لكن لا نسلم أن لفظة «ذلك» لا يشار بها إلا إلى البعيد، بيانه أن ذلك، وهذا حرفاً إشارة، وأصلهما «ذا» لأنه حرف للإشارة، قال تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا }** [البقرة: 245] ومعنى «ها» تنبيه، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل: هذا، أي تنبه أيها المخاطب لما أشرت إليه فإنه حاضر لك بحيث تراه، وقد تدخل الكاف على «ذا» للمخاطبة واللام لتأكيد معنى الإشارة فقيل: «ذلك» فكأن المتكلم بالغ في التنبيه لتأخر المشار إليه عنه، فهذا يدل على أن لفظة ذلك لا تفيدالبعد في أصل الوضع، بل اختص في العرف بالإشارة إلى البعيد للقرينة التي ذكرناها، فصارت كالدابة، فإنها مختصة في العرف بالفرس، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدب على الأرض، وإذا ثبت هذا فنقول: إنا نحمله ههنا على مقتضى الوضع اللغوي، لا على مقتضى الوضع. العرفي وحينئذٍ لا يفيد البعد ولأجل هذه المقاربة يقام كل واحد من اللفظين مقام الآخر قال تعالى:**{ وَٱذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرٰهِيمَ وَإِسْحَـٰقَ }** [صۤ: 45] إلى قوله -**{ وَكُلٌّ مّنَ ٱلأخْيَارِ }** [صۤ: 48] ثم قال:**{ هَـٰذَا ذِكْرُ }** [الأنبياء: 24] وقال:**{ وَعِندَهُمْ قَـٰصِرٰتُ ٱلطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ }** [صۤ: 52 - 53] وقال:**{ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ }** [قۤ: 19] وقال:**{ فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلأَخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَىٰ }** [النازعات: 25- 26] وقال:**{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ٱلزَّبُورِ مِن بَعْدِ ٱلذّكْرِ أَنَّ ٱلأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ٱلصَّـٰلِحُونَ }** [الأنبياء: 105] ثم قال:**{ إِنَّ فِى هَـٰذَا لَبَلَـٰغاً لّقَوْمٍ عَـٰبِدِينَ }** [الأنبياء: 106] وقال:**{ فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذٰلِكَ يَحْيَىٰ ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ }** [البقرة: 73] أي هكذا يحيـى الله الموتى، وقال:**{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ }** [طه: 17] أي ما هذه التي بيمينك والله أعلم. المسألة الثانية: لقائل أن يقول: لم ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث، وهو السورة، الجواب: لا نسلم أن المشار إليه مؤنث لأن المؤنث إما المسمى أو الاسم، والأول باطل، لأن المسمى هو ذلك البعض من القرآن وهو ليس بمؤنث، وأما الاسم فهو آلم وهو ليس بمؤنث، نعم ذلك المسمى له اسم آخر ـ وهو السورة ـ وهو مؤنث، لكن المذكور السابق هو الاسم الذي ليس بمؤنث وهو آلم، لا الذي هو مؤنث وهو السورة.مدلول لفظ «كتاب»: المسألة الثالثة: اعلم أن أسماء القرآن كثيرة: أحدها: الكتاب وهو مصدر كالقيام والصيام وقيل: فعال بمعنى مفعول كاللباس بمعنى الملبوس، واتفقوا على أن المراد من الكتاب القرآن قال:**{ كِتَابٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ }** [صۤ: 29] والكتاب جاء في القرآن على وجوه: أحدها: الفرض**{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ }** [البقرة: 178]**{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ }** [البقرة: 183]**{ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً }** [النساء: 103] وثانيها: الحجة والبرهان**{ فَأْتُواْ بِكِتَـٰبِكُمْ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ }** [الصافات: 157] أي برهانكم. وثالثها: الأجل**{ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَـٰبٌ مَّعْلُومٌ }** [الحجر: 4] أي أجل. ورابعها: بمعنى مكاتبة السيد عبده**{ وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَـٰبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ }** [النور: 33] وهذا المصدر فعال بمعنى المفاعلة كالجدال والخصام والقتال بمعنى المجادلة والمخاصمة والمقاتلة، واشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته، وسميت الكتيبة لاجتماعها، فسمي الكتاب كتاباً لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات، أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم، أو لأن الله تعالى ألزم فيه التكاليف على الخلق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | اشتقاق لفظ «قرآن»: وثانيها: القرآن**{ قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ }** [الإسراء: 88]**{ إِنَّا جَعَلْنَـٰهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً }** [الزخرف: 3]**{ شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ }** [البقرة: 185].**{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ }** [الإسراء: 9] وللمفسرين فيه قولان: أحدهما: قول ابن عباس أن القرآن والقراءة واحد، كالخسران والخسارة واحد، والدليل عليه قوله:**{ فَإِذَا قَرَأْنَـٰهُ فَٱتَّبِعْ قُرْءانَهُ }** [القيامة: 18] أي تلاوته، أي إذا تلوناه عليك فاتبع تلاوته: الثاني: وهو قول قتادة أنه مصدر من قول القائل: قرأت الماء في الحوض إذا جمعته، وقال سفيان بن عيينة: سمي القرآن قرآناً لأن الحروف جمعت فصارت كلمات، والكلمات جمعت فصارت آيات، والآيات جمعت فصارت سوراً، والسور جمعت فصارت قرآناً، ثم جمع فيه علوم الأولين والآخرين. فالحاصل أن اشتقاق لفظ القرآن إما من التلاوة أو من الجمعية.معنى الفرقان: وثالثها: الفرقان**{ تَبَارَكَ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ }** [الفرقان: 1].**{ وَبَيِّنَـٰتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ }** [البقرة: 185] واختلفوا في تفسيره، فقيل: سمي بذلك لأن نزوله كان متفرقاً أنزله في نيف وعشرين سنة، ودليله قوله تعالى:**{ وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَـٰهُ تَنْزِيلاً }** [الإسراء: 106] ونزلت سائر الكتب جملة واحدة، ووجه الحكمة فيه ذكرناه في سورة الفرقان في قوله تعالى:**{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْءانُ جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك }** [الفرقان: 32] وقيل: سمي بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، والمجمل والمبين، والمحكم والمؤول، وقيل: الفرقان هو النجاة، وهو قول عكرمة والسدي، وذلك لأن الخلق في ظلمات الضلالات فبالقرآن وجدوا النجاة، وعليه حمل المفسرون قوله:**{ وَإِذْ آتينا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }** [البقرة: 53].معنى تسميته بالذكر: ورابعها: الذكر، والتذكرة، والذكرى، أما الذكر فقوله**{ وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَـٰهُ }** [الأنبياء: 50]**{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ }** [الحجر: 9].**{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ }** [الزخرف: 44] وفيه وجهان: أحدهما: أنه ذكر من الله تعالى ذكر به عباده فعرفهم تكاليفه وأوامره. والثاني: أنه ذكر وشرف وفخر لمن آمن به، وأنه شرف لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأمته، وأما التذكرة فقوله:**{ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتَّقِينَ }** [الحاقة: 48] وأما الذكرى فقوله تعالى:**{ وَذَكّرْ فَإِنَّ ٱلذّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ }** [الذاريات: 55].تسميته تنزيلاً وحديثاً: وخامسها: التنزيل**{ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأمِينُ }** [الشعراء: 192 - 193]. وسادسها: الحديث**{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَـٰباً }** [الزمر: 23] سماه حديثاً لأن وصوله إليك حديث، ولأنه تعالى شبهه بما يتحدث به، فإن الله خاطب به المكلفين. وسابعها: الموعظة**{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ }** [يونس: 57] وهو في الحقيقة موعظة لأن القائل هو الله تعالى، والآخذ جبريل، والمستملي محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف لا تقع به الموعظة.تسميته بالحكم والحكمة: وثامنها: الحكم، والحكمة، والحكيم، والمحكم، أما الحكم فقوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا }** [الرعد: 37] وأما الحكمة فقوله:**{ حِكْمَةٌ بَـٰلِغَةٌ }** [القمر: 5]**{ وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِى بُيُوتِكُـنَّ مِنْ ءايَـٰتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْــمَةِ }** [الأحزاب: 34] وأما الحكيم فقوله:**{ يس وَٱلْقُرْءانِ ٱلْحَكِيمِ }** [يۤس: 1- 2] وأما المحكم فقوله:**{ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَـٰتُهُ }** [هود: 1].معنى الحكمة: واختلفوا في معنى الحكمة، فقال الخليل: هو مأخوذ من الإحكام والإلزام، وقال المؤرخ: هو مأخوذ من حكمة اللجام لأنها تضبط الدابة، والحكمة تمنع من السفه. وتاسعها: الشفاء**{ وَنُنَزّلُ مِنَ ٱلْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ }** [الإسراء: 82] وقوله: { وَشِفَاء لِمَا فِى ٱلصُّدُورِ } وفيه وجهان: أحدهما: أنه شفاء من الأمراض. والثاني: أنه شفاء من مرض الكفر، لأنه تعالى وصف الكفر والشك بالمرض، فقال:**{ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ }** [البقرة: 10] وبالقرآن يزول كل شك عن القلب، فصح وصفه بأنه شفاء.كونه هدي وهادياً: وعاشرها: الهدى، والهادي: أما الهدى فلقوله:**{ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ }** [البقرة: 2].**{ هُدًى لّلنَّاسِ }** [آل عمران: 4، الأنعام: 91].**{ وَشِفَاء لِمَا فِى ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ }** [يونس: 57] وأما الهادي**{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ }** [الإسراء: 9] وقالت الجن:**{ إِنا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَبَاً يَهْدِى إِلَى ٱلرُّشْدِ }** [الجن: 1، 2]. الحادي عشر: الصراط المستقيم: قال ابن عباس في تفسيره: إنه القرآن، وقال: { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ }. والثاني عشر: الحبل:**{ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً }** [آل عمران: 103] في التفسير: إنه القرآن، وإنما سمي به لأن المعتصم به في أمور دينه يتخلص به من عقوبة الآخرة ونكال الدنيا، كما أن المتمسك بالحبل ينجو من الغرق والمهالك، ومن ذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم عصمة فقال: **" إن هذا القرآن عصمة لمن اعتصم به "** لأنه يعصم الناس من المعاصي. الثالث عشر: الرحمة**{ وَنُنَزّلُ مِنَ ٱلْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ }** [الإسراء: 88] وأي رحمة فوق التخليص من الجهالات والضلالات.تسميته بالروح: الرابع عشر: الروح**{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا }** [الشورى: 52].**{ يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ }** [النحل: 2] وإنما سمي به لأنه سبب لحياة الأرواح، وسمي جبريل بالروح**{ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا }** [مريم: 17] وعيسى بالروح**{ أَلْقَـٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ }** [النساء: 171]. الخامس عشر: القصص**{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَص }** [يوسف: 3] سمي به لأنه يجب اتباعه**{ وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصّيهِ }** [القصص: 11] أي اتبعي أثره أو لأن القرآن يتتبع قصص المتقدمين، ومنه قوله تعالى:**{ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ }** [آل عمران: 62]. السادس عشر: البيان، والتبيان، والمبين: أما البيان فقوله:**{ هَـٰذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ }** [آل عمران: 138] والتبيان فهو قوله:**{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء }** [النحل: 89] وأما المبين فقوله:**{ تِلْكَ ءايَاتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ }** [يوسف: 1]. السابع عشر: البصائر**{ هَـٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ }** [الأعراف: 203] أي هي أدلة يبصر بها الحق تشبيهاً بالبصر الذي يرى طريق الخلاص. الثامن عشر: الفصل**{ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بِٱلْهَزْل }** [الطارق: 13- 14] واختلفوا فيه، فقيل معناه القضاء، لأن الله تعالى يقضي به بين الناس بالحق قيل لأنه يفصل بين الناس يوم القيامة فيهدي قوماً إلى الجنة ويسوق آخرين إلى النار، فمن جعله إمامه في الدنيا قاده إلى الجنة، ومن جعله وراءه ساقه إلى النار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | تسميته بالنجوم: التاسع عشر: النجوم**{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوٰقِعِ ٱلنُّجُوم }** [الواقعة: 75]**{ وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ }** [النجم: 1] لأنه نزل نجماً نجماً. العشرون: المثاني:**{ مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ }** [الزمر: 23] قيل لأنه ثنى فيه القصص والأخبار.تسميه القرآن نعمة وبرهانا: الحادي والعشرون: النعمة:**{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ }** [الضحى: 11] قال ابن عباس يعني به القرآن. الثاني والعشرون: البرهان**{ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ }** [النساء: 174] وكيف لا يكون برهاناً وقد عجزت الفصحاء عن أن يأتوا بمثله. الثالث والعشرون: البشير والنذير، وبهذا الاسم وقعت المشاركة بينه وبين الأنبياء قال تعالى في صفة الرسل:**{ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ }** [النساء: 165- الأنعام: 48] وقال في صفة محمد صلى الله عليه وسلم:**{ إِنَّا أَرْسَلْنَـٰكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً }** [الفتح: 8] وقال في صفة القرآن في حۤم السجدة**{ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ }** [فصلت: 4] يعني مبشراً بالجنة لمن أطاع وبالنار منذراً لمن عصى، ومن ههنا نذكر الأسماء المشتركة بين الله تعالى وبين القرآن.تسميته قيماً: الرابع والعشرون: القيم**{ قِيمَاً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً }** [الكهف: 2] والدين أيضاً قيم**{ ذٰلِكَ ٱلدّينُ ٱلْقَيّمُ }** [التوبة: 36] والله سبحانه هو القيوم**{ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ }** [البقرة: 255- آل عمران: 2] وإنما سمي قيماً لأنه قائم بذاته في البيان والإفادة. الخامس والعشرون: المهيمن**{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ }** [المائدة: 48] وهو مأخوذ من الأمين، وإنما وصف به لأنه من تمسك بالقرآن أمن الضرر في الدنيا والآخرة، والرب المهيمن أنزل الكتاب المهيمن على النبي الأمين لأجل قوم هم أمناء الله تعالى على خلقه كما قال:**{ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاس }** [البقرة: 143]. السادس والعشرون: الهادي**{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ }** [الإسراء: 9] وقال:**{ يَهْدِى إِلَى ٱلرُّشْدِ }** [الجن: 2] والله تعالى هو الهادي لأنه جاء في الخبر «النور الهادي».تسميته نوراً: السابع والعشرون: النور**{ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ }** [النور: 35] وفي القرآن**{ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ }** [الأعراف: 157] يعني القرآن وسمي الرسول نورا**{ قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَـٰبٌ مُّبِين }** [المائدة: 15] يعني محمد وسمي دينه نوراً**{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ }** [الصف: 8] وسمي بيانه نوراً**{ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مّن رَّبّهِ }** [الزمر: 22] وسمي التوراة نوراً**{ إِنَّا أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ }** [المائدة: 44] وسمي الإنجيل نوراً**{ وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور }** [المائدة: 46] وسمي الإيمان نوراً**{ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِم }** [الحديد: 12]. الثامن والعشرون: الحق: ورد في الأسماء «الباعث الشهيد الحق» والقرآن حق**{ وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِين }** [الحاقة: 51] فسماه الله حقاً لأنه ضد الباطل فيزيل الباطل كما قال:**{ بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقّ عَلَى ٱلْبَـٰطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ }** [الأنبياء: 18] أي ذاهب زائل. التاسع والعشرون: العزيز**{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }** [الشعراء: 9] وفي صفة القرآن**{ وَإِنَّهُ لَكِتَـٰبٌ عَزِيزٌ }** [فصلت: 41] والنبي عزيز**{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ }** [التوبة: 128] والأمة عزيزة | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }** [المنافقون: 8] فرب عزيز أنزل كتاباً عزيزاً على نبي عزيز لأمة عزيزة، وللعزيز معنيان: أحدهما: القاهر، والقرآن كذلك لأنه هو الذي قهر الأعداء وامتنع على من أراد معارضته. والثاني: أن لا يوجد مثله.تسمية القرآن بالكريم: الثلاثون: الكريم**{ إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كريم فِى كِتَـٰبٍ مَّكْنُون }** [الواقعة: 77] واعلم أنه تعالى سمى سبعة أشياء بالكريم**{ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ٱلْكَرِيمِ }** [الانفطار: 6] إذ لا جواد إجود منه، والقرآن بالكريم، لأنه لا يستفاد من كتاب من الحكم والعلوم ما يستفاد منه، وسمى موسى كريماً**{ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ }** [الدخان: 17] وسمي ثواب الأعمال كريماً**{ فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ }** [يۤس: 11] وسمي عرشه كريماً**{ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ }** [النمل: 26] لأنه منزل الرحمة، وسمى جبريل كريماً**{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ }** [التكوير: 19] ومعناه أنه عزيز، وسمى كتاب سليمان كريماً**{ إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ }** [النمل: 29] فهو كتاب كريم من رب كريم نزل به ملك كريم على نبي كريم لأجل أمة كريمة، فإذا تمسكوا به نالوا ثواباً كريماً.ومن أسمائه «العظيم»: الحادي والثلاثون: العظيم:**{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـٰكَ سَبْعًا مّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْءَانَ ٱلْعَظِيم }** [الحجر: 87] اعلم أنه تعالى سمى نفسه عظيماً فقال:**{ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيم }** [البقرة: 255] وعرشه عظيما**{ وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ }** [التوبة: 129] وكتابه عظيماً**{ والقرآن العظيم }** [الحجر: 87] ويوم القيامة عظيماً**{ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }** [المطففين: 5 - 6] والزلزلة عظيم**{ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيم }** [القلم: 4] والعلم عظيماً**{ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً }** [النساء: 113] وكيد النساء عظيماً**{ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }** [يوسف: 28] وسحر سحرة فرعون عظيماً**{ وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ }** [الأعراف: 116] وسمي نفس الثواب عظيما**{ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }** [الفتح: 29] وسمى عقاب المنافقين عظيماً**{ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }** [البقرة: 7].ومنها المبارك: الثاني والثلاثون: المبارك:**{ وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَك }** [الأنبياء: 50] وسمى الله تعالى به أشياء، فسمي الموضع الذي كلم فيه موسى عليه السلام مباركاً**{ فِى ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ }** [القصص: 30] وسمى شجرة الزيتون مباركة**{ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ زَيْتُونَةٍ }** [التوبة: 35] لكثرة منافعها، وسمي عيسى مباركا**{ وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً }** [مريم: 31] وسمى المطر مباركاً**{ وَنَزَّلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء مُّبَـٰرَكاً }** [قۤ: 9] لما فيه من المنافع، وسمي ليلة القدر مباركة**{ إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ }** [الدخان: 3] فالقرآن ذكر مبارك أنزله ملك مبارك في ليلة مباركة على نبي مبارك لأمة مباركة.اتصال «ألم» بقوله «ذلك الكتاب»: المسألة الرابعة: في بيان اتصال قوله: { ألم } بقوله: { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } قال صاحب الكشاف: إن جعلت { ألم } اسماً للسورة ففي التأليف وجوه: الأول: أن يكون { ألم } مبتدأ و { ذٰلِكَ } مبتدأ ثانياً و { ٱلْكِتَـٰبِ } خبره والجملة خبر المبتدأ الأول، ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وإنه الذي يستأهل أن يكون كتاباً كما تقول: هو الرجل، أي الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال، وأن يكون الكتاب صفة، ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود، وأن يكون { ألم } خبر مبتدأ محذوف أي هذه { ألم } وَيَكُونَ { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } خبراً ثانياً أو بدلاً على أن الكتاب صفة، ومعناه هو ذلك، وأن تكون هذه { الم } جملة و { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } جملة أخرى وإن جعلت { الم } بمنزلة الصوت كان { ذٰلِكَ } مبتدأ وخبره { ٱلْكِتَـٰبِ } أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، أو الكتاب صفة والخبر ما بعده أو قدر مبتدأ محذوف، أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف ذلك الكتاب وقرأ عبد الله | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ الم تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ }** [السجدة: 2] وتأليف هذا ظاهر.تفسير قوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ }: قوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } فيه مسألتان: المسألة الأولى: الريب قريب من الشك،. وفيه زيادة، كأنه ظن سوء تقول رابني أمر فلان إذا ظننت به سوء، ومنها قوله عليه السلام: **" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "** فإن قيل: قد يستعمل الريب في قولهم: «ريب الدهر» و «ريب الزمان» أي حوادثه قال الله تعالى:**{ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ }** [الطور: 30] ويستعمل أيضاً في معنى ما يختلج في القلب من أسباب الغيظ كقول الشاعر | **قضينا من تهامة كل ريب** | | **وخيبر ثم أجمعنا السيوفا** | | --- | --- | --- | قلنا: هذان قد يرجعان إلى معنى الشك، لأن ما يخاف من ريب المنون محتمل، فهو كالمشكوك فيه، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن، فقوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } المراد منه نفي كونه مظنة للريب بوجه من الوجوه، والمقصود أنه لا شبهة في صحته، ولا في كونه من عند الله، ولا في كونه معجزاً. ولو قلت: المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله:**{ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا }** [البقرة: 23] وها هنا سؤالان: السؤال الأول: طعن بعض الملحدة فيه فقال: إن عني أنه لا شك فيه عندنا فنحن قد نشك فيه، وإن عنى أنه لا شك فيه عنده فلا فائدة فيه. الجواب: المراد أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه، والأمر كذلك لأن العرب مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن، وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه. السؤال الثاني: لم قال ههنا: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } وفي موضع آخر**{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ }** [الصافات: 47]؟ الجواب: لأنهم يقدمون الأهم فالأهم، وههنا الأهم نفي الريب بالكلية عن الكتاب، ولو قلت: لا فيه ريب لأوهم أن هناك كتاباً آخر حصل الريب فيه لا ها هنا، كما قصد في قوله: { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا، فإنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا السؤال الثالث: من أين يدل قوله: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } على نفي الريب بالكلية؟ الجواب: قرأ أبو الشعثاء { لاَ رَيْبَ فِيهِ } بالرفع. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واعلم أن القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية، والدليل عليه أن قوله: { لاَ رَيْبَ } نفي لماهية الريب ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية، لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهية لثبتت الماهية، وذلك يناقض نفي الماهية، ولهذا السر كان قولنا: «لا إله إلا الله» نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى. وأما قولنا: «لا ريب فيه» بالرفع فهو نقيض لقولنا: «ريب فيه» وهو يفيد ثبوت فرد واحد، فذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ليتحقق التناقض.الوقف على «فيه»: المسألة الثانية: الوقف على { فِيهِ } هو المشهور، وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على { لاَ رَيْبَ } ولا بدّ للواقف من أن ينوي خبراً، ونظيره قوله:**{ قَالُواْ لاَ ضَيْرَ }** [الشعراء: 50] وقول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز والتقدير: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } { فِيهِ هُدًى }. واعلم أن القراءة الأولى أولى لأن على القراءة الأولى يكون الكتاب نفسه هدى، وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى بل يكون فيه هدى، والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى والله أعلم.حقيقة الهدى: قوله تعالى: { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } فيه مسائل: المسألة الأولى: في حقيقة الهدى: الهدى عبارة عن الدلالة، وقال صاحب الكشاف: الهدى هو الدلالة الموصلة إلى البغية، وقال آخرون: الهدى هو الاهتداء والعلم. والذي يدل على صحة القول الأول وفساد القول الثاني والثالث أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء، لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهدتاء محال، لكنه غير ممتنع بدليل قوله تعالى:**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـٰهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** [فصلت: 17] أثبت الهدى مع عدم الاهتداء، ولأنه يصح في لغة العرب أن يقال: هديته فلم يهتد، وذلك يدل على قولنا، واحتج صاحب الكشاف بأمور ثلاثة: أولها: وقوع الضلالة في مقابلة الهدى، قال تعالى:**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ }** [البقرة: 16] وقال:**{ لَعَلَىٰ هُدًى أوفِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ }** [سبأ: 24] وثانيها: يقول مهدي في موضع المدح كمهتدي، فلو لم يكن من شرط الهدى كون الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهدياً مدحاً لاحتمال أنه هدى فلم يهتد وثالثها: أن اهتدى مطاوع هدى يقال: هديته فاهتدى، كما يقال: كسرته فانكسر، وقطعته فانقطع فكما أن الإنكسار والانقطاع لا زمان للكسر والقطع، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم الهدى. والجواب عن الأول: أن الفرق بين الهدى وبين الاهتداء معلوم بالضرورة، فمقابل الهدى هو الإضلال ومقابل الاهتداء هو الضلال، فجعل الهدى في مقابلة الضلال ممتنع، وعن الثاني: أن المنتفع بالهدى سمي مهدياً، وغير منتفع به لا يسمى مهدياً ولأن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وعن الثالث: أن الائتمار مطاوع الأمر يقال: أمرته فائتمر، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه آمراً حصول الائتمار، فكذا هذا لا يلزم من كونه هدى أن يكون مفضياً إلى الاهتداء، على أنه معارض بقوله: هديته فلم يهتد، ومما يدل على فساد قول من قال الهدى هو العلم خاصة أن الله تعالى وصف القرآن بأنه هدى ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم، فدل على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم.معنى المتقي: المسألة الثانية: المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى، والوقاية فرط الصيانة، إذا عرفت هذا فنقول: إن الله تعالى ذكر المتقي ههنا في معرض المدح، ومن يكون كذلك أولى بأن يكون متقياً في أمور الدنيا، بل بأن يكون متقياً فيما يتصل بالدين، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات محترزاً عن المحظورات. واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصغائر في التقوى؟ فقال بعضهم: يدخل كما يدخل الصغائر في الوعيد، وقال آخرون: لا يدخل، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكل، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوق الصغائر هل يستحق هذا الاسم؟ فروي عنه عليه السلام أنه قال: **" لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس "** وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنهم الذين يحذرون من الله العقوبة في ترك ما يميل الهوى إليه، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء منه. واعلم أن التقوى هي الخشية، قال في أول النساء:**{ يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ }** [النساء: 1] ومثله في أول الحج، وفي الشعراء**{ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ }** [هود: 106] يعني ألا تخشون الله، وكذلك قال هود وصالح، ولوط، وشعيب لقومهم، وفي العنكبوت قال إبراهيم لقومه**{ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ }** [نوح: 3] يعني اخشوه، وكذا قوله:**{ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }** [آل عمران: 102]**{ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ }** [البقرة: 197]**{ وَٱتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا }** [البقرة: 48] واعلم أن حقيقة التقوى وإن كانت هي التي ذكرناها إلا أنها قد جاءت في القرآن، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة، والتوبة أخرى، والطاعة ثالثة، وترك المعصية رابعاً: والإخلاص خامساً: أما الإيمان فقوله تعالى:**{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ }** [الفتح: 26] أي التوحيد**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ }** [الحجرات: 3] وفي الشعراء**{ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ }** [الشعراء: 11] أي ألا يؤمنون وأما التوبة فقوله:**{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ }** [الأعراف: 96] أي تابوا، وأما الطاعة فقوله في النحل:**{ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ فَٱتَّقُونِ }** [النحل: 2] وفيه أيضاً:**{ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ }** [النحل: 52] وفي المؤمنين**{ وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [المؤمنون: 52] وأما ترك المعصية فقوله:**{ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوٰبِهَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }** [البقرة: 189] أي فلا تعصوه، وأما الإخلاص فقوله في الحج:**{ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ }** [الحج: 32] أي من إخلاص القلوب، فكذا قوله:**{ وَإِيَّـٰىَ فَٱتَّقُونِ }** [البقرة: 41] واعلم أن مقام التقوى مقام شريف قال تعالى:**{ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }** [النحل: 128] وقال:**{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ }** [الحجرات: 13] وعن ابن عباس قال عليه السلام: **" من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده "** وقال علي بن أبي طالب: التقوى ترك الإصرار عل المعصية، وترك الاغترار وبالطاعة. قال الحسن: التقوى أن لا تختار عل الله سوى الله، وتعلم أن الأمور كلها بيد الله. وقال إبراهيم بن أدهم: التقوى أن لا يجد الخلق في لسانك عيباً. ولا الملائكة في أفعالك عيباً ولا ملك العرش في سرك عيباً وقال الواقدي: التقوى أن تزين سرك للحق كما زينت ظاهرك للخلق، ويقال: التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك، ويقال: المتقي من سلك سبيل المصطفى، ونبذ الدنيا وراء القفا، وكلف نفسه الإخلاص والوفا، واجتنب الحرام والجفا، ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلا ما في قوله تعالى: { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } كفاه، لأنه تعالى بين أن القرآن هدى للناس في قوله:**{ شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ }** [البقرة: 185] ثم قال ههنا في القرآن: إنه هدى للمتقين، فهذا يدل على أن المتقين هم كل الناس، فمن لا يكون متقياً كأنه ليس بإنسان. المسألة الثالثة: في السؤالات: السؤال الأول: كون الشيء هدى ودليلاً لا يختلف بحسب شخص دون شخص، فلماذا جعل القرآن هدى للمتقين فقط؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي، والمهتدي لا يهتدي ثانياً والقرآن لا يكون هدى للمتقين. الجواب: القرآن كما أنه هدى للمتقين ودلالة لهم على وجود الصانع، وعلى دينه وصدق رسوله، فهو أيضاً دلالة للكافرين. إلا أن الله تعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال:**{ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـٰهَا }** [النازعات: 45] وقال:**{ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِكْرَ }** [يۤس: 11] وقد كان عليه السلام منذراً لكل الناس، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هم الذين انتفعوا بإنذاره. وأما من فسر الهدى بالدلالة الموصلة إلى المقصود فهذا السؤال زائل عنه، لأن كون القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلا في حق المتقين. السؤال الثاني: كيف وصف القرآن كله بأنه هدى وفيه مجمل ومتشابه كثير ولولا دلالة العقل لما تميز المحكم عن المتشابه، فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن، ومن هذا نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولاً إلى الخوارج. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | لا تحتج عليهم بالقرآن، فإنه خصم ذو وجهين، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب ذلك فيه ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به، ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر وبعضها صريح في القدر، فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسف الشديد، فكيف يكون هدى؟. الجواب: أن ذلك المتشابه والمجمل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين ـ وهو إما دلالة العقل أو دلالة السمع ـ صار كله هدى. السؤال الثالث: كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه، فإذن استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله تعالى وصفاته، وفي معرفة النبوة، ولا شك أن هذه المطالب أشرف المطالب، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها فكيف جعله الله تعالى هدى على الإطلاق؟. الجواب: ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشرائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلق لا يقتضي العموم، فإن الله تعالى وصفه بكونه هدى من غير تقييد في اللفظ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة، فثبت أن المطلق لا يفيد العموم. السؤال الرابع: الهدى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره، والقرآن ليس كذلك، فإن المفسرين ما يذكرون آية إلا وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة، وما يكون كذلك لا يكون مبيناً في نفسه فضلاً عن أن يكون مبيناً لغيره، فكيف يكون هدى؟ قلنا: من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المتعارضة، ولا يرجح واحداً منها على الباقي يتوجه عليه هو هذا السؤال، وأما نحن فقد رجحنا واحداً على البواقي بالدليل فلا يتوجه علينا هذا السؤال. المسألة الرابعة: قال صاحب «الكشاف»: محل { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر مع { لاَ رَيْبَ فِيهِ } { لذلك } أو مبتدأ إذا جعل الظرف المتقدم خبراً عنه، ويجوز أن ينصب على الحال، والعامل فيه الإشارة، أو الظرف، والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يضرب عن هذا المجال صفحاً، وأن يقال: إن قوله: { الم } جملة برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، و { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } جملة ثانية، و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ثالثة و { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } رابعة وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض، والثانية متحدة بالأولى وهلم جراً إلى الثالثة، والرابعة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | | | --- | --- | --- | --- | بيانه: أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقرير الجهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة بكماله ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، ثم لم يخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق من نكتة، ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر ـ الذي هو هدى ـ موضع الوصف الذي هو هادٍ، وإيراده منكراً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ)
ٱختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور فقال عامر الشَّعْبيّ وسفيان الثَّوْرِيّ وجماعةٌ من المحدّثين: هي سِرّ الله في القرآن، ولله في كل كتاب مِن كُتُبه سِرٌّ. فهي من المتشابه الذي ٱنفرد الله تعالى بعلمه، ولا يجب أن يُتكلّم فيها، ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما. وذكر أبو اللّيث السَّمَرْقَنْدِيّ عن عمر وعثمان وٱبن مسعود أنهم قالوا: الحروف المقطّعة من المكتوم الذي لا يُفَسَّر. وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف المقطّعة في القرآن إلا في أوائل السُّوَر، ولا ندري ما أراد الله جلّ وعزّ بها. قلت: ومن هذا المعنى ما ذكره أبو بكر الأنباري: حدّثنا الحسن بن الحُبَاب حدّثنا أبو بكر بن أبي طالب حدّثنا أبو المنذر الواسطي عن مالك بن مِغْوَل عن سعيد بن مسروق عن الربيع بن خُثيم قال: إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فٱستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما ٱستأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به، وما بكل القرآن تعلمون، ولا بكل ما تعلمون تعملون. قال أبو بكر: فهذا يوضّح أن حروفاً من القرآن سُترت معانيها عن جميع العالَم، ٱختباراً من الله عزّ وجلّ وٱمتحاناً فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشكّ أثِم وبَعُد. حدّثنا أبو يوسف بن يعقوب القاضي حدّثنا محمد بن أبي بكر حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن عمارة عن حُرَيث بن ظُهَير عن عبد اللَّه قال: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ:**{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }** [البقرة: 3]. قلت: هذا القول في المتشابه وحكمه، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في " آل عمران " إن شاء الله تعالى. وقال جمع من العلماء كبير: بل يجب أن نتكلم فيها، ونلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرّج عليها وٱختلفوا في ذلك على أقوال عديدة فروي عن ٱبن عباس وعلي أيضاً: أن الحروف المقطعة في القرآن ٱسم الله الأعظم، إلا أنَّا لا نعرف تأليفه منها. وقال قُطْرُب والفرّاء وغيرهما: هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحدّاهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم. قال قُطْرُب: كانوا ينفرون عند ٱستماع القرآن، فلما سمعوا: { الۤمۤ } و { الۤمۤص } ٱستنكروا هذا اللفظ، فلما أَنْصَتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم، ويقيم الحجة عليهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال قوم: روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة وقالوا:**{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ }** [ فصلت: 26] نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة. وقال جماعة: هي حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيّتها كقول ٱبن عباس وغيره: الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الألف مفتاح ٱسمه الله، واللام مفتاح ٱسمه لطيف، والميم مفتاح ٱسمه مجيد. وروى أبو الضُّحَى عن ٱبن عباس في قوله. { الۤمۤ } قال: أنا الله أعلم، { الۤرۤ } أنا الله أرى، { الۤمۤص } أنا الله أَفْصل. فالألف تؤدّي عن معنى أنا، واللام تؤدّي عن ٱسم الله، والميم تؤدّي عن معنى أعلم. وٱختار هذا القول الزجاج وقال: أذهب إلى أن كل حرف منها يؤدّي عن معنًى وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة نظماً لها ووضعاً بدل الكلمات التي الحروف منها، كقوله: | **فقلت لها قِفِي فقالت قاف** | | | | --- | --- | --- | أراد: قالت وقفت. وقال زهير: | **بالخير خيراتٍ وإن شراً فا** | | **ولا أريد الشر إلا أنْ تَا** | | --- | --- | --- | أراد: وإن شرًّا فشرٌّ. وأراد: إلا أن تشاء. وقال آخر: | **نادوهم أَلاَ ٱلجِمُو أَلاَتَا** | | **قالوا جميعاً كلهم أَلاَفَا** | | --- | --- | --- | أراد: ألا تركبون، قالوا: ألا فاركبوا. وفي الحديث: **" من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة "** قال شقيق: هو أن يقول في ٱقتل: أقْ كما قال عليه السلام: **" كفى بالسيف شا "** معناه: شافياً. وقال زيد بن أسلم: هي أسماء للسُّوَر. وقال الكلبي: هي أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها، وهي من أسمائه عن ٱبن عباس أيضاً. وردّ بعض العلماء هذا القول فقال: لا يصح أن يكون قَسَماً لأن القسم معقود على حروف مثل: إنّ وقد ولقد وما ولم يوجد ها هنا حرف من هذه الحروف، فلا يجوز أن يكون يميناً. والجواب أن يقال: موضع القَسَم قوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } فلو أن إنساناً حلف فقال: والله هذا الكتاب لاَ رَيْبَ فيه لكان الكلام سديداً، وتكون { لا } جواب القَسَم. فثبت أن قول الكلبي وما رُوي عن ٱبن عباس سديد صحيح. فإن قيل: ما الحكمة في القَسَم من الله تعالى، وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين: مصدّق، ومكذّب فالمصدق يصدق بغير قَسَم، والمكذب لا يصدق مع القَسَم؟. قيل له: القرآن نزل بلغة العرب والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه والله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده. وقال بعضهم: { الۤمۤ } أي أنزلت عليك هذا الكتاب من اللوح المحفوظ. وقال قتادة في قوله: { الۤمۤ } قال ٱسم من أسماء القرآن. وروي عن محمد بن عليّ الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أوْدع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أوّل السورة، ولا يعرف ذلك إلا نبيّ أو وَلِيّ، ثم بيّن ذلك في جميع السورة ليفقّه الناس. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل غير هذا من الأقوال فالله أعلم. والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها. وٱختلف: هل لها محل من الإعراب؟ فقيل: لا لأنها ليست أسماء متمكنة، ولا أفعالا مضارعة وإنما هي بمنزلة حروف التهجّي فهي مَحْكيّة. هذا مذهب الخليل وسيبويه. ومن قال: إنها أسماء السُّوَر فموضعها عنده الرفع على أنها عنده خبر ٱبتداء مضمر أي هذه { الۤمۤ } كما تقول: هذه سورة البقرة. أو تكون رفعاً على الابتداء والخبر ذلك كما تقول: زيد ذلك الرجل. وقال ٱبن كَيْسان النحوي: { الۤمۤ } في موضع نصب كما تقول: ٱقرأ { الۤمۤ } أو عليك { الۤمۤ }. وقيل: في موضع خفض بالقسم لقول ٱبن عباس: إنها أقسام أقسم الله بها. قوله تعالى: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } قيل: المعنى هذا الكتاب. و { ذلك } قد تستعمل في الإشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعاً للإشارة إلى غائب كما قال تعالى في الإخبار عن نفسه جلّ وعزّ:**{ ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }** [السجدة: 6] ومنه قول خُفَاف بن نُدْبة: | **أقول له والرّمحُ يأطِرُ مَتْنَه** | | **تأمّل خُفافا إنني أنا ذلكا** | | --- | --- | --- | أي أنا هذا. فـ { ـذلك } إشارة إلى القرآن، موضوع موضع هذا، تلخيصه: الۤمۤ هذا الكتاب لا ريب فيه. وهذا قول أبي عبيدة وعكرمة وغيرهما ومنه قوله تعالى:**{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ }** [الأنعام: 83]**{ تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ }** [البقرة: 252] أي هذه لكنها لما ٱنقضت صارت كأنها بَعُدَت فقيل تلك. وفي البخاريّ «وقال معمر ذلك الكتاب: هذا القرآن». { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } بيان ودلالة كقوله:**{ ذَلِكُمْ حُكْمُ ٱللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ }** [الممتحنة: 10] هذا حكم الله. قلت: وقد جاء «هذا» بمعنى «ذلك» ومنه قوله عليه السلام في حديث أُمِّ حَرَام: **" يركبون ثَبَج هذا البحر "** أي ذلك البحر والله أعلم. وقيل: هو على بابه إشارة إلى غائب. وٱختلف في ذلك الغائب على أقوال عشرة فقيل: { ذلك الكتاب } أي الكتاب الذي كتبتُ على الخلائق بالسعادة وٱلشقاوة والأجل والرزق لا رَيْب فيه أي لا مبدِّل له. وقال: ذلك الكتاب أي الذي كتبتُ على نفسي في الأزل: **" أن رحمتي سبقت غضبي "** وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده أنّ رحمتي تغلب غضبي "** في رواية: **" سبقت "** وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد نبيّه عليه السلام أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء فأشار إلى ذلك الوعد كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حِمَار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب: وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظانَ "** الحديث. وقيل: الإشارة إلى ما قد نزل من القرآن بمكة. وقيل: إن الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيّه صلى الله عليه وسلم بمكة:**{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }** [المزمل: 5] لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشرفاً لإنجاز هذا الوعد من ربّه عزّ وجلّ فلما أنزل عليه بالمدينة: { الۤمۤ ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } كان فيه معنى هذا القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك بمكة. وقيل: إن { ذلك } إشارة إلى ما في التوراة والإنجيل. و { الۤمۤ } ٱسم للقرآن والتقدير هذا القرآن ذلك الكتاب المفسر في التوراة والإنجيل يعني أن التوراة والإنجيل يشهدان بصحته ويستغرق ما فيهما ويزيد عليهما ما ليس فيهما. وقيل: إن { ذلك الكتاب } إشارة إلى التوراة والإنجيل كليهما والمعنى: الۤمۤ ذانك الكتابان أو مثل ذَيْنِك الكتابين أي هذا القرآن جامع لما في ذَيْنِك الكتابين فعبّر بـ { ـذلك } عن الاثنين بشاهد من القرآن قال الله تبارك وتعالى:**{ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ }** [البقرة: 68] أي عَوان بين تَيْنك. الفارض والبكر وسيأتي. وقيل: إن { ذلك } إشارة إلى اللَّوْح المحفوظ. وقال الكسائي: { ذلك } إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعدُ. وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتاباً فالإشارة إلى ذلك الوعد. قال المبّرد: المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا. وقيل: إلى حروف المعجم في قول من قال: «الم» الحروف التي تحدّيْتُكم بالنظم منها. والكتاب مصدر مِن كَتَب يَكْتُب إذا جمع ومنه قيل: كَتِيبة لاجتماعها. وتكتَّبت الخيل صارت كتائب. وكتبْتُ البغلةَ: إذا جمعتَ بين شُفْرَيْ رَحِمِها بحلْقة أو سَيْر قال: | **لا تأمَننَّ فَزارِيًّا حَلْلتَ به** | | **على قَلُوصك وٱكتُبْها بأسيار** | | --- | --- | --- | والكُتْبة بضم الكاف: الخُرْزَةُ، والجمع كُتَبٌ. والكَتْبُ: الخَرْز. قال ذو الرُّمة: | **وَفْرَاءَ غَرْفِيّةٍ أَثْأَى خَوارِزُها** | | **مُشَلْشِلٌ ضيّعتْه بينها الكُتَبُ** | | --- | --- | --- | والكتاب: هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة أو متفرقة وسُمّي كتاباً وإن كان مكتوباً كما قال الشاعر: | **تُؤمِّلُ رجْعةً منِّي وفيها** | | **كتابٌ مثلَ ما لصِق الغِرَاء** | | --- | --- | --- | والكتاب: الفَرْض والحُكم والقَدَر قال الجَعْدِيّ: | **يٱبنَة عمِّي كتاب الله أخرجني** | | **عنكم وهل أمنعنّ الله ما فعلا** | | --- | --- | --- | قوله تعالى: { لاَ رَيْبَ } نفي عام، ولذلك نُصب الريب به. وفي الرّيْب ثلاثة معان: أحدها: الشك قال عبد اللَّه بن الزِّبَعْرَى: | **ليس في الحق يا أُمَيْمَةُ ريْبٌ** | | **إنما الرَّيبُ ما يقول الجهول** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وثانيها: التُّهَمَة قال جَمِيل: | **بُثَينةُ قالت يا جَميلُ أَرَبْتَنِي** | | **فقلت كلاَنا يابثين مُريب** | | --- | --- | --- | وثالثها: الحاجة قال: | **قضينا من تِهَامةَ كلَّ ريْب** | | **وخَيْبَرَ ثم أَجْمَعْنَا السيوفا** | | --- | --- | --- | فكتاب الله تعالى لا شك فيه ولا ٱرتياب والمعنى: أنه في ذاته حق وأنه منزل من عند الله، وصفة من صفاته، غير مخلوق ولا مُحْدَث، وإن وقع ريب للكفار. وقيل: هو خبر ومعناه النهي أي لا ترتابوا، وتم الكلام كأنه قال ذلك الكتاب حقاً. وتقول: رابني هذا الأمرُ إذا أدخل عليك شكاً وخوفًا. وأراب: صار ذا رِيبة فهو مُرِيب. ورابني أمره. ورِيَبُ الدهر: صروفه. قوله تعالى: { فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } فيه ست مسائل: الأولى: قوله تعالى: { فِيهِ } الهاء في { فيه } في موضع خفض بفي، وفيه خمسة أوجه أجودها: فيهِ هُدى. ويليه فيهُ هُدى بضم الهاء بغير واو وهي قراءة الزُّهْرِي وسلاَّم أبي المنذر. ويليه فِيهِي هُدى بإثبات الياء وهي قراءة ٱبن كثير. ويجوز فيهُو هُدى بالواو. ويجوز فيه هدى مدغماً وٱرتفع { هدى } على الابتداء والخبر { فيه }. والهُدَى في كلام العرب معناه الرشد والبيان أي فيه كشف لأهل المعرفة ورشدٌ وزيادةُ بيان وهُدًى. الثانية: الهُدَى هُديان: هُدَى دلالة، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم قال الله تعالى:**{ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }** [الرعد:7]. وقال:**{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** [الشورى: 52] فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه وتفرّد هو سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق، فقال لنبيّه صلى الله عليه وسلم:**{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ }** [القصص:56] فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب ومنه قوله تعالى:**{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ }** [البقرة: 5] وقوله: { وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ }. والْهُدَى: الاهتداء، ومعناه راجع إلى معنى الإرشاد كيفما تصرفت. قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين:**{ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ }** [محمد: 4-5] ومنه قوله تعالى:**{ فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ }** [الصافات: 23] معناه فٱسلكوهم إليها. الثالثة: الهدى لفظ مؤنّث. قال الفرّاء: بعض بني أسد تؤنّث الهدى فتقول: هذه هُدَى حسنة. وقال اللّحياني: هو مذكّر ولم يعرب لأنه مقصور والألف لا تتحرّك، ويتعدّى بحرف وبغير حرف وقد مضى في «الفاتحة»، تقول: هدَيْتُه الطريق وإلى الطريق، والدارَ وإلى الدار أي عرّفته. الأولى: لغة أهل الحجاز، والثانية: حكاها الأخفش. وفي التنزيل: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } و**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا }** [الأعراف: 43]. وقيل: إن الهُدَى ٱسم من أسماء النهار لأن الناس يهتدون فيه لمعايشهم وجميع مآربهم ومنه قول ٱبن مُقْبِل: | **حتى ٱستبَنْتُ الهُدَى والبِيدُ هاجمةٌ** | | **يَخشعْنَ في الآل غُلْفاً أو يُصلِّينا** | | --- | --- | --- | الرابعة: قوله تعالى: { لِّلْمُتَّقِينَ } خصّ الله تعالى المتقين بهدايته وإن كان هدى للخلق أجمعين تشريفاً لهم لأنهم آمنوا وصدّقوا بما فيه. وروي عن أبي رَوْقٍ أنه قال: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } أي كرامة لهم يعني إنما أضاف إليهم إجلالاً لهم وكرامةً لهم وبياناً لفضلهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأصل { للمتقين }: للموتقيين بياءين مخففتين، حذفت الكسرة من الياء الأولى لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وأبدلت الواو تاء على أصلهم في ٱجتماع الواو والتاء وادغمت التاء في التاء فصار للمتقين. الخامسة: التقوى يقال: أصلها في اللغة قلّة الكلام حكاه ٱبن فارس. قلت: ومنه الحديث: **" التَّقِيُّ مُلْجَم والمتَّقِي فوق المؤمن والطائع "** وهو الذي يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله تعالى، مأخوذ من ٱتقاء المكروه بما تجعله حاجزاً بينك وبينه كما قال النابغة: | **سقط النَّصِيفُ ولم ترد إسقاطه** | | **فتناولته وٱتقّتنا باليد** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **فألقت قناعاً دونه الشمس وٱتّقت** | | **بأحسن موصولين كَفٍّ ومِعصمِ** | | --- | --- | --- | وخرّج أبو محمد عبد الغني الحافظ من حديث سعيد بن زَرْبِي أبي عبيدة عن عاصم بن بَهْدَلَة عن زِرِّ بن حُبيش عن ٱبن مسعود قال: قال يوماً لابن أخيه: يٱبن أخي ترى الناس ما أكثرهم؟ قال: نعم قال: لا خير فيهم إلا تائب أو تقي. ثم قال: يٱبن أخي ترى الناس ما أكثرهم؟ قلت: بلى قال: لا خير فيهم إلا عالم أو متعلم. وقال أبو يزيد البِسْطامي: المتّقي من إذا قال: قال الله، ومن إذا عمل عمل الله. وقال أبو سليمان الدّاراني: المتقون الذين نزع الله عن قلوبهم حبّ الشهوات. وقيل: المتقي الذي ٱتقى الشرك وبرىء من النفاق. قال ٱبن عطية: وهذا فاسد لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق. وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُبَيّاً عن التقوى فقال: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فما عملت فيه؟ قال: تشمَّرت وحذرت قال: فذاك التقوى. وأخذ هذا المعنى ٱبن المُعْتَزّ فنَظمه: | **خَلِّ الذنوب صغيرها** | | **وكبيرها ذاك التّقى** | | --- | --- | --- | | **وٱصنع كماشٍ فوق أر** | | **ض الشوك يحذر ما يرى** | | **لا تحقرنّ صغيرة** | | **إن الجبال من الحصى** | السادسة: التقوى فيها جماع الخير كله، وهي وصية الله في الأوّلين والآخرين، وهي خير ما يستفيده الإنسان كما قال أبو الدرداء وقد قيل له: إن أصحابك يقولون الشِّعر وأنت ما حُفظ عنك شيء فقال: | **يريد المرء أن يُؤْتَى مُنَاه** | | **ويأبى الله إلا ما أرادا** | | --- | --- | --- | | **يقول المرء فائدتي ومالي** | | **وتقوى الله أفضل ما ٱستفادا** | وروى ٱبن ماجه في سننه عن أبي أُمامة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: **" ما ٱستفاد المؤمن بعد تقوى الله خيراً له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سَرّته، وإن أقسم عليها أبَرَّ ته وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله "** والأصل في التقوى: وَقْوَى على وزن فَعْلى فقلبت الواو تاء من وَقَيْته أقيه أي منعته ورجلٌ تقيّ أي خائف، أصله وقى وكذلك تقاة كانت في الأصل وقاة كما قالوا: تُجاه وتُراث، والأصل وُجاه ووُراث. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ)
{ ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } ذلك إشارة إلى { الۤمۤ } إن أول بالمؤلف من هذه الحروف أو فسر بالسورة أو القرآن فإنه لما تكلم به وتقضى، أو وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار متباعداً أشير إليه بما يشار به إلى البعيد وتذكيره، متى أريد بـ { الم } السورة لتذكير الكتاب فإنه خبره أو صفته الذي هو هو، أو إلى الكتاب فيكون صفته والمراد به الكتاب الموعود إنزاله بنحو قوله تعالى:**{ إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }** [المزمل: 5] أو في الكتب المتقدمة. وهو مصدر سمي به المفعول للمبالغة. وقيل فعال بمعنى المفعول كاللباس، ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب. وأصل الكتب الجمع ومنه الكتيبة. { لاَ رَيْبَ فِيهِ } معناه أنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر الصحيح في كونه وحياً بالغاً حد الإعجاز، لا أن أحداً لا يرتاب فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى:**{ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا }** [البقرة: 23]. الآية فإنه ما أبعد عنهم الريب بل عرفهم الطريق المُريح له، وهو أن يجتهدوا في معارضة نجم من نجومه ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة. وقيل: معناه لا ريب فيه للمتقين. وهدى حال من الضمير المجرور، والعامل فيه الظرف الواقع صفة للمنفي. والريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة، وهي قلق النفس واضطرابها، سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة. وفي الحديث **" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "** فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة، ومنه ريب الزمان لنوائبه. { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } يهديهم إلى الحق، والهدى في الأصل كالسرى والتقى ومعناه الدلالة. وقيل: الدلالة الموصلة إلى البغية لأنه جعل مقابل الضلالة في قوله تعالى:**{ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ }** [سبأ: 24] ولأنه لا يقال مهدي إلا لمن اهتدى إلى المطلوب. واختصاصه بالمتقين لأنهم المهتدون به والمنتفعون بنصه، وإن كانت دلالته عامة لكل ناظر من مسلم أو كافر وبهذا الاعتبار قال تعالى:**{ هُدًى لّلنَّاسِ }** [البقرة: 185] أو لأنه لا ينتفع بالتأمل فيه إلا من صقل العقل واستعمله في تدبر الآيات والنظر في المعجزات، وتعرف النبوات، لأنه كالغذاء الصالح لحفظ الصحة فإنه لا يجلب نفعاً ما لم تكن الصحة حاصلة، وإليه أشار بقوله تعالى:**{ وَنُنَزّلُ مِنَ ٱلْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّـٰلِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا }** [الإسراء: 82] ولا يقدح ما فيه من المجمل والمتشابه في كونه هدى لما لم ينفك عن بيان يعين المراد منه. والمتقي اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى. والوقاية: فرط الصيانة. وهو في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه مما يضره في الآخرة، وله ثلاث مراتب: الأولى: التوقي من العذاب المخلد بالتبري من الشرك وعليه قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ }** [الفتح: 26] الثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع، وهو المعنى بقوله تعالى:**{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ }** [الأعراف: 96] الثالثة: أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشراشره وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى:**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }** [آل عمران: 102] وقد فسر قوله: { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } ههنا على الأوجه الثلاثة. واعلم أن الآية تحتمل أوجهاً من الإعراب: أن يكون { الۤمۤ } مبتدأ على أنه اسم للقرآن. أو السورة. أو مقدر بالمؤلف منها، وذلك خبره وإن كان أخص من المؤلف مطلقاً، والأصل أن الأخص لا يحمل على الأعم لأن المراد به المؤلف الكامل في تأليفه البالغ أقصى درجات الفصاحة ومراتب البلاغة والكتاب صفة ذلك. وأن يكون { الۤمۤ } خبر مبتدأ محذوف وذلك خبراً ثانياً. أو بدلاً والكتاب صفته، و { لاَ رَيْب } في المشهورة مبني لتضمنه معنى من منصوب المحل على أنه اسم لا النافية للجنس العاملة عمل إنَّ، لأنها تقتضيها ولازمة للأسماء لزومها. وفي قراءة أبي الشعثاء مرفوع بلا التي بمعنى ليس وفيه خبره ولم يقدم كما قدم في قوله تعالى:**{ لا فِيهَا غَوْلٌ }** [الصافات: 47] لأنه لم يقصد تخصيص نفي الريب به من بين سائر الكتب كما قصد ثمة، أو صفته وللمتقين خبره. وهدى نصب على الحال، أو الخبر محذوف كما في { لا } ، ضمير. فلذلك وقف على { لاَ رَيْبَ } ، على أن فيه خبر هدى قدم عليه لتنكيره والتقدير: لا ريب فيه، فيه هدى، وأن يكون ذلك مبتدأ و { ٱلْكِتَـٰبِ } خبره على معنى: أنه الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتاباً، أو صفته وما بعده خبره والجملة خبر { الۤمۤ } والأولى أن يقال إنها جمل متناسقة تقرر اللاحقة منها السابقة ولذلك لم يدخل العاطف بينهما. فـ { الۤمۤ } ، جملة دلت على أن المتحدى به هو المؤلف من جنس ما يركبون منه كلامهم، وذلك الكتاب جملة ثانية مقررة لجهة التحدي، و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ، جملة ثالثة تشهد على كماله بأن الكتاب المنعوت بغاية الكمال إذ لا كمال أعلى مما للحق واليقين. و { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } ، بما يقدر له مبتدأ جملة رابعة تؤكد كونه حقاً لا يحوم الشك حوله بأنه { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } ، أو تستتبع السابقة منها اللاحقة استتباع الدليل للمدلول، وبيانه أنه لما نبه أولاً على إعجاز المتحدى به من حيث إنه من جنس كلامهم وقد عجزوا عن معارضته، استنتج منه أنه الكتاب البالغ حد الكمال واستلزم ذلك أن لا يتشبث الريب بأطرافه إذ لا أنقص مما يعتريه الشك والشبهة، وما كان كذلك كان لا محالة { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } ، وفي كل واحدة منها نكتة ذات جزالة ففي الأولى الحذف والرمز إلى المقصود مع التعليل، وفي الثانية فخامة التعريف، وفي الثالثة تأخير الظرف حذراً عن إيهام الباطل، وفي الرابعة الحذف والتوصيف بالمصدر للمبالغة وإيراده منكراً للتعظيم وتخصيص الهُدى بالمتقين باعتبار الغاية تسمية المشارف للتقوى متقياً إيجازاً وتفخيماً لشأنه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ)
قال ابن جريج قال ابن عباس ذلك الكتاب، أي هذا الكتاب. وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم وابن جريج أن ذلك بمعنى هذا، والعرب تعارض بين هذين الاسمين من أسماء الإشارة، فيستعملون كلاً منهما مكان الآخر، وهذا معروف في كلامهم، وقد حكاه البخاري عن معمر بن المثنى عن أبي عبيدة. وقال الزمخشري ذلك إشارة إلى**{ الۤمۤ }** البقرة 1 كما قال تعالى**{ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ }** البقرة 68 وقال تعالى**{ ذَلِكُمْ حُكْمُ ٱللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ }** الممتحنة 10 وقال**{ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ }** يونس 3 وأمثال ذلك مما أشير به إلى ما تقدم ذكره، والله أعلم. وقد ذهب بعض المفسرين فيما حكاه القرطبي وغيره أن ذلك إشارة إلى القرآن الذي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بإنزاله عليه، أو التوراة، أو الإنجيل، أو نحو ذلك، في أقوال عشرة. وقد ضعف هذا المذهب كثيرون والله أعلم. والكتاب القرآن. ومن قال إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة والإنجيل كما حكاه ابن جرير وغيره، فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع، وتكلف ما لا علم له به. والريب الشك. قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { لاَ رَيْبَ فِيهِ } لا شك فيه. وقال أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد. وقال ابن أبي حاتم لا أعلم في هذه خلافاً. وقد يستعمل الريب في التهمة، قال جميل | **بُثَيْنَةُ قالَتْ يا جميلُ أَرَبْتَنِي فقلْتُ كِلانا يا بُثَيْنَ مُرِيبُ** | | | | --- | --- | --- | واستعمل أيضاً في الحاجة كما قال بعضهم | **قَضَيْنا مِنْ تِهامَةَ كُلَّ رَيْبٍ وخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمعْنا السُّيوفا** | | | | --- | --- | --- | ومعنى الكلام هنا أن هذا الكتاب هو القرآن لا شك فيه أنه نزل من عند الله كما قال تعالى في السجدة 1-2**{ الۤـمۤ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** وقال بعضهم هذا خبر ومعناه النهي أي لا ترتابوا فيه. ومن القراء من يقف على قوله تعالى { لاَ رَيْبَ } ويبتدىء بقوله تعالى { فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } والوقف على قوله تعالى { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أولى للآية التي ذكرناها ولأنه يصير قوله تعالى { هُدىً } صفة للقرآن وذلك أبلغ من كونه فيه هدى. وهدى يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعاً على النعت ومنصوباً على الحال وخصت الهداية للمتقين كما قال**{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِىۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | فصلت 44**{ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّـٰلِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا }** الإسراء 82 إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن لأنه هو في نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأبرار كما قال تعالى**{ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مَّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ }** يونس 57 وقد قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } يعني نوراً للمتقين. وقال أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس قال هدى للمتقين، قال هم المؤمنون الذين يتقون الشرك بي، ويعملون بطاعتي. وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس { لِلْمُتَّقِينَ } قال الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به. وقال سفيان الثوري عن رجل عن الحسن البصري قوله تعالى للمتقين، قال اتقوا ما حرم الله عليهم، وأدّوا ما افترض عليهم. وقال أبو بكر بن عياش سألني الأعمش عن المتقين، قال فأجبته، فقال لي سل عنها الكلبي، فسألته، فقال الذين يجتنبون كبائر الإثم. قال فرجعت إلى الأعمش، فقال يرى أنه كذلك، ولم ينكره. وقال قتادة للمتقين، هم الذين نعتهم الله بقوله**{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ }** البقرة 3 الآية والتي بعدها، واختيار ابن جرير أن الآية تعم ذلك كله، وهو كما قال. وقد روى الترمذي وابن ماجه من رواية أبي عقيل عبد الله بن عقيل عن عبد الله بن يزيد عن ربيعة بن يزيد وعطية بن قيس عن عطية السعدي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً مما به بأس "** ثم قال الترمذي حسن غريب. وقال ابن أبي حاتم حدّثنا أبي حدّثنا عبد الله بن عمران عن إسحاق بن سليمان يعني الرازي عن المغيرة بن مسلم عن ميمون أبي حمزة قال كنت جالساً عند أبي وائل، فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ، فقال له شقيق بن سلمة يا أبا عفيف ألا تحدّثنا عن معاذ بن جبل؟ قال بلى، سمعته يقول يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فينادي مناد أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن، لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت من المتقون؟ قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله العبادة، فيمرون إلى الجنة. ويطلق الهدى ويراد به ما يقرّ في القلب من الإيمان، وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله عز وجل، قال الله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ }** القصص 56 وقال**{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ }** البقرة 272 وقال**{ مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ }** الأعراف 186 وقال**{ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا }** الكهف 17 إلى غير ذلك من الآيات. ويطلق ويراد به بيان الحق وتوضيحه، والدلالة عليه والإرشاد إليه، قال الله تعالى**{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِىۤ إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** الشورى 52 وقال**{ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }** الرعد 7 وقال تعالى**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـٰهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** فصلت 17 وقال**{ وَهَدَيْنَـٰهُ ٱلنَّجْدَينِ }** البلد 10 على تفسير من قال المراد بهما الخير والشر، وهو الأرجح، والله أعلم. وأصل التقوى التوقي مما يكره لأن أصلها وقوى من الوقاية. قال النابغة | **سَقَطَ النَّصِيفُ ولَمْ تُرِدْ إِسْقاطَهُ فَتَناوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنا بِاليَدِ** | | | | --- | --- | --- | وقال الآخر | **فَأَلْقَتْ قِناعاً دونَهُ الشَّمْسُ واتَّقَتْ بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفَ وَمِعْصَمِ** | | | | --- | --- | --- | وقد قيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى، فقال له أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال بلى، قال فما عملت؟ قال شمرت، واجتهدت، قال فذلك التقوى. وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال | **خَل الذُّنُوبَ صَغِيْرها وكَبِيْرَها ذاك التُّقَى واصْنَعْ كَماشٍ فَوْقَ أر ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ ما يَرَى لا تَحْقِرَنَّ صغيرةً إِنّ الجِبالَ مِنَ الحَصَى** | | | | --- | --- | --- | وأنشد أبو الدرداء يوماً | **يريدُ المرءُ أَنْ يُؤْتَى مُناهُ ويَأْبى اللّهُ إِلاَّ ما أَرادا يقولُ المَرْءُ فائِدَتي ومَالِي وتَقْوَى اللّهِ أَفْضَلُ ما اسْتَفادا** | | | | --- | --- | --- | وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيراً من زوجة صالحة، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ)
{ ذٰلِكَ } أي هذا { ٱلْكِتَٰبُ } الذي يقرؤه محمد { لاَ رَيْبَ } لا شك { فِيهِ } أنه من عند الله وجملة النفي خبر مبتدؤه ذلك والإشارة به للتعظيم { هُدًى } خبر ثانٍ أي هاد { لّلْمُتَّقِينَ } الصائرين إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي لاتقائهم بذلك النار. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ)
الإشارة بقوله { ذلك } إلى الكتاب المذكور بعده.قال ابن جرير قال ابن عباس { ذلك الكتاب } هذا الكتاب وبه قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل وزيد بن أسلم وابن جريج، وحكاه البخاري عن أبي عبيدة. والعرب قد تستعمل الإشارة إلى البعيد الغائب مكان الإشارة إلى القريب الحاضر كما قال خفاف | **أقول له والرمحُ يأطر مَتنهُ تأمل خِفافاً أنني أنا ذلِكا** | | | | --- | --- | --- | أي أنا هذا، ومنه قوله تعالى**{ ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }** السجدة 6**{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ }** الأنعام 83 ــ**{ تِلْكَ آيَـٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ }** البقرة 252، وآل عمران 108، والجاثية 6**{ ذَلِكُمْ حُكْمُ ٱللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ }** الممتحنة 10 وقيل إن الإشارة إلى غائب، واختلف في ذلك الغائب، فقيل هو الكتاب الذي كتب على الخلائق بالسعادة والشقاوة، والأجل والرزق { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا مبدل له، وقيل ذلك الكتاب الذي كتبه الله على نفسه في الأزل أن رحمته سبقت غضبه، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه، فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي "** وفي رواية «سبقت». وقيل الإشارة إلى ما قد نزل بمكة، وقيل إلى ما في التوراة والإنجيل، وقيل إشارة إلى قوله قبله { آلم } ، ورجحه الزمخشري، وقد وقع الاختلاف في ذلك إلى تمام عشرة أقوال حسبما حكاه القرطبي وأرجحها ما صدَّرناه، واسم الإشارة مبتدأ، و { الكتاب } صفته، والخبر { لا ريب فيه } ، ومن جوّز الابتداء بـ { آلم } جعل { ذلك } مبتدأ ثانياً، وخبره { الكتاب } أو هو صفته، والخبر { لا ريب فيه } ، والجملة خبر المبتدأ. ويجوز أن يكون المبتدأ مقدّراً، وخبره { آلم } ، وما بعده. والريب مصدر، وهو قلق النفس واضطرابها، وقيل إن الريب الشك. قال ابن أبي حاتم لا أعلم في هذا خلافاً. وقد يستعمل الريب في التهمة والحاجة، حكى ذلك القرطبي. ومعنى هذا النفي العام، أن الكتاب ليس بمظنة للريب لوضوح دلالته وضوحاً يقوم مقام البرهان المقتضى لكونه لا ينبغي الارتياب فيه بوجه من الوجوه، والوقف على { فيه } هو المشهور. وقد روي عن نافع وعاصم الوقف على { لاَ رَيْبَ } ، قال في الكشاف ولا بدّ للواقف من أن ينوي خبراً، ونظيره قوله تعالى**{ قَالُواْ لاَ ضَيْرَ }** الشعراء 50 وقول العرب لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز، والتقدير لا ريب فيه فيه هدى. والهدى مصدر. قال الزمخشري وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلال في مقابلته انتهى. ومحله الرفع على الابتداء وخبره الظرف المذكور قبله على ما سبق. قال القرطبي الهدى هديان هدى دلالة وهو الذي يقدر عليه الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ }** الرعد 7 وقال**{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** الشورى 52 فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه، وتفرد سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم**{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ }** القصص 56 فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى ــ**{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مّن رَّبّهِمْ }** البقرة 5 وقوله**{ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء }** القصص 56 انتهى. والمتقين من ثبتت لهم التقوى. قال ابن فارس وأصلها في اللغة قلة الكلام. وقال في الكشاف المتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى، والوقاية الصيانة، ومنه فرس واقٍ، وهذه الدابة تقي من وجاورها إذا أصابها ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه. وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. انتهى. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود أن { الكتاب } القرآن، { لا ريب فيه } لا شك فيه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { لا ريب فيه } قال لا شك فيه. وأخرج أحمد في الزهد، وابن أبي حاتم، عن أبي الدرداء قال الريب الشك. وأخرج عبد ابن حميد عن قتادة مثله، وكذا ابن جرير عن مجاهد. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } قال نور للمتقين، وهم المؤمنون. وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } أي الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق بما جاء منه، وأخرج ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل أنه قيل له من المتقون؟ فقال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة. وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة أن رجلاً قال له ما التقوى؟ قال هل وجدت طريقاً ذا شوك؟ قال نعم، قال فكيف صنعت؟ قال إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه، قال ذاك التقوى. وأخرج أحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال تمام التقوى أن يتقي الله العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرة حين يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً يكون حجاباً بينه وبين الحرام. وقد روى نحو ما قاله أبو الدرداء عن جماعة من التابعين. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن عطية السعدي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البأس "** فالمصير إلى ما أفاده هذا الحديث واجب ويكون هذا معنى شرعياً للمتقي أخصّ من المعنى الذي قدمنا عن صاحب الكشاف زاعماً أنه المعنى الشرعي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تفسير القرآن/ الفيروز آبادي (ت817 هـ)
وبإسناده عن عبد الله بن المبارك قال حدثنا علي بن إسحاق السمرقندي عن محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: { الۤمۤ } يقول ألف الله لام جبريل ميم محمد ويقال ألف آلاؤه لام لطفه ميم ملكه ويقال ألف ابتداء اسمه الله لام ابتداء اسمه لطيف ميم ابتداء اسمه مجيد ويقال أنا الله أعلم ويقال قسم أقسم به { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } أي هذا الكتاب الذي يقرؤه عليكم محمد صلى الله عليه وسلم { لاَ رَيْبَ فِيهِ } لا شك فيه أنه من عندي فإن آمنتم به هديتكم وإن لم تؤمنوا به عذبتكم ويقال ذلك الكتاب يعني اللوح المحفوظ ويقال ذلك الكتاب الذي وعدتك يوم الميثاق به أن أوحيه إليك ويقال ذلك الكتاب يعني التوراة أو الإنجيل لا ريب فيه لا شك فيه أن فيهما صفة محمد ونعته { هُدَى لِّلْمُتَّقِينَ } يعني القرآن بيان للمتقين الكفر والشرك والفواحش ويقال كرامة للمؤمنين ويقال رحمة للمتقين لأمة محمد صلى الله عليه وسلم { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } بما غاب عنهم من الجنة والنار والصراط والميزان والبعث والحساب وغير ذلك ويقال الذين يؤمنون بالغيب بما أنزل من القرآن وبما لم ينزل ويقال الغيب هو الله { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ } يتمون الصلوات الخمس بوضوئها وركوعها وسجودها وما يجب فيها من مواقيتها { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ومما أعطيناهم من الأموال يتصدقون ويقال يؤدون زكاة أموالهم وهو أبو بكر الصديق وأصحابه { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } من القرآن { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } على سائر الأنبياء من الكتب { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } وبالبعث بعد الموت ونعيم الجنة هم يصدقون وهو عبد الله بن سلام وأصحابه. { أُوْلَـٰئِكَ } أهل هذه الصفة { عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } على كرامة ورحمة وبيان نزل من ربهم { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } الناجون من السخط والعذاب ويقال أولئك الذين أدركوا ووجدوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير بحر العلوم/ السمرقندي (ت 375 هـ)
قال الفقيه: حدثني أبي رحمه الله، قال: حدثني محمد بن حامد، قال: حدثنا علي بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن مروان عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس في قوله تعالى: { الۤمۤ } يعني: أنا الله أعلم. [ومعنى قول ابن عباس (أنا الله أعلم) يعني] الألف: أنا، واللام: الله، والميم: أعلم، لأن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب قد كانت تذكر حرفاً وتريد به تمام الكلمة. ألا ترى إلى قول القائل: | **قلت لها قفي لنا قالت قاف** | | **لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف** | | --- | --- | --- | يعني بالقاف: قد وقفت. وقال الكلبي: هذا قسم، أقسم الله تعالى بالقرآن، أن هذا الكتاب الذي أنزل على (قلب) محمد صلى الله عليه وسلم هو الكتاب الذي نزل من عند الله تعالى لا ريب فيه. وقال بعض أهل اللغة إن هذا الذي قال الكلبي لا يصح، لأن جواب القسم معقود على حروف مثل: (ان، وقد، ولقد، وما، واللام) وهنا لم نجد حرفاً من هذه الحروف فلا يجوز أن يكون يمينا. ولكن الجواب أن يقال: موضع القسم قوله { لاَ رَيْبَ فِيهِ } فلو أن إنساناً حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه لكان الكلام سديداً وتكون لا جوابا للقسم، فثبت أن قول الكلبي صحيح سديد. فإن قيل: ايش الحكمة في القسم من الله تعالى، وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين، مصدق ومكذب، فالمصدق يصدق بغير قسم، والمكذب لا يصدق مع القسم. قيل له القرآن نزل بلغة العرب، والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه فالله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده. وقد قيل { الۤمۤ }: الألف الله تعالى، واللام: جبريل، والميم: محمد - صلى الله عليه وسلم - ويكون معناه: الله الذي أنزل جبريل على محمد بهذا القرآن لا ريب فيه. وقال بعضهم: كل حرف هو افتتاح اسم من أسماء الله تعالى. فالألف مفتاح اسمه: الله، واللام مفتاح اسمه: اللطيف، والميم مفتاح اسمه: مجيد، ويكون معناه: الله اللطيف المجيد أنزل الكتاب. وروي عن محمد بن كعب بن علي الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة، ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي، ثم بين ذلك في جميع السور ليفقه الناس. وروي عن الشعبي أنه قال: إن لله تعالى سراً جعله في كتبه، وإن سره في القرآن هو الحروف المقطعة وروي عن عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر وعن علي رضي الله عنه: هو اسم من أسماء الله تعالى، فرقت حروفه في السور. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | يعني أن ها هنا قد ذكر { الۤمۤ } وذكر: { الۤر } في موضع آخر وذكرٍ: { حـمۤ } في موضع آخر (نون) في موضع. فإذا جمعت يكون (الرحمن) وكذلك سائر الحروف إذا جمع يصير اسماً من أسماء الله. وذكر قطرب أن المشركين كانوا لا يستمعون القرآن كما قال الله تعالى**{ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }** [فصلت: 26] فأراد أن يسمعهم شيئاً لم يكونوا سمعوه ليحملهم ذلك إلى الاستماع حتى تلزمهم الحجة وقال بعضهم: إن المشركين كانوا يقولون: لا نفقه هذا القرآن، لأنهم قالوا:**{ قُلُوبُنَا فِىۤ أَكِنَّةٍ }** [فصلت: 5] فأراد الله أن يبين لهم أن القرآن مركب على الحروف التي ركبت [عليها] ألسنتكم [يعني هو على لغتكم]، ما لكم لا تفقهون؟ وإنما أراد بذكر الحروف تمام الحروف، كما أن الرجل يقول: علمت ولدي: أ، ب، ت، ث، وإنما يريد جميع الحروف ولم يرد به الحروف الأربعة خاصة. وقال بعضهم: هو من شعار السور وكان اليهود أعداء الله فسروه على حروف الجمل، لأنه ذكر **" أن جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب، وشعبة بن عمرو ومالك بن الصيف دخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: بلغنا أنك قرأت: { الۤمۤ ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } فإن كنت صادقا، فيكون بقاء أمتك إحدى وسبعين سنة، لأن الألف: واحد، واللام: ثلاثون، والميم: أربعون، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قالوا له: وهل غير هذا؟ قال: نعم. { الۤمۤصۤ } فقالوا: هذا أكثر لأن (ص) تسعون. فقالوا: هل غير هذا؟ قال: نعم. { الۤر } فقالوا: هذا أكثر، لأن (الراء): مائتان. ثم ذكر { الۤمۤر } فقالوا: خلطت علينا [يا محمد] لا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟ "** وإنما أدركوا من القرآن مقدار عقولهم وكل إنسان يدرك العلم بمقدار عقله. وكل ما ذكر في القرآن من الحروف المقطعة، فتفسيره نحو ما ذكرنا ها هنا [والله أعلم بالصواب]. قوله عز وجل: { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } أي هذا الكتاب { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك فيه أنه مني، لم يختلقه محمد من تلقاء نفسه. وقد يوضع ذلك بمعنى هذا، كما قال القائل: | **أقول له والرمح يأْطِرُ مَتْنَهُ** | | **تأمل خفافاً أنني أنا ذلكا** | | --- | --- | --- | يعني هذا. وقال بعضهم: معناه ذلك الكتاب الذي [كنت وعدتك يوم الميثاق أن أوحيه إليك، وقال بعضهم: معناه ذلك الكتاب الذي] وعدت في التوارة والإنجيل أن أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - وروي عن زيد بن أسلم أنه قال: أراد بالكتاب اللوح المحفوظ، يعني الكتاب ثبت في اللوح المحفوظ. وقوله: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك فيه أنه من الله تعالى ولم يختلقه محمد من تلقاء نفسه. فإن قيل: كيف يجوز أن يقال: لا شك فيه؟ وقد شك فيه كثير من الناس وهم الكفار والمنافقون؟ قيل له: معناه لا شك فيه عند المؤمنين وعند العقلاء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل: معناه لا شك فيه أي لا ينبغي أن يشك فيه، لأن القرآن معجز فلا ينبغي أن يشك فيه أنه من الله تعالى. قوله عز وجل: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } أي بيانا لهم من الضلالة { لِّلْمُتَّقِينَ } الذين يتقون الشرك والكبائر والفواحش. فهذا القرآن بيان لهم من الضلالة وبيان لهم من الشبهات، وبيان الحلال من الحرام. فإن قيل: فيه بيان لجميع الناس. فكيف أضاف إلى المتقين خاصة؟ قيل له: لأن المتقين هم الذين ينتفعون بالبيان، ويعملون به، فإذا كانوا هم الذين ينتفعون [بالبيان]، صار في [الحقيقة حاصل] البيان لهم. روي عن أبي روق أنه قال: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } أي كرامة لهم. يعني إنما أضاف إليهم إجلالاً وكرامة لهم، وبياناً لفضلهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ)
قوله تعالى: { ذَلِكَ الكِتَابُ } فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: يعني التوراة والإنجيل، ليكون إخباراً عن ماضٍ. والثاني: يعني به ما نزل من القرآن قبل هذا بمكة والمدينة، وهذا قول الأصم. والثالث: يعني هذا الكتاب، وقد يستعمل ذلك في الإشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعاً للإشارة إلى غائب، قال خُفاف بن ندبة: | **أَقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنُهُ** | | **تَأَمَّلْ خُفَافاً إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا** | | --- | --- | --- | ومن قال بالتأويل الأول: أن المراد به التوراة والإنجيل، اختلفوا في المخاطب به على قولين: أحدهما: أن المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم، أي ذلك الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل، هو الذي أنزلته عليك يا محمد. والقول الثاني: أن المخاطب به اليهود والنصارى، وتقديره: أن ذلك الذي وعدتكم به هو هذا الكتاب، الذي أنزلته على محمد عليه وعلى آله السلام. قوله عز وجل: { لاَ رَيْبَ فيهِ } وفيه تأويلان: أحدهما: أن الريب هو الشك، وهو قول ابن عباس، ومنه قول عبد الله بن الزِّبَعْرَى: | **لَيْسَ في الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ** | | **إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الْجَهُولُ** | | --- | --- | --- | والتأويل الثاني: أن الريب التهمة ومنه قول جميل: | **بُثَيْنَةُ قالتْ: يا جَمِيلُ أَرَبْتَنِيُ** | | **فَقُلْتُ: كِلاَنَا يَا بُثَيْنَ مُرِيب** | | --- | --- | --- | قوله عزَّ وجلَّ: { هُدىً لِلْمُتَّقِينَ } ، يعني به هدىً من الضلالة. وفي المتقين ثلاثة تأويلات: أحدها: أنهم الذين اتقوا ما حرم الله عليهم وأدَّوا ما افترض عليهم، وهذا قول الحسن البصري. والثاني: أنهم الذين يحذرون من الله تعالى عقوبته ويرجون رحمته وهذا قول ابن عباس. والثالث: أنهم الذين اتقوا الشرك وبرئوا من النفاق وهذا فاسد، لأنه قد يكون كذلك، وهو فاسق وإنما خص به المتقين، وإن كان هدىً لجميع الناس، لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير معالم التنزيل/ البغوي (ت 516 هـ)
{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ \* الۤمۤ } قال الشعبي وجماعة: الۤم وسائر حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه وهي سرُّ القرآن. فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله تعالى. وفائدة ذكرها طلب الإِيمان بها. قال أبو بكر الصديق: في كل كتاب سر وسر الله تعالى في القرآن أوائل السور، وقال علي: لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي قال داود بن أبي هند: كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور فقال: يا داود إن لكل كتاب سراً وإن سر القرآن فواتح السور فدعها وسل عما سوى ذلك. وقال جماعة هي معلومة المعاني فقيل: كل حرف منها مفتاح اسم من أسمائه كما قال ابن عباس في كهيعص: الكاف من كافي والهاء من هادي والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق. وقيل في المص أنا الله الملك الصادق، وقال الربيع بن أَنس في الۤم: الألف مفتاح اسمه الله واللام مفتاح اسمه اللطيف، والميم مفتاح اسمه المجيد. وقال محمد بن كعب: الألف آلاء الله واللام لطفه، والميم ملكه، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أَنه قال: معنى الۤم: أنا الله أعلم: ومعنىٰ الۤمص: أنا الله أعلم وأفضل ومعنى الۤر: أنا الله أرى، ومعنى الۤمر: أنا الله أعلم وأرى. قال الزجاج: وهذا حسن فإن العرب تذكر حرفاً من كلمة يريدها كقولهم: | **قلت لها: قفي لنا قالت: قاف** | | | | --- | --- | --- | أي: وقفت، وعن سعيد بن جبير قال هي أسماء الله تعالى مقطعة لو علم الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم. ألا ترى أنك تقول الۤر، وحم، ون، فتكون الرحمن، وكذلك سائرها إلا أنَّا لا نقدر على وصلها، وقال قتادة: هذه الحروف أسماء القرآن. وقال مجاهد وابن زيد: هي أسماء السور، وبيانه: أن القائل إذا قال قرأتُ الۤمۤصۤ عرف السامع أنه قرأ السورة التي افتتحت بالمص. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها أقسام، وقال الأخفش: إنما أقسم الله بهذه الحروف لشرفها وفضلها لأنها مبادىء كتبه المنزلة ومباني أسمائه الحسنى. قوله تعالى: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } أي هذا الكتاب وهو القرآن، وقيل: هذا فيه مضمر أي هذا ذلك الكتاب. قال الفراء: كان الله قد وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، فلما أنزل القرآن قال هذا ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أنزله عليك في التوراة والإِنجيل وعلى لسان النبيين من قبلك «وهذا» للتقريب «وذلك» للتبعيد، وقال ابن كيسان: إن الله تعالى أنزل قبل سورة البقرة سوراً كذب بها المشركون ثم أنزل سورة البقرة فقال ذلك الكتاب يعني ما تقدم البقرة من السور لا شك فيه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والكتاب مصدر وهو بمعنى المكتوب كما يقال للمخلوق خَلْق، وهذا الدرهم ضرب فلان أي مضروبه. وأصل الكَتْب: الضم والجمع، ويقال للجند: كتيبة لاجتماعها، وسمي الكتاب كتاباً لأنه جمع حرف إلى أحرف. قوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك فيه أنه من عند الله عز وجل وأنه الحق والصدق، وقيل هو خبر بمعنى النهي أي: لا ترتابوا فيه كقوله تعالى:**{ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ }** [البقرة: 197] أي لا ترفثوا ولا تفسقوا. قرأ ابن كثير: فيه بالإِشباع في الوصل وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلاً ما لم يلقها ساكن ثم إن كان الساكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسرة ياء وإن كان غير ياء يشبعها بالضم واواً ووافقه حفص في قوله:**{ فِيهِ مُهَاناً }** [الفرقان: 69] فيشبعه. قوله تعالى: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } يدغم الغنة عند اللام والراء أبو جعفر وابن كثير وحمزة والكسائي، زاد حمزة والكسائي عند الياء وزاد حمزة عند الواو والآخرون لا يدغمونها ويخفي أبو جعفر النون والتنوين عند الخاء والغين هدى للمتقين أي هو هدى أي رشد وبيان لأهل التقوى، وقيل هو نصبٌ على الحال أي هادياً تقديره لا ريب في هدايته للمتقين والهدى ما يهتدي به الإِنسان، للمتقين أي للمؤمنين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: المتقي من يتقي الشرك والكبائر والفواحش وهو مأخوذ من الاتقاء. وأصله الحجز بين الشيئين ومنه يقال اتقى بترسه أي جعله حاجزاً بين نفسه وبين ما يقصده. وفي الحديث: **" كنا إذا أحمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم "** أي إذا اشتد الحرب جعلناه حاجزاً بيننا وبين العدو، فكأن المتقي يجعل امتثال أمر الله والاجتناب عما نهاه حاجزاً بينه وبين العذاب. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكعب الأحبار: حدثني عن التقوى فقال: هل أخذت طريقاً ذا شوك قال: نعم. قال فما عملت فيه قال: حذرت وشمرت: قال كعب: ذلك التقوى. وقال شهر بن حوشب: المتقي الذي يترك مالا بأس به حذراً لما به بأس وقال عمر بن عبد العزيز: التقوى ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله فما رزق الله بعد ذلك فهو خيرإلى خير. وقيل هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وفي الحديث: **" جماع التقوى في قوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ } [النحل:90] الآية "** وقال ابن عمر: التقوى أن لا ترى نفسك خيراً من أحد. وتخصيص المتقين بالذكر تشريف لهم أو لأنهم هم المتقون بالهدى. قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } موضع الذين خُفِضَ نعتاً للمتقين. يؤمنون: يصدقون ويترك الهمزة أبو عمرو وورش، والآخرون يهمزونه وكذلك يتركان كل همزة ساكنة هي فاء الفعل نحو يؤمن ومؤمن إلا أحرفاً معدودة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وحقيقة الإِيمان التصديق بالقلب، قال الله تعالى:**{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا }** [يوسف: 17] أي: بمصدق لنا وهو في الشريعة: الاعتقاد بالقلب والإِقرار باللسان والعمل بالأركان، فسمي الإِقرار والعمل إيماناً لوجهٍ من المناسبة، لأنه من شرائعه. والإِسلام: هو الخضوع والانقياد، فكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيماناً، إذا لم يكن معه تصديق، قال الله تعالى:**{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا }** [الحجرات: 14] وذلك لأن الرجل قد يكون مستسلماً في الظاهر غير مصدق في الباطن. ويكون مصدقاً في الباطن غير منقاد في الظاهر. وقد اختلف جواب النبي صلى الله عليه وسلم عنهما حين سأله جبريل عليه السلام وهو ما أخبرنا أبو طاهر محمد ابن علي بن محمد بن علي بن بن بويه الزراد البخاري: أنا أبو القاسم على بن أحمد الخزاعي ثنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ثنا أبو أحمد عيسى بن أحمد العسقلاني أنا يزيد بن هارون أنا كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من تكلم في القدر، يعني بالبصرة، معبداً الجهني فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن نريد مكة فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقوله هؤلاء فلقينا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فعلمت أنه سيكل الكلام إلي فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قِبَلَنا ناس يتقفرون هذا العلم ويطلبونه يزعمون أن لا قدر إنما الأمر أُنُف قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني بُرَآءُ والذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل الله ما قبل الله منه شيئاً حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ثم قال: **" حدثنا عمر بن الخطاب قال: «بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ما يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد فأقبل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبته تمس ركبته فقال: يا محمد أخبرني عن الإِسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول اللَّه وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً فقال: صدقت فتعجبنا من سؤاله وتصديقه. ثم قال: فما الإِيمان قال: أن تؤمن بالله وحده وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت والجنة والنار وبالقدر خيره وشره فقال: صدقت. ثم قال: فما الإِحسان قال:أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك قال: صدقت ثم قال: فأخبرني عن الساعة فقال ما المسؤول عنها بأعلم بها من السائل قال: صدقت قال: فأخبرني عن أماراتها قال: أن تلد الامة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في بنيان المدر قال: صدقت ثم انطلق فلما كان بعد ثالثة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر هل تدري من الرجل؟ قال: قلت: اللّه ورسوله أعلم. قال: ذلك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا في صورته هذه» ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الإِسلام في هذا الحديث إسماً لما ظهر من الأعمال، والإِيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإِيمان أو التصديق بالقلب ليس من الإِسلام بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدّين، ولذلك قال: **" ذاك جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم ".** والدليل على أن الأعمال من الإِيمان ما أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو القاسم ابراهيم بن محمد بن علي بن الشاه ثنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان ثنا بشر بن موسى ثنا خلف بن الوليد عن جرير الرازي عن سهل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" الإِيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإِيمان ".** وقيل: الإِيمان مأخوذ من الأمان، فسمي المؤمن مؤمناً لأنه يُؤمِّن نفسه من عذاب الله، والله تعالى مؤمن لأنه يؤمِّن العباد من عذابه. قوله تعالى { بِٱلْغَيْبِ }: والغيب مصدر وضع موضع الاسم فقيل للغائب غيب كما قيل للعادل عدل وللزائر زور. والغيب ما كان مغيباً عن العيون قال ابن عباس: الغيب هٰهنا كل ما أمرت بالإِيمان به فيما غاب عن بصرك مثل الملائكة والبعث والجنة والنار والصراط والميزان. وقيل الغيب هٰهنا: هو الله تعالىٰ، وقيل: القرآن، وقال الحسن: بالآخرة وقال زر بن حبيش وابن جريج: الوحي. نظيره:**{ أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ }** [النجم: 35] وقال ابن كيسان: بالقدر وقال عبد الرحمٰن بن يزيد: كنا عند عبد الله بن مسعود فذكرنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به فقال عبد الله: إن أمر محمد كان بيِّناً لمن رآه والذي لا إلٰه غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ ألم ذلك الكتاب إلى قوله المفلحون. قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وورش يؤمنون بترك الهمزة وكذلك أبو جعفر بترك كل همزة ساكنة إلا في أنبئهم ونبئهم ونبئنا ويترك أبو عمرو كلها إلا أن تكون علامة للجزم نحو نبئهم وأنبئهم وتسؤهم وإن نشأ وننسأها ونحوها أو يكون خروجاً من لغة إلى أخرى نحو مؤصدة ورئياً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويترك ورش كل همزة ساكنة كانت فاء الفعل إلا تؤوي وتؤويه ولا يترك من عين الفعل: إلا الرؤيا وبابه، إلا ما كان على وزن فعل. مثل: ذئب. قوله تعالى: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ } أي يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها، وأركانها وهيئاتها يقال: قام بالأمر، وأقام الأمر إذا أتى به معطىً حقوقه، والمراد بها الصلوات الخمس ذكر بلفظ الواحدان كقوله تعالىٰ:**{ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ }** [البقرة: 213] يعني الكتب. والصلاة في اللغة: الدعاء، قال الله تعالىٰ:**{ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ }** [التوبة: 103] أي ادع لهم، وفي الشريعة اسم لأفعال مخصوصة من قيام وركوع وسجود وقعود ودعاء وثناء. وقيل في قوله تعالىٰ:**{ إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىِّ }** [الأحزاب: 56] الآية إن الصلاة من الله في هذه الآية الرحمة ومن الملائكة الاستغفار، ومن المؤمنين: الدعاء. قوله تعالى: { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ } أي أعطيناهم والرزق اسم لكل ما ينتفع به حتى الولد والعبد وأصله في اللغة الحظ والنصيب. { يُنفِقُونَ } يتصدقون قال قتادة: ينفقون في سبيل الله وطاعته. وأصل الإِنفاق: الإِخراج عن اليد والملك، ومنه نَفاق السوق لأنه تخرج فيه السلعة عن اليد، ومنه: نفقت الدابة إذا خرجت روحها. فهذه الآية في المؤمنين من مشركي العرب. قوله تعالى: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنوُنَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } يعني القرآن { وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } من التوراة والإِنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ويترك أبو جعفر وابن كثير وقالون وأبو عمرو وأهل البصرة ويعقوب كل مدَّة تقع بين كل كلمتين. والآخرون يمدونها. وهذه الآية في المؤمنين من أهل الكتاب. قوله تعالى: { وَبِٱلأَخِرَةِ } أي بالدار الآخرة سميت الدنيا دنيا لدنوها من الآخرة وسميت الآخرة آخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا { هُمْ يُوقِنُونَ } أي يستيقنون أنها كائنة، من الإِيقان: وهو العلم. وقيل: الإيقان واليقين: علم عن استدلال. ولذلك لا يسمى الله موقناً ولا علمه يقيناً إذ ليس علمه عن استدلال. قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ } أي أهل هذه الصفة وأولاء كلمة معناها الكناية عن جماعة نحو: هم، والكاف للخطاب كما في حرف ذلك { عَلَىٰ هُدًى } أي رشد وبيان وبصيرة { مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي الناجون والفائزون فازوا بالجنة ونجوا من النار، ويكون الفلاح بمعنى البقاء أي باقون في النعيم المقيم وأصل الفلاح القطع والشق ومنه سمي الزراع فلاحاً لأنه يشق الأرض وفي المثل: الحديد بالحديد يفلح أي يشق فهم مقطوع لهم بالخير في الدنيا والآخرة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ)
الاسم من { ذلك } الذال والألف، وقيل الذال وحدها، والألف تقوية، واللام لبعد المشار إليه وللتأكيد، والكاف للخطاب، وموضع { ذلك } رفع كأنه ابتداء، أو ابتداء وخبره بعده، واختلف في { ذلك } هنا فقيل: هو بمعنى " هذا " ، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف من القرآن. قال القاضي أبو محمد: وذلك أنه قد يشار بـ " ذلك " إلى حاضر تعلق به بعض الغيبة وبـ " هذا " إلى غائب هو من الثبوت والحضور بمنزلة وقُرْب. وقيل: هو على بابه إِشارة إلى غائب، واختلف في ذلك الغائب، فقيل: ما قد كان نزل من القرآن، وقيل: التوراة والإنجيل، وقيل: اللوح المحفوظ؛ أي الكتاب الذي هو القدر وقيل: إن الله قد كان وعد نبيه أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء، فأشار إلى ذلك الوعد. وقال الكسائي: " { ذلك } إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد ". وقيل: إن الله قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد كتاباً، فالإشارة إلى ذلك الوعد، وقيل: إن الإشارة إلى حروف المعجم في قول من قال { الم } حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم منها. ولفظ { الكتاب } مأخوذ من " كتبتُ الشيء " إذا جمعتَه وضممتَ بعضه إلى بعض ككتبَ الخَرَز بضم الكاف وفتح التاء وكتبَ الناقة. ورفع { الكتاب } يتوجه على البدل أو على خبر الابتداء أو على عطف البيان. و { لا ريب فيه } معناه: لا شكّ فيه ولا ارتياب به؛ والمعنى أنه في ذاته لا ريب فيه وإن وقع ريبٌ للكفار. وقال قوم: لفظ قوله { لا ريب } فيه لفظ الخبر ومعناه النهي. وقال قوم: هو عموم يراد به الخصوص؛ أي عند المؤمنين. قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف. وقرأ الزهري، وابن محيصن، ومسلم بن جندب، وعبيد بن عمير: " فِيهُ " بضم الهاء؛ وكذلك " إليهُ " و " علَيْهُ " و " بِهُ " و " نُصْلِهُ " ونولهُ وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل. وقرأ ابن إسحاق: " فيهو " ضم الهاء ووصلها بواو. و { هدى } معناه رشاد وبيان، وموضعه، من الإعراب رفع على أنه خبر { ذلك } ، أو خبر ابتداء مضمر، أو ابتداء وخبره في المجرور قبله، ويصح أن يكون موضعه نصباً على الحال من ذلك، أو من الكتاب، ويكون العامل فيه معنى الإشارة، أو من الضمير في { فيه } ، والعامل معنى الاستقرار؛ وفي هذا القول ضعف. وقوله { للمتقين } اللفظ مأخوذ من وَقَى، وفعله اتَّقى، على وزن افتعل، وأصله " للموتقيين " استثقلت الكسرة على الياء فسكنت وحذفت للالتقاء، وأبدلت الواو تاءً على أصلهم في اجتماع الواو والتاء، وأدغمت التاء في التاء فصار { للمتقين }. والمعنى: الذين يتقون الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب معاصيه، كان ذلك وقاية بينهم وبين عذاب الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ)
قوله تعالى: «ذلك» فيه قولان. أحدهما: أنه بمعنى هذا، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والكسائي، وأبي عبيدة، والأخفش. واحتج بعضهم بقول خفاف بن ندبة: | **أَقول له والرمح يأطر متنه** | | **تأمل خفافا إِنني أنا ذلكا** | | --- | --- | --- | أي: أنا هذا. وقال ابن الأنباري. إنما أراد: أنا ذلك الذي تعرفه. والثاني: أنه إشارة الى غائب. ثم فيه ثلاثة أقوال. أحدها: أنه أراد به ما تقدم إنزاله عليه من القرآن. والثاني: أنه أراد به ما وعده أن يوحيه إليه في قوله:**{ سنلقي عليك قولاً ثقيلاً }** [المزمل:5]. والثالث: أنه أراد بذلك ما وعد به أهل الكتب السالفة، لأنهم وعدوا بنبي وكتاب. و { الكتاب }. القرآن. وسمي كتاباً، لأنه جمع بعضه إلى بعض، ومنه الكتيبة، سميت بذلك لاجتماع بعضها إلى بعض. ومنه: كتبت البغلة. قوله تعالى: { لا ريب فيه } الرَّيب: الشك. والهدى: الإِرشاد. والمتقون: المحترزون مما اتقوه. وفرَّق شيخنا علي بن عبيد الله بين التقوى والورع، فقال: التقوى: أخذ عدة، والورع: دفع شبهة، فالتقوى: متحقق السبب، والورع: مظنون المسبَّب. واختلف العلماء في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال. أحدها: أن ظاهرها النفي، ومعناها النهي، وتقديرها: لا ينبغي لأحد أن يرتاب به لإتقانه وإحكامه. ومثله:**{ ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء }** [يوسف: 38] أي: ما ينبغي لنا. ومثله:**{ فلا رفت ولا فسوق }** [البقرة: 196] وهذا مذهب الخليل، وابن الأنباري. والثاني: أن معناها: لا ريب فيه أنه هدىً للمتقين. قاله المبرّد. والثالث: أن معناها: لا ريب فيه أنه من عند الله، قاله مقاتل في آخرين. فان قيل: فقد ارتاب به قوم. فالجواب: انه حق في نفسه، فمن حقق النظر فيه علم. قال الشاعر: | **ليس في الحق يا أمامة ريب** | | **إنما الريب ما يقول الكذوب** | | --- | --- | --- | فان قيل: فالمتقي مهتد، فما فائدة اختصاص الهداية به؟ فالجواب من وجهين. أحدهما: أنه أراد المتقين، والكافرين، فاكتفى بذكر أحد الفريقين، كقوله تعالى:**{ سرابيل تقيكم الحر }** [النحل: 81] أراد: والبرد. والثاني: أنه خصَّ المتقين لانتفاعهم به، كقوله:**{ إنما أنت منذر من يخشاها }** [النازعات:45]. وكان منذراً لمن يخشى ولمن لا يخشى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ)
{ ذّلِكَ الْكِتَابُ }: إشارة إلى ما نزل من القرآن قبل هذا بمكة أو المدينة، أو إلى قوله**{ إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }** [المزمل: 5] أو ذلك بمعنى هذا إشارة إلى حاضر، أو إشارة إلى التوراة والإنجيل، خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم: أي: الكتاب الذي ذكرته لك في التوراة والإنجيل هو الذي أنزلته عليك، أو خوطب به اليهود والنصارى: أي الذي وعدتكم به هو هذا الكتاب الذي أنزلته على محمد، أو إلى قوله:**{ إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }** أو قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل هو هذا الذي أنزلته عليك [أو المراد] بالكتاب: اللوح [المحفوظ] { لا رَيْبَ فِيهِ }: الريب التهمة أو الشك. { لِلْمُتَّقِينَ } الذين أقاموا الفرائض واجتنبوا المحرمات، أو الذين يخافون العقاب ويرجون الثواب، أو الذين اتقوا الشرك وبرئوا من النفاق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير مدارك التنزيل وحقائق التأويل/ النسفي (ت 710 هـ)
{ بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ الم } ونظائرها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم، فالقاف تدل على أول حروف قال، والألف تدل على أوسط حروف قال، واللام تدل على الحرف الأخير منه وكذلك ما أشبهها. والدليل على أنها أسماء أن كلاً منها يدل على معنى في نفسه ويتصرف فيها بالإمالة والتفخيم وبالتعريف والتنكير و الجمع والتصغير وهي معربة، وإنما سكنت سكون زيد وغيره من الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضيه. وقيل: إنها مبنية كالأصوات نحو «غاق» في حكاية صوت الغراب، ثم الجمهور على أنها أسماء السورة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أقسم الله بهذه الحروف. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إنها اسم الله الأعظم. وقيل: إنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله. وما سميت معجمة إلا لإعجامها وإبهامها. وقيل: ورود هذه الأسماء على نمط التعديد كالإيقاظ لمن تحدى بالقران. وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا إن لم تتساقط مقدرتهم دونه ولم يظهر عجزهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة وهم أمراء الكلام إلا لأنه ليس من كلام البشر وأنه كلام خالق القوى والقدر، وهذا القول من الخلافة بالقبول بمنزل. وقيل: إنما وردت السور مصدرة بذلك ليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلاً بوجه من الإغراب وتقدمة من دلائل الإعجاز، وذلك أن النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام الأميّون منهم وأهل الكتاب بخلاف النطق بأسامي الحروف فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم، وكان مستبعداً من الأمي التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة، فكان حكم النطق بذلك من اشتهار أنه لم يكن ممن اقتبس شيئاً من أهله حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن التي لم تكن قريش ومن يضاهيهم في شيء من الإحاطة بها في أن ذلك حاصل له من جهة الوحي وشاهد لصحة نبوته. واعلم أن المذكور في الفواتح نصف أسامي حروف المعجم وهي الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم. وهي مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، فمن المهموسة نصفها الصاد والكاف والهاء والسين والحاء، ومن المجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون، ومن الشديدة نصفها الألف والكاف والطاء والقاف، ومن الرخوة نصفها اللام والميم والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون، ومن المطبقة نصفها الصاد والطاء، ومن المنفتحة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون، ومن المستعلية نصفها القاف والصاد والطاء، ومن المنخفضة نصفها واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون، ومن حروف القلقلة نصفها القاف والطاء وغير المذكورة من هذه الأجناس مكثورة بالمذكورة منها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد علمت أن معظم الشيء ينزل منزلة كله، فكأن الله تعالى عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما مر من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم. وإنما جاءت مفرقة على السور لأن إعادة التنبيه على المتحدى به مؤلفاً منها لا غير أوصل إلى الغرض، وكذا كل تكرير ورد في القرآن فالمطلوب منه تمكين المكرر في النفوس وتقريره. ولم تجىء على وتيرة واحدة بل اختلفت أعداد حروفها مثل: ص و ق و ن وطه وطس ويس وحم والم والر وطسم والمص والمر وكهيعص وحم عسق. فوردت على حرف وحرفين وثلاثة وأربعة وخمسة كعادة افتنانهم في الكلام. وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف فسلك في الفواتح هذا المسلك. «والم» آية حيث وقعت، وكذا { المص } آية و { المر } لم تعد آية وكذا { الر } لم تعد آية في سورها الخمس و { طسم } آية في سورتيها و { طه } و { يس } آيتان و { وطس } ليست بآية و { حـم } آية في سورها كلها و { حـم عسق } آيتان و { كهيعص } آية و { ص } و { ن } و { ق } ثلاثتها لم تعد آية وهذا عند الكوفيين ومن عداهم لم يعد شيئاً منها آية، وهذا علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور. ويوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات، أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله**{ الم ٱللَّهِ }** [آل عمران: 1] أي هذه الم ثم ابتدأ فقال:**{ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ }** [آل عمران: 1] ولهذه الفواتح محل من الإعراب فيمن جـعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام وهو الرفع على الابتداء، أو النصب أو الجر لصحة القسم بها وكونها بمنزلة الله والله على اللغتين، ومن لم يجـعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل في مذهبه كما لا محل للجملة المبتدأة وللمفردات المعدودة. { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } أي ذلك الكتاب الذي وعد به على لسان موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، أو «ذلك» إشارة إلى «الم»، وإنما ذكّر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة، لأن الكتاب إن كان خبره كان ذلك في معناه ومسماه مسماه فجاز إجراء حكمه عليه بالتذكير والتأنيث، وإن كان صفته فالإشارة به إلى الكتاب صريحاً لأن اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له، تقول: هند ذلك الإنسان أو ذلك الشخص فعل كذا، ووجه تأليف ذلك الكتاب مع «الم» إن جعلت «الم» إسماً للسورة أن يكون «الم» مبتدأ و«ذلك» مبتدأ ثانياً و«الكتاب» خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول، ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص كما تقول: هو الرجل أي الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال، وأن يكون «الم» خبر مبتدأ محذوف أي هذه «الم» جملة «وذلك الكتاب» جملة أخرى، وإن جعلت «الم» بمنزلة الصوت كان «ذلك» مبتدأ خبره «الكتاب» أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | { لاَ رَيْبَ } لا شك وهو مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة. وحقيقة الريبة قلق النفس واضطرابها ومنه قوله عليه السلام: **" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة "** أي فإن كون الأمر مشكوكاً فيه مما تقلق له النفس ولا تستقر، وكونه صحيحاً صادقاً مما تطمئن له وتسكن، ومنه ريب الزمان وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه. وإنما نفى الريب على سبيل الاستغراق وقد ارتاب فيه كثير لأن المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه لا أن أحداً لا يرتاب، وإنما لم يقل «لا فيه ريب» كما قال**{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ }** [الصافات:47] لأن والمراد في إيلاء الريب حرف النفي نفي الريب عنه وإثبات أنه حق لا باطل كما يزعم الكفار، ولو أولى الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد وهو أن كتاباً آخر فيه ريب لا فيه كما قصد في قوله تعالى:**{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ }** [الصافات: 47]، تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي. والوقف على «فيه» هو المشهور. وعن نافع وعاصم أنهما وقفاً على «ريب». ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً والتقدير: لا ريب فيه. { فِيهِ هُدًى } فيه بإشباع كل هاء مكي ووافقه حفص في**{ فيه مهاناً }** [الفرقان:69] وهو الأصل كقولك مررت به ومن عنده وفي داره. وكما لا يقال في داره ومن عنده وجب أن لا يقال فيه. وقال سيبويه ما قاله مؤد إلى الجمع بين ثلاثة أحرف سواكن: الياء قبل الهاء، والهاء إذاً الهاء المتحركة في كلامهم بمنزلة الساكنة لأنها الهاء خفية والخفي قريب من الساكن، والياء بعدها. والهدى مصدر على فعل كالبكي وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلالة في مقابلته في قوله:**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ }** [البقرة: 16] وإنما قيل هدى { لّلْمُتَّقِينَ } والمتقون مهتدون لأنه كقولك للعزيز المكرم: أعزك الله وأكرمك، تريد طلب الزيادة على ما هو ثابت فيه واستدامته كقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ، أو لأنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين كقوله عليه السلام | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" من قتل قتيلاً فله سلبه "** وقول ابن عباس رضي الله عنهما: إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض، فسمى المشارف للقتل والمرض قتيلاً ومريضاً. ولم يقل: هدى للضالين. لأنهم فريقان فريق علم بقاءهم على الضلالة، وفريق علم أن مصيرهم إلى الهدى وهو هدى لهؤلاء فحسب، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا فقيل «هدى للمتقين» مع أن فيه تصديراً للسورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن بذكر أولياء الله. والمتقى في اللغة اسم فاعل من قولهم: وقاه فاتقى، ففاؤها واو ولامها ياء، وإذا بنيت من ذلك افتعل قلبت الواو تاء وأدغمتها في التاء الأخرى فقلت اتقى. والوقاية فرط الصيانة، وفي الشريعة من يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. ومحل «هدى» الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف، أو خبر مع «لا ريب فيه» لذلك، أو النصب على الحال من الهاء في «فيه» والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يقال: إن قوله «الم» جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، «وذلك الكتاب» جملة ثانية، «ولا ريب فيه» ثالثة، و«هدى للمتقين» رابعة. وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف عطف وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة، بيان ذلك أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقريراً لجـهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة وتسجيلاً بكماله لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة. وقيل لعالم: فيم لذتك؟ قال: في حجة تتبختر اتضاحاً وفي شبهة تتضاءل افتضاهاً. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ونظمت هذا النظم الرشيق من نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إن المطلوب بألطف وجه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف، ووضع المصدر الذي هو «هدى» موضع الوصف الذي هو «هاد» كأن نفسه هداية وإيراده منكراً ففيه إشعار بأنه هدى لا يكتنه كنهه. والإيجاز في ذكر المتقين كما مر. { ٱلَّذِينَ } في موضع رفع أو نصب على المدح أي هم الذين يؤمنون أو أعني الذين يؤمنون، أو هو مبتدأ وخبره «أولئك على هدى»، أو جر على أنه صفة للمتقين، وهي صفة واردة بياناً وكشفاً للمتقين كقولك «زيد الفقيه» المحقق لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من الإيمان الذي هو أساس الحسنات، والصلاة والصدقة فهما العبادات البدنية والمالية وهما العيار على غيرهما، ألا ترى أن النبي عليه السلام سمى الصلاة عماد الدين، وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة، وسمى الزكاة قنطرة الإسلام فكان من شأنهما استتباع سائر العبادات، ولذلك اختصر الكلام بأن استغنى عن عد الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين، أو صفة مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها كقولك: زيد الفقيه المتكلم الطبيب، ويكون المراد بالمتقين الذين يجتنبون السيئات { يُؤْمِنُونَ } يصدقون وهو إفعال من الأمن وقولهم: آمنه أي صدقه وحقيقته أمنه التكذيب والمخالفة، وتعديته بالباء لتضمنه معنى أقر واعترف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | { بِٱلْغَيْبِ } بما غاب عنهم مما أنبأهم به النبي عليه السلام من أمر البعث والنشور والحساب وغير ذلك، فهو بمعنى الغائب تسمية بالمصدر من قولك «غاب الشيء غيباً». هذا إن جعلته صلة للإيمان، وإن جعلته حالاً كان بمعنى الغيبة والخفاء أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به وحقيقته متلبسين بالغيبة، والإيمان الصحيح أن يقر باللسان ويصدق بالجنان والعمل ليس بداخل في الإيمان. { وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ } أي يؤدونها فعبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت وهو القيام وبالركوع والسجود والتسبيح لوجودها فيها، أو أريد بإقامة الصلاة تعديل أركانها من أقام العود إذا قومه، أو الدوام عليها والمحافظة من قامت السوق إذا نفقت لأنه إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات، وإذا أضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه، والصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى، وكتابتها بالواو على لفظ المفخم. وحقيقة صلى حرك الصلوين أي الأليتين لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده. وقيل للداعي مصل تشبيهاً له في تخشعه بالراكع والساجد { وَمِمَّا َرَزَقْنَاهُمْ } أعطيناهم. و «ما» بمعنى «الذي» { يُنفِقُونَ } يتصدقون. أدخل «من» التبعيضية صيانة لهم عن التبذير المنهي عنه وقدم المفعول دلالة على كونه أهم والمراد به الزكاة لاقترانه بالصلاة التي هي أختها أو هي غيرها من النفقات في سبل الخير لمجيئه مطلقاً، وأنفق الشيء وأنفده أخوان كنفق الشيء ونفد، وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء فدال على معنى الخروج والذهاب. ودلت الآية على أن الأعمال ليست من الإيمان حيث عطف الصلاة والزكاة على الإيمان والعطف يتقضي المغايرة. { وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا بكل وحي أنزل من عند الله وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات، ثم إن عطفتهم على الذين يؤمنون بالغيب دخلوا في جملة المتقين، وإن عطفتهم على المتقين لم يدخلوا فكأنه قيل: هدى للمتقين، وهدى للذين يؤمنون بما أنزل إليك، أو المراد به وصف الأولين ووسط العاطف كما يوسط بين الصفات في قولك: هو الشجاع والجواد، وقوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **إلى الملك القرم وابن الهمام** | | **وليث الكتيبة في المزدحم** | | --- | --- | --- | والمعنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه { بِمَا أُنزَلَ إِلَيْكَ } يعني القرآن المراد جميع القرآن لا القدر الذي سبق إنزاله وقت إيمانهم، لأنه الإيمان بالجميع واجب. وإنما عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان بعضه مترقباً تغليباً للموجود على ما لم يوجد، ولأنه إذا كان بعضه نازلاً وبعضه منتظر النزول جعل كأن كله قد نزل. { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } يعني سائرالكتب المنزلة على النبيين عليهم الصلاة والسلام { وَبِٱلآخِرَةِ } وهي تأنيث الآخر الذي هو ضد الأول وهي صفة والموصوف محذوف وهو الدار بدليل قوله:**{ تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ }** [القصص: 83] وهي من الصفات الغالبة وكذلك الدنيا. وعن نافع أنه خففها بأن حذف الهمزة وألقى حركتها على اللام. { هُمْ يُوقِنُونَ } الإيقان إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه. { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى } الجملة في موضع الرفع إن كان «الذين يؤمنون بالغيب» مبتدأ وإلا فلا محمل لها، ويجوز أن يجري الموصول الأول على «المتقين» وأن يرتفع الثاني على الإبتداء و«أولئك» خبره، ويجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لا يؤمنون بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله. ومعنى الاستعلاء في «على هدى» مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ونحوه «هو على الحق وعلى الباطل» وقد صرحوا بذلك في قولهم: جـعل الغواية مركباً، وامتطى الجهل، واقتعد غارب الهوى. ومعنى هدى { مّن رَّبّهِمُ } أي أوتوه من عنده. ونكر «هدى» ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه كأنه قيل على أي هدى ونحوه «لقد وقعت على لحم» أي على لحم عظيم. { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي الظافرون بما طلبوا الناجون عما هربوا؛ فالفلاح درك البغية والمفلح الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر، والتركيب دال على معنى الشق والفتح وكذا أخواته في الفاء والعين نحو «فلق وفلز وفلى»، وجاء العطف هنا بخلاف قوله:**{ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ }** [الأعراف: 179] لاختلاف الخبرين المقتضيين للعطف هنا واتحاد الغفلة والتشبيه بالبهائم ثمّ، فكانت الثانية مقررة للأولى فهي من العطف بمعزل، وهم فصل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفائدته الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة والتوكيد وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره، أو هو مبتدأ و«المفلحون» خبره، والجملة خبر «أولئك» فانظر كيف قرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة وتكريره، ففيه تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى فهي ثابتة لهم بالفلاح. وتعريف المفلحون ففيه دلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك فاستخبرت من هو؟ فقيل: زيد التائب أي هو الذي أخبرت بتوبته. وتوسيط الفصل بينه وبين «أولئك» ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما قدموا. اللهم زينا بلباس التقوى واحشرنا في زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة [الآيتان: 6، 7]. لما قدم ذكر أوليائه بصفاتهم المقربة إليه، وبيَّن أن الكتاب هدى لهم قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى بقوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير لباب التأويل في معاني التنزيل/ الخازن (ت 725 هـ)
قال ابن عباس: هي أول ما نزل بالمدينة قيل سوى آية وهي قوله تعالى:**{ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله }** [البقرة: 281] فإنها نزلت يوم النحر بمكة في حجة الوداع وهي مائتان وست وقيل سبع وثمانون آية وستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة وخمسة وعشرون ألف حرف وخمسمائة حرف. فصل: في فضلها: م عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: **" اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة "** قال معاوية بن سلام بلغني أن البطلة السحرة قوله اقرؤوا الزهراوين سميتا بذلك لنورهما يقال لكل مستنير زاهر. قوله: كأنهما غمامتان أو غيايتان: قال أهل اللغة الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغيرها والمعنى أن ثوابهما يأتي كغمامتين قوله: فرقان من طير صواف الفرقان الجماعة من الطير والصواف جمع صافة وهي التي تصف أجنحتها عند الطيران يحاجان. المحاجة المجادلة والمخاصمة وإظهار الحجة والبطلة السحرة كما جاء في الحديث مبيناً يقال أبطل إذا جاء بالباطل. وفي الحديث دليل على جواز قول سورة البقرة وسورة آل عمران وكذا باقي السور، وأنه لا كراهة في ذلك وكرهه بعض المتقدمين. وقال: إنما يقال السورة التي يذكر فيها البقرة وكذا باقي السور والصواب هو الأول وبه قال الجمهور لورود النص به م عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة "** وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي "** أخرجه الترمذي وقال حديث غريب بسم الله الله الرحيم قوله عز وجل: { الم } قيل إن حروف الهجاء في أوائل السور من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وهي سر الله في القرآن، فنحن نؤمن بظاهرها، ونكل العلم فيها إلى الله تعالى، وفائدة ذكرها طلب الإيمان بها قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، في كل كتاب سر وسر الله في القرآن أوائل السور وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي. وأورد على هذا القول بأنه لا يجوز أن يخاطب الله عباده بما لا يعلمون، وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكلف الله عباده بما لا يعقل معناه كرمي الجمار فإنه مما لا يعقل معناه والحكمة فيه هو كمال الانقياد الطاعة فكذلك هذه الحروف يجب الإيمان بها ولا يلزم البحث عنها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال آخرون من أهل العلم: هي معروفة المعاني. ثم اختلفوا فيها فقيل كل حرف منها مفتاح اسم من أسماء الله تعالى فالألف مفتاح اسمه الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد وقيل الألف آلاء الله واللام لطفه والميم ملكه، ويؤيده هذا أن العرب تذكر حرفاً من كلمة تريد كلها قال الراجز: | **قلت لها قفي فقالت قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف** | | | | --- | --- | --- | قولها: قاف أي وقفت فاكتفت بحزء الكلمة عن كلها، والإيجاف الإسراع في السير قال ابن عباس: الم أنا الله أعلم. وقيل: هي أسماء الله مقطعة لو علم الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم ألا ترى أنك تقول الر وحم ون فيكون مجموعها الرحمن وكذلك سائرها، ولكن لم يتهيأ تأليفها جميعاً وقيل أسماء السور وبه قال جماعة من المحققين وقال ابن عباس: هي أقسام فقيل أقسم الله بهذه الحروف لشرفها وفضلها لأنها مباني كتبه المنزلة وأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وإنما اقتصر على بعضها وإن كان المراد كلها فهو كما تقول قرأت الحمد لله، وتريد أنك قرأت السورة بكمالها فكأنه تعالى أقسم بهذه الحروف أو هذا الكتاب هو الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ وقيل إن الله تعالى لما تحداهم بقوله:**{ فائتوا بسورة من مثله }** [يونس: 38] وفي آية**{ بعشر سور مثله }** [هود: 13] فعجزوا عنه أنزل هذه الأحرف ومعناه أن القرآن ليس هو إلاّ من هذه الأحرف وأنتم قادرون عليها فكان يجب أن تأتوا بمثله فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من عند البشر. وقيل: إنهم لما أعرضوا عن سماع القرآن وأراد الله صلاح بعضهم أنزل هذه الأحرف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين اسمعوا إلى ما يجيء به محمد فإذا أصغوا إليه وسمعوه رسخ في قلوبهم، فكان ذلك سبباً لإيمانهم، وقيل: إن الله تعالى غير عقول الخلق في ابتداء خطابه ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى معرفة خطابه إلاّ باعترافهم بالعجز عن معرفة كنه حقيقة خطابه. واعلم أن مجموع الأحرف المنزلة في أوائل السور أربعة عشر حرفاً في تسع وعشرين سورة وهي الألف واللام الميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون وهي نصف حروف المعجم، وسيأتي الكلام على باقيها في مواضعها إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: { ذلك الكتاب } أي هذا الكتاب هو القرآن وقيل فيه إضمار، والمعنى هذا الكتاب الذي وعدتك به وكان الله قد وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الرد، فلما أنزل القرآن قال هذا ذلك الكتاب الذي وعدتك به وقيل إن الله وعد بني إسرائيل أن ينزل كتاباً ويرسل رسولاً من ولد إسماعيل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبها من اليهود خلق كثيراً أنزل الله تعالى هذه الآية { الم ذلك الكتاب } أي هذا الكتاب الذي وعدت به على لسان موسى أن أنزله على النبي الذي هو من ولد إسماعيل والكتاب مصدر بمعنى المكتوب وأصله الضم والجمع ومنه يقال للجند كتبية لاجتماعها فسمي الكتاب كتاباً لأنه يجمع الحروف بعضها إلى بعض والكتاب اسم من أسماء القرآن { لا ريب فيه } أي لا شك فيه أنه من عند الله وأنه الحق والصدق، وقيل: هو خبر بمعنى النهي أي لا ترتابوا فيه. فإن قلت قد ارتاب به قوم فما معنى لا ريب فيه. قلت معناه أنه في نفسه حق وصدق فمن حقق النظر عرف حقيقة ذلك { هدى للمتقين } الهدى عبارة عن الدلالة بلطف وقيل الهداية الإرشاد والمعنى هو هدى للمتقين وقيل هو هاد لا ريب في هدايته والمتقي اسم فاعل من وقاه فاتقى والتقوى جعل النفس في وقاية مما يخاف وقيل التقوى في عرف الشرع حفظ النفس مما يؤثم وذلك بترك المحظور وبعض المباحات قال ابن عباس: المتقي من يتقي الشرك والكبائر والفواحش، وهو مأخوذ من الاتقاء وأصله الحجز بين الشيئين، يقال: اتقى بترسه إذا جعله حاجزاً بينه وبين ما يقصده وفي الحديث " كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم " معناه أنا كنا إذا اشتد الحرب جعلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجزاً بيننا وبين العدو فكأن المتقي يجعل امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه حاجزاً بينه وبين النار وقيل المتقي هو من لا يرى نفسه خيراً من أحد. وقيل: التقوى ترك ما حرم الله وأداء ما افترض. وقيل التقوى ترك الإصرار على المعصية وترك الاغترار بالطاعة. وقيل: التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك وقيل: التقوى الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفي الحديث **" جماع التقوى في قوله تعالى: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } الآية "** وقيل المتقي هو الذي يترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وخص المتقين بالذكر تشريفاً لهم، لأن مقام التقوى مقام شريف عزيز، لأنهم هم المنتفعون بالهداية، ولو لم يكن للمتقين فضل إلاّ قوله تعالى هدى للمتقين لكناهم. فإن قلت كيف قال هدى للمتقين والمتقون هم المهتدون. قلت هو كقولك للعزيز الكريم أعزك الله وأكرمك تريد طلب الزيادة له إلى ما هو ثابت فيه كقوله تعالى:**{ اهدنا الصراط المستقيم }** [الفاتحة: 7] { الذين يؤمنون بالغيب } أي يصدقون بالغيب، وأصل الإيمان في اللغة التصديق قال الله تعالى:**{ وما أنت بمؤمن لنا }** [يوسف: 17] أي بمصدق فإذا فسر الإيمان بهذا فإنه لا يزيد ولا ينقص لأن التصديق لا يتجزأ حتى يتصور كما له مرة ونقصانه أخرى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والإيمان في لسان الشرع عبارة عن التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان، وإذا فسر بهذا فإنه يزيد وينقص وهو مذهب أهل السنة من أهل الحديث وغيرهم، وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة وهي أن المصدق بقلبه إذا لم يجمع إلى تصديقه العمل بموجب الإيمان من الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك من أركان الدين هل يسمى مؤمناً أم لا؟ فيه خلاف، والمختار عند أهل السنة أنه لا يسمى مؤمناً لقوله صلى الله عليه وسلم: **" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "** فنفى عنه اسم الإيمان أو كمال الإيمان وأنكر أكثر المتكلمين زيادة الإيمان ونقصانه، وقالوا: متى قبل الزيادة والنقصان كان ذلك شكاً وكفراً. وقال المحققون من متكلمي أهل السنة: إن نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة الأعمال ونقصانها وبهذا أمكن الجمع بين ظواهر نصوص الكتاب والسنة التي جاءت بزيادة الإيمان ونقصانه وبين أصله من اللغة. وقال بعض المحققين: إن نفس التصديق قد يزيد وينقص بكثرة النظر في الأدلة والبراهين وقلة إمعان النظر في ذلك ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى وأثبت من إيمان غيرهم لأنهم لا تعتريهم شبهة في إيمانهم ولا تزلزل، وما غيرهم من آحاد الناس فليس كذلك، إذ لا يشك عاقل أن نفس تصديق أبو بكر رضي الله عنه لا يساويه تصديق غيره من آحاد الأمة وقيل إنما سمي الإقرار والعمل إيماناً لوجه المناسبة لأنه من شرائعه، والدليل على أن الأعمال من الإيمان ما روي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان "** أخرجاه في الصحيحين. البضع بكسر الباء ما بين الثلاثة إلى العشرة والشعبة القطعة من الشيء وإماطة الأذى عن الطريق وهو عزل الحجر والشوك ونحو ذلك عنه. والحياء بالمد وهو انقباض النفس عن فعل القبيح وإنما جعل من الإيمان وهو اكتساب لأن المستحيي ينزجر باستحيائه عن المعاصي فصار من الإيمان، وقيل الإيمان مأخوذ من الأمن فسمي المؤمن مؤمناً لأنه يؤمن نفسه من عذاب الله. والإسلام هو الانقياد والخضوع فكل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيماناً إن لم يكن معه تصديق وذلك أن الرجل قد يكون مسلماً في الظاهر غير مصدق في الباطن ق عن أبي هريرة قال: **" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بارزاً للناس فأتاه رجل فقال يا رسول الله ما الإيمان " قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر " قال يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: " أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان ". قال: يا رسول الله ما الإحسان؟ قال " أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن سأحدثك عن أشراطها. إذا ولدت الأمة ربها فذاك من أشراطها، وإذا كانت الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذاك من أشراطها، وخمس لا يعلمهن إلاّ الله " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام } إلى قوله: { عليم خبير } قال ثم أدبر الرجل فقال رسوله صلى الله عليه وسلم: " ردوا عليَّ هذا الرجل " فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفي أفراد مسلم من حديث عمر بن الخطاب نحو هذا الحديث وبمعناه، وقد تقدم الكلام على معنى الإيمان والإسلام. وبقي أشياء تتعلق بمعنى الحديث، فقوله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بارزاً أي ظاهراً، وقوله: أن تؤمن بالله ولقائه وتؤمن بالبعث الآخر هو بكسر بالخاء. وقيل في الجامع بين قوله وتؤمن بلقاء الله وبالبعث فإن اللقاء يحصل بمجرد الانتقال إلى الدار الآخره وهو الموت والبعث هو بعده عند قيام الساعة وفي تقييده بالآخر وجه آخر وهو أن خروجه إلى الدنيا بعث من الأرحام وخروجه من القبر إلى الآخرة بعث آخر. قوله ما الإحسان هو هنا الإخلاص في العمل وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام لأن من أتى بلفظ الشهادة وأتى بالعمل من غير إخلاص لم يكن محسناً، وقيل أراد بالإحسان المراقبة وحسن الطاعة، فإن من راقب الله حسن عمله، وهو المراد بقوله، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأشراط الساعة علاماتها التي تظهر قبلها. قوله: إذا ولدت الأمة ربها يعني سيدها والمعنى أن الرجل تكون له الأمة فتلد له ولداً فيكون ذلك الولد ابنها وسيدها، ورعاء البهم بكسر الراء وفتح الباء وإسكان الهاء من البهم وهي الصغار من أولاد الضأن، والمعنى أنه يبسط المال على أهل البادية وأشباههم حتى يتباهون في البناء ويسودون الناس فذلك من أشراط الساعة والله أعلم. قوله تعالى { بالغيب } ، والغيب هنا مصدر وضع موضع الاسم، فقيل: الغائب غيب وهو ما كان مغيباً عن العيون قال ابن عباس: الغيب هنا كل ما أمرت بالإيمان به مما غاب عن بصرك من الملائكة والبعث والجنة والنار والصراط والميزان. وقيل: الغيب هنا هو الله تعالى وقيل القرآن وقيل بالآخرة وقيل بالوحي وقيل بالقدر وقال عبد الرحمن بن يزيد كنا عند عبدالله بن مسعود فذكرنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به فقال عبدالله بن مسعود إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بيناً لمن رآه والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } إلى قوله { وأولئك هم المفلحون } { ويقيمون الصلاة } أي يداومون عليها في مواقيتها بحدودها وإتمام أركانها وحفظها من أن يقع فيها خلل في فرائضها وسننها وآدابها، يقال: قام بالأمر وأقام الأمر إذا أتى به معطى حقوقه، والمراد به الصلوات الخمس. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والصلاة في اللغة الدعاء والرحمة ومنه وصل عليهم أي ادع لهم وأصله من صليت العود إذا لينته فكأن المصلي يلين ويخشع. وفي الشرع اسم لأفعال مخصوصة من قيام وركوع وسجود وقعود ودعاء مع النية { ومما رزقناهم } أي أعطيناهم من الرزق وهو اسم لما ينتفع به من مال وولد وأصله الحظ والنصيب { ينفقون } أي يخرجون ويتصدقون في طاعة الله تعالى وسبيله، ويدخل فيه إنفاق الواجب كالزكاة والنذر والإنفاق على النفس وعلى من تجب نفقته عليه والإنفاق في الجهاد إذا وجب عليه والإنفاق في المندوب، وهو صدقة التطوع ومواساة الإخوان، وهذه كلها مما يمدح بها وأدخل من التي هي للتبعيض صيانة لهم وكفاً عن السرف والتبذير المنهي عنهما في الإنفاق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير البحر المحيط/ ابو حيان (ت 754 هـ)
{ الم } أسماء مدلولها حروف المعجم، ولذلك نطق بها نطق حروف المعجم، وهي موقوفة الآخر، لا يقال إنها معربة لأنها لم يدخل عليها عامل فتعرب ولا يقال إنها مبنية لعدم سبب البناء، لكن أسماء حروف المعجم قابلة لتركيب العوامل عليها فتعرب، تقول هذه ألف حسنة ونظير سرد هذه الأسماء موقوفة، أسماء العدد، إذا عدّوا يقولون: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة. وقد اختلف الناس في المراد بها، وسنذكر اختلافهم إن شاء الله تعالى. { ذلك } ، ذا: إسم إشارة ثنائي الوضع لفظاً، ثلاثي الأصل، لا أحادي الوضع، وألفه ليست زائدة، خلافاً للكوفيين والسهيلي، بل ألفه منقلبة عن ياء، ولامه خلافاً لبعض البصريين في زعمه أنها منقلبة من واو من باب طويت وهو مبني. ويقال فيه: ذا وذائه وهو يدل على القرب، فإذا دخلت الكاف فقلت: ذاك دل على التوسط، فإذا أدخلت اللام فقلت: ذلك دل على البعد، وبعض النحويين رتبة المشار إليه عنده قرب وبعد. فمتى كان مجرداً من اللام والكاف كان للقرب، ومتى كانتا فيه أو إحداهما كان للبعد، والكاف حرف خطاب تبين أحوال المخاطب من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث كما تبينها إذا كان ضميراً، وقالوا: ألك في معنى ذلك؟ ولاسم الإشارة أحكام ذكرت في النحو. { الكتاب } ، يطلق بإزاء معان العقد المعروف بين العبد وسيده على مال مؤجل منجم للعتق**{ والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم }** [النور: 33]، وعلى الفرض**{ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً }** [النساء: 103]،**{ كتب عليكم القصاص }** [البقرة: 178]**{ كتب عليكم الصيام }** [البقرة: 183] وعلى الحكم، قاله الجوهري لأقضين بينكما بكتاب الله كتاب الله أحق وعلى القدر: | **يا ابنة عمي كتاب الله أخرجني** | | **عنكم وهل أمنعن الله ما فعلا** | | --- | --- | --- | أي قدر الله وعلى مصدر كتبت تقول: كتبت كتاباً وكتباً، ومنه كتاب الله عليكم، وعلى المكتوب كالحساب بمعنى المحسوب، قال: | **بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة** | | **أتتك من الحجاج يتلى كتابها** | | --- | --- | --- | { لا } نافية، والنفي أحد أقسامها، وقد تقدمت. { ريب } ، الريب: الشك بتهمة راب حقق التهمة قال: | **ليس في الحق يا أمية ريب** | | **إنما الريب ما يقول الكذوب** | | --- | --- | --- | وحقيقة الريب قلق النفس: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة ومنه: أنه مر بظني خافق فقال لا يربه أحد بشيء، وريب الدهر: صرفه وخطبه. { فيه }: في للوعاء حقيقة أو مجاز، أو زيد للمصاحبة، وللتعليل، وللمقايسة، ولموافقة على، والباء مثل ذلك زيد في المسجد**{ ولكم في القصاص حياة }** [البقرة: 179]**{ ادخلوا في أمم }** [الأعراف: 38]**{ لمسكم فيما أفضتم }** [النور: 14]،**{ في الحياة الدنيا وفي الآخرة }** [يونس: 64]**{ في جذوع النخل }** [طه: 71]**{ يذرؤكم فيه }** [الشورى: 11]، أي يكثركم به. الهاء المتصلة بفي من فيه ضمير غائب مذكر مفرد، وقد يوصل بياء، وهي قراءة ابن كثير، وحكم هذه الهاء بالنسبة إلى الحركة والإسكان والاختلاس والإشباع في كتب النحو. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | { هدى } ، الهدى: مصدر هدي، وتقدم معنى الهداية، والهدي مذكر وبنو أسد يؤنثونه، يقولون: هذه هدي حسنة، قاله الفراء في كتاب المذكر والمؤنث. وقال ابن عطية: الهدي لفظ مؤنث، وقال اللحياني: هو مذكر. انتهى كلامه. قال ابن سيده: والهدي اسم من أسماء النهار، قال ابن مقبل: | **حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة** | | **يخضعن في الآل غلفاً أو يصلينا** | | --- | --- | --- | وهو على وزن فعلى، كالسرى والبكى. وزعم بعض أكابر نحاتنا أنه لم يجيء من فعلىٰ مصدر سوى هذه الثلاثة، وليس بصحيح، فقد ذكر لي شيخنا اللغوي الإمام في ذلك رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الشاطبي أن العرب قالت: لقيته لقى، وأنشدنا لبعض العرب: | **وقد زعموا حلماً لقاك ولم أزد** | | **بحمد الذي أعطاك حلماً ولا عقلا** | | --- | --- | --- | وقد ذكر ذلك غيره من اللغويين وفعل يكون جمعاً معدولاً وغير معدول، ومفرداً وعلماً معدولاً وغير معدول، واسم جنس لشخص ولمعنى وصفة معدولة وغير معدولة، مثل ذلك: جمع وغرف وعمر وأدد ونغر وهدى وفسق وحطم. { للمتقين } المتقي اسم فاعل من اتقى، وهو افتعل من وقى بمعنى حفظ وحرس، وافتعل هنا: للاتخاذ أي اتخذ وقاية، وهو أحد المعاني الإثني عشر التي جاءت لها افتعل، وهو: الاتخاذ، والتسبب، وفعل الفاعل بنفسه، والتخير، والخطفة، ومطاوعة أفعل، وفعل، وموافقة تفاعل، وتفعل، واستفعل، والمجرد، والإغناء عنه، مثل ذلك: اطبخ، واعتمل واضطرب، وانتخب، واستلب، وانتصف مطاوع أنصف، واغتم مطاوع غممته، واجتور، وابتسم، واعتصم، واقتدر، واستلم الحجر. وإبدال الواو في اتقى تاء وحذفها مع همزة الوصل قبلها فيبقى تقى مذكور في علم التصريف. فأما هذه الحروف المقطعة أوائل السور، فجمهور المفسرين على أنها حروف مركبة ومفردة، وغيرهم يذهب إلى أنها أسماء عبر بها عن حروف المعجم التي ينطق بالألف واللام منها في نحو: قال، والميم في نحو: ملك، وبعضهم يقول: إنها أسماء السور، قاله زيد بن أسلم. وقال قوم: إنها فواتح للتنبيه والاستئناف ليعلم أن الكلام الأول قد انقضى. قال مجاهد: هي في فواتح السور كما يقولون في أول الإنشاد لشهير القصائد. بل ولا بل نحا هذا النحو أبو عبيدة والأخفش. وقال الحسن: هي أسماء السور وفواتحها، وقوم: إنها أسماء الله أقسام أقسم الله بها لشرفها وفضلها. وروي عن ابن عباس وقوم: هي حروف متفرقة دلت على معان مختلفة، وهؤلاء اختلفوا في هذه المعاني فقال قوم: يتألف منها اسم الله الأعظم، قاله علي وابن عباس، إلا أنّا لا نعرف تأليفه منها، أو اسم ملك من ملائكته، أو نبي من أنبيائه، لكن جهلنا طريق التأليف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال سعيد بن جبير: هي أسماء الله تعالى مقطعة، لو أحسن الناس تأليفها تعلموا اسم الله الأعظم. وقال قتادة: هي أسماء القرآن كالفرقان. وقال أبو العالية: ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسماء الله تعالى. وقيل: هي حروف تدل على مدة الملة، وهي حساب أبي جاد، كما ورد في حديث حيـي بن أخطب. وروى هذا عن أبي العالية وغيره. وقيل: مدة الأمم السالفة وقيل: مدة الدنيا. وقال أبو العالية أيضاً: ليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجال آخرين، وقيل: هي إشارة إلى حروف المعجم كأنه قال للعرب: إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم. وقال قطرب وغيره وغيره: هي إشارة إلى حروف المعجم كأنه يقول للعرب: إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم فقوله: { الم } بمنزلة: أ ب ت ث، ليدل بها على التسعة وعشرين حرفاً. وقال قوم: هي تنبيه كما في النداء. وقال قوم: إن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيستمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة. وقيل: هي أمارة لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتاب في أول سور منه حروف مقطعة، وقيل: حروف تدل على ثناء أثنى الله به على نفسه. وقال ابن عباس: { الم } أنا الله أعلم، والمراد أنا الله أرى. و { المص } أنا الله أفصل. وروي عن سعيد بن جبير مثل ذلك. وروي عن ابن عباس الألف: من الله، واللام: من جبريل، والميم: من محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الأخفش: هي مبادىء كتب الله المنزلة بالألسن المختلفة ومبان من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى وأصول كلام الأمم. وقال الربيع بن أنس: ما منها حرف إلا يتضمن أموراً كثيرة دارت فيها الألسن، وليس فيها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو في الأبد وللأبد، وليس منها حرف إلا في مدة قوم وآجالهم. وقال قوم: معانيها معلومة عند المتكلم بها لا يعلمها إلا هو، ولهذا قال الصديق رضي الله عنه: في كتاب الله سر، وسر الله في القرآن في الحروف التي في أوائل السور. وبه قال الشعبي. وقال سلمة بن القاسم: ما قام الوجود كله إلا بأسماء الله الباطنة والظاهرة، وأسماء الله المعجمة الباطنة أصل لكل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وهي خزانة سرّه ومكنون علمه، ومنها تتفرع أسماء الله كلها، وهي التي قضى بها الأمور وأودعها أم الكتاب، وعلى هذا حوّم جماعة من القائلين بعلوم الحروف، وممن تكلم في ذلك: أبو الحكم بن برجان، وله تفسير للقرآن، والبوني، وفسر القرآن والطائي بن العربي، والجلالي، وابن حمويه، وغيرهم، وبينهم اختلاف في ذلك. وسئل محمد بن الحنفية عن { كهيعص } فقال للسائل: لو أُخبرت بتفسيرها لمشيت على الماء لا يواري قدميك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال قوم: معانيها معلومة ويأتي بيان كل حرف في موضعه. وقال قوم: اختص الله بعلمها نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد أنكر جماعة من المتكلمين أن يكون في القرآن ما لا يفهم معناه، فانظر إلى هذا الاختلاف المنتشر الذي لا يكاد ينضبط في تفسير هذه الحروف والكلام عليها. والذي أذهبُ إليه: أن هذه الحروف التي في فواتح السور هو المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وسائر كلامه تعالى محكم. وإلى هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد اليزيدي، وهو قول الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين، قالوا: هي سر الله في القرآن، وهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه، ولا يجب أن نتكلم فيها، ولكن نؤمن بها وتمر كما جاءت. وقال الجمهور: بل يجب أن يتكلم فيها وتلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا في ذلك الاختلاف الذي قدمناه. قال ابن عطية: والصواب ما قال الجمهور، فنفسر هذه الحروف ونلتمس لها التأويل لأنا نجد العرب قد تكلمت بالحروف المقطعة نظماً ووضعاً بدل الكلمات التي الحروف منها، كقول الشاعر: | **قلت لها قفي فقالت قاف** | | **أراد قالت وقفت** | | --- | --- | --- | وكقول القائل: | **بالخير خيرات وإن شرَّفا** | | **ولا أريد الشر إلا أن تآ** | | --- | --- | --- | أراد وإن شراً فشر، وأراد إلا أن تشاء: والشواهد في هذا كثيرة فليس كونها في القرآن مما تنكره العرب في لغتها، فينبغي إذا كان من معهود كلام العرب، أن يطلب تأويله ويلتمس وجهه، انتهى كلامه. وفرق بين ما أنشد وبين هذه الحروف، وقد أطال الزمخشري وغيره الكلام على هذه الحروف بما ليس يحصل منه كبير فائدة في علم التفسير، ولا يقوم على كثير من دعاويه برهان. وقد تكلم المعربون على هذه الحروف فقالوا: لم تعرب حروف التهجي لأنها أسماء ما يلفظ، فهي كالأصوات فلا تعرب إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها، ويحتمل محلها الرفع على المبتدأ أو على إضمار المبتدأ، والنصب بإضمار فعل، والجر على إضمار حرف القسم، هذا إذا جعلناها اسماً للسور، وأما إذا لم تكن إسماً للسور فلا محل لها، لأنها إذ ذاك كحروف المعجم أوردت مفردة من غير عامل فاقتضت أن تكون مستكنة كأسماء الأعداد، أو ردتها لمجرد العدد بغير عطف، وقد تكلم النحويون على هذه الحروف على أنها أسماء السور، وتكلموا على ما يمكن إعرابه منها وما لا يمكن، وعلى ما إذا أعرب فمنه ما يمنع الصرف، ومنه ما لا يمنع الصرف، وتفصيل ذلك في علم النحو. وقد نقل خلاف في كون هذه الحروف آية، فقال الكوفيون: { الم } آية، وكذلك هي آية في أول كل سورة ذكرت فيها، وكذلك { المص } و { طسم } وأخواتها و { طه } و { يس } و { حـم } وأخواتها إلا { حـم عسق } فإنها آيتان و { كهيعص } آية، وأما { المر } وأخواتها فليست بآية، وكذلك { طس } و { ص } و { ق } و { ن } و { القلم } وق وص حروف دل كل حرف منها على كلمة، وجعلوا الكلمة آية، كما عدوا: { الرحمن } { ومدهامتـان } آيتيين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال البصريون وغيرهم: ليس شيء من ذلك آية. وذكر المفسرون الاقتصار على هذه الحروف في أوائل السور، وأن ذلك الاقتصار كان لوجوه ذكروها لا يقوم على شيء منها برهان فتركت ذكرها. وذكروا أن التركيب من هذه الحروف انتهى إلى خمسة، وهو: كهيعص، لأنه أقصى ما يتركب منه الإسم المجرد، وقطع ابن القعقاع ألف لام ميم حرفاً حرفاً بوقفة وقفة، وكذلك سائر حروف التهجي من الفواتح، وبين النون من طسم ويس وعسق ونون إلا في طس تلك فإنه لم يظهر، وذلك اسم مشار بعيد، ويصح أن يكون في قوله { ذلك الكتاب } على بابه فيحمل عليه ولا حاجة إلى إطلاقه بمعنى هذا، كما ذهب إليه بعضهم فيكون للقريب، فإذا حملناه على موضوعه فالمشار إليه ما نزل بمكة من القرآن، قاله ابن كيسان وغيره، أو التوراة والإنجيل، قاله عكرمة، أو ما في اللوح المحفوظ، قاله ابن حبيب، أو ما وعد به نبيه صلى الله عليه وسلم من أنه ينزل إليه كتاباً لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الرد، قاله ابن عباس، أو الكتاب الذي وعد به يوم الميثاق، قاله عطاء بن السائب، أو الكتاب الذي ذكرته في التوراة والإنجيل، قاله ابن رئاب، أو الذي لم ينزل من القرآن، أو البعد بالنسبة إلى الغاية التي بين المنزل والمنزل إليه، أو ذلك إشارة إلى حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم منها. وسمعت الأستاذ أبا جعفر بن إبراهيم بن الزبير شيخنا يقول: ذلك إشارة إلى الصراط في قوله:**{ اهدنا الصراط }** [الفاتحة: 5]، كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب. وبهذا الذي ذكره الأستاذ تبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد، وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره، لا إلى شيء لم يجر له ذكر، وقد ركبوا وجوهاً من الإعراب في قوله: { ذلك الكتاب لا ريب فيه }. والذي نختاره منها أن قوله: { ذلك الكتاب } جملة مستقلة من مبتدأ وخبر، لأنه متى أمكن حمل الكلام على غير إضمار ولا افتقار، كان أولى أن يسلك به الإضمار والافتقار، وهكذا تكون عادتنا في إعراب القرآن، لا نسلك فيه إلا الحمل على أحسن الوجوه، وأبعدها من التكلف، وأسوغها في لسان العرب. ولسنا كمن جعل كلام الله تعالى كشعر امرىء القيس، وشعر الأعشى، يحمله جميع ما يحتمله اللفظ من وجوه الاحتمالات. فكما أن كلام الله من أفصح كلام، فكذلك ينبغي إعرابه أن يحمل على أفصح الوجوه، هذا على أنا إنما نذكر كثيراً مما ذكروه لينظر فيه، فربما يظهر لبعض المتأملين ترجيح شيء منه، فقالوا: يجوز أن يكون ذلك خبر المبتدأ محذوف تقديره هو ذلك الكتاب، والكتاب صفة أو بدل أو عطف بيان، ويحتمل أن يكون مبتدأ وما بعده خبراً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفي موضع خبر { الم } { ولا ريب } جملة تحتمل الاستئناف، فلا يكون لها موضع من الإعراب، وأن تكون في موضع خبر لذلك، والكتاب صفة أو بدل أو عطف أو خبر بعد خبر، إذا كان الكتاب خبراً، وقلت بتعدد الأخبار التي ليست في معنى خبر واحد، وهذا أولى بالبعد لتباين أحد الخبرين، لأن الأول مفرد والثاني جملة، وأن يكون في موضع نصب أي مبرأ من الريب، وبناء ريب مع لا يدل على أنها العاملة عمل إن، فهو في موضع نصب ولا وهو في موضع رفع بالابتداء، فالمرفوع بعده على طريق الإسناد خبر لذلك المبتدأ فلم تعمل حالة البناء إلا النصب في الاسم فقط، هذا مذهب سيبويه. وأما الأخفش فذلك المرفوع خبر للا، فعملت عنده النصب والرفع، وتقرير هذا في كتب النحو. وإذا عملت عمل إن أفادت الاستغراق فنفت هنا كل ريب، والفتح هو قراءة الجمهور. وقرأ أبو الشعثاء: { لا ريب فيه } بالرفع، وكذا قراءة زيد بن علي حيث وقع، والمراد أيضاً هنا الاستغراق، لا من اللفظ بل من دلالة المعنى، لأنه لا يريد نفي ريب واحد عنه، وصار نظير من قرأ:**{ فلا رفث ولا فسوق }** [البقرة: 197] بالبناء والرفع، لكن البناء يدل بلفظه على قضية العموم، والرفع لا يدل لأنه يحتمل العموم، ويحتمل نفي الوحدة، لكن سياق الكلام يبين أن المراد العموم، ورفعه على أن يكون ريب مبتدأ وفيه الخبر، وهذا ضعيف لعدم تكرار لا، أو يكون عملها إعمال ليس، فيكون فيه في موضع نصب على قول الجمهور من أن لا إذا عملت عمل ليس رفعت الإسم ونصبت الخبر، أو على مذهب من ينسب العمل لها في رفع الإسم خاصة، وأما الخبر فمرفوع لأنها وما عملت فيه في موضع رفع بالابتداء كحالها إذا نصبت وبني الإسم معها، وذلك في مذهب سيبويه، وسيأتي الكلام مشبعاً في ذلك عند قوله تعالى:**{ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج }** [البقرة: 197]، وحمل لا في قراءة لا ريب على أنها تعمل عمل ليس ضعيف لقلة إعمال لا عمل ليس، فلهذا كانت هذه القراءة ضعيفة. وقرأ الزهري، وابن محيصن، ومسلم بن جندب، وعبيد بن عمير، فيه: بضم الهاء، وكذلك إليه وعليه وبه ونصله ونوله وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل. وقرأ ابن أبي إسحاق: فهو بضم الهاء ووصلها بواو، وجوزوا في قوله: أن يكون خبراً للا على مذهب الأخفش، وخبراً لها مع اسمها على مذهب سيبويه، أن يكون صفة والخبر محذوف، وأن يكون من صلة ريب بمعنى أنه يضمر عامل من لفظ ريب فيتعلق به، إلا أنه يكون متعلقاً بنفس لا ريب، إذ يلزم إذ ذاك إعرابه، لأنه يصير اسم لا مطولاً بمعموله نحو لا ضارباً زيداً عندنا، والذي نختاره أن الخبر محذوف لأن الخبر في باب لا العاملة عمل إن إذا علم لم تلفظ به بنو تميم، وكثر حذفه عند أهل الحجاز، وهو هنا معلوم، فاحمله على أحسن الوجوه في الإعراب، وإدغام الباء من لا ريب في فاء فيه مروي عن أبي عمرو، والمشهور عنه الإظهار، وهي رواية اليزيدي عنه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد قرأته بالوجهين على الأستاذ أبي جعفر بن الطباع بالأندلس، ونفي الريب يدل على نفي الماهية، أي ليس مما يحله الريب ولا يكون فيه، ولا يدل ذلك على نفي الارتياب لأنه قد وقع ارتياب من ناس كثيرين. فعلى ما قلناه لا يحتاج إلى حمله على نفي التعليق والمظنة، كما حمله الزمخشري، ولا يرد علينا قوله تعالى:**{ وإن كنتم في ريب }** [البقرة: 23] لاختلاف الحال والمحل، فالحال هناك المخاطبون، والريب هو المحل، والحال هنا منفي، والمحل الكتاب، فلا تنافي بين كونهم في ريب من القرآن وكون الريب منفياً عن القرآن. وقد قيد بعضهم الريب فقال: لا ريب فيه عند التكلم به، وقيل هو عموم يراد به الخصوص، أي عند المؤمنين، وبعضهم جعله على حذف مضاف، أي لا سبب فيه لوضوح آياته وإحكام معانيه وصدق أخباره. وهذه التقادير لا يحتاج إليها. واختيار الزمخشري أن فيه خبر، وبذلك بني عليه سؤالاً وهو أن قال: هلا قدم الظرف على الريب كما قدم على القول في قوله تعالى:**{ لا فيها غول }** [الصافات: 47]؟ وأجاب: بأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد، وهو أن كتاباً غيره فيه الريب، كما قصد في قوله: { لا فيها غول } تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة. وقد انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر، ولا نعلم أحداً يفرق بين: ليس في الدار رجل، وليس رجل في الدار، وعلى ما ذكر من أن خمر الجنة لا يغتال، وقد وصفت بذلك العرب خمر الدنيا، قال علقمة بن عبدة: | **تشفي الصداع ولا يؤذيك طالبها** | | **ولا يخالطها في الرأس تدويم** | | --- | --- | --- | وأبعد من ذهب إلى أن قوله: لا ريب صيغة خبر ومعناه النهي عن الريب. وجوزوا في قوله تعالى: { هدى للمتقين } أن يكون هدى في موضع رفع على أنه مبتدأ، وفيه في موضع الخبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أي هو هدى، أو على فيه مضمرة إذا جعلنا فيه من تمام لا ريب، أو خبر بعد خبر فتكون قد أخبرت بالكتاب عن ذلك، وبقوله لا ريب فيه، ثم جاء هذا خبراً ثالثاً، أو كان الكتاب تابعاً وهدى خبر ثان على ما مر في الإعراب، أو في موضع نصب على الحال، وبولغ بجعل المصدر حالاً وصاحب الحال اسم الإشارة، أو الكتاب، والعامل فيها على هذين الوجهين معنى الإشارة أو الضمير في فيه، والعامل ما في الظرف من الاستقرار وهو مشكل لأن الحال تقييد، فيكون انتقال الريب مقيداً بالحال إذ لا ريب فيه يستقر فيه في حال كونه هدى للمتقين، لكن يزيل الإشكال أنها حال لازمة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والأولى: جعل كل جملة مستقلة، فذلك الكتاب جملة، ولا ريب جملة، وفيه هدى للمتقين جملة، ولم يحتج إلى حرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق بعض. فالأولى أخبرت بأن المشار إليه هو الكتاب الكامل، كما تقول: زيد الرجل، أي الكامل في الأوصاف. والثانية نعت لا يكون شيء ما من ريب. والثالثة أخبرت أن فيه الهدى للمتقين. والمجاز إما فيه هدى، أي استمرار هدى لأن المتقين مهتدون فصار نظير اهدنا الصراط، وإما في المتقين أي المشارفين لاكتساب التقوى، كقوله: | **إذا مـا مـات ميت مـن تميـم** | | | | --- | --- | --- | والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه أن يتعاطى ما توعد عليه بعقوبة من فعل أو ترك، وهل التقوى تتناول اجتناب الصغائر؟ في ذلك خلاف. وجوز بعضهم أن يكون التقدير هدى للمتقين والكافرين، فحذف لدلالة أحد الفريقين، وخص المتقين بالذكر تشريفاً لهم. ومضمون هذه الجملة على ما اخترناه من الإعراب، الإخبار عن المشار إليه الذي هو الطريق الموصل إلى الله تعالى، هو الكتاب أي الكامل في الكتب، وهو المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه**{ ما فرطنا في الكتاب من شيء }** [الأنعام: 38]، فإذا كان جميع الأشياء فيه، فلا كتاب أكمل منه، وأنه نفى أن يكون فيه ريب وأنه فيه الهدى. ففي الآية الأولى الإتيان بالجملة كاملة الأجزاء حقيقة لا مجاز فيها، وفي الثانية مجازاً لحذف لأنا اخترنا حذف الخبر بعد لا ريب، وفي الثانية تنزيل المعاني منزلة الأجسام، إذ جعل القرآن ظرفاً والهدى مظروفاً، فألحق المعنى بالعين، وأتى بلفظة في التي تدل على الوعاء كأنه مشتمل على الهدى ومحتو عليه احتواء البيت على زيد في قولك: زيد في البيت: { الذين يؤمنون بالغيب }: الإيمان: التصديق،**{ وما أنت بمؤمن لنا }** [يوسف: 17]، وأصله من الأمن أو الأمانة، ومعناهما الطمأنينة، منه: صدقة، وأمن به: وثق به، والهمزة في أمن للصيرورة كأعشب، أو لمطاوعة فعل كأكب، وضمن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدى بالباء، وهو يتعدى بالباء واللام**{ فما آمن لموسى }** [يونس: 83]، والتعدية باللام في ضمنها تعد بالباء، فهذا فرق ما بين التعديتين. الغيب: مصدر غاب يغيب إذا توارى، وسمى المطمئن من الأرض غيباً لذلك أو فعيل من غاب فأصله غيب، وخفف نحو لين في لين، والفارسي لا يرى ذلك قياساً في بنات الياء، فلا يجيز في لين التخفيف ويجيزه في ذوات الواو، ونحو: سيد وميت، وغيره قاسه فيهما. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وابن مالك وافق أبا علي في ذوات الياء. وخالف الفارسي في ذوات الواو، فزعم أنه محفوظ لا مقيس، وتقرير هذا في علم التصريف. { ويقيمون الصلاة } والإقامة: التقويم، أقام العود قومه، أو الأدامة أقامت الغزالة سوق الضراب، أي أدامتها من قامت السوق، أو التشمر والنهوض من قام بالأمر، والهمزة في أقام للتعدية. الصلاة: فعلة، وأصله الواو لاشتقاقه من الصلى، وهو عرق متصل بالظهر يفترق من عند عجب الذنب، ويمتد منه عرقان في كل ورك، عرق يقال لهما الصلوان فإذا ركع المصلي انحنى صلاة وتحرك فسمي بذلك مصلياً، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل لأنه يأتي مع صلوى السابق. قال ابن عطية: فاشتقت الصلاة منه إما لأنها جاءت ثانية الإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل، وإما لأن الراكع والساجد ينثني صلواه، والصلاة حقيقة شرعية تنتظم من أقوال وهيئآت مخصوصة، وصلى فعل الصلاة، وأما صلى دعا فمجاز وعلاقته تشبيه الداعي في التخشع والرغبة بفاعل الصلاة، وجعل ابن عطية الصلاة مما أخذ من صلى بمعنى دعا، كما قال: | **عليك مثل الذي صليت فاغتمضي** | | **نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً** | | --- | --- | --- | وقال: | **لها حارس لا يبرح الدهر بيتها** | | **وإن ذبحت صلى عليها وزمزما** | | --- | --- | --- | قال: فلما كانت الصلاة في الشرع دعاء، وانضاف إليه هيئآت وقراءة، سمى جميع ذلك باسم الدعاء والقول إنها من الدعاء أحسن، انتهى كلامه. وقد ذكر أن ذلك مجاز عندنا، وذكرنا العلاقة بين الداعي وفاعل الصلاة، ومن حرف جر. وزعم الكسائي أن أصلها منا مستدلاً بقول بعض قضاعة: | **بذلنا مارن الخطى فيهم** | | **وكل مهند ذكر حسام** | | --- | --- | --- | | **منا أن ذر قرن الشمس حتى** | | **أغاب شريدهم قتر الظلام** | وتأول ابن جني، رحمه الله، على أنه مصدر على فعل من منى يمنى أي قدر. واغتر بعضهم بهذا البيت فقال: وقد يقال منا. وقد تكون لابتداء الغاية وللتبعيض، وزائدة وزيد لبيان الجنس، وللتعليل، وللبدل، وللمجاوزة والاستعلاء، ولانتهاء الغاية، وللفصل، ولموافقة في مثل ذلك: سرت من البصرة إلى الكوفة، أكلت من الرغيف، ما قام من رجل،**{ يحلون فيها من أساور من ذهب }** [الكهف: 31]،**{ في آذانهم من الصواعق }** [البقرة: 19]،**{ بالحياة الدنيا من الآخرة }** [التوبة: 38،]**{ غدوت من أهلك }** [آل عمران: 121]، قربت منه،**{ ونصرناه من القوم }** [الأنبياء: 77]،**{ يعلم المفسد من المصلح }** [البقرة: 220]**{ ينظرون من طرف خفي }** [الشورى: 45]**{ ماذا خلقوا من الأرض }** [فاطر: 40]. ما تكون موصولة، واستفهامية، وشرطية، وموصوفة، وصفة، وتامة. مثل ذلك:**{ ما عندكم ينفد }** [النحل: 96] مال هذا الرسول،**{ ما يفتح الله للناس من رحمة }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [فاطر: 2]، مررت بما معجب لك، لأمر ما جدع قصير أنفه، ما أحسن زيداً. { رزقناهم } الرزق: العطاء، وهو الشيء الذي يرزق كالطحن، والرزق المصدر، وقيل الرزق أيضاً مصدر رزقته أعطيته،**{ ومن رزقناه منا رزقاً حسناً }** [النحل: 75]، وقال: | **رزقت مالاً ولم ترزق منافعه** | | **إن الشقي هو المحروم ما رزقا** | | --- | --- | --- | وقيل: أصل الرزق الحظ، ومعاني فعل كثيرة ذكر منها: الجمع، والتفريق، والإعطاء، والمنع، والامتناع، والإيذاء، والغلبة، والدفع، والتحويل، والتحول، والاستقرار، والسير، والستر، والتجريد، والرمي، والإصلاح، والتصويت. مثل ذلك: حشر، وقسم، ومنح، وغفل، وشمس، ولسع، وقهر، ودرأ، وصرف، وظعن، وسكن، ورمل، وحجب، وسلخ، وقذف، وسبح، وصرخ. وهي هنا للإعطاء نحو: نحل، ووهب، ومنح. { ينفقون } ، الإنفاق: الإنفاذ، أنفقت الشيء وأنفذته بمعنى واحد، والهمزة للتعدية، يقال نفق الشيء نفذ، وأصل هذه المادة تدل على الخروج والذهاب، ومنه: نافق، والنافقاء، ونفق.. { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } ، الذين ذكروا في إعرابه الخفض على النعت للمتقين، أو البدل والنصب على المدح على القطع، أو بإضمار أعني على التفسير قالوا، أو على موضع المتقين، تخيلوا أن له موضعاً وأنه نصب، واغتروا بالمصدر فتوهموا أنه معمول له عدي باللام، والمصدر هنا ناب عن اسم الفاعل فلا يعمل، وإن عمل اسم الفاعل وأنه بقي على مصدريته فلا يعمل، لأنه هنا لا ينحل بحرف مصدر وفعل، ولا هو بدل من اللفظ بالفعل بل للمتقين بتعلق بمحذوف صفة لقوله هدى، أي هدى كائن للمتقين، والرفع على القطع أي هم الذين، أو على الابتداء والخبر. { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } ، أولئك المتقدمة، وأولئك المتأخرة، والواو مقحمة، وهذا الأخير إعراب منكر لا يليق مثله بالقرآن، والمختار في الإعراب الجر على النعت والقطع، إما للنصب، وإما للرفع، وهذه الصفة جاءت للمدح. وقرأ الجمهور: يؤمنون بالهمزة ساكنة بعد الياء، وهي فاء الكلمة، وحذف همزة أفعل حيث وقع ذلك ورش وأبو عمر، وإذا أدرج بترك الهمز. وروي هذا عن عاصم، وقرأ رزين بتحريك الهمزة مثل: يؤخركم، ووجه قراءته أنه حذف الهمزة التي هي فاء الكلمة لسكونها، وأقر همزة أفعل لتحركها وتقدمها واعتلالها في الماضي والأمر، والياء مقوية لوصول الفعل إلى الإسم، كمررت بزيد، فتتعلق بالفعل، أو للحال فتتعلق بمحذوف، أي ملتبسين بالغيب عن المؤمن به، فيتعين في هذا الوجه المصدر، وأما إذا تعلق بالفعل فعلى معنى الغائب أطلق المصدر وأريد به اسم الفاعل، قالوا: وعلى معنى الغيب أطلق المصدر وأريد به اسم المفعول نحوه: هذا خلق الله، ودرهم ضرب الأمير، وفيه نظر لأن الغيب مصدر غاب اللازم، أو على التخفيف من غيب كلين، فلا يكون إذ ذاك مصدراً وذلك على مذهب من أجاز التخفيف، وأجاز ذلك في الغيب الزمخشري، ولا يصار إلى ذلك حتى يسمع منقلاً من كلام العرب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والغيب هنا القرآن، قاله عاصم بن أبي الجود، أو ما لم ينزل منه، قاله الكلبي؛ أو كلمة التوحيد وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الضحاك، أو علم الوحي، قاله ابن عباس، وزر بن حبيش، وابن جريج، وابن وافد، أو أمر الآخرة، قاله الحسن، أو ما غاب من علوم القرآن، قاله عبد الله بن هانىء، أو الله عز وجل، قاله عطاء، وابن جبير، أو ما غاب عن الحواس مما يعلم بالدلالة، قاله ابن عيسى، أو القضاء والقدر، أو معنى بالغيب بالقلوب، قاله الحسن؛ أو ما أظهره الله على أوليائه من الآيات والكرامات، أو المهدي المنتظر، قاله بعض الشيعة، أو متعلق بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من تفسير الإيمان حين سئل عنه وهو: الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، خيره وشره، وإياه نختار لأنه شرح حال المتقين بأنهم الذين يؤمنون بالغيب. والإيمان المطلوب شرعاً هو ذاك، ثم إن هذا تضمن الاعتقاد القلبي، وهو الإيمان بالغيب، والفعل البدني، وهو الصلاة، وإخراج المال. وهذه الثلاثة هي عمد أفعال المتقي، فناسب أن يشرح الغيب بما ذكرنا، وما فسر به الإقامة قبل يصلح أن يفسر به قوله: { ويقيمون الصلاة } ، وقالوا: وقد يعبر بالإقامة عن الأداء، وهو فعلها في الوقت المحدود لها، قالوا: لأن القيام بعض أركانها، كما عبر عنه بالقنوت، والقنوت القيام بالركوع والسجود. قالوا: سبح إذا صلى لوجود التسبيح فيها، { فلولا أنه كان من المسبحين } ، قاله الزمخشري ولا يصح إلا بارتكاب مجاز بعيد، وهو أن يكون الأصل قامت الصلاة بمعنى أنه كان منها قيام ثم دخلت الهمزة للتعدية فقلت: أقمت الصلاة، أي جعلتها تقوم، أي يكون منها القيام، والقيام حقيقة من المصلي لا من الصلاة، فجعل منها على المجاز إذا كان من فاعلها. والصلاة هنا الصلوات الخمس، قاله مقاتل: أو الفرائض والنوافل، قاله الجمهور. والرزق قيل: هو الحلال، قاله أصحابنا، لكن المراد هنا الحلال لأنه في معرض وصف المتقي. ومن كتبت متصلة بما محذوفة النون من الخط، وكان حقها أن تكوم منفصلة لأنها موصولة بمعنى الذي، لكنها وصلت لأن الجار والمجرور كشيء واحد، ولأنها قد أخفيت نون من في اللفظ فناسب حذفها في الخط، وهنا للتبعيض، إذ المطلوب ليس إخراج جميع ما رزقوا لأنه منهي عن التبذير والإسراف. والنفقة التي في الآية هي الزكاة الواجبة، قاله ابن عباس، أو نفقة العيال، قاله ابن مسعود وابن عباس؛ أو التطوع قبل فرض الزكاة، قاله الضحاك معناه، أو النفقة في الجهاد أو النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة، وقالوا إنه كان الفرض على الرجل أن يمسك مما في يده بمقدار كفايته في يومه وليلته ويفرق باقيه على الفقراء، ورجح كونها الزكاة المفروضة لاقترانها بأختها الصلاة في عدة مواضع من القرآن والسنة، ولتشابه أوائل هذه السورة بأول سورة النمل وأول سورة لقمان، ولأن الصلاة طهرة للبدن، والزكاة طهرة للمال والبدن، ولأن الصلاة شكر لنعمة البدن، والزكاة شكر لنعمة المال، ولأن أعظم ما لله على الأبدان من الحقوق الصلاة، وفي الأموال الزكاة، والأحسن أن تكون هذه الأقوال تمثيلاً للمتفق لا خلافاً فيه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكثيراً ما نسب الله الرزق لنفسه حين أمر بالإنفاق، أو أخبر به، ولم ينسب ذلك إلى كسب العبد ليعلم أن الذي يخرجه العبد ويعطيه هو بعض ما أخرجه الله له ونحله إياه، وجعل صلات الذين أفعالاً مضارعة، ولم يجعل الموصول أل فيصله باسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكر البيانيون مشعر بالتجدد والحدوث بخلاف اسم الفاعل، لأنه عندهم مشعر بالثبوت والأمدح في صفة المتقين تجدد الأوصاف، وقدم المنفق منه على الفعل اعتناءً بما خول الله به العبد وإشعاراً أن المخرج هو بعض ما أعطى العبد، ولتناسب الفواصل وحذف الضمير العائد على الموصول لدلالة المعنى عليه، أي ومما رزقناهموه، واجتمعت فيه شروط جواز الحذف من كونه متعيناً للربط معمولاً لفعل متصرف تام. وأبعد من جعل ما نكرة موصوفة وقدر، ومن شيء رزقناهمو لضعف المعنى بعد عموم المرزوق الذي ينفق منه فلا يكون فيه ذلك التمدح الذي يحصل يجعل ما موصولة لعمومها، ولأن حذف العائد على الموصول أو جعل ما مصدرية، فلا يكون في رزقناهم ضمير محذوف بل ما مع الفعل بتأويل المصدر، فيضطر إلى جعل ذلك المصدر المقدر بمعنى المفعول، لأن نفس المصدر لا ينفق منه إنما ينفق من المرزوق، وترتيب الصلاة على حسب الإلزام. فالإيمان بالغيب لازم للمكلف دائماً، والصلاة لازمة في أكثر الأوقات، والنفقة لازمة في بعض الأوقات، وهذا من باب تقديم الأهم فالأهم. الإنزال: الإيصال والإبلاغ، ولا يشترط أن يكون من أعلا، { فإذا نزل بساحتهم } أي وصل وحل، إلى حرف جر معناه انتهاء الغاية وزيد كونها للمصاحبة وللتبيين ولموافقة اللام وفي ومن، وأجاز الفراء زيادتها، مثل ذلك: سرت إلى الكوفة،**{ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم }** [النساء: 2]،**{ السجن أحب إلي }** [يوسف: 33]،**{ والأمر إليك }** [النمل: 33]، كأنني إلى الناس مطلبي، أي في الناس. أيسقي فلا يروي إلى ابن أحمرا، أي متى تهوي إليهم في قراءة من قرأ بفتح الواو، أي تهواهم، وحكمها في ثبوت الفاء، وقلبها حكم على، وقد تقدم. والكاف المتصلة بها ضمير المخاطب المذكر، وتكسر للمؤنث، ويلحقها ما يلحق أنت في التثنية والجمع دلالة عليهما، وربما فتحت للمؤنث، أو اقتصر عليها مكسورة في جمعها نحو: | **ولست بسائل جارات بيتي** | | **أغياب رجالك أم شهود** | | --- | --- | --- | قبل وبعد ظرفا زمان وأصلهما الوصف ولهما أحكام تذكر في النحو، ومدلول قبل متقدم، كما أن مدلول بعد متأخر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الآخرة تأنيث الآخر مقابل الأول وأصل الوصف**{ تلك الدار الآخرة }** [القصص: 83]،**{ ولدار الآخرة }** [النحل: 30]، ثم صارت من الصفات الغالبة، والجمهور على تسكين لام التعريف وإقرار الهمزة التي تكون بعدها للقطع، وورش يحذف وينقل الحركة إلى اللام. الإيقان: التحقق للشيء لسكونه ووضوحه، يقال يقن الماء سكن وظهر ما تحته، وافعل بمعنى استفعل كابل بمعنى استبل. وقرأ الجمهور: { بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } مبنياً للمفعول، وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزيد بن قطيب مبنياً للفاعل. وقرىء شاذاً بما أنزل إليك بتشديد اللام، ووجه ذلك أنه أسكن لام أنزل كما أسكن وضاح آخر الماضي في قوله: | **إنمـا شعري قيـد، قد خلط بخلجـان** | | | | --- | --- | --- | ثم حذف همزة إلى ونقل كسرتها إلى لام أنزل فالتقى المثلان من كلمتين، والإدغام جائز فأدغم. وقرأ الجمهور: يوقنون بواو ساكنة بعد الياء وهي مبدلة من ياء لأنه من أيقن. وقرأ أبو حية النمري بهمزة ساكنة بدل الواو، كما قال الشاعر: | **لحب المؤقذان إلى موسى** | | **وجعدة إذ أضاءهما الوقود** | | --- | --- | --- | وذكر أصحابنا أن هذا يكون في الضرورة، ووجهت هذه القراءة بأن هذه الواو لما جاورت المضموم فكأن الضمة فيها، وهم يبدلون من الواو المضمومة همزة، قالوا وفي وجوه ووقتت أجوه وأقتت، فأبدلوا من هذه همزة، إذ قدروا الضمة فيها وإعادة الموصول بحرف العطف يحتمل المغايرة في الذات وهو الأصل، فيحتمل أن يراد مؤمنوا أهل الكتاب لإيمانهم بكل وحي، فإن جعلت الموصول معطوفاً على الموصول اندرجوا في جملة المتقين، إن لم يرد بالمتقين بوصفه مؤمنو العرب، وذلك لانقسام المتقين إلى القسمين. وإن جعلته معطوفاً على المتقين لم يندرج لأنه إذ ذاك قسيم لمن له الهدى لا قسم من المتقين. ويحتمل المغايرة في الوصف، فتكون الواو للجمع بين الصفات، ولا تغاير في الذواب بالنسبة للعطف وحذف الفاعل في قراءة الجمهور، وبني الفعلان للمفعول للعلم بالفاعل، نحو: أنزل المطر، وبناؤهما للفاعل في قراءة النخعي، وأبي حيوة، ويزيد بن قطيب، فاعله مضمر، قيل: الله أو جبريل. قالوا: وقوة الكلام تدل على ذلك وهو عندي من الالتفات لأنه تقدم قوله: { ومما رزقناهم } ، فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة، إذ لو جرى على الأول لجاء { بما أنزل إليك } ، { وما أنزل من قبلك } ، وجعل صلة ما الأولى ماضية لأن أكثره كان نزل بمكة والمدينة، فأقام الأكثر مقام الجميع، أو غلب الموجود لأن الإيمان بالمتقدم الماضي يقتضي الإيمان بالمتأخر، لأن موجب الإيمان واحد. وأما صلة الثانية فمتحققة المضي ولم يعد حرف الجر فيما الثانية ليدل أنه إيمان واحد، إذ لو أعاد لأشعر بأنهما إيمانان. وبالآخرة: تقدم أن المعنى بها الدار الآخرة للتصريح بالموصوف في بعض الآي، وحمله بعضهم على النشأة الآخرة، إذ قد جاء أيضاً مصرحاً بهذا الموصوف، وكلاهما يدل على البعث. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأكد أمر الآخرة بتعلق الإيقان بها الذي هو أجلى وآكد مراتب العلم والتصديق، وإن كان في الحقيقة لا تفاوت في العلم والتصديق دفعاً لمجاز إطلاق العلم، ويراد به الظن، فذكر أن الإيمان والعلم بالآخرة لا يكون إلا إيقاناً لا يخالطه شيء من الشك والارتياب. وغاير بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة في اللفظ لزوال كلفة التكرار، وكان الإيقان هو الذي خص بالآخرة لكثرة غرائب متعلقات الآخرة، وما أعد فيها من الثواب والعقاب السرمديين، وتفصيل أنواع التنعيم والتعذيب، ونشأة أصحابها على خلاف النشأة الدنيوية ورؤية الله تعالى. فالآخرة أغرب في الإيمان بالغيب من الكتاب المنزل، فلذلك خص بلفظ الإيقان، ولأن المنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مشاهد أو كالمشاهد، والآخرة غيب صرف، فناسب تعليق اليقين بما كان غيباً صرفاً. قالوا: والإيقان هو العلم الحادث سواء كان ضرورياً أو استدلالياً، فلذلك لا يوصف به الباري تعالى، ليس من صفاته الموقن وقدم المجرور اعتناء به ولتطابق الأواخر. وإيراد هذه الجملة إسمية وإن كانت الجملة معطوفة على جملة فعلية آكد في الإخبار عن هؤلاء بالإيقان، لأن قولك: زيد فعل آكد من فعل زيد لتكرار الإسم في الكلام بكونه مضمراً، وتصديره مبتدأ يشعر بالاهتمام بالمحكوم عليه، كما أن التقديم للفعل مشعر بالاهتمام بالمحكوم به. وذكر لفظة هم في قوله: { هم يوقنون } ، ولم يذكر لفظة هم في قوله: { ومما رزقناهم ينفقون } لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإنفاق، فاحتاج هذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد، ولأنه لو ذكرهم هناك لكان فيه قلق لفظي، إذ كان يكون ومما رزقناهم هم ينفقون. أولئك: اسم إشارة للجمع يشترك فيه المذكر والمؤنث. والمشهور عند أصحابنا أنه للرتبة القصوى كأولالك، وقال بعضهم هو للرتبة الوسطى، قاسه على ذا حين لم يزيدوا في الوسطى عليه غيرحرف الخطاب، بخلاف أولالك. ويضعف قوله كون هاء التنبيه لا تدخل عليه. وكتبوه بالواو فرقاً بينه وبين إليك، وبنى لافتقاره إلى حاضر يشار إليه به، وحرك لالتقاء الساكنين، وبالكسر على أصل التقائهما. الفلاح: الفوز والظفر بإدراك البغية، أو البقاء، قيل: وأصله الشق والقطع: | **إن الحـديـد بالحـديـد يفـلـح** | | | | --- | --- | --- | وفي تشاركه في معنى الشق مشاركة في الفاء والعين نحو: فلى وفلق وفلذ، تقدم في إعراب { الذين يؤمنون بالغيب } ، إن من وجهي رفعه كونه مبتدأ، فعلى هذا يكون أولئك مع ما بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر الذين، ويجوز أن يكون بدلاً وعطف بيان، ويمتنع الوصف لكونه أعرف. ويكون خبر الذين إذ ذاك قوله: { على هدى } ، وإن كان رفع الذين على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو كان مجروراً أو منصوباً، كان أولئك مبتدأ خبره { على هدى } ، وقد تقدم أنا لا نختار الوجه الأول لانفلاته مما قبله والذهاب به مذهب الاستئناف مع وضوح اتصاله بما قبله وتعلقه به، وأي فائدة للتكلف والتعسف في الاستئناف فيما هو ظاهر التعلق بما قبله والارتباط به. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد وجه الزمخشري وجه الاستئناف بأنه لما ذكر أن الكتاب اختص المتقون بكونه هدى لهم، اتجه لسائل أن يقول: ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فأجيب بأن الذين جمعوا هذه الأوصاف الجليلة من الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق، والإيمان بالمنزل، والإيقان بالآخرة على هدى في العاجل، وذوو فلاح في الآجل. ثم مثل هذا الذي قرره من الاستئناف بقوله: أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار الذين قارعوا دونه، فكشفوا الكرب عن وجهه، أولئك أهل للمحبة، يعني أنه استأنف فابتدأ بصفة المتقين، كما استأنف بصفة الأنصار. وعلى ما اخترناه من الاتصال يكون قد وصف المتقين بصفات مدح فضلت جهات التقوى، ثم أشار إليهم وأعلم بأن من حاز هذه الأوصاف الشريفة هو على هدى، وهو المفلح والاستعلاء الذي أفادته في قوله: { على هدى } ، هو مجاز نزل المعنى منزلة العين، وأنهم لأجل ما تمكن رسوخهم في الهداية جعلوا كأنهم استعلوه كما تقول: فلان على الحق، وإنما حصل لهم هذا الاستقرار على الهدى بما اشتملوا عليه من الأوصاف المذكورة في وصف الهدى بأنه من ربهم، أي كائن من ربهم، تعظيم للهدى الذي هم عليه. ومناسبة ذكر الرب هنا واضحة، أي أنه لكونه ربهم بأي تفاسيره فسرت ناسب أن يهيـىء لهم أسباب السعادتين: الدنيوية والأخروية، فجعلهم في الدنيا على هدى، { وفي الآخرة هم المفلحون }. وقد تكون ثم صفة محذوفة أي على هدى، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز، وقد لا يحتاج إلى تقدير الصفة لأنه لا يكفي مطلق الهدى المنسوب إلى الله تعالى. ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف، أي من هدى ربهم. وقرأ ابن هرمز: من ربهم بضم الهاء، وكذلك سائرها آت جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو باء، ولما أخبر عنهم بخبرين مختلفين كرر أولئك ليقع كل خبر منهما في جملة مستقلة وهو آكد في المدح إذ صار الخبر مبنياً على مبتدأ. وهذان الخبران هما نتيجتا الأوصاف السابقة إذ كانت الأوصاف منها ما هو متعلقة أمر الدنيا، ومنها ما متعلقة أمر الآخرة، فأخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا وبالفوز في الآخرة. ولما اختلف الخبران كما ذكرنا، أتى بحرف العطف في المبتدأ، ولو كان الخبر الثاني في معنى الأول، لم يدخل العاطف لأن الشيء لا يعطف على نفسه. ألا ترى إلى قوله تعالى:**{ أولئك هم الغافلون }** [الأعراف: 179] بعد قوله:**{ أولئك كالأنعام }** [الأعراف: 179] كيف جاء بغير عاطف لاتفاق الخبرين اللذين للمبتدأين في المعنى؟ ويحتمل هم أن يكون فصلاً أو بدلاً فيكون المفلحون خبراً عن أولئك، أو المبتدأ والمفلحون خبره، والجملة من قوله: هم المفلحون في موضع خبر أولئك، وأحكام الفصل وحكمة المجيء به مذكورة في كتب النحو. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد جمعت أحكام الفصل مجردة من غير دلائل في نحو من ست ورقات، وإدخال هو في مثل هذا التركيب أحسن، لأنه محل تأكيد ورفع توهم من يتشكك في المسند إليه الخبر أو ينازع فيه، أو من يتوهم التشريك فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى:**{ وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيا }** [النجم: 43]،**{ وأنه هو أغنى وأقنى }** [النجم: 48]، وقوله:**{ وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى }** [النجم: 45]،**{ وأنه أهلك عاداً الأولى }** [النجم: 50] كيف أثبت هو دلالة على ما ذكر، ولم يأت به في نسبة خلق الزوجين وإهلاك عاد، إذ لا يتوهم إسناد ذلك لغير الله تعالى ولا الشركة فيه. وأما الإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء والإغناء والإقناء فقد يدعي ذلك، أو الشركة فيه متواقح كذاب كنمروذ. وأما قوله تعالى:**{ وأنه هو رب الشعرى }** [النجم: 49] فدخول هو للإعلام بأن الله هو رب هذا النجم، وإن كان رب كل شيء، لأن هذا النجم عُبِد من دون الله واتُّخذ إلهاً، فأتى به لينبه بأن الله مستبد بكونه رباً لهذا المعبود، ومن دونه لا يشاركه في ذلك أحد. والألف واللام في المفلحون لتعريف العهد في الخارج أو في الذهن، وذلك أنك إذا قلت: زيد المنطلق، فالمخاطب يعرف وجود ذات صدر منها انطلاق، ويعرف زيداً ويجهل نسبة الانطلاق إليه، وأنت تعرف كل ذلك فتقول له: زيد المنطلق، فتفيده معرفة النسبة التي كان يجهلها، ودخلت هو فيه إذا قلت: زيد هو المنطلق، لتأكيد النسبة، وإنما تؤكد النسبة عند توهم أن المخاطب يشك فيها أو ينازع أو يتوهم الشركة. وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات من قوله تعالى: { الم } إلى قوله: { المفلحون } أقوالاً: أحدها: أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب دون غيرهم، وهو قول ابن عباس وجماعة. الثاني: نزلت في جميع المؤمنين، قاله مجاهد. وذكروا في هذه الآية من ضروب الفصاحة أنواعاً: الأول: حسن الافتتاح، وأنه تعالى افتتح بما فيه غموض ودقة لتنبيه السامع على النظر والفكر والاستنباط. الثاني: الإشارة في قوله ذلك أدخل اللام إشارة إلى بعد المنازل. الثالث: معدول الخطاب في قوله تعالى: { لا ريب فيه } صيغته خبر ومعناه أمر، وقد مضى الكلام فيه. الرابع: الاختصاص هو في قوله { هدى للمتقين }. الخامس: التكرار في قوله تعالى: { يؤمنون بالغيب } ، { يؤمنون بما أنزل إليك } ، وفي قوله: { الذين، والذين } ، إن كان الموصوف واحداً فهو تكرار اللفظ والمعنى، وإن كان مختلفاً كان من تكرار اللفظ دون المعنى، ومن التكرار { أولئك، وأولئك }. السادس: تأكيد المظهر بالمضمر في قوله: { وأولئك هم المفلحون } ، وفي قوله: { هم يوقنون }. السابع: الحذف، وهو في مواضع أحدها هذه ألم عند من يقدر ذلك، وهو هدى، وينفقون في الطاعة، وما أنزل إليك من القرآن، { ومن قبلك } ، أي قبل إرسالك، أو قبل الإنزال، { وبالآخرة } ، أي بجزاء الآخرة، و { يوقنون } بالمصير إليها، و { على هدى } ، أي أسباب هدى، أو على نور هدى، { والمفلحون } ، أي الباقون في نعيم الآخرة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ)
قوله تعالى: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } أورد الزمخشري هنا سؤالا قال: الإشارة بذلك للبعيد وهو هنا قريب. وأجاب بأن المراد القرب المعنوي. قال ابن عرفة: السؤال غير وارد لأنه أجاب في غير هذا الموضع في قوله تعالى**{ فَذَٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ }** وفي قوله تعالى:**{ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ }** لأن الإشارة بلفظ (البعيد) للقريب على سبيل التَّعظيم وهو معنى (يذكره) البيانيون. قال: وعبر عنه باسم الإشارة دون ضمير الغيبة تنبيها على أنه كالمحسوس المشار إليه فهو دليل على عظمته في النفوس. وقوله تعالى: لاَ رَيْبَ فِيهِ: إما خبر في هذا معنى النهي وإما خبر على بابه والمراد إما نفي وقوع ذلك حقيقة. فيكون عاما مخصوصا بمن ارتاب فيه، أو المراد لا ينبغي فيه ريب أي ليس بأهل لأن يرتاب فيه (أحد). قال: ومن الناس من يقف على (لاَ رَيْبَ) وكان بعضهم يتعقبه بأن فيه شبه تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه، ومنهم من وقف على { لاَ رَيْبَ فِيهِ } (وعادتهم بأنهم يصوّبونه بأنه يبتدئ) بقوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، (فجعله) خبر مبتدأ مضمر، أي هو هدى فيكون القرآن كله (هُدى) أي هو نفس الهدى، فهو أبلغ ممن جعل الهدى فيه. فإن قلت: أخر المجرور هنا وقدمه في قوله:**{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ }** **{ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ }** (فالجواب) أن المراد نفي الرّيب بالإطلاق. فيتناول جميع الكتب من التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فليس نفي الريب خاصا بالقرآن فقط بل هو (عام) بخلاف ما لو قيل لا (فيه ريب)، (لأوهم) خصوص النفي به وبخلاف:**{ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ }** فإنّ الغشاوة خاصة بأبصارهم دون أبصار المؤمنين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان/القمي النيسابوري (ت 728 هـ)
القراءات: " لا ريب " بالمد خلف والعجلي عن حمزة وخلف لنفسه، وكذلك قوله تعالى { لا خير } و { لا جرم } وذلك لاجتماع الفتحة مع الألف أو لتأكيد معنى النفي للجنس " فيهى " ابن كثير، وكذلك يشبع كل هاء كناية في جميع القرآن. " هدى للمتقين " مدغماً من غير غنة: حمزة وعلي وخلف ويزيد وورش من طريق النجاري، والهاشمي عن ابن كثير. وكذلك يدغمون النون الساكنة والتنوين في الراء حيث وقعت. أبو عمرو بالوجهين: إدغام الغنة وإظهارها، والباقون بإظهار الغنة. ولا خلاف بين القراء في إدغام أصل النون والتنوين في اللام والواو والراء والياء والميم، وإنما الخلاف بينهم في إظهار الغنة وإسقاطها وهي صوت الخيشوم " يؤمنون " غير مهموز: أبو عمرو ويزيد وورش والأعشى وحمزة في الوقف، وكذلك ما أشبههما من الأفعال إلا في أحرف يسيرة تذكر في مواضعها. الباقون: بالهمز. (باب في المد) (بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) بالمد: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن ذكوان، فلا يفرقون بين مدّ الكلمة والكلمتين. وكذلك روى ورش عن نافع. والباقون يفرقون فيمدون الكلمة ولا يمدون بين الكلمتين. فأطول الناس مداً ورش عن نافع، وحمزة وخلف في اختياره والأعشى، ومدهم بمنزلة أربع ألفات. وأوسطهم مداً علي وابن ذكوان وعاصم غير الأعشى، وأقصرهم مداً ابن كثير وأبو جعفر ونافع غير ورش وأبو عمرو وسهل ويعقوب وهشام. وأصل المد ألف ساكنة على قدر فتحة فيك فتحاً تاماً، وبالآخرة بترك الهمزة ونقلها إلى الساكن الذي قبلها حيث كان ورش، وكذلك حمزة في الوقف فإن مذهبه أن يقف على كل كلمة مهموزة بغير همزة (باب السكتة) روي عن حمزة وحماد والشموني أنهم يسكتون على كل حرف ساكن بعده همزة سكتة لطيفة نحو: الأرض، والأنهار، وقالوا: آمنا، وأشباه ذلك. والسبب فيه التمكين والمبالغة في تحقيقها، لأن الهمزة بعد السكتة كالمبتدأ بها. والاختيار في الكلمة الواحدة أن لا تسكت على ساكن غير لام التعريف احترازاً عن قطع الكلمة. الوقوف: " ألّم " (ج) للاختلاف " لا ريب " ج على حذف خبر " لا تقديره لا ريب فيه، ثم يستأنف " فيه هدى " ومن وصل جعل فيه خبر " لا " أو وصف ريب وحذف خبر " لا " تقديره " لا ريب فيه عند المؤمنين ". والوقف على التقديرين على " فيه " و " هدى " خبر مبتدأ محذوف أي هو هدى، ومن جعل " هدى " حالاً للكتاب بإعمال معنى الإشارة في " ذلك على تقدير: أشير إلى الكتاب هادياً لم يقف قبل " هدى للمتقين " (لا) لأن الذين صفتهم " ينفقون " لا للعطف، ليدخل عبد الله بن سلام وأصحابه في المتقين، فإن القرآن لهم هدى، وليدخل الصحابة المؤمنون بالغيب في ثناء الهدى ووعد الفلاح. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولو ابتدأ " والذين " كان " أولئك على هدى " خبرهم مختصاً بهم. واختص هدى القرآن واسم التقوى بالذين يؤمنون بالغيب. " من قبلك " ج لاختلاف النظم بتقديم المفعول. " يوقنون " (ط) لأن أولئك مبتدأ وليس بخبر عما قبله، وكذلك على كل آية وقف بها إلا ما أعلم بعلامة (لا) المفلحون. التفسير وفيه أبحاث: البحث الأول في " ألم " اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها في قولهم (ألف، با، تا، ثا) أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم، لأن الضاد مثلاً لفظ مفرد دال بالتواطؤ على معنى مستقل بنفسه غير مقترن بأحد الأزمنة، وذلك المعنى هو الحرف الأول من ضرب مثلاً، فيكون لفظ الضاد اسماً، ولهذا قد يتصرف في بعضها بالإمالة نحو (با، تا) وبالتفخيم نحو (با، تا) وبالتعريف والتنكير والجمع والتصغير والوصف والإسناد إليه والإضافة. وقولهم (با، تا، ثا) متهجاة ومقصورة نحو (لا) ثم قولهم كتبت باء بالمد نحو كتبت (لا) لا يدل على أنها حروف مثل (لا): فإنهم إنما قالوا كذلك في التهجي لكثرة الاستعمال واستدعائها التخفيف، والذي رواه ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف "** وأيضاً ما وقع في عبارات المتقدمين أنها حروف التهجي خليق بأن يصرف إلى التسامح والتجوز لأنه اسم للحرف وهما متلازمان، أو لأن الحرف قد يطلق على الكلمة تسمية للجنس باسم النوع. ويحكى عن الخليل أنه سأل أصحابه: كيف تنطقون بالباء التي في ضرب، والكاف التي في ذلك؟ فقالوا: نقول باء، كاف. فقال: إنما جئتم بالاسم لا الحرف. وقال: أقول: ب، ك. ثم إنهم راعوا في هذه التسمية لطيفة، وهي أنهم جعلوا المسمى صدر كل اسم منها إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها، لأنه لا يكون إلا ساكناً. ومما يضاهيها في إبداع اللفظ دلالة على المعنى البسملة والحيعلة والتهليل ونحوها. وحكم هذه الأسماء سكون الإعجاز ما لم تلها العوامل فيقال: ألف، لام، ميم موقوفاً عليها لفقد مقتضى الإعراب نحو. واحد، اثنان، ثلاثة، دار، ثوب، جارية. فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب نحو: هذه ألف، وكتبت ألفاً، ونظرت إلى ألف. والدليل على أن سكونها وقف وليس ببناء أنها لو بنيت لحذي بها حذر " كيف " و " أين " و " هؤلاء " ولم يقل صاد، قاف، نون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | مجموعاً فيها بين الساكنين. وللناس في " الم " وما يجري مجراه من فواتح السور قولان: أحدهما أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله به، والتخاطب بالحروف المفردة سنة الأحباب في سنن المحاب، فهو سر الحبيب مع الحبيب بحيث لا يطلع عليه الرقيب: | **بين المحبين سر ليس يفشيه** | | **قول ولا قلم للخلق يحكيه** | | --- | --- | --- | عن أبي بكر، في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور. وعن علي كرم الله وجهه: إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي، وقال بعض العارفين: العلم كبحر أجري منه واد، ثم أجري من الوادي نهر، ثم أجري من النهر جدول، ثم أجري من الجدول ساقية. فالوادي لا يحتمل البحر، والنهر لا يحتمل الوادي، ولهذا قال عز من قائل:**{ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها }** [الرعد: 17] فبحور العلم عند الله تعالى فأعطى الرسل منها أودية، ثم أعطى الرسل من أوديتهم أنهاراً إلى العلماء، ثم أعطى العلماء إلى العامة جداول صغاراً على قدر طاقتهم، ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم، وهذا مأخوذ مما ورد في الخبر **" للعلماء سر وللخلفاء سر وللأنبياء سر وللملائكة سر ولله من بعد ذلك كله سر. فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم، ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم، ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم، ولو اطلع الأنبياء على سر الملائكة لاتهموهم، ولو اطلع الملائكة على سر الله لطاحوا حائرين وبادوا بائدين "** والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش. وسئل الشعبي عن هذه الحروف فقال: سر الله فلا تطلبوه. وعن ابن عباس أنه قال: عجزت العلماء عن إدراكها. وقيل: هو من المتشابه. وزيف هذا القول بنحو قوله تعالى**{ أفلا يتدبرون القرآن }** [النساء: 82]**{ تبياناً لكل شيء }** [النحل: 89] { هدى للمتقين } [البقرة: 2] وإنما يمكن التدبر ويكون تبياناً وهدى إذا كان مفهوماً، وبقول صلى الله عليه وسلم: **" إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي "** فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم؟ وأيضاً لا يخاطب المكلف بما لا يفهم كما لا يخاطب العربي بالعجمي، ولا يجوز التحدي بما لا يكون معلوماً، وعورض بقوله تعالى**{ وما يعلم تأويله إلا الله }** [آل عمران: 7] والوقف هنا لأن الراسخين لو كانوا عالمين بتأويله كان الإيمان به كالإيمان بالمحكم، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح، ولا يكون في قوله**{ كل من عند ربنا }** [آل عمران: 7] فائدة على ما لا يخفى، وبقوله صلى الله عليه وسلم **" أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديم "** وقد روينا عن أكابر الصحابة ما روينا. وأيضاً الأفعال التي كلفنا بها منها ما يظهر وجه الحكمة فيه كالصلاة فإن فيها تواضعاً للمعبود والصوم ففيه كسر الشهوة والزكاة ففيها سد خلة المساكين، ومنها ما لا يظهر فيه الحكمة ككثير من أفعال الحج، ويحسن من الله تعالى الأمر بالنوعين لظهور الامتثال بهما، بل كمال الانقياد في النوع الثاني أظهر وأكثر لأنه تعبد محض. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فلم لا يجوز أن يكون في الأقوال أيضاً مثل ذلك، مع أن فيه فائدة أخرى هي اشتغال السر بذكر الله والتفكير في كلامه؟ القول الثاني: إن المراد من هذه الفواتح معلوم، ثم اختلفوا على وجوه: الأول: أنها أسماء وهو قول أكثر المتكلمين واختاره الخليل وسيبويه، كما سموا بلام والد حارثة بن لام الطائي، وكقولهم للنحاس صاد، وللسحاب عين، وللجبل قاف، وللحوت نون، وسعود تمام الكلام في هذا القول. الثاني: أنها أسماء الله تعالى. روي عن علي عليه السلام أنه كان يقول: يا كَهيعَصَ، يا حمَ عَسَقَ، ويقرب منه ما روي عن سعيد بن جبير أنها أبعاض أسماء الله تعالى، فإن " الر، حم، ن " مجموعها اسم " الرحمن " لكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في الجميع. الثالث: أنها أسماء القرآن وهو قول الكلبي والسدي وقتادة. الرابع: كل واحد من الحروف دال على اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته، فالألف إشارة إلى أنه أحد أول آخر أزلي أبدي، واللام إشارة إلى أنه لطيف، والميم إلى أنه مجيد ملك منان، وفي " كَهيعَصَ " الكاف كاف لعباده، والهاء هاد، والياء من الحكيم والعين عالم، والصاد صادق. أو الكاف محمول على الكبير والكريم. والياء على أنه مجير، والعين على العزيز والعدل، ويروى هذا عن ابن عباس. وعنه أيضاً في " ألم " أنا الله أعلم، وفي " المص " أنا الله أعلم وأفصل، وفي " المر " أنا الله أرى. الخامس: أنها صفات الأفعال. الألف آلاؤه، واللام لطفه، والميم مجده، قاله محمد بن كعب القرظي. السادس: الألف من الله، واللام من جبرائيل، والميم من محمد صلى الله عليه وسلم. أي أنزل الله الكتاب بواسطة جبرائيل على محمد صلى الله عليه وسلم. السابع: الألف أنا، واللام لي، والميم مني قاله بعض الصوفية. الثامن: أن ورودها مسرودة هكذا على نمط التعديد ليكون كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدى بالقرآن، أي إن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم، فلولا أنه كلام خالق القدر لم يعجز معشر البشر عن الإتيان بمثل الكوثر قاله المبرد وجم غفير. والتاسع: كأنه تعالى يقول اسمعوها مقطعة حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك، وهذا على طريقة تعليم الصبيان قاله عبد العزيز بن يحيى. العاشر: إن الكفار لما قالوا**{ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [فصلت: 26] أنزل الله تعالى هذه الأحرف رغبة في إصغائهم ليهجم عليهم القرآن من حيث لا يشعرون قاله أبو روق وقطرب. الحادي عشر: قول أبي العالية إنه حساب على ما روى ابن عباس أنه **" مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو سورة البقرة " الم ذلك الكتاب " ثم أتى أخوة حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه عن الم وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو، أحق أنها أتتك من السماء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، كذلك نزلت فقال حيي: إن كنت صادقاً إني لأعلم أجل هذه الأمة من السنين، ثم قال: كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى مدته إحدى وسبعون سنة؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال حيي: فهل غير ذلك؟ فقال: نعم { المص } فقال حيي: مائة وإحدى وستون فهل غير هذه؟ فقال: نعم { الر } قال حيي: نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة فهل غير هذا؟ قال: نعم { المر } قال حيي: ندري بأي أقوالك نأخذ! فقال أبو ياسر: أما أنا فأشهد أن أنبياءنا قد أخبروا عن ملك هذه الأمة ولم يبينوا أنها كم تكون، فإن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقاً فيما يقوله إني لأراه يستجمع له هذا كله، فقام اليهود وقالوا: اشتبه علينا أمرك فأنزل الله تعالى { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } "** [آل عمران: 7]. الثاني عشر: تدل على انقطاع كلام واستئناف كلام آخر. الثالث عشر: قول الأخفش إن الله تعالى أقسم بهذه الجروف المعجمة لشرفها من حيث إنها أصول اللغات، بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه، واقتصر على البعض والمراد الكل كما تقول: قرأت الحمد وتريد السورة كلها، أقسم الله بها أن هذا الكتاب هو المثبت في اللوح المحفوظ. الرابع عشر: أن النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام، الأميون وأهل الخط، والكتاب بخلاف النطق بأسامي الحروف فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ، فلما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بها من غير تعلم خط وقراءة كان ذلك دليلاً على أنه استفاد ذلك من قبل الوحي. الخامس عشر: قال القاضي الماوردي: معناه ألم بكم ذلك الكتاب أي نزل، وهذا لا يتأتى في كل فاتحة. السادس عشر: الألف إشارة إلى ما لا بد منه من الاستقامة على الشريعة في أول الأمر**{ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا }** [فصلت: 30] واللام إشارة إلى الحاصل عند المجاهدات وهو رعاية الطريقة**{ والذين جاهدوا فينا }** [العنكبوت: 69] والميم إشارة إلى صيرورة العبد في مقام المحبة كالدائرة التي يكون نهايتها عين بدايتها وهو مقام الفناء في الله بالكلية وهو الحقيقة | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ قل الله ثم ذرهم }** [الأنعام: 91]. السابع عشر: الألف من أقصى الحلق، واللام من طرف اللسان وهو وسط المخارج، والميم من الشفة وهو آخر المخارج، أي أول ذكر العبد ووسطه وآخره لا ينبغي إلا لله. الثامن عشر: سمعت بعض الشيعة يقول: هذه الفواتح إذا حذف منها المكررات يبقى ما يمكن أن تركب منه على صراط حق نمسكه، وهذا غريب مع أنه متكلف فلهذا أوردته. واعلم أن الباقي من الفواتح بعد حذف المكرر أربعة عشر، نصف عدد حروف المعجم بعد الكسر. وقد أورد الله الفواتح في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم، وهذه الباقية تشتمل على أصناف أجناس الحروف. من المهموسة نصفها، الصاد والكاف والهاء والسين والحاء، ومن المجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون، ومن الشديد نصفها ا ك ط ق، ومن الرخوة نصفها لمر صعهسحين، ومن المطبقة نصفها ص ط، ومن المنفتحة نصفها الر كهوس ج ق ي ن، ومن المستعلية نصفها ق ص ط. ومن المنخفضة نصفها الم ر ك هـ ي ع س ح ن، ومن حروف القلقة نصفها ق ط. وأكثر ألفاظ القرآن من هذه الحروف، وهذا دليل على أن الله تعالى عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم تبكيتاً لهم وإظهاراً لعجزهم كما مر في الوجه الثامن، ويؤيد ذلك أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين والله أعلم. التاسع عشر: قيل: معناه ألست بربكم. الألف واللام من أوله والميم من آخره أي أخذت منكم كتاب العهد في يوم الميثاق. والمختار من هذه الأقوال عند الأكثرين القول بأنها أسماء السور، ثم إنه عورض بوجوه: الأول: أنا نجد سوراً كثيرة اتفقت في التسمية بالم وحم والمقصود من العلم رفع الاشتباه. الثاني: لو كانت أسماء لاشتهرت وتواترت. الثالث: العرب لم يتجاوزوا بما سموا به مجموع اسمين نحو: معد يكرب وبعلبك، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة، فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغتهم. الرابع: لو كانت أسماء لاشتهرت السور بها، لكنها اشتهرت بغيرها نحو سورة البقرة وآل عمران. الخامس: هذه الألفاظ داخلة في السور وجزء الشيء متقدم على الشيء بالرتبة، واسم الشيء متأخر عن الشيء، فلزم أن يكون متقدماً متأخراً معاً وهو محال. وليس هذا لتسميتهم صاد للحرف الأول منه، فإن هذا كتسمية المفرد بالمؤلف فلا يلزم إلا تأخر المركب عن المفرد بوجهين، وهذا تسمية المؤلف بالمفرد ويلزم المحال المذكور. وأجيب عن الأول بما يجاب عن الأعلام المشتركة من أنها ليست بوضع واحد، مع أنه لا يبعد أن تجعل مشتركاً حتى يتميز كل واحد من الآخر بعلامة أخرى لحكمة خفية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | و عن الثاني بأن تسمية السورة بلفظة معينة ليست من الأمور العظام التي تتوفر الدواعي على نقلها. وعن الثالث بأن التسمية بثلاثة أسماء خروج عن كلام العرب، ولكن إذا جعلت اسماً واحداً فأما منثورة نثر أسماء العدد فلا استنكار لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية نحو برق نحره، وكما لو سمي ببيت شعر أو بطائفة من أسماء حروف المعجم. وعن الرابع أنه لا يبعد أن يصير اللقب أشهر من الاسم. وعن الخامس أن تأخر ما هو متقدم باعتبار آخر غير مستحيل، وفي لسان الصوفية أن هيئة الصلاة ثلاث: القيام والركوع والسجود. فالألف إشارة إلى القيام، واللام إلى الركوع، والميم إلى السجود أي من قرأ فاتحة الكتاب في الصلاة التي هي معراج المؤمن شرفه الله بالهداية في قوله { هدى للمتقين } وعلى هذا فيكون ذلك الكتاب إشارة إلى الفاتحة لأنها أم الكتاب. ثم إن هذه الأسماء ضربان: أحدهما ما لا يتأتى فيه الإعراب نحو { كَهيعَصَ } { المر } وثانيهما ما يتأتى فيه الإعراب لكونه اسماً فرداً كصاد وقاف ونون، أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كحمَ وطسَ ويسَ فإنها موازنة لقابيل وهابيل، وكقولك طسم إذا فتح نونها صار كدرابجرد. فالنوع الأول محكي ليس إلا، والثاني فيه أمران الإعراب والحكاية، فإذا أعرب منع الصرف للعملية والتأنيث قال الشاعر: | **يذكرني حاميم والرمح شاجر** | | **فهلا تلا حاميم قبل التقدم؟** | | --- | --- | --- | والحكاية أن تجيء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته نحو قولك " بدأت بالحمد لله " قال ذو الرمة: | **سمعت الناس ينتجعون غيثاً** | | **فقلت لصيدح انتجعي بلالاً** | | --- | --- | --- | وأما من قرأ صاد وقاف ونون مفتوحات فبفعل مضمر نحو " اذكر " أو حركت لالتقاء الساكنين. واستكره جعلها مقسماً بها على طريق قولهم " نعم الله لأفعلن " على حذف حرف الجر وإعمال فعل القسم، لأن القرآن والقلم بعدها محلوف بهما. واستكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم عليه واحد ولهذا قال الخليل: الواو الثانية في قوله عز من قائل**{ والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى }** [الليل: 1 - 2] واو العطف لا القسم نحو " وحياتي ثم حياتك لأفعلن " ولو كان انقضى قسمه بالأول على شيء لجاز أن يستعمل كلاماً آخر نحو " بالله لأفعلن تالله لأخرجن " ولا سبيل فيما نحن بصدده إلى جعل " الواو " للعطف لمخالفة الثاني الأول في الإعراب، اللهم إلا أن تقدر مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها فقد جاء عنهم " الله لأفعلن " مجروراً غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة، وأما من قرأ صاد وقاف بالكسر فلالتقاء الساكنين. وهذه الفواتح جاءت في المصحف مكتوبة على صور الحروف أنفسها لا على صور أساميها، لأن المألوف أنه إذا قيل للكاتب اكتب " صاد " مثلاً فإنه يكتب مسماها ص. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأيضاً اشتهار أمرها بأن المراد بها هنا الأسامي لا المسميات أمن وقوع اللبس فيها، وأيضاً خطان لا يقاسان، خط المصحف لأنه سنة، وخط العروض لأن المعتبر هناك الملفوظ. ومن لم يجعل هذه الفواتح أسماء السور فلا محل لها عنده كما لا محل للجمل المبتدأة والمفردات المعدودة، ومن جعلها أسماء للسور فسنخبرك عن تأليفها مع ما بعدها الله حسبي. البحث الثاني في قوله. " ذلك الكتاب " وفيه مسائل: الأولى: إنما صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد لأنه وقعت الإشارة بذلك إلى " الم " بعد ما سبق التكلم به، والمنقضي في حكم المتباعد ولهذا يحسب الحاسب ثم يقول فذلك كذا، أو لأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئاً: احتفظ بذلك، أو لأنه وإن كان حاضراً نظراً إلى ألفاظه لكنه غائب نظراً إلى أسراره وحقائقه، أو لأنه على مقتضى الوضع اللغوي لا العرفي، أو لأنه إشارة إلى ما نزل بمكة قبل سورة البقرة. وقد يسمى بعض القرآن قرآناً، أو لأنه إشارة إلى ما وعد به الرسول عند مبعثه**{ إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً }** [المزمل: 5] أو لأنه إشارة إلى ما أخبر به الأنبياء أن الله سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل، أو المراد أن هذا المنزل هو ذلك المثبت في اللوح المحفوظ كقوله**{ وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم }** [الزخرف: 4]. الثانية: إنما ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة في بعض الوجوه نظراً إلى صفته وهو الكتاب كقولك " هند ذلك الإنسان " قال الذبياني: | **نبئت نعمي على الهجران عاتبة** | | **سقياً ورعياً لذاك العاتب الزاري** | | --- | --- | --- | وإن جعلت الكتاب خبراً فنظراً إلى أن ذلك في معناه ومسماه فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير كما أجري عليه في التأنيث في قولهم: " من كان أمك ". الثالثة: للقرآن أسماء كثيرة منها: الكتاب - وقد تقدم- ومنها الفرقان**{ تبارك الذي نزل الفرقان }** [الفرقان: 1] لأنه نزل متفرقاً في نيف وعشرين سنة، أو لأنه يفرق بين الحق والباطل. ومنها التذكرة والذكرى والذكر**{ وإنه لتذكرة للمتقين }** [الحاقة: 48]**{ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين }** [الذاريات: 55]**{ وإنه لذكر لك ولقومك }** [الزخرف: 44] أي ذكر من الله تعالى به ذكر به عباده فعرفهم تكاليفه أو شرف وفخر. ومنها التنزيل**{ وإنه لتنزيل رب العالمين }** [الشعراء: 192] ومنها الحديث**{ الله نزل أحسن الحديث }** [الزمر: 23] شبهه بما يتحدث به فإن الله تعالى خاطب به المكلفين. ومنها الموعظة**{ قد جاءتكم موعظة من ربكم }** [يونس: 57] ومنها الحكم والحكمة والحكيم والمحكم**{ وكذلك أنزلناه حكماً عربياً }** [الرعد: 37]**{ حكمة بالغة }** [القمر: 5]**{ يسَ والقرآن الحكيم }** [يس: 1، 2]**{ كتاب أحكمت أياته }** [فصلت: 2] ومنها الشفاء والرحمة**{ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [الإسراء: 82] ومنها الهدى والهادي**{ هدى للمتقين }** [البقرة: 2]**{ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم }** [الإسراء: 9] ومنها الصراط المستقيم**{ وأن هذا صراطي مستقيماً }** [الأنعام: 153] ومنها حبل الله**{ واعتصموا بحبل الله جميعاً }** [آل عمران: 103] ومنها الروح**{ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا }** [الشورى: 52] لأنه سبب لحياة الأرواح. ومنها القصص**{ إن هذا لهو القصص الحق }** [آل عمران: 62] ومنها البيان والتبيان والمبين**{ هذا بيان للناس }** [آل عمران: 138]**{ تبياناً لكل شيء }** [النحل: 89]**{ تلك آيات الكتاب المبين }** [يوسف: 1] ومنها البصائر**{ هذا بصائر من ربكم }** [الأعراف: 203] ومنها الفصل**{ إنه لقول فصل }** [الطارق: 13] ومنها النجوم**{ فلا أقسم بمواقع النجوم }** [الواقعة: 75] لأنه نزل نجماً نجماً. ومنها المثاني**{ مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم }** [الزمر: 23] لأنه يثنى فيه القصص والأخبار. ومنها النعمة**{ وأما بنعمة ربك فحدث }** [الضحى: 11] قال ابن عباس: أي القرآن. ومنها البرهان**{ قد جاءكم برهان من ربكم }** [النساء: 174] ومنها البشير والنذير**{ قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً }** [فصلت: 3 - 4] ومنها القيم**{ قيماً لينذر بأساً شديداً }** [الكهف: 2] ومنها المهيمن**{ مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه }** [المائدة: 48] ومنها النور**{ واتبعوا النور الذي أنزل معه }** [الأعراف: 157] ومنها الحق**{ وإنه لحق اليقين }** [الحاقة: 51] ومنها العزيز**{ وإنه لكتاب عزيز }** [فصلت: 41] ومنها الكريم**{ إنه لقرآن كريم }** [الواقعة: 77] ومنها العظيم**{ ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم }** [الحجر: 87] ومنها المبارك**{ كتاب أنزلناه إليك مبارك }** [ص: 29] فهذه جملة الأسماء وسيجيء تفاسيرها في مواضعها. الرابعة: في تأليف ذلك الكتاب مع " الم " اسماً للسورة ففي التأليف وجوه: أن يكون " الم " مبتدأ أو " ذلك " مبتدأ ثانياً " والكتاب " خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول أي هو الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتاباً كما تقول: هو الرجل أي الكامل في الرجولية وكقوله: هم القوم كل القوم يا أم خالد. وأن يكون الكتاب صفة ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود، وأن يكون " الم " خبر مبتدأ محذوف أي هذه " الم " ، ويكون " ذلك " خبراً ثانياً أو بدلاً على أن الكتاب صفة، وأن يكون هذه " الم " جملة، " ذلك الكتاب " جملة أخرى، وفقد العاطف لأن الثانية بيان للأولى. وإن جعلت " الم " بمنزلة الصوت كان " ذلك " مبتدأ خبره " الكتاب " أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، أو " الكتاب " صفة والخبر ما بعده، أو قدر مبتدأ محذوف أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف " ذلك الكتاب ". وفي قراءة عبد الله بن مسعود " الم تنزيل الكتاب ". البحث الثالث في قوله " لا ريب فيه " الريب مصدر رابني وحقيقته قلق النفس. روى الحسن بن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم **" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "** فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة أي كون الأمر مشكوكاً فيه مما تقلق له النفس، وكونه صحيحاً صادقاً مما تطمئن له. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومنه ريب الزمان لنوائبه المقلقة، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بظبي حاقف أي معوج مضطجع وهم محرومون فقال: لا يريبه أحد بشيء أي لا يزعجه. والحاصل أن الريب شك وزيادة ظن سوء، فإن قلت: كيف نفي الريب على سبيل الاستغراق، وكم من شقي مرتاب فيه؟ قلت: ما نفي أن أحداً لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه ومثله**{ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله }** [البقرة: 23] لم يقل " وإذا كنتم " مع وقوع الشك منهم في الواقع دلالة على أن الشك فيه مما لا ينبغي أن يوجد إلا على سبيل الفرض والتقدير، ولو فرض فوجه إزالته أن يجردوا أنفسهم ويبرزوا قواهم في البلاغة هل تتم للمعارضة أن تتضاءل دونها. فإن قلت: فهلا قدم الظرف على الريب كما قدم على الغول في قوله تعالى**{ لا فيها غَوْل }** [الصافات: 47] قلنا: لأن المقصود منها ليس إلا نفي الريب عنه وإثبات أنه حق وصدق، ولو عكس لأفاد ذلك مع ما ليس بمراد ولا هو بصادق في نفس الأمر وهو التعريض بأن ريباً في غيره من الكتب كما أن في قوله:**{ لا فيها غول }** [الصافات: 47] تعريضاً بأن خمور الدنيا تغتال العقول. وقرأ أبو الشعثاء " لا ريب " فيه بالرفع. قيل: والفرق بينها وبين المشهورة، أن المشهورة توجب الاستغراق، وهذه تجوزه. ويمكن أن يقال: كلاهما يوجب الاستغراق إلا أن الأول بطريق نفي الماهية، والثاني لأن قوله " لا ريب " جواب قول القائل هل ريب فيه، وهذا يفيد ثبوت فرد واحد فنقيضه يكون سلب جميع الأفراد. البحث الرابع في قوله " هدى للمتقين " وفيه مسائل: الأولى: في حقيقة الهدى هو مصدر على فعل كالسرى وهو على الأصح عبارة عن الدلالة. وقيل: بشرط كونها موصلة إلى البغية بدليل وقوعه في مقابل الضلالة**{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى }** [البقرة: 16] ولأنه يقال مهدي في معرض المدح. فلو احتمل أن يقال هدى فلم يهتد لم يكن مدحاً، ولأن مطاوعه " اهتدى " فيلزمه. وأجيب بأن مقابل الضلالة الاهتداء لا الهدى. وبأن قولنا " مهدي " إنما أفاد المدح لأنه من المعلوم أن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت كالعدم، وبالمنع من أن اهتدى لازم هدى لزوماً كلياً إذ يصح في العرف أن يقال: هديته فلم يهتد، قال عز من قائل:**{ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى }** [فصلت: 17] وقال بعضهم: الهدى الاهتداء، فإن زعم مطلقاً فخطأ لوقوع صفة للقرآن، وإن زعم حيناً فصحيح لوقوعه في مقابلة الضلالة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثانية: المتقي اسم فاعل من وقاه فاتقى. والوقاية فرط الصيانة، وهذه الدابة تقي من وجئها إذا أصابها طلع من غلظ الأرض ورقة الحافر فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء. وهو في الشرع المؤتمر للمأمورات المجتنب عن المحظورات. واختلف في الصغائر أنه إذا لم يتقها فهل يستحق هذا الاسم؟ روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس "** فحقيقة التقوى الخشية**{ يا أيها الناس اتقوا ربكم }** [لقمان: 33] وقد يراد بها الإيمان**{ وألزمهم كلمة التقوى }** [الفتح: 26] أي التوحيد. وقد يراد التوبة**{ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا }** [الأعراف: 96] أي تابوا. وقد يراد الطاعة**{ أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون }** [النحل: 2] وقد يراد ترك المعصية**{ وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله }** [البقرة: 189] وقد يراد الإخلاص**{ فإنها من تقوى القلوب }** [الحج: 32] أي من إخلاصها والتقوى مقام شريف**{ إن الله مع الذين اتقوا }** [النحل: 128]**{ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى }** [البقرة: 197]**{ إن أكرمكم عند الله أتقاكم }** [الحجرات: 13] وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده "** وقال علي عليه السلام: التقوى ترك الإصرار على المعصية، وترك الاغترار بالطاعة. وعن إبراهيم بن أدهم: أن لا يجد الخلق في لسانك عيباً، ولا الملائكة المقربون في أفعالك عيباً، ولا ملك العرش في سرك عيباً. الواقدي: أن تزين سرك للحق كما زينت ظهرك للخلق. ويقال: التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك. ولله در القائل: خل الذنوب صغيرها. وكبيرها فهو التقي. | **كن مثل ماش في طريـ** | | **ـق الشوق يحذر ما يرى** | | --- | --- | --- | | **لا تحقـرن صغيـرة** | | **إن الجبال من الحصـى** | وفي قوله " هدى للمتقين " ثم في موضع آخر**{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس }** [البقرة: 185] دليل على أن الناس محصورون في المتقين، والباقون**{ كالأنعام بل هم أضل }** [الأعراف: 179]. الثالثة: لم اختص كون القرآن هدى للمتقين، وأيضاً المتقي مهتد فكيف يهتدي ثانياً؟ والجواب أن المتقين لما كانوا هم المنتفعين بالهداية خصوا بالذكر مدحاً لهم كقوله تعالى**{ إنما أنت منذر من يخشاها }** [النازعات: 45]**{ إنما تنذر من اتبع الذكر }** [يس: 11] مع أنه صلى الله عليه وسلم منذر كل الناس. وأيضاً قوله " هدى للمتقين " كقولك للعزيز المكرم " أعزك الله وأكرمك " تريد طلب الزيادة واستدامة ما هو ثابت فيه. وبوجه آخر سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين نحو **" من قتل قتيلاً فله سلبه "** فهذا مجاز من باب تسمية الشيء بما هو آيل إليه واللطف فيه أنه لو قال هدى للصائرين إلى التقوى بعد الضلال كان إطناباً في غير موضعه، فإن تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده هو اللائق بالمقام، فاختص الكلام فإجرائه على الطريقة التي ذكرنا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإن قلت: كيف وصفت القرآن بأنه كله هدى وفيه مجمل ومتشابه لا يهتدي فيه إلى المقصود إلا بحكم العقل، فيكون الهدى في ذلك للعقل لا للقرآن؟ ومما يؤكد ما قلنا، ما نقل عن علي عليه السلام أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولاً إلى الخوارج: لا تحتج عليهم بالقرآن فإنه خصم ذو وجهين. ولهذا كان فرق الإسلام المحق منهم والمبطل يحتجون به، قلنا: المتشابه لما لم ينفك عما يبين المراد معه على التعيين عقلاً كان أو سمعاً صار كله هدى. فإن قيل: كل ما يتوقف صحة كون القرآن هدى على صحته كمعرفة الله تعالى وصفاته وكمعرفة النبوة، فالقرآن ليس هدى فيه فكيف جعل هدى على الإطلاق؟ قلنا: المراد كونه هدى في تعريف الشرائع والمطلق لا يقتضي العموم، أو كونه هدى في تأكيد ما في العقول أيضاً فيعم. الرابعة: محل " هدى للمتقين " الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف، أو خبر مع " لا ريب فيه " لذلك أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدم خبراً عنه، ويجوز أن ينتصب على الحال والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أنه يقال: " الم " جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، و " ذلك الكتاب " جملة ثانية، و " لا ريب فيه " ثالثة، و " هدى للمتقين " رابعة. وفقد العاطف بينها لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بحجرة بعض، لأنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقريراً لجهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان تسجيلاً بكماله، فلا كمال أكمل مما للحق واليقين، ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، ثم في كل من الجمل نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه كما مر في الوجه الثامن، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة أي الكتاب الذي يستأهل أن يقال له الكتاب، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر الذي هو هدى موضع هاد وإيراده منكراً والإيجاز في ذكر المتقين. البحث الخامس في قوله تعالى { الذين يؤمنون بالغيب }. الآية وفيه مسائل: الأولى: " الذين يؤمنون " إما موصول بالمتقين صفة، أو نصب على المدح، أو رفع كذلك بتقدير أعني الذين، أو هم الذين، أو مرفوع بالابتداء مخبر عنه " بأولئك على هدى ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الثانية: " الذين يؤمنون " على تقدير كونه صفة يكون إما وارداً بياناً وكشفاً وذلك إذا فسر المتقي بأنه الذي يفعل الحسنات ويجتنب السيئات، لأن الإيمان أساس الحسنات والصلاة أم العبادات البدنية قال صلى الله عليه وسلم: **" الصلاة عمادة الدين "** **" وبين العبد وبين الكفر ترك الصلاة "** والزكاة أفضل العبادات المالية قال صلى الله عليه وسلم: **" الزكاة قنطرة الإسلام "** فاختصر الكلام اختصاراً بذكر ما هو كالعنوان لسائر الطاعات وكالأصول لبواقي الحسنات ويندرج فيها اجتناب الفواحش والمنكرات لقوله عز من قائل**{ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }** [العنكبوت: 45] وإما مسرودة مع المتقين مفيدة غير فائدتها وذلك إذا فسر المتقي بالمجتنب عن المعاصي فقط. ثم إنه يكون قد وصف بالإيمان وهو فعل القلب وبأداء الصلاة والزكاة وهما من أفعال الجوارح، وهذا ترتيب مناسب لأن لوح القلب يجب تخليته عن النقوش الفاسدة أولاً، ثم تحليته بالعقائد الحقة والأخلاق الحميدة، وإما معدودة عداً على سبيل المدح والثناء وذلك إذا فرض المتقي موسوماً بهذه السمات، مشهوراً بهذه الصفات، غير محتاج لذلك إلى البيان والإيضاح كصفات الله الجارية عليه تعالى تمجيداً وتعظيماً. الثالثة: الأيمان إفعال من الأمن. يقال: أمنته وآمنته غيري. ثم يقال: أمنه إذا صدقه. وحقيقته أمنه التكذيب. والمخالفة والتعدية بالباء لتضمينه معنى أقر واعتبر ووثق به. قال في التفسير الكبير: اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان على أربعة أقوال: الأول: قول المعتزلة والخوارج والزيدية وأهل الحديث أنه اسم لأفعال القلوب واللسان والجوارح، لكن المعتزلة قالوا: الإيمان إذا عدي بالباء فمعناه التصديق على تضمين الإقرار أو الوثوق كما مر من حيث اللغة وأما إذا ذكر مطلقاً فمنقول إلى معنى آخر وهو أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه ويصدقه بعمله. فمن أخل بالاعتقاد وإن شهد وعمل فهو منافق، ومن أخل بالشهادة فهو كافر، ومن أخل بالعمل فهو فاسق. ثم اختلفوا فبعضهم - كواصل بن عطاء والقاضي عبد الجبار - قالوا: الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة، أو من باب الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات. وبعضهم - كأبي علي وأبي هاشم - إنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل، وبعضهم - كالنظام - إنه عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد. ثم يحتمل أن يكون من الكبائر ما لم يرد فيه الوعيد، فالمؤمن عند الله من اجتنب كل الكبائر، والمؤمن عندنا من اجتنب كل ما ورد فيه الوعيد. والخوارج قالوا: الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله وبكل ما وضع الله عليه دليلاً عقلياً أو نقلياً من الكتاب والسنة، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر به من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فمجموع هذه الأشياء هو الإيمان وترك خصلة من هذه الخصال كفر، وأهل الحديث ذكروا وجهين: الأول: أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة. وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيماناً إلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة. وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر، ثم كل معصية بعده كفر على حدة، ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار، ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد الجحود والإنكار. الثاني: أن الإيمان اسم للطاعات كلها فريضة أو نافلة إلا أنه إذا ترك فريضة انتقض إيمانه، وإن ترك نافلة لم ينتقض. ومنهم من قال: الإيمان اسم للفرائض دون النوافل. (القول الثاني): قول من قال الإيمان بالقلب واللسان معاً. ثم اختلفوا على مذاهب: الأول: أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالجنان وهو مذهب أبي حنيفة وعامة الفقهاء، ثم اختلفوا في موضعين: أحدهما في حقيقة هذه المعرفة، فمنهم من قال: هي الاعتقاد الجازم سواء كان اعتقاداً تقليدياً أو علماً صادراً عن الدليل وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلد مسلم، ومنهم من فسرها بالعلم الصادر عن الاستدلال. وثانيهما في أن العلم المعتبر في تحقق الإيمان علم بماذا؟ قال بعض المتكلمين: هو العلم بالله وبصفاته على سبيل التمام والكمال، ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى فلا جرم أقدم كل طائفة على تكفير من عداها من الطوائف، والإنصاف أن المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا العلم بكونه تعالى عالماً بالعلم أو بذاته أو مرئياً وغير مرئي لا يكون داخلاً في مسمى الإيمان. والمذهب الثاني: أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً وهو مذهب أبي الحسن الأشعري وبشر المريسي، والمراد من التصديق الكلام القائم بالنفس. المذهب الثالث: كلام بعض الصوفية الإيمان إقرار باللسان وإخلاص بالقلب. (القول الثالث): قول من قال الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط، فمن هؤلاء من قال: الإيمان معرفة الله بالقلب حتى إن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقر به فهو مؤمن كامل الإيمان وهو قول جهم بن صفوان، وزعم أن معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر غير داخلة في حقيقة الإيمان. وحكى الكعبي عنه أن الإيمان معرفة الله مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم. ومنهم من قال: الإيمان مجرد التصديق بالقلب. (القول الرابع). قول من قال الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، ثم منهم من قال: شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومنهم من قال: لا حاجة بنا إلى هذا الشرط أيضاً بل المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة يثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة وهذا قول الكرامية، ثم قال الإمام رحمه الله تعالى: عندي أن الإيمان عبارة عن التصديق بكل ما عرف بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم مع الاعتقاد فههنا قيود: الأول أن الإيمان عبارة عن التصديق، وذلك أن الإيمان أكثر الألفاظ دوراناً على ألسنة المسلمين، فلو صار منقولاً إلى غير مسماه الأصلي لتوفرت الدواعي على نقل هذا النقل وتواتر وليس كذلك. وأيضاً الإيمان المعدّى بالباء على أصله اتفاقاً، فغير المعدى أيضاً يكون كذلك كلما ذكر الله تعالى الإيمان في القرآن أضافه إلى القلب**{ وقلبه مطمئن بالإيمان }** [النحل: 106]**{ كتب في قلوبهم الإيمان }** [المجادلة: 22]**{ ولما يدخل الإيمان في قلوبكم }** [الحجرات: 14] وأيضاً قرن الإيمان بالعمل الصالح، ولو كان العمل داخلاً في الإيمان لزم التكرار. وأيضاً قرن الإيمان بالمعاصي**{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم }** [الأنعام: 83]**{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا }** [الحجرات: 9]**{ والذين آمنوا ولم يهاجروا }** [الأنفال: 72] ومع عظيم الوعيد في ترك الهجرة. قال ابن عباس في قوله تعالى:**{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص }** [البقرة: 178] إنما يجب القصاص على القاتل المتعمد، ومع ذلك يدخل في الخطاب. ثم قال:**{ فمن عفى له من أخيه شيء }** [البقرة: 178] وهذه الأخوة ليست إلا أخوة الإيمان**{ إنما المؤمنون إخوة }** [الحجرات: 10] ثم قال:**{ ذلك تخفيف من ربكم ورحمة }** [البقرة: 178] وهذا لا يليق إلا بالمؤمن. القيد الثاني: أن الإيمان ليس عبارة عن تصديق اللسان لقوله تعالى**{ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين }** [البقرة: 8]. القيد الثالث: ليس عبارة عن مطلق التصديق لأن من صدق بالجبت والطاغوت لا يسمى مؤمناً. القيد الرابع: لا يشترط التصديق بجميع صفات الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم **" اعتقها فإنها مؤمنة "** بعد قوله عليه الصلاة والسلام لها أين الله؟ قالت: في السماء. ويعلم مما ذكرنا أن من عرف الله بالدليل، ولما تم العرفان مات ووجد من الوقت ما أمكنه التلفظ بكلمة الشهادة لكنه لم يتلفظ بها كان مؤمناً، وكان الامتناع عن النطق جارياً مجرى المعاصي التي يؤتى بها مع الإيمان، وبهذا حكم الغزالي رضي الله عنه قلت: - وبالله التوفيق -: التحقيق في المقام أن للإيمان وجوداً في الأعيان ووجوداً في الأذهان ووجوداً في العبارة. ولا ريب أن الوجود العيني لكل شيء هو الأصل، وباقي الوجودات فرع وتابع. فالوجود العيني للإيمان هو النور الحاصل للقلب بسبب ارتفاع الحجاب بينه وبين الحق جل ذكره**{ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور }** [البقرة: 257] وهذا النور قابل للقوة والضعف والاشتداد والنقص كسائر الأنوار**{ وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً }** [الأنفال: 2] كلما ارتفع حجاب ازداد نوراً فيتقوى الإيمان ويتكامل إلى أن ينبسط نوره فينشرح الصدر ويطلع على حقائق الأشياء وتتجلى له الغيوب وغيوب الغيوب فيعرف كل شيء في موضعه، فيظهر له صدق الأنبياء عليهم السلام ولا سيما محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين في جميع ما أخبروا عنه إجمالاً أو تفصيلاً على حسب نوره، وبمقدار انشراح صدره، وينبعث من قلبه داعية العمل بكل مأمور والاجتناب عن كل محظور، فينضاف إلى نور معرفته أنوار الأخلاق الفاضلة والملكات الحميدة | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم }** [التحريم: 8]**{ نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء }** [النور: 35] وأما الوجود الذهني فبملاحظة المؤمن لهذا النور ومطالعته له ولمواقعه، وأما الوجود اللفظي فخلاصته ما اصطلح عليه الشارع بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يخفى أن مجرد التلفظ بقولنا " لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " من غير النور المذكور لا يفيد إلا كما يفيد للعطشان التلفظ بالماء الزلال دون التروي به، إلا أن التعبير عما في الضمير لما لم يتيسر إلا بواسطة النطق المفصح عن كل خفي والمعرب عن كل مشتبه، كان للتلفظ بكلمة الشهادة ولعدم التلفظ بها مدخل عظيم في الحكم بإيمان المرء وكفره، فصح جعل ذلك وما ينخرط في سلكه من العلامات، كعدم لبس الغيار وشد الزنار دليلاً عليهما، وتفويض أمر الباطن إلى عالم الخفيات المطلع على السرائر والنيات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: **" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ".** الرابعة: يجوز أن يكون بالغيب صلة للإيمان أي يعترفون أو يثقون به، وعلى هذا يكون الغيب بمعنى الغائب ما تسمية بالمصدر كما سمى الشاهد بالشهادة قال الله تعالى:**{ عالم الغيب والشهادة }** [الرعد: 9]، [المؤمنون: 92]، [التغابن: 18] والعرب تسمي المطئمن من الأرض غيباً، وإما أن يكون مخفف فيعل والمراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير، وإنما نعلم منه نحن ما أعلمناه أو نصب لنا دليل عليه، ولهذا لا يجوز أن يطلق فيقال: فلان يعلم الغيب، وذلك نحو الصانع وصفاته والنبوات وما يتعلق بها والبعث والنشور والحساب والوعد والوعيد وغير ذلك. ويجوز أن يكون بالغيب حالاً، والغيب بمعنى الغيبة والخفاء أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به وحقيقته متلبسين بالغيب نحو**{ الذين يخشون ربهم بالغيب }** [الأنبياء: 49]**{ ليعلم أني لم أخنه بالغيب }** [يوسف: 52] وفيه تعريض بالمنافقين حيث إن باطنهم يخالف ظاهرهم وغيبتهم تباين حضورهم**{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم }** [البقرة: 14] وقال بعض الشيعة: المراد بالغيب المهدي المنتظر الذي وعد الله في القرآن. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وورد في الخبر**{ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض }** [النور: 55] **" لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أمتي يواطئ اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً "** الخامسة: معنى إقامة الصلاة أحد ثلاثة اشياء: إما تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها من أقام العود إذا قومه، وإما الدوام عليها والمحافظة**{ والذين هم على صلاتهم دائمون }** [المعارج: 23]**{ والذين هم على صلاتهم يحافظون }** [المعارج: 24] من قامت السوق إذا نفقت وأقامها. قال الأسدي: أقامت غزالة سوق الضراب. لأهل العراقين حولاً قميطاً. غزالة اسم امرأة شبيب الخارجي، قتله الحجاج فحاربته سنة تامة. والضراب القتال، والعراقان الكوفة والبصرة، وقميطاً أي كاملاً لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات، وإما التجلد والتشمر لأدائها وأن لا يكون في مؤديها فتور عنها ولا توان من قولهم: قام في الأمر خلاف تقاعد عنه، فعبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت، والقنوت القيام - وبالركوع والسجود والتسبيح**{ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي }** [آل عمران: 43]**{ فلولا أنه كان من المسبحين }** [الصافات: 143] ولا يخفى أن إقامة الصلاة بجميع هذه المعاني تستحق المدح والثناء. السادسة: الصلاة في عرف الشرع عبارة عن إلهيات والأقوال المخصوصة التي مفتتحها التحريم ومختتمها التسليم فرضاً كانت أو نفلاً، إلا أنه يحتمل أن يقال المراد بها في الآية الفرض لأن الفلاح قد نيط بها في قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي " أفلح والله إن صدق " بعد قول الأعرابي " والله لا أزيد على هذه ولا أنقص " أي على الصلوات المفروضة. واشتقاقها لغة إما من الصلاة بمعنى الدعاء قال الأعشى: | **وقابلها الريح في دنها** | | **وصلى على دنها وارتسم** | | --- | --- | --- | أي وضع عليها الرسم وهو الخاتم وإما من قولهم " صليت العصا بالنار " إذا لينتها وقومتها قال: | **فلا تعجل بأمرك واستدمه** | | **فما صلي عصاك كمستديم** | | --- | --- | --- | والمصلي يسعى في تعديل ظاهره وتقويم باطنه كالخشب الذي يعرض على النار. وإما من قولهم " صلى الفرس " إذا جاء مصلياً أي ملازماً للسابق، لأن رأسه عند صلاة، والصلا ما عن يمين الذنب وشماله، والمصلي ملازم لفعله من حين شروعه إلى أوان فراغه. والصلاة اسم وضع موضع المصدر يقال: صليت صلاة ولا يقال تصلية. قال في الكشاف: الصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى. وكتبها بالواو على لفظ المفخم. وحقيقة صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، ولا يخفى ما فيه من التعسف. السابعة: الرزق لغة هو ما ينتفع به، فيشمل الحلال والحرام والمأكول وغيره والمملوك وغيره، والمعتزلة ومن يجري مجراهم زادوا قيداً آخر وهو أن لا يكون ممنوعاً عن الانتفاع به، وعلى هذا لا يكون الحرام عندهم رزقاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال في الكشاف: إسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال المطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله تعالى ويسمى رزقاً منه. وأدخل " من " التبعيضية صيانة لهم وكفاً عن الإسراف والتبذير المنهي عنه، وقدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم كأنه قال: ويخصون بعض المال الحلال بالتصدق به، والحق أن التمكين من الانتفاع بالمرزوق مسند إلى الله تعالى على الإطلاق، إذ كل بقدرته إلا أن مذهب المعتزلة إلى الأدب أقرب، ولا سيما في هذا المقام ليستحقوا المدح بالإنفاق منه. الثامنة: أنفق الشيء وأنفده أخوان، وكل ما فاؤه نون وعينه فاء يدل على معنى الخروج والذهاب، وما يقرب منه ويدخل في هذا الإنفاق الواجب من الزكاة التي هي أخت الصلاة وشقيقتها، ومن الإنفاق على النفس وعلى من تجب نفقته، ومن الإنفاق في الجهاد. ويمكن أن يتناول كل منفق في سبيل الخير للإطلاق قال تعالى**{ وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت }** [المنافقون: 10] والمراد به الصدقة لقوله**{ فأصدّق وأكن من الصالحين }** [المنافقون: 10]. البحث السادس: في قوله تعالى و " الذين يؤمنون " الآية. وفيه مسائل: الأولى: يحتمل أن يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه الذين اشتمل إيمانهم على كل وحي نزل من عند الله، سالف أو مترقب سبيله سبيل السالف لكونه معقوداً بعضه ببعض ومربوطاً آتيه بماضيه، وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات، وأن أهل الجنة لا يتلذذون إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيذ ونحو ذلك. فيكون المعطوف غير المعطوف عليه إما مغايرة المباينة وذلك إذا أريد بالأولين كل من آمن ابتداء بمحمد صلى الله عليه وسلم من غير إيمان قبل ذلك بموسى وعيسى عليهما السلام، وإما مغايرة الخاص للعام وذلك إذا أريد بالأولين كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما السلام أو لم يكن. ويكون السبب في ذكر هذا الخاص بعد العام إثبات شرف لهم وترغيباً لأمثالهم في الدين، ويحتمل أن يراد بهؤلاء الأولون، ووسط العاطف على معنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه كقوله: | **إلى الملك القرم وابن الهمام** | | **وليث الكتيبة في المزدحم** | | --- | --- | --- | | **يا لهف زيابة للحارث الـ** | | **ـصابح فالغانم فالآئـب** | الثانية: قال في التفسير الكبير: المراد من إنزال الوحي أن جبريل سمع في السماء كلاماً لله تعالى فنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم كما يقال: نزلت رسالة الأمير من القصر. والرسالة لا تنزل لكن المستمع يستمع الرسالة في علو فينزل فيؤدي في سفل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقول الأمير لا يفارق ذاته، ولكن السامع يسمع فينزل ويؤدي بلفظ نفسه. قال: فإن قيل: كيف سمع جبريل كلام الله وكلامه ليس حرفاً ولا صوتاً عندكم؟ قلنا: يحتمل أن يخلق الله له سمعاً لكلامه ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم. ويجوز أن يكون خلق الله في اللوح المحفوظ كتابه بهذا النظم المخصوص فقرأه جبرائيل فحفظه، ويجوز أن يخلق أصواتاً مقطعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فيتلقفه جبرائيل ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام. وأقول: إنك إذا تأملت ما أشرت إليه في المقدمة العاشرة من مقدمات الكتاب انكشف لك الغطاء عن هذه المسالة. الثالثة: الإيمان بجميع الكتب السماوية أعني التصديق بها واجب، لأن الفلاح منوط بذلك. فيجب تحصيل العلم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم التفصيل ليقوم بواجبه علماً وعملاً، لكنه فرض كفاية لقوله تعالى**{ وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين }** [التوبة: 122] الآية. وأما المنزل على الأنبياء المتقدمين فالإيمان به واجب على الجملة لأن الله تعالى ما تعبدنا الآن به حتى يلزمنا معرفتها مفصلة، لكنها إن عرفنا شيئاً من تفاصيلها فهناك يجب علينا الإيمان بتلك التفاصيل. الرابعة: الآخرة صفة الدار تلك الدار الآخرة وهي من الصفات الغالبة تأنيث الآخر نقيض الأول وكذلك الدنيا تأنيث الأدنى لأنها أقرب، واليقين هو العلم بالشيء ضرورة أو استدلالاً بعد أن كان صاحبه شاكاً فيه، ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه متيقن ولا يقال تيقنت أن السماء فوقي أو أني موجود. وفي تقديم الآخرة وبناء " يوقنون " على " هم " تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته ومن غير إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل على محمد وعلى غيره من الأنبياء، وهذا في معرض المدح ومعلوم أنه لا يمدح بتيقن وجود الآخرة فقط، بل به وبما يتبعه من الحساب والسؤال وإدخال المؤمنين الجنة والكافرين النار. عن النبي صلى الله عليه وسلم **" يا عجباً كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه، وعجباً ممن يعرف النشأة الأولى ثم ينكر النشأة الآخرة، وعجباً ممن ينكر البعث والنشور وهو كل يوم يموت ويحيا - يعني النوم واليقظة - وعجباً ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور، وعجباً من المتكبر الفخور وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة ".** البحث السابع: في قوله تعالى { أولئك على هدى من ربهم } الآية وفيه مسائل: الأولى: في كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه: أحدها نوى الابتداء " بالذين يؤمنون بالغيب " على سبيل الاستئناف و " أولئك على هدى " الجملة خبره، كأنه لما قيل " هدى للمتقين " فخص المتقون بأن الكتاب لهم هدى، اتجه لسائل أن يسأل فيقول: ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فأجيب بأن الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم أحقاء بأن يهديهم الله ويعطيهم الفلاح. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث نحو: قد أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان، وتارة بإعادة صفته مثل: أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك. فيكون الاستئناف بإعادة صفته مثل: أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك. فيكون الاستئناف بإعادة الصفة كما في الآية أحسن وأبلغ لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه. وثانيها: أن يجعل " الذين " و " الذين " تابعاً للمتقين، ويقع الاستئناف على " أولئك " كأنه قيل: ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فقيل: أولئك الموصوفون غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلاً وبالفلاح آجلاً. وثالثها: أن يجعل الموصول الأول صفة للمتقين ويرفع الثاني على الابتداء، و " أولئك " خبره، ويكون اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون في أنهم سيفلحون عند الله تعالى والفضل من هذه الوجوه لأولها لأن الكلام المبني على السؤال والجواب أكثر فائدة، ولأن الاستئناف بإعادة الصفة أبلغ ولأن السؤال على الوجه الأخير كالضائع، لأن موجبات اختصاصهم بالهدى قد علمت. وأيضاً إنه يجعل الموصولين تابعاً والوجه الأول يجعل الموصول الأول ركناً من الكلام. الثانية: الاستعلاء في قوله " على هدى " مثل لتمكنهم من الهدى كقولهم " هو على الحق وفلان على الباطل " وقد يصرح بذلك فيقال: جعل الغواية مركباً، وامتطى الحق، واقتعد غارب الهوى. ومعنى " هدى من ربهم أي منحوه من عنده وأوتوه من قبله، وهو إما اللطف والتوفيق الذي اعتضدوا به على أعمال الخير والترقي من الأفضل لأفضل، وإما الإرشاد إلى الدليل الموجب للثبات على ما اعتقدوه والدوام على ما عملوه. ونكر " هدى " ليفيد ضرباً من المبالغة أي هدى لا يبلغ كنهه. قال الهذلي: | **فلا وأبي الطير المربة بالضحى** | | **على خالد لقد وقعت على لحم** | | --- | --- | --- | أي لحم وأي لحم. وأربّ بالمكان إذا أقام به، والأب مقحم للاستعظام إذ الكنى إنما تكون للأشراف كما أن الإقسام بالطير أيضاً لاستعظامهن لوقوعهن على لحم عظيم، وعن بعضهم الهدى من الله كثير ولا يبصره إلا بصير ولا يعمل به إلا يسير، ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء ولا يهتدي بها إلا العلماء؟ الثالثة: في تكرير " أولئك " تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح فتميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ووسط العاطف بينهما لاختلاف خبريهما بخلاف قوله**{ أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون }** [الأعراف: 179] فإن التسجيل عليهم بالغفلة وعدّهم من جملة الأنعام شيء واحد. الرابعة: " هم " فصل وفائدته بعد الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة التوكيد، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره. ويحتمل أن يكون " هم " مبتدأ و " المفلحون " خبره، والجملة خبر " أولئك ". الخامسة: المفلح الفائز بالبغية، والمفلج بالجيم مثله كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر. وكذلك أخواته في الفاء والعين تدل على معنى الشق والفتح نحو: فلق، وفلذ، ومنه سمي الزارع فلاحاً. ومعنى التعريف في " المفلحون " إما العهد أي المتقون هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة، أو الجنس على معنى أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة كما تقول لصاحبك: هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام إن زيداً هو هو. فانظر كيف كرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة، فإن في ذكره أيذاناً بأن ما يرد عقيبه. فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عددت لهم، وتكرير اسم الإشارة وتعريف المفلحين وتوسيط الفصل، اللهم زينا بلباس التقوى واحشرنا في زمرة من صدّرت بذكرهم أولى الزهراوين. قد ورد في الخبر **" يحشر الناس يوم القيامة " ثم يقول الله عز وجل لهم: " طالما كنتم تتكلمون وأنا ساكت فاسكتوا اليوم حتى أتكلم، إني رفعت نسباً وأبيتم إلا أنسابكم قلت: إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأبيتم أنتم فقلتم: لا بل فلان ابن فلان، فرفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي، فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم، فسيعلم أهل الجمع من أصحاب الكرم أين المتقون "** فليأخذ العاقل بحكمة الله تعالى وهو نوط الثواب وتعليق العقاب بالعمل الصالح والسيء إلا بما هو غير مضبوط من عفوه عن بعض المذنبين وردّة طاعة بعض المطيعين، كما أن حكمته لما اقتضت ترتب الشبع والري على الأكل والشرب لم يعهد الاتكال على ما يمكن أن يقع بالنسبة إلى قدرته من إشباع شخص أو إروائه من غير تناول الطعام والشراب أو بالعكس، وهذه نكتة شريفة ينتفع بها من وفق لها إن شاء الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 20 | 21 | | | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ)
قوله تعالى: { الۤمۤ }: اختلف في الحروف التي في أوائل السور على قولَيْنِ؛ فقال الشَّعْبِيُّ، وسفيانُ الثوريُّ، وجماعةٌ من المحدِّثين: هي سر اللَّه في القرآن، وهي من المتشابه الذي انفرد اللَّه بعلمه، ولا يجب أن يُتكلَّم فيها، ولكن يؤمن بها، وتُمَرُّ كما جاءت، وقال الجمهور من العلماء، بل يجب أن يُتكلَّم فيها، وتلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرَّج عليها، واختلفوا في ذلك على اثنَيْ عَشَرَ قولاً. فقال عليٌّ، وابن عَبَّاس رضي اللَّه عنهما: الحروف المقطَّعة في القرآن: هي اسم اللَّه الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها. وقال ابن عبَّاس أيضًا: هي أسماء اللَّه أقسم بها، وقال أيضًا: هي حروف تدلُّ على: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَا اللَّهُ أَرَىٰ، وقال قومٌ:........ هي حسابُ أَبِي جَاد؛ لتدلَّ على مدَّة ملَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ كما ورد في حديث حُيَـــيِّ بن أَخْطب، وهو قول أبي العالية وغيره. \* ت \*: وإِليه مال السُّهَيْلِيُّ في «الرَّوْضِ الأُنُفِ»، فٱنظره. قوله تعالىٰ: { ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }: الاسمُ من «ذَلِكَ»: الذال، والألف، واللام؛ لبعد المشار إليه، والكاف للخطاب. واختلف في «ذَلِكَ» هنا؛ فقيل: هو بمعنى «هَذَا»، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف من القرآن، وذلك أنه قد يشار بذلك إلى حاضرٍ تعلَّق به بعضُ غَيْبَةٍ، وقيل: هو على بابه، إِشارةً إِلى غائب. واختلفوا في ذلك الغائب؛ فقيل: ما قد كان نزل في القرآن، وقيل غير ذلك؛ انظره. و { لاَ رَيْبَ فِيهِ }: معناه: لا شَكَّ فيه، و { هُدًى }: معناه إِرشادٌ وبيانٌ، وقوله: { لِّلْمُتَّقِينَ }: اللفظ مأخوذ من «وَقَىٰ»، والمعنى: الذين يَتَّقُونَ اللَّه تعالَىٰ بٱمتثالِ أوامره، واجتناب معاصيه، كان ذلك وقايةً بينهم وبين عذابه. قوله تعالَىٰ: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ }. { يُؤْمِنُونَ }: معناه يُصَدِّقون، وقوله: { بِٱلْغَيْبِ } قالت طائفةٌ: معناه: يُصَدِّقون، إِذا غَابُوا وَخَلَوْا، لا كالمنافقين الَّذين يؤمنون إذَا حضروا، ويكْفُرُونَ إِذا غابوا، وقال آخرون: معناه: يصدِّقون بما غاب عنهم مما أخبرتْ به الشرائعُ، وقوله: { يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ } معناه: يظهرونها ويثبتونها؛ كما يقال: أُقِيمَتِ السُّوقُ. \* ت \*: وقال أبو عبد اللَّه النَّحْوِيُّ في ٱختصارِهِ لتفسيرِ الطَّبَرِيِّ: إِقامة الصلاة إتمام الركوع، والسجود، والتلاوة، والخشوع، والإِقبال عليها. انتهى. قال: \* ص \*: يقيمون الصلاةَ من التقويمِ؛ ومنه: أَقَمْتُ العُودَ، أو الإِْدَامَةِ؛ ومنه: قامتِ السُّوقُ، أو التشميرِ والنهوضِ؛ ومنه: قام بالأمر. انتهى. وقوله تعالى: { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ }: الرزْقُ عند أهل السنة ما صَحَّ الانتفاع به، حلالاً كان أو حرامًا، و { يُنفِقُونَ }: معناه هنا: يؤْتُونَ ما ألزمهُمُ الشرعُ من زكاةٍ، وما ندبهم إِلَيْهِ من غير ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ)
إن قيل: إن الحروف المقطّعة في أوائل السور أسماء حروف التهجِّي، بمعنى أن الميم اسم لـ " مَهْ " والعين لـ " عَهْ " ، وإن فائدتها إعلامهم بأن هذا القرآن منتظمٌ من جنس ما تنتظمون من كلامكم، ولكن عجزتم عنه، فلا محلّ لها حينئذ من الإعراب، وإنما جيء بها لهذه الفائدة، فألقيت كأسماء الأعداد ونحو: " واحد اثنان " ، وهذا أصح الأقوال الثلاثة، أعني أن في الأسماء التي لم يقصد الإخبار عنها ولا بها ثلاثة أقوال: أحدها: ما تقدم. والثاني: أنها معربة، بمعنى أنها صالحة للإعراب، وإنما فات شرطه وهو التركيب، وإليه مال الزمخشري رحمه الله. والثالث: أنها موقوفة أي لا معربة ولا مبنيةٌ. أو إن قيل: إنها أسماء السور المفتتحة بها، أو إنها بعض أسماء الله - تعالى - حذف بعضها، وبقي منها هذه الحروف دالّة عليها وهو رأي ابن عَبّاس - رضي الله تعالى عنهما - كقوله: الميم من " عليهم " ، والصاد من " صادق " ، فلها حينئذ محلّ من الإعراب ويحتمل الرفع والنصب والجر: فالرفع على أحد وجهين: إما بكونها مبتدأ، وإما بكونها خبراً كما سيأتي بيانه مفصلاً إن شاء الله تعالى. والنصب على أحد وجهين أيضاً: إما بإضمار فعلٍ لائقٍ، تقديره: اقرءوا: " الم " ، وإما بإسقاط حرف القسم؛ كقول الشاعر: [الوافر] | **97- إِذا مَا الْخُبْزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ** | | **فَذَاكَ أَمَانَةَ اللهِ الثَّرِيدُ** | | --- | --- | --- | يريد: وأَمَانَةِ اللهِ. وكذلك هذه الحروف أقسم الله بها. وقد رد الزَّمَخْشَرِيّ هذا الوجه بما معناه: أنّ القرآن في:**{ صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ }** [ص: 1] والقلم في**{ نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ }** [القلم: 1] محلوف بهما لظهور الجرّ فيهما، وحينئذ لا يخلو أن تُجْعَل الواو الداخلة عليها للقسم، أو للعطف، والأول يلزم منه محذور، وهو الجمع بين قسمين على مقسم قال: [وهم يستكرهون] ذلك. والثاني ممنوع، لظهور الجَرّ فيما بعدها، والفرض أنك قدرت المعطوف عليه من مَحَلّ نصب، وهو رَدّ واضح، إلا أن يقال: في محلّ نصب إلا فيما ظهر فيه الجر [فيما بعده] كالموضعين المتقدمين؛**{ حـمۤ وَٱلْكِتَابِ }** [الزخرف: 1-2]، و**{ قۤ وَٱلْقُرْءَانِ }** [ق: 1] ولكن القائل بذلك لم يفرق بين موضع وموضع، فالرد لازم كله. والجَرّ من وجهٍ واحدٍ، وهو أنها مقسم بها، حذف حرف القسم، وبقي عمله كقولهم: " اللهِ لأفعلنَّ " أجاز ذلك الزمخشري، وأبو البقاء رحمهما الله، وهذا ضعيف؛ لأن ذلك من خصائص الجَلاَلَة المعظمة لا يشاركها فيه غيرها. فتخلص مما تقدم أن في " الم " ونحوها ستة أوجه وهي: أنها لا محل لها من الإعراب، أَوْ لَهَا محل، وهو الرفع بالابتداء، أو الخبر. والنَّصْب بإضمار فعل، أو حذف حرف القسم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والجَرّ بإضمار حرف القسم. فصل في الحروف المقطعة سئل الشعبي - رحمه الله تعالى - عن هذه الحروف فقال: سرّ الله، فلا تطلبوه. وروى أبو ظِبْيَانَ عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: عجزت العلماء عن إدْرَاكِهَا، وقال الشعبي وجماعة رحمهم الله سائر حروف التهجّي في أوائل السور من المتشابهة الذي استأثر الله بعلمه، وهي سرّ القرآن؛ فنحن نؤمن بظاهرها، ونَكِلُ العلمَ فيها إلى الله تعالى. قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: " في كل كتاب سِرّ، وسرُّ الله - تعالى - في القرآن أوائل السور ". ونقل ابنُ الخَطِيْبِ رحمه الله أن المتكلمين أنكروا هذا القول، وقالوا: لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لاَ يَكُونُ مفهوماً للخلق، واحتجوا عليه بآيات منها: قوله تبارك وتعالى:**{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ }** [محمد: 24] بالتدُّبر في القرآن، ولو كان غير مفهوم، فكيف يأمر بالتدبّر فيه. وكذا قوله:**{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً }** [النساء: 82] فكيف يأمر بالتدبُّر لمعرفة نفي التَّنَاقض والاختلاف، وهو غير مفهوم للخلق؟ ومنها قوله تعالى:**{ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ }** [الشعراء: 193- 195]، فلو لم يكن مفهوماً بطل كون الرسول - عليه السلام - منذراً به، وأيضاً قوله:**{ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ }** [الشعراء:195] يدلّ على أنه نازلٌ بلغة العَرَبِ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مفهوماً. ومنها قوله تعالى:**{ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ }** [النساء: 83]، والاستنباط منه لا يمكن إلاّ مع الإحاطة بمعناه. ومنها قوله تعالى:**{ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ }** [النحل: 89]. وقوله تعالى:**{ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ }** [الأنعام: 38]. وقوله تعالى:**{ هُدًى لِّلنَّاسِ }** [البقرة: 185]، { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2]، وغير المعلوم لا يكون هُدًى. وقوله تعالى:**{ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ }** [يونس: 57] وكل هذه الصفات لا تحصر في غير المعلوم. وقوله تبارك وتعالى:**{ قَدْ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ }** [المائدة: 15]. وقوله تعالى:**{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }** [العنكبوت: 51] فكيف يكون الكتاب كافياً وكيف يكون ذكره مع أنه غير مفهوم؟ وقوله تعالى:**{ هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ }** [إبراهيم: 52]، فيكف يكون بلاغاً؟ وكيف يقع به الإنذار، مع أنه غير معلوم؟ وقال في آخر الآية:**{ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }** [إبراهيم:52]، وإنما يكون كذلك لو كان معلوماً. وقوله تعالى:**{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }** [الإسراء: 9] فكيف يكون هاديا مع أنه غير معلوم، ومن الأخبار قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: **" إنِّي تَركْتُ فيكم ما إِنْ تَمَسَّكْتُمْ به لن تَضِلُّوا بَعْدِي أبداً كتابَ الله وسُنَّتي "** فكيف يمكن التمسُّك به وهو غير معلوم؟ وعن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه - أنه - عليه الصلاة والسّلام - قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" عليكم بكتاب الله - فيه نَبَأُ ما قبلكم، وخبر مَنْ بَعْدَكم، وحُكْم ما بينكم هو الفَصْلُ ليس بالهَزْلِ، من تركه من جَبَّار قَصَمَهُ الله تعالى. ومن اتَّبَعَ الهدى في غيره أضَلّه الله - تعالى - هو حَبْلُ الله المتين، والذكر الحكيم، والصِّراط المستقيمُ، وهو الذي لا تزيغُ به الأهواء، ولا تشبع به العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرَّد ولا تنقضي عَجَائبه، مَنْ قَالَ به صَدَقَ، ومن حكم به عَدَل، ومن خاصم به فَلَج، ومن دَعَا إليه هُدِيَ إلى صِرَاط مستقيم ".** ومن المعقول أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العِلْم إلاّ به لكانت المُخَاطبة به نحو مُخَاطبة العرب باللّغة الزنجية، ولما لم يَجُزْ ذلك فكذا هذا. وأيضاً المقصود من الكلام الإفهام، فلو لم يكن مفهوماً لكانت المُخَاطبة عبثاً وسفهاً، وهو لا يليق بالحكيم. وأيضاً أنَّ التَّحدِّي وقع بالقرآن، وما لا يكون معلوماً لا يجوز وقوع التَّحدِّي به. واحتجّ مخالفوهم بالآية، والخَبَرِ، والمعقول. أما الآية فهو أن المُتشَابه من القرآن، وأنه غير معلوم؛ لقوله تَعَالَى:**{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ }** [آل عمران: 7] والوقف هاهنا، لوجوه: أحدها: أن قوله تَعَالَى: " والراسخون في العلم " لو كان معطوفاً على قوله تعالى " إِلاَّ الله " لبقي قوله: " يقولون آمنا به " منقطعاً عنه، وإنه غير جائزٍ؛ لأنه لا يقال: إنّه حال، لأنا نقول: فحينئذ يرجع إلى كُلّ ما تقدم، فيلزم أن يكون الله تعالى قائلاً:**{ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا }** [آل عمران:7] وهذا كفر. وثانيها: أن الراسخين في العلم لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه، فإنّهم لما عرفوه بالدّلالة لم يكن الإيمان به إلاّ كالإيمان بالمُحْكَم، فلا يكون في الإيمان به مزيد مَدْحٍ. وثالثها: أن تأويلها كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذمًّا، لكن قد جعله ذمًّا حيث قال:**{ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ }** [آل عمران: 7] وأما الخبر فروي أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال: **" إنَّ من العلم كهيئة المَكْنُون لا يعلمه إلاّ العُلَماء بالله تعالى فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرّة بالله ".** ولأن القول بأن هذه الفَوَاتح غير معلومة مروي عن أكابر الصَّحابة رضي الله عنهم فوجب أن يكون حقًّا، لقوله عليه الصلاة والسلام: **" أَصْحَابي كالنُّجُوم بأيّهم اقْتَدَيْتُمُ اهتديتم ".** وأما المعقول فهو أنَّ الأفعال التي كلّفنا الله تعالى بها قسمان: منها ما يعرف وَجْه الحكمة فيه على الجُمْلة بعقولنا كالصَّلاة والزكاة والصَّوم، فإنَّ الصَّلاة تضرُّع محضٌ، وتواضعُ للخالق، والزكاة سَعْي في دَفْعِ حاجة الفقير، والصّوم سعي في كسر الشهوة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومنها ما لا يعرف وَجْهُ الحكمة فيها على الجملة بعقولنا كأفعال الحَجّ في رَمْيِ الجَمَرَات، والسَّعي بين الصفا والمروة، والرَّمل، والاضْطِبَاع. ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله - تعالى - أن يأمر عباده بالنوع الأول، فكذا يحسن الأمر بالنوع الثاني؛ لأنّ الطَّاعة في النوع الأول، تدلُّ على كمال الانقياد والتسليم، لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وَجْهِ المصلحة فيه. أما الطاعة في النوع الثاني، فإِنها تدلّ على كمال الانقياد والتسليم، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال، فلم لا يجوز أيضاً أن يكون [الأمر] كذلك في الأقوال؟ وهو أن يأمر الله - تعالى - تارةً أن نتكلم بما نقف على معناه، وتارةً بما لا نقف على معناه، ويكون المَقْصُود من ذلك ظهور الانقياد والتَّسليم. القول الثَّاني: قول من زعم أنَّ هذه الفَوَاتح معلومةٌ، واختلفوا فيه، وذكروا وجوهاً: الأوّل: أنها أسماء السّور، وهو قول أكثر المتكلّمين، واختيار الخليل وسيبويه رحمهما الله تعالى. قال القَفّال - رحمه الله تعالى - وقد سّمت العرب هذه الحروف أشياء فسموا بـ " لام ": والد حارثة بن لام الطَّائي، وكقولهم للنَّخاس: " صاد " ، وللنقد: " عين " ، وللسحاب: " غين ". وقالوا: جبل " قاف " ، وسموا الحوت: " نوناً ". الثاني: أنها أسماء الله تَعَالى، روي عن علي - رضي الله تَعَالى عنه - أنه كان يقول: يا حم عسق. الثالث: أنها أبعاض أسماء الله تَعَالى. قال سعيد بن جبير رحمه الله: قوله: " الر، حم، ونون " مجموعها هو اسم الرحمن، ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البَوَاقي. الرابع: أنها أسماء القرآن، وهو قول الكَلْبِيّ - رحمه الله تعالى - والسّدي وقتادة رضي الله تعالى عنهم. الخامس: أن كلّ واحد منها دالّ على اسم من أسماء الله - تعالى - وصفة من صفاته. قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - في " الم ": " الألف إشارة إلى أنه [أحد، أول، آخر، أزلي، " واللام " إشارة إلى أنه لطيف، " والميم " إشارة إلى أنه] مَلِك مَجِيد مَنَّان ". وقال في " كهيعص ": إنه ثناء من الله - تعالى - على نفسه، " والكاف " يدل على كونه كافياً، " والهاء " على كونه هادياً، " والعين " على العالم، " والصاد " على الصادق. وذكر ابن ابن جريرٍ عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه حمل " الكاف " على الكبير والكريم، " والياء " على أن الله يجير، " والعين " على أن الله العزيز والعدل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصّص كل واحد من هذه الحروف باسم معين، وفي الثاني ليس كذلك. السادس: بعضها يدلّ على أسماء الذات، وبعضها على أسماء الصّفات. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في " الم " أنا الله أعلم، وفي " المص " أنا الله أفصل، وفي " الر " أنا الله أرى، وهذه رواية أبي صالح، وسعيد بن جبير عنه. قال الزَّجَّاج: وهذا أحسن، فإن العرب تذكر حرفاً من كلمة تريدها كقولهم: [مشطور السريع] | **98- قُلْنَا لَهَا: قِفِي لَنَا قََالَتْ: قَافْ** | | **………………..** | | --- | --- | --- | وأنشد سيبويه لغيلان: [الرجز] | **99- نَادَوْهُمْ أَنَ الْجِمُوا، أَلاَ تَا** | | **قَالُوا جَمِيعاً كُلُّهُمْ أَلاَ فَا** | | --- | --- | --- | أي: لا تَرْكَبُوا، قالوا: بَلَى فَارْكَبُوا. وأنشد قُطْرب: [الرجز] | **100- جَارِيَةٌ قَدْ وَعَدَتْنِي أَنْ تَا** | | **تَدْهُنَ رَأْسي وَتُفَلِّيني وَتَا** | | --- | --- | --- | السّابع: كلّ واحد منها يدلّ على صفات الأفعال، فـ " الألف " آلاَؤه، و " اللاّم " لُطْفه، و " الميم " مَجْدُه، قاله محمد بن كَعْبٍ القُرَظي. الثَّامن: بعضها يدلّ على أسماء الله - تعالى - وبعضها يدلّ على أسماء غير الله تعالى. قال الضَّحاك: " الألف " من الله، و " اللام " من جبريل، و " الميم " من محمد عليه الصَّلاة والسلام [أَي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام]. التاسع: ما قاله المبرّد: واختاره جمعٌ عظيم من المحقّقين - أنّ الله - تعالى - إنَّمَا ذكرها احتجاجاً على الكُفّار، وذلك أن الرَّسول - عليه الصَّلاة والسّلام - لما تحدّاهم أن يأتوا بِمِثْلِ القرآن، أو بِعَشْرِ سُوَرٍ، أو بسورة، فعجزوا عنه أنزلت هذه الأحرف تنبيهاً على أن القرآن ليس إلاّ من هذه الأحرف، وأنتم قادرون عليها، وعارفون بقوانين الفَصَاحة، فكان يجب أن تأتوا بِمِثْلِ هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دلّ ذلك على أنه من عِنْدِ الله لا من البَشَرِ. العاشر: قول أبي روق وقُطْرب: إن الكُفَّار لما قالوا:**{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ }** [فصلت: 26] وتواصوا بالإعراض عنه أراد الله - تعالى - لما أحب صلاحهم ونفعهم أن يُورِدَ عليهم ما لا يعرفونه، ليكون ذلك سبباً لإسْكَاتهم، واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن، فأنزل الله - تعالى - عليهم هذه الأحرف، فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عليه الصلاة والسلام، فإذا أصغوا هجم عليهم القُرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم، وطريقاً إلى انتفاعهم، فكان كالتنبيه لما يأتي بعده من الكلام كقوله الأول. الحادي عشر: قول أبي العَالِيَةِ " إنّ كل حرف منها في مُدّة أعوام وآجال آخرين ". قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: سُرّ أبو ياسِر بن أَخْطَب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يَتْلُو سورة البقرة { الم ذَلِكَ الكِتَابُ } ، ثم أتى أخوه حُيَيُّ بن أَخْطَب، وكَعْب بن الأَشْرَف، وسألوه عن " الم " وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحقّ أنها أَتَتْكَ من السماء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " نعم كذلك نزلت " ، فقال حُيَيّ: إن كنت صادقاً إني لأعلم أَجَلَ هذه الأمة من السنين، ثم قال: كيف ندخل في دين رجل دلّت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أَجَل مُدّته إحدى وسبعون سنةً، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال حُيَيّ: فهل غير هذا؟ قال: " نعم المص " فقال حُيَيّ: هذا أكثر من الأولى هذه مائة وإحدى وثلاثون سنة، فهل غير هذا؟ قال: " نعم الر " قال حُيَيّ: هذه أكثر من الأولى والثانية، فنحن نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنةً، فهل غير هذا؟ قال: " نعم " قال: " المر " قال: فنحن نشهد أنا من الذين لا يؤمنون، ولا ندري بأي أقوالك نأخذ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فقال أبو ياسر: أما أنا فأشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عن مُلْكِ هذه الأمّة، ولم يبينوا أنها كم تكون، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول، إني لأراه يستجمع له هذا كله فقام اليهود، وقالوا اشتبه علينا أمرك، فلا ندري أَبِالْقَلِيْلِ نأخذ أم بالكثير؟ فذلك قوله تعالى:**{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ }** [آل عمران: 7] الآية الكريمة. ورُوي عن ابن عَبّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنها أقسام. وقال الأخفش: أقسم الله - تعالى - لشرفها وفضلها؛ لأنها مبادىء كتبه المنزلة، ومباني أسمائه الحسنى. وقيل فيها غير ذلك. واعلم أن الله - تعالى - أورد في هذه الفَوَاتح نصف عدد أَسامي حروف المُعْجَم، وهي أربعة عشر: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والباء، والنون في تسع وعشرين سورة. وجاءت أيضاً مختلفة الأعداد، فوردت " ص ق ن " على حرف. و " طه وطس ويس وحم " على حرفين. و " الم والر وطسم " على ثلاثة أحرف. و " المص والمر " على أربعة أحرف. و " كهيعص وحم عسق " على خمسة أحرف، والسبب فيه أن أبنية كلامهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف، فكذا هاهنا. قوله: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } يجوز في " ذلك " أن تكون مبتدأ ثانياً، و " الكتاب " خبره، والجملة خبر " الم " ، وأغنى الربط باسم الإشَارة، ويجوز أن يكون " الم " مبتدأ. و " ذلك " خبره، و " الكتاب " صفة لـ " ذلك " ، أو بدل منه، أو عطف بيان، وأن يكون " الم " نبتدأ، و " ذلك " مبتدأ ثانٍ، و " الكتاب ": إما صفة له، أو بدل منه، أو عطف بيان له. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | و " لا ريب فيه " [خبر] عن المبتدأ الثاني، وهو خبره خبر عن الأول. ويجوز أن يكون " الم " خبر مبتدأه مضمر، تقديره: " هذا الم " ، فتكون جملة مستقلة بنفسها، ويكون " ذلك " مبتدأ ثانياً، و " الكتاب " خبره. ويجوز أن يكون صفة له، أو بدلاً، أو بياناً، و " لا ريب فيه " هو الخبر عن " ذلك " أو يكون " الكتاب " خبراً لـ " ذلك " ، و " لا ريب فيه " خبر ثان، وفيه نظر من حيث إنه تعدّد الخبر، وأحدهما جملة، لكن الظاهر جوازه؛ كقوله تعالى:**{ فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ }** [طه: 20]، إذا قيل بأن " تسعى " خبر. وأما إن جُعِلَ صفة فلا. و " ذلك " اسم إشارة: الاسم منه " ذا " ، و " اللاَّم " للبعد، و " الكاف " للخطاب، ولها ثلاث رُتَب: دُنْيَا: ولها المُجَرّد من اللام والكاف نحو: " ذا وذي " و " هذا وهذي ". وَوُسْطَى: ولها المتّصل بحرف الخطاب، نحو " ذاك وذيك وتيك ". وقُصْوَى: ولها المتّصل بـ " اللام " و " الكاف " نحو: " ذلك وتلك ". ولا يجوز أن تأتي بـ " اللام " إلاّ مع " الكاف " ، ويجوز دخول حرف التَّنبيه على سائر أسماء الإشارة إلاّ مع " اللاَّم " ، فيمتنع للطول. وبعض النحويين لم يذكر إلاّ رتبتين: دُنْيَا وغيرها. واختلف النحويون في " ذا " هل هو ثلاثي الوضع أم أصله حرف واحد؟ الأول قول البصريين، ثم اختلفوا على عينه ولامه ياء، فيكون من باب " حيي " ، أو غينه واو ولامه ياء فيكون من باب " غويت " ثم حذفت لامه تخفيفاً، وقلبت العين ألفاً لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وهذا كله على سبيل التّمرين. وأيَّا فهذا مبني، والمبني لا يدخله تصريف، وإنما جيء هنا بإشارة البعيد تعظيماً للمُشَار إليه ومنه: [الطويل] | **101- أَقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ** | | **تَأَمَّلْ خُفَافاً إِنَّنِي أنا ذَلِكَا** | | --- | --- | --- | أو لأنه لما نزل من السَّماء إلى الأرض أشير بإشارة البعيد. أو لأنه كان موجوداً به بنبيّه عليه الصلاة والسلام. أو أنه أشير به إلى ما قضاه وقدّره في اللَّوح المحفوظ. وفي عبارة المفسرين أشير بذلك إلى الغائب يعنون البعيد، وإلا فالمشار إليه لا يكون إلا حاضراً ذِهْناً أو حِسّاً، فعبروا عن الحاضر ذِهْناً بالغائب أي حسّا وتحريراً لقول ما ذكرته لك. وقال الأصَمّ وابن كيْسَان: إن الله - تعالى - أنزل قبل سورة " البقرة " سوراً كذب بها المشركون، ثم أنزل سورة " البقرة " فقال: " ذلك الكتاب " يعني ما تقدّم " البقرة " من السّور لا شك فيه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال ابن الخَطِيب رحمه الله تعالى: سلّمنا أن المُشَار إليه حاضر، لكن لا نسلّم أن لفظة " ذلك " لا يشار بها إلا إلى البعيد. بيانه: أن " ذلك " و " هذا " حرف إشارة، وأصلهما " ذا " لأنه حرف الإشارة، قال تعالى:**{ مَّن ذَا ٱلَّذِي }** [البقرة: 245]. ومعنى " ها " تنبيه، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل: هذا، أي: تَنَبَّهْ أيّها المُخَاطب لما أشرت إليه، فإنه حاضر معك بحيث تَرَاه، وقد تدخل " الكاف " على " ذَا " للمخاطبة، و " اللام " لتأكيد معنى الإشارة، فقيل: " ذلك " ، فكأن المتكلّم بالغ في التنبيه لتأخّر المُشَار إليه عنه، فهذا يدلّ على أن لفظة " ذلك " لا تفيد البُعْد في أصل الوَضْع، بل اختص في العُرْف بالفرس، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدبّ على الأرض. وإذا ثبت هذا فنقول: إنا نحمله ها هنا على مقتضى الوضع اللّغوي، لا على مقتضى الوضع العرفي، وحينئذ لا يفيد البُعْد، ولأجل هذه المُقَارنة قام كلّ واحد من اللَّفْظَين مقام الآخر. قال تعالى:**{ وَٱذْكُرْ عِبَٰدَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَٰقَ }** [ص: 45]، إلى قوله:**{ وَكُلٌّ مِّنَ ٱلأَخْيَارِ }** [ص: 48] ثم قال:**{ هَـٰذَا ذِكْرٌ }** [ص: 49] وقال:**{ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ }** [ص: 52- 53]. وقال:**{ وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ }** [ق: 19]. وقال تعالى:**{ فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلآخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ }** [النازعات: 24-25]. وقال تعالى:**{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي ٱلزَّبُورِ }** [الأنبياء: 105] وقال تعالى:**{ إِنَّ فِي هَـٰذَا لَبَلاَغاً }** [الأنبياء: 106]. وقال:**{ فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ }** [البقرة: 73] [أي هكذا يحيي الموتى]. وقال:**{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰمُوسَىٰ }** [طه: 18] أي ما هذه التي بيمينك. و " الكتاب " في الأصل مصدر؛ قال تعالى:**{ كِتَابَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ }** [النساء: 24] وقد يراد به المكتوب، قال الشاعر: [الطويل] | **102- بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رأَيْتُ صَحِيفَةً** | | **أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا** | | --- | --- | --- | ومثله [الوافر] | **103- تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مِنِّي وفِيهاَ** | | **كِتَابٌ مِثْلُ مَا لَصِقَ الْغِرَاءُ** | | --- | --- | --- | وأصل هذه المادة الدّلالة على الجَمْعِ، ومنه كتيبة الجَيْش، وكَتَبْتُ القربة، وكَتَبْتُ القربة: خَرَزْتُها، وَالكُتَبة -بضم " الكاف " الخرزة، والجمع كَتَب، قال: [البسيط] | **104- وَفْرَاءَ غَرْفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزُهَا** | | **مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الْكُتَبُ** | | --- | --- | --- | وكَتَبْتُ الدَّابة [إذا جَمَعْتَ بين شُفْرَي رَحِمِها بِحَلْقَةٍ أَو سَيْرٍ] قال الشاعر: [البسيط] | **105- لاَ تَأْمَنَنَّ فَزَارِيَّا حَلَلْتَ بِهِ** | | **عَلَى قَلُوصِكَ واكتُبْهَا بِإِسْيَارِ** | | --- | --- | --- | والكتابة عرفاً ضمّ بعض حروف الهجاء إلى بعض. قال ابن الخطيب: واتفقوا على أنَّ المراد من الكتاب القرآن، قال تبارك وتعالى:**{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ }** [ص: 29]. والكتاب جاء في القرآن جاء في القرآن على وجوه: أحدها: الفرض | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ }** [البقرة: 178]**{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ }** [البقرة: 183]،**{ إِنَّ ٱلصَّلَٰوةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً }** [النساء: 103]. ثانيها: الحُجَّة والبُرْهان:**{ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }** [الصافات: 157] أي: بِبُرْهانكم وحجّتكم. ثالثها: الأَجَل:**{ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ }** [الحجر: 4] أي: أَجَل. رابعها: بمعي مُكَاتبة السيد عبده:**{ وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }** [النور: 33] وهذا المصدر " فِعَال " بمعنى " المُفَاعلة " كالجِدَال والخَصَام والقِتَال بمعنى: المُجَادلة والمُخَاصمة والمُقَاتلة. والكتاب - هنا - المُرَاد به القرآن، وله أسماء: أحدها: الكِتَاب كما تقدم. وثانيها: القُرْآن:**{ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً }** [الزخرف: 3]،**{ شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ }** [البقرة: 185]. وثالثها: الفُرْقَان:**{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ }** [الفرقان: 1]. ورابعها: الذِّكْر، والتَّذْكِرَة، والذِّكْرَى:**{ وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ }** [الأنبياء: 50]،**{ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ }** [الحاقة: 48] وقوله تعالى:**{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ }** [الذاريات: 55]. وخامسها: التَّنْزِيل:**{ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [الشعراء: 192]. وسادسها: الحديث:**{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ }** [الزمر: 23]. وسابعها: المَوْعِظَة:**{ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ }** [يونس: 57]. وثامنها: الحُكْم، والحِكْمَة، والحَكِيم، والمُحْكَم:**{ وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً }** [الرعد: 37]،**{ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ }** [القمر: 5]،**{ يسۤ وَٱلْقُرْءَانِ ٱلْحَكِيمِ }** [يس: 1-2]،**{ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ }** [هود: 1]. وتاسعها: الشِّفَاء:**{ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ }** [الإسراء: 82]. وعاشرها: الهُدَى، والهَادِي**{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }** [البقرة: 2]،**{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }** [الإسراء: 9]،**{ قُرْءَاناً عَجَباً يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ }** [الجن: 1-2]. وذكروا له أسماء أُخَر منها: " الصِّرَاط المستقيم، والعِصْمَة، والرَّحْمَة، والرُّوح، والقَصَص، والبَيَان، والتِّبْيَان، والمُبِين، والبَصَائر، والفَصْلُ، والنُّجُوم، والمَثَاني، والنّعْمَة، والبُرْهَان، والبَشِير، والنَّذِير، والقَيِّم، والمُهَيْمِن، والنور، والحق، والعزيز، والكريم، والعظيم، والمبارك ". قوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ }. يجوز أن يكون خبراً كما تقدّم بيانه. قال بعضهم: هو خبر بمعنى النّهي، أي: لا ترتابوا فيه كقوله تعالى:**{ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ }** [البقرة: 197] أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا. قرأ ابن كثير: " فِيهِ " بالإشباع في الوَصْلِ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلاً ما لم يَلِهَا ساكن، ثم إن كان السَّاكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسر ياء، وإنْ كان غيرها يشبعها بالضم واواً، ووافقه حفص في قوله:**{ فِيهِ مُهَاناً }** [الفرقان: 69] فأشبعه. ويجوز أن تكون هذه الجملة في محلّ نصب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة، و " لا " نافية للجنس محمولة في العمل على نقيضها. " إِنَّ " ، واسمها معرب ومبني: فيبنى إذا كان مفرداً نكرة على ما كان ينصب به، وسبب بنائه تضمنّه معنى الحرف، وهو " من " الاسْتِغْرَاقِيَّة يدلّ عليه ظهورها في قول الشاعر: [الطويل] | **106- فَقَامَ يَذُودُ النَّاس عَنْهَا بِسَيْفِهِ** | | **فَقَالَ أَلاَ لاَ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى هِنْدِ** | | --- | --- | --- | وقيل: بني لتركُّبه معها تركيب خمسةَ عَشَرَ، وهو فاسد وبيانه في غير هذا الكتاب. وزعم الزَّجَّاج أن حركة " لاَ رَجُلَ " ونَحْوِه حركة إعراب، وإنما حذف التنوين تخفيفاً، ويدل على ذلك الرجوع إلى هذا الأصل في الضرورة كقوله: [الوافر] | **107- أَلاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللهُ خَيْراً** | | **يَدُلُّ عَلَى مُحَصِّلَةٍ تَبِيتُ** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولا دليل له لأن التقدير: أَلاَ تَرَوْنَنِي رَجُلاً؟ فإن لم يكن مفرداً - وأعني به المضاف والشبيه به - أُعْرِبَ نَصْباً نحو: " لا خيراً من زيد " ، ولا عمل لها في المعرفة ألبتة، وأما نحو قوله: [الطويل] | **108- تُبَكِّي عَلَى زيْدٍ وَلاَ زَيْدَ مِثْلُهُ** | | **بَرِيءٌ مِنَ الْحُمَّى سَلِيمُ الجَوَانِحِ** | | --- | --- | --- | وقول الآخر: [الوافر] | **109- أَرَى الْحَاجَاتِ عِنْدَ أَبِي خُبَيْبٍ** | | **نَكِدْنَ وَلاَ أُمَيَّةَ فِي الْبِلاَدِ** | | --- | --- | --- | وقول الآخر: [الرجز] | **110- لاَ هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ** | | | | --- | --- | --- | وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: " لا قُرَيْشَ بعد اليَوْمِ، إذا هلك كِسْرَى، فلا كسرى بَعْدَه " فمؤوَّل. و " رَيْبَ " اسمها، وخبرها يجوز أن يكون الجار والمجرور وهو " فيه " ، إلاَّ أن بني " تميم " لا تكاد تذكر خبرها، فالأولى أن يكون محذوفاً تقديره: لا ريب كائن، ويكون الوَقْفُ على " ريب " حينئذ تامًّا، وقد يحذف اسمها ويبقى خبرها، قالوا: " لا عليك " أي: لا بأس عليك. ومذهب سيبويه رحمه الله: أنها واسمها في مَحَلّ رفع بالابتداء، ولا عمل لها في الخبر. ومذهب الأخفش: أن اسمها في مَحَلّ رفع، وهي عاملة في الخبر. ولها أحكامٌ كثيرة، وتقسيمات منتشرة مذكورة في كتب النحو. واعلم أن " لا " لفظ مُشْتَرَك بين النَّفي، وهي فيه على قسمين: قسم تنفي فيه الجنس فتعمل عمل إنَّ كما تقدم، وقسم تنفي فيه الوحدة، وتعمل حينئذ عمل " ليس " ، ولها قسم آخر، وهو النهي والدُّعاء فتجزم فعلاً واحداً، وقد تجيء زيادة كما تقدم في قوله:**{ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }** [الفاتحة: 7]. و " الرَّيْب ": الشّك مع تهمة؛ قال في ذلك: [الخفيف] | **111- لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ** | | **إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الكَذُوبُ** | | --- | --- | --- | وحقيقته على ما قال الزَّمخشري: " قلق النفس واضطرابها ". ومنه الحديث: **" دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما لا يُرِيبك ".** ومنه أنه مَرّ بظبي خائفٍ فقال: " لاَ يُرِبهُ أَحَدٌ بشيءٍ ". فليس قول من قال: " الرَّيب الشك مطلقاً " بجيّد، بل هو أخصّ من الشَّك كما تقدم. وقال بعضهم: في " الرّيب " ثلاثة معانٍ: أحدها: الشّك؛ قال ابن الزِّبَعْرَى: [الخفيف] | **112- لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ** | | **........................** | | --- | --- | --- | وثانيها: التُّهمةُ؛ قال جميل بُثَيْنَةَ: [الطويل] | **113- بُثَيْنَةُ قَالَتْ يَا جَمِيلُ أَرَيْتَنِي** | | **فَقُلْتُ: كِلاَنا يَا بُثَيْنُ مُرِيبُ** | | --- | --- | --- | وثالثها: الحاجات؛ قال: [الوافر] | **114- قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ** | | **وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا** | | --- | --- | --- | قال ابن الخطيب: الريب قريب من الشك، وفيه زيادة، كأنه ظن سوء، كأنه ظن سوء، تقول: رَابَني أمر فلان إذا ظننت به سوءاً. فإن قيل: قد يستعمل الريب في قولهم: " ريب الدهر " و " ريب الزمان " أي: حوادثه، قال تعالى:**{ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ }** [الطور: 30] ويستعمل أيضاً فيما يختلج في القلب من أسباب الغيظ، كقول الشاعر: [الوافر] | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **115- قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ** | | **..................** | | --- | --- | --- | قلنا: هذان يرجعان إلى معنى الشك، لأن من يخاف من ريب المنون محتمل، فهو كالمشكوك فيه، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن، فقوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } المراد منه: نفي كونه مَظَنّةً للريب بوجه من الوجوه، والمقصود أنه لا شُبْهَة في صحته، ولا في كونه من عند الله تعالى ولا في كونه معجزاً. ولو قلت: المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله تعالى:**{ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا }** [البقرة: 23]. فإن قيل: لم تأت، قال ها هنا: " لاَ رَيْبَ فِيهِ " وفي موضع آخر:**{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ }** [الصافات: 47] قلنا: لأنهم يقدمون الأهمّ، وهاهنا الأهم نفي الريب بالكليّة عن الكتاب. ولو قلت: " لا فيه ريب " لأَوْهَمَ أن هناك كتاباً آخر حصل فيه الريب لا هاهنا، كما قصد في قوله تعالى**{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ }** [الصافات:47] تفضيل خمر الجنّة على خمر الدنيا، بأنها لا تَغْتَال العقول كما تغتالها خمر الدنيا. فإن قيل: من أين يدلّ قوله: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } على نفي الريب بالكلية؟ قلنا القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية، والدّليل عليه أن قوله: " لا ريب " نفي لماهيّة الريب؛ ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية؛ لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهيّة لثبتت الماهية، وذلك مُنَاقض نفي الماهية، ولهذا السّر كان قولنا: " لا إله إلا الله " نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى. وقرأ أبو الشعثاء: " لاَ رَيْبُ فِيهِ " بالرفع، وهو نقيض لقولنا: " ريب فيه " ، وهذا يفيد ثبوت فرد واحدٍ، وذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد، فيتحقق التناقض. والوقف على " فيه " هو المشهور. وعن نافع وعاصم أنهما وَقَفَا على " ريب " ، ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً، ونظيره قوله:**{ لاَ ضَيْرَ }** [الشعراء: 50] وقول العرب: " لا بأس ". واعلم أن الملحدة طعنوا فيه وقالوا: إن عني أنه لا شَكّ فيه عندنا، فنحن قد نشك فيه، وإن عني أنه لا شكّ فيه عنده فلا فائدة فيه. الجواب: [المراد] أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه، والأمر كذلك؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفَصَاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أَقْصَرِ سورة من القرآن، وذلك يشهد بأنه لقيت هذه الحُجَّة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه. وقيل: في الجواب وجوه أخر: أحدها: أن النفي كونه متعلقاً للريب، المعنى: أنه منعه من الدلالة، ما إن تأمله المُنْصِف المحق لم يرتب فيه، ولا اعتبار بمن وجد فيه الريب؛ لأنه لم ينظر فيه حَقّ النظر، فريبه غير معتدٍّ به. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والثاني: أنه مخصوص، والمعنى: لا ريب فيه عند المؤمنين. والثالث: أنه خبر معناه النهي. والأول أحسن. قوله تعالى: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }. يجوز فيه عدة أوجه: أحدها: أن يكون مبتدأ، وخبره فيه متقدماً عليه إذا قلنا: إن خبر " لا " محذوف. وإن قلنا: " فيه " خبرها، كان خبره محذوفاً مدلولاً عليه بخبر " لا " ، تقديره: لا ريب فيه، فيه هدى، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره: هو هدى، وأن يكون خبراً ثانياً لـ " ذلك " ، على أن يكون " الكتاب " صفةً أو بدلاً، أو بياناً، و " لا ريب " خبر أول، وأن يكون خبراً ثالثاً لـ " ذلك " ، على أن يكون " الكتاب " خبراً أول، و " لا ريب " ، خبراً ثانياً، وأن يكون منصوباً على الحال من " ذلك " ، أو من " الكتاب " ، والعامل فيه على كلا التقديرين اسم الإشارة، وأن يكون حالاً من الضَّمير في " فيه " ، والعامل ما في الجَارِّ والمجرور من معنى الفعْلِ، وجعله حالاً مما تقدم: إما على المُبَالغة، كأنه نفس الهُدَى، أو على حذف مضاف، أي: ذا هُدَى، أو على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل، وهكذا كلُّ مصدر وقع خبراً، أو صفة، أو حالاً فيه الأقوال الثلاثة، أرجحها الأول. وأجازوا أن يكون " فيه " صفةً لـ " ريب " ، فيتعلّق بمحذوف، وأن يكون متعلقاً بـ " ريب " ، وفيه إشكال؛ لأنه يصير مطولاً، واسم " لا " إذا كان مطولاً أعرب إلاّ أن يكون مُرَادهم أنّه معمول لِمَا دَلّ عليه " ريب " لا لنفس " ريب ". وقد تقدّم معنى " الهدى " عند قوله تبارك وتعالى:**{ ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }** [الفاتحة: 6]. و " هُدًى " مصدر على وزن " فُعَل " قالوا: ولم يجىء من هذا الوزن في المَصَادر إلا " سُرًى " و " بُكًى " و " هُدًى " ، وقد جاء غيرها، وهو " لَقِيتُهُ لُقًى "؛ قال الشَّاعر: [الطويل] | **116- وَقَدْ زَعَمُوا حُلْماً لُقَاكِ وَلَمْ أَزِدْ** | | **بحَمْدِ الَّذِي أَعْطَاكِ حِلْماً وَلاَ عَقْلا** | | --- | --- | --- | و " الهدى " فيه لغتان: التذكير، ولم يذكر اللّحْياني غيره. وقال الفراء: بعض بني أسد يؤنثه، فيقولون: هذه هدى. و " في " معناها الظرفية حقيقةً أو مجازاً، نحو: " زيد في الدار " ،**{ وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ }** [البقرة: 179] ولها معان آخر: المصاحبة: نحو:**{ ٱدْخُلُواْ فِيۤ أُمَمٍ }** [الأعراف: 38]. والتعليل: " إن امرأة دَخَلتِ النَّارَ في هِرَّةٍ " وموافقة " على ":**{ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ }** [طه: 71] [أي: على جذوع]، والباء:**{ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ }** [الشورى: 11] أي بسببه. والمقايسة نحو قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ }** [التوبة: 38]. و " الهاء " في " فيه " أصلها الضم كما تقدم من أن " هاء " الكناية أصلها الضم، فإن تقدمها ياء ساكنة، أو كسرة كسرها غير الحجازيين، وقد قرأ حمزة: " لأَهْلِهُ امْكُثُوا " وحفص في:**{ عَاهَدَ عَلَيْهُ الله }** [الفتح: 10]،**{ وَمَآ أَنسَانِيهُ إِلاَّ }** [الكهف: 63] بلغة أهل الحِجَاز، والمشهور فيها - إذا لم يلها ساكن وسكن ما قبلها نحو: " فيه " و " منه " - الاختلاس، ويجوز الإشْبَاع، وبه قرأ ابن كثير، فإن تحرّك ما قبلها أُشْبِعَتْ، وقد تختلس وتسكن، وقرىء ببعض ذلك كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى. و " للمتقين " جارّ ومجرور متعلّق بـ " هدى ". وقيل: صفة لـ " هدى " ، فيتعلّق بمحذوف، ومحله حينئذ: إما الرفع أو النصب بحسب ما تقدم في موصوفه، أي هدى كائن أو كائناً للمتقين. والأحسن من هذه الوجوه المتقدمة كلها أن تكون كل جملة مستقلّة بنفسها، فـ " الم " جملة إن قيل: إنها خبر مبتدأ مضمر، و " ذلك الكتاب " جملة، و " لا ريب " جملة، و " فيه هدى " جملة، وإنما ترك العاطف لشدّة الوصل؛ لأن كلّ جملة متعلّقة بما قبلها آخذة بعنقها تعلقاً لا يجوز معه الفصل بالعطف. قال الزمخشري: وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها مُتَنَاسقة هكذا من غير حرف نسق. [وذلك لمجيئها مُتَتَابعة بعضها بعنق] بعض، والثانية متحدة بالأولى، وهلم جَرّاً إلى الثالثة والرابعة. بيانه: أنه نبّه أولاً على أنه الكلام المتحدي به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المَنْعُوت بنهاية الكَمَال، فكان تقريراً لجهة التحدي. ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة بكماله. ثم أخبر عنه بأنه " هدى للمتقين " ، فقرر بذلك كونه يقيناً، لا يحوم الشّك حوله، ثم لم تَخْلُ كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذه الترتيب الأنيق [من] نُكْتَةٍ ذات جَزَالة: ففي الأولى الحذف، والرمز إلى الغرض بألطف وجه. وفي الثانية ما في التعريف من الفَخَامة. وفي الثانية ما في تقديم الريب على الظَّرف. وفي الثالثة ما في تقديم " الريب " على الظرف. وفي الرابعة الحذف، ووضع المصدر الذي هو " هدى " موضع الوصف الذي هو " هاد " وإيراده منكراً. " المتقين " جمع " مُتَّقٍ " ، وأصله: مُتَّقْيِينَ بياءينِ، الأولى: لام الكلمة، والثانية علامة الجمع، فاستثقلت الكسرة على لام الكلمة، وهي الياء الأولى فحذفت، فالتقى ساكنان، فَحذف إحداهما وهي الأولى. و " متقٍ " من اتقى يتّقي وهو مُفْتَعِل من الوِقَايَةِ، إلا أنه يطرد في الواو والياء إذا كانتا فاءين، ووقعت بعدهما " تاء " الافتعال أن يبدلا " تاء " نحو: " اتَّعَدَ " من الوَعْدِ، و " اتَّسَرَ " من اليُسْرِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وَفِعْلُ ذلك بالهمزة شاذ، قالوا: " اتَّزَرَ " و " اتَّكَلَ " من الإِزَارِ، والأَكْلِ. و لـ " افتعل " اثنا عشر معنى: الاتِّخَاذ نحو: " اتقى ". والتسبب نحو: " اعمل ". وفعل الفاعل بنفسه نحو: " اضطرب ". والتخير نحو: " انتخب ". والخطف نحو: " استلب ". ومطاوعة " أَفْعَل " نحو: " انتصف ". ومطاوعة " فَعَّل " نحو: عمّمته فاعتمّ. وموافقة " تَفَاعَلَ " و " تَفَعَّل " و " اسْتَفْعَل " نحو: احتور واقتسم واعتصم، بمعنى تحاور وتقَسَّم واستعصم. وموافقة المجرد، نحو " اقتدر " بمعنى: قَدَرَ. والإغناء عنه نحو: " اسْتَلَم الحجر " ، لم يُلْفَظْ له بمجرد. و " الوقاية ": فرط الصيانة، وشدة الاحتراس من المكروه، ومنه " فرس وَاقٍ ": إذا كان يقي حافِرُه أدنى شيء يصيبه. وقيل: هي في أصل اللَّغة قلّة الكلام. وفي الحديث: " التَّقِيُّ مُلْجَمٌ ". ومن الصيانة قوله: [الكامل] | **117- سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ** | | **فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِاليَدِ** | | --- | --- | --- | وقال آخر: [الطويل] | **118- فَأَلْقَتْ قِنَاعاً دُونَهُ الشَّمْسُ واتَّقَتْ** | | **بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفٍّ وَمِعْصَمِ** | | --- | --- | --- | قال أبو العباس المقرىء: ورد لفظ " الهدى " في القرآن بإزاء ثلاثة عشر معنى: الأول: بمعنى " البَيَان " قال تعالى:**{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ }** [البقرة: 5] أي: على بيان، ومثله،**{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** [الشورى: 52] أي: لتبين، وقوله تبارك وتعالى:**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ }** [فصلت: 17] أي: بَيّنّا لهم. الثاني: الهُدَى: دين الإسلام، قال تَعَالَى:**{ قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ }** [آل عمران: 73] أي: دين الحق هو دين الله. وقوله:**{ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى }** [الحج: 67] أي: دين الحق. الثالث: بمعنى " المَعْرِفَة " قال تعالى:**{ وَبِٱلنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ }** [النحل: 16] أي: يعرفون، وقوله تعالى:**{ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِيۤ أَمْ تَكُونُ مِنَ ٱلَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ }** [النمل: 41] أي: أتعرف. الرابع: بمعنى " الرسول " قال تعالى:**{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى }** [البقرة: 38] أي: رسول. الخامس: بمعنى " الرشاد " قال تعالى:**{ وَٱهْدِنَآ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلصِّرَاطِ }** [ص: 22] أي أرشدنا. وقوله:**{ عَسَىٰ رَبِّيۤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ }** [القصص: 22]. وقوله تعالى:**{ ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ }** [الفاتحة: 6]. السادس: بمعنى: " القرآن " قال تعالى:**{ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ }** [النجم: 23] أي: القرآن. السابع: بمعنى: بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تبارك وتعالى:**{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ }** [الشورى: 52]. الثامن: بمعنى " شرح الصدور " قال تعالى:**{ فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ }** [الأنعام: 125]. التاسع: التوراة، قال تبارك وتعالى:**{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْهُدَىٰ }** [غافر: 53] يعني: التوراة. العاشر: " الجنة " قال تعالى:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم }** [يونس: 9] أي: يدخلهم الجنة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الحادي عشر: " حج البيت " قال تعالى:**{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }** [آل عمران: 96] أي الحج. الثاني عشر: " الصلاح " قال تَعَالى:**{ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَآئِنِينَ }** [يوسف: 52] أي: لا يصلح. الثالث عشر: " التوبة " قال تعالى:**{ إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ }** [الأعراف: 156] أي: تُبْنَا ورجعنا. فصل في المقصود بالهدى قال ابن الخطيب " رضي الله تعالى عنه ": الهُدَى عبارة عن الدلالة. وقال صاحب " الكشاف ": الهدى هو الدلالة الموصّلة للبغية. وقال آخرون: الهدى هو الاهتداء والعلم والدليل على صحة الأول أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء؛ لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء مُحَال، وقد ثبت الهدى على عدم حال الاهتداء قال الله تعالى:**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** [فصلت: 17] أثبت الهدى مع عدم الاهتداء. واحتج صاحب " الكشَّاف " بأمور ثلاثة: [أوّلها]: وقوع الضلالة في مُقَابلة الهدى، قال تعالى:**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ }** [البقرة: 16]، وقال تعالى:**{ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }** [سبأ: 24]. وثانيها: يقال: مهديّ في موضع المدح كالمهتدي، فلو لم يكن من شرط الهدى كَوْن الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهدياً مدحاً؛ لاحتمال أنه هدي، فلم يَهْتَدِ. وثالثها: أن " اهتدى " مطاوع " هَدَى " يقال: هَدَيْتُه فَاهْتَدَى، كما يقال: كسرته فانكسر، وقطعته فانقطع، فكما أن الانكسار والانقطاع لاَزِمَانِ للكسر والقطع، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم " الهدى ". والجواب عن الأوَّلِ: أن الفرق بين الهدى والاهتداء معلوم بالضرورة، فمقابل " الهدى " هو " الإضلال " ومقابل " الاهتداء " هو " الضلال " فجعل " الهدى " في مقابلة " الضلال " ممتنع. وعن الثاني: المنتفع بالهدى سمي مهدياً؛ لأن الوسيلة إذا لم تُفْضِ إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم. وعن الثالث: أن الائتمار مُطَاوع الأمر يقال: أمرته فائتمر، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه آمراً حصول الائتمار، وكذا لا يلزم من كونه هذه أن يكون مفضياً إلى الاهتداء، على أنه معارض بقوله: هديته فلم يهتد. ومما يدل على فساد قول من قال: الهدى هو العلم خاصة أن الله - تعالى - وصف القرآن بأنه هدى، ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم، فدلّ على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم. فصل في اشتقاق المتقي والمتقي في اللغة: اسم فاعل من قولهم: وقاه فاتَّقَى، والوقاية: فرط الصيانة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: التقيّ: من يتقي الشّرْك والكبائر والفواحش، وهو مأخوذ من الاتقاء، وأصله: الحجز بين شيئين. وفي الحديث: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" كان إذا احْمَرّ البأسُ اتَّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ".** أي: إذا اشتد الحَرْبُ جعلنا بيننا وبين العدو، فكأن المتقي جعل الامتثال لأمر الله، والاجتناب عما نَهَاه حاجزاً بينه وبين العذاب، وقال عمر بن الخَطّاب لكعب الأحبار: " حدثني عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقاً ذا شَوْكٍ؟ قال: نعم، قال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت وشَمّرت، قال كعب: ذلك التَّقوى ". وقال عمر بن عبد العزيز: التقوى تَرْكُ ما حَرَّمَ الله، وأداء ما افترض الله، فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير. وقال ابن عمر: التَّقْوَى ألا ترى نفسك خيراً من أحد. إذا عرفت هذا فنقول: إن الله - تعالى - ذكرَ المتقي هاهنا في معرض المدح، [ولن يكون ذلك] بأن يكون متقياً في أمور الدنيا بل بأن يكون متقياً فيما يتصل بالدّين، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات، محترزاً عن المحظورات. واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصَّغائر في التقوى؟ فقال بعضهم: يدخل كما تدخل الصّغائر في الوعيد. وقال آخرون: لا يدخل، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكُلّ، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوقّ الصغائر هل يستحق هذا الاسم؟ فروي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: **" لا يَبْلُغُ العَبْدُ درجة المتّقين حتى يَدَعَ ما لا بَأْسَ به حَذَراً مما به بَأْسُ "** وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنهم الذين يَحْذَرُون من الله العُقُوبَة في تَرْكِ ما يميل الهَوَى إليه، ويرجون رحمته بالتَّصديق بما جاء منه. واعلم أن حقيقة التقوى، وإن كانت هي التي ذكرناها إلاَّ أنها قد جاءت في القرآن، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة؛ كقوله تعالى:**{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ }** [الفتح: 26] أي: التوحيد**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ }** [الحجرات: 3]،**{ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ }** [الشعراء: 11] أي: لا يؤمنون. وتارة التوبة كقوله تبارك وتعالى:**{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ }** [الأعراف: 96]،**{ وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ }** [المؤمنون: 52]. وتارة ترك المعصية كقوله تعالى:**{ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }** [البقرة: 189] أي: فلا تعصوه. وتارة الإخلاص كقوله:**{ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ }** [الحج: 32] أي: من إخلاص القلوب. وهاهنا سؤالات: السؤال الأول: كون الشَّيء هدى ودليلاً لا يختلف بحسب شخص دون شخص فلماذا جعل القرآن هدى للمتّقين فقط؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي؟ والمهتدي لا يهتدي ثانياً، والقرآن لا يكون هدى للمتقين؟ والجواب: أن القرآن كما أنه هدى للمتقين، ودلالة لهم على وجود الصانع، وعلى صدق رسوله، فهو أيضاً دلالة للكافرين؛ إلا أن الله تبارك وتعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا، وانتفعوا به كما قال:**{ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَٰهَا }** [النازعات: 45] وقال:**{ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ }** [يس: 11]. وقد كان عليه الصلاة والسلام منذراً لكلّ الناس، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هُمُ الذين انتفعوا بإنذاره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما من فسر الهُدَى بالدلالة الموصلة إلى المقصود، فهذا السؤال زائل عنه؛ لأن كون القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلاَّ في حق المتقين. السّؤال الثاني: كيف وصف القرآن كله بأنه هدى، وفيه مجمل ومتشابه كثير، ولولا دلالة العقل لما تميز المُحْكم عن المُتَشَابه، فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن؟ ونقل عن علي بن أبي طالب أنه قال لابن عباس حيث بعثه رسولاً إلى الخوارج: لا تَحْتَجَّ عليهم بالقرآن، فإنه خَصْمٌ ذو وجهين، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ذلك فيه، ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به، ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر، وبعضها صريح في القدر؛ فلا يمكن التوفيق بينهما إلاّ بالتعسُّف الشديد، فكيف يكون هدى؟ الجواب: أن ذلك المُتَشَابه والمُجْمل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين - وهو إما دلالة العقل، أو دلالة السمع - صار كله هُدًى. السؤال الثالث: كل ما يتوقّف كون القرآن حُجّة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه، فإذا استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله - تعالى - وصفاته، وفي معرفة النبوة، فلا شَكَّ أن هذه المَطَالب أشرفُ المطالب، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها، فكيف جعله الله هدى على الإطلاق؟ الجواب: ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشَّرَائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول، وهذه الآية من أَقْوَى الدلائل على أن المُطْلق لا يقتضي العموم، فإن الله - تعالى - وصفة بكونه هُدًى من غير تقييد في اللّفظ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصَّانع، وصفاته، وإثبات النبوة، فثبت أنّ المطلق لا يفيد العموم. السّؤال الرابع: الهُدَى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره، والقرآن ليس كذلك، فإن المفسّرين ما ذكروا آية إلاّ وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة، ويؤيد هذا قوله:**{ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }** [النحل: 44]. وما يكون كذلك لا يكون مبيناً في نفسه، فضلاً عن أن يكون مبيناً لغيره، فكيف يكون هدى؟ قلنا: من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المُتَعَارضة، ولا يرجح واحداً منها على الباقي يتوجه عليه السؤال، وأما من رجح واحداً على البواقي فلا يتوجّه عليه السؤال. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ)
ولما كان معنى { الم } هذا كتاب من جنس حروفكم التي قد فقتم في التكلم بها سائر الخلق فما عجزتم عن الإتيان بسورة من مثله إلا لأنه كلام الله أنتج ذلك كماله، فأشير إليه بأداة البعد ولام الكمال في قوله { ذلك الكتاب } لعلو مقدار بجلالة آثاره وبعد رتبته عن نيل المطرودين. ولما علم كماله أشار إلى تعظيمه بالتصريح بما ينتجه ويستلزمه ذلك التعظيم فقال { لا ريب فيه } أي في شيء من معناه ولا نظمه في نفس الأمر عند من تحقق بالنظر فالمنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له، ولم يقدم الظرف لأنه كان يفيد الاختصاص فيفهم أن غيره من الكتب محل الريب. قال الحرالي: " ذا " اسم مدلوله المشار إليه، واللام مدلوله معها بُعدمّا { الكتاب } من الكتب وهو وصل الشيء المنفصل بوصلة خفية من أصله كالخرز في الجلد بقد منه والخياطة في الثوب بشيء من جنسه ليكون أقرب لصورة اتصاله الأول، فسمي به ما ألزمه الناس من الأحكام وما أثبت بالرقوم من الكلام { لا } لنفي ما هو ممتنع مطلقاً أو في وقت " الريب " التردد بين موقعي تهمة بحيث يمتنع من الطمأنينة على كل واحد منها. انتهى. وأصله قلق النفس واضطرابه، ومنه ريب الزمان لنوائبه المقلقة، ولما كان ذلك يستلزم الهدى قال: { هدى } وخص المنتفعين لأن الألد لا دواء له والمتعنت لا يرده شيء فقال: { للمتقين } أي الذين جبلوا في أصل الخلقة على التقوى؛ فافهم ذلك أن غيرهم لا يهتدي به بل يرتاب وإن كان ليس موضعاً للريب أصلاً. قال الحرالي: جمع المتقي وهو المتوقف عن الإقدام على كل أمر لشعوره بتقصيره عن الاستبداد وعلمه بأنه غير مستغن بنفسه فهو متق لوصفه وحسن فطرته والمتقي كذا متوقف لأجل ذلك، والتقوى أصل يتقدم الهدى وكل عبادة، لأنها فطرة توقف تستحق الهدى وكل خير وهي وصية الله لأهل الكتاب. انتهى. ثم وصفهم بمجامع الأعمال تعريفاً لهم فقال: { الذين يؤمنون بالغيب } أي الأمر الغائب الذي لا نافع في الإيمان غيره، وعبر بالمصدر للمبالغة. { ويقيمون الصلاة } أي التي هي حضرة المراقبة وأفضل أعمال البدن بالمحافظة عليها وبحفظها في ذاتها وجميع أحوالها. ولما ذكر وصلة الخلق بالخالق وكانت النفقة مع أنها من أعظم دعائم الدين صلة بين الخلائق أتبعها بها فقال مقدماً للجار ناهياً عن الإسراف ومنبهاً بالتبعيض على طيب النفقة لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وآمراً بالورع وزاجراً عما فيه شبهة [لأن الرزق يشمل الحلال والحرام والمشتبه] { ومما رزقناهم } أي مكناهم من الانتفاع به على عظمة خزائننا وهو لنا دونهم { ينفقون } أي في مرضاتنا مما يلزمهم من الزكاة والحج والغزو وغيرها ومما يتطوعون به من الصدقات وغيرها، والمراد بهذه الأفعال هنا إيجاد حقائقها على الدوام. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال أبو حيان وغيره في قوله تعالى في سورة الحج**{ إن الذين كفروا ويصدون }** [الحج: 25] المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار. انتهى. وهذا مما لا محيد عنه وإلا لم يشملْ هذا في هذه السورة المدنية من تخلق به قبل الهجرة وقوله تعالى**{ فلم تقتلون أنبياء الله من قبل }** [البقرة:91] قاطع في ذلك. وقال الحرالي: { يؤمنون } ، من الإيمان وهو مصدر آمنه يؤمنه إيمانا إذا آمن من ينبهه على أمر ليس عنده أن يكذبه أو يرتاب فيه، و " الغيب " ما غاب عن الحس ولم يكن عليه علم يهتدي به العقل فيحصل به العلم؛ وصيغة { يؤمنون } و { يقيمون } تقتضي الدوام على الختم، وإدامة العمل إلى الختم تقتضي ظهوره عن فطرة أو جبلة وأنه ليس عن تعمل ومراءاة، وعند ذلك يكون علما على الجزاء؛ و { الصلاة } الإقبال بالكلية على أمر، فتكون من الأعلى عطفاً شاملاً، ومن الأدنى وفاء بأنحاء التذلل والإقبال بالكلية على التلقي، وإيمانهم بالغيب قبولهم من النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقاه بالوحي من أمر غائب الدنيا الذي هو الآخرة وما فيها وأمر غائب الملكوت وما فيه إلى غيب الجبروت وما به بحيث يكون عملهم على الغائب الذي تلقته قلوبهم على سبيل آذانهم كعملهم على ما تلقته أنفسهم على سبيل أعينهم وسائر حواسهم وداموا على عملهم ذلك حكم إيمانهم إلى الخاتمة. ولما كانت الصلاة التزام عهد العبادة مبنياً على تقدم الشهادة متممة بجماع الذكر وأنواع التحيات لله من القيام له تعالى والركوع له والسجود الذي هو أعلاها والسلام بالقول الذي هو أدنى التحيات كانت لذلك تعهداً للإيمان وتكراراً، ولذلك من لم يدم الصلاة ضعف إيمانه وران عليه كفر فلا إيمان لمن لا صلاة له، والتقوى وحده أصل والإيمان فالصلاة ثمرته، والإنفاق خلافة ولذلك البخل عزل عن خلافة الله**{ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه }** [الحديد:7] وهذا الأمر بتمامه هو الذي جعلت الخلافة لآدم به إلى ما وراء ذلك من كمال أمر الله الذي أكمله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالتقوى قلب باطن، والإنفاق وجه ظاهر، والإيمان فالصلاة وصلة بينهما. ووجه ترتب الإيمان بالغيب على التقوى أن المتقي لما كان متوقفاً غير متمسك بأمر كان إذا أرشد إلى غيب لا يعلمه لم يدفعه بمقتضى ما تقدم علمه؛ ووجه ترتب الإنفاق على الإيمان بالغيب أن المدد غيب، لأن الإنسان لما كان لا يطلع على جميع رزقه كان رزقه غيباً، فاذا أيقن بالخلف جاد بالعطية، فمتى أمد بالأرزاق تمت خلافته وعظم فيها سلطانه وانفتح له باب إمداد برزق أعلى وأكمل من الأول. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فاذا أحسن الخلافة فيه بالإنفاق منه أيضاً انفتح له باب إلى أعلى إلى أن ينتهي إلى حيث ليس وراءه مرأى وذلك هو الكمال المحمدي، وإن بخل فلم ينفق واستغنى بما عنده فلم يتق فكذب تضاءل أمر خلافته وانقطع عنه المدد من الأعلى؛ فبِحَقٍّ سمي الإنفاق زكاة؛ وفي أول الشورى كلام في الإيمان عن علي رضي الله عنه نفيس. انتهى. ولما وصفهم بالإيمان جملة أشار إلى تفصيله على وجه يدخل فيه أهل الكتاب دخولاً أولياً فقال { والذين يؤمنون } أي يوجدون هذا الوصف بعد سماعهم للدعوة إيجاداً مستمراً { بما أنزل اليك } أي القرآن والسنة سواء كان قد وجد أو سيوجد؛ { وما أنزل من قبلك } أي على الأنبياء الماضين، ولما كان الإيمان بالبعث من الدين بمكان عظيم جداً بينه بالتقديم إظهاراً لمزيد الاهتمام فقال: { وبالآخرة } أي التي هي دار الجزاء ومحل التجلي وكشف الغطاء ونتيجة الأمر. قال الحرالي: الآخرة معاد تمامه على أوليته. انتهى. ولما تقدم من الاهتمام عبر بالإيقان وأتى بضمير الفصل فقال: { هم يوقنون } لأن ذلك قائد إلى كل خير وذائد عن كل ضير، والإيقان كما قال الحرالي صفاء العلم وسلامته من شوائب الريب ونحوه، من يقن الماء وهو ما نزل من السماء فانحدر إلى كهف جبل فلم يتغير من قرار ولا وارد. انتهى. فهو يكون بعد شك ولذا لا يوصف به الله. والوصف بهده الأوصاف كما ترى إشارة إلى أمهات الأعمال البدنية والماليه من الأفعال والتروك، فالإيمان أساس الأمر والصلاة مشار بها إلى التحلي بكل خير والتخلي عن كل شر**{ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر }** [العنكبوت: 45] وكلاهما من أعمال البدن، والنفقه عمل مالي، فحصل بذلك حصر الفعل والترك الضابطين لجميع الأعمال كيف ما تشعبت، وصرح بالفعل وأومى إلى الترك إيماء لا يفهمه إلا البصراء تسهيلاً على السالكين، لأن الفعل من حيث هو ولو كان صعباً أيسر على النفس من الكف عما تشتهي. وفي وصفهم أيضاً بالإيمان بما أنزل إليه وإلى من قبله من التقريع والتبكيت لمن سواهم ما ستراه في الآيات الآتيه. ولما أخبر عن أفعالهم الظاهرة والباطنة أخبر بثمرتها فقال: { أولئك } أي الموصوفون بتلك الصفات الظاهرات، ولما تضمن ما مضى أن إيمانهم كان من أعظم استدلال فأثمر لهم التمسك بأوثق العرى من الأعمال استحقوا الوصف بالاستعلاء الذي معناه التمكن فقال: { على هدى } أي عظيم، وزاد في تعظيمه بقوله: { من ربهم } أي المحسن إليهم بتمكينهم منه ولزومهم له تمكين من علا على الشيء، ولما لم يلازم الهدى الفلاح عطف عليه قوله مشيراً بالعاطف إلى مزيد تمكنهم في كل من الوصفين { وأولئك } أي العالو الرتبه { هم } أي خاصة { المفلحون } أي الكاملون في هذا الوصف الذين انفتحت لهم وجوه الظفر، والتركيب دال على معنى الشق والفتح وكذا أخواته من الفاء والعين نحو فلج بالجيم وفلق وفلذ وفلى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال الحرالي: وخرج الخطاب في هذه الآية مخرج المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ومخرج إحضار المؤمنين بموضع الإشارة وهي مكانة حضرة دون مكانة حضرة المخاطب. انتهى. وكونها للبعد إعلام بعلو مقامهم. والفلاح الفوز والظفر بكل مراد ونوال البقاء الدائم في الخير. ولما أردف البيان لأوصاف المؤمنين التعريف بأحوال الكافرين وكانوا قد انقسموا على مصارحين ومنافقين وكان المنافقون قسمين جهالاً من مشركي العرب وعلماء من كفار بني إسرائيل كان الأنسب ليفرغ من قسم برأسه على عجل البداءة أولاً بالمصارحين فذكر ما أراد من أمرهم في آيتين، لأن أمرهم أهون وشأنهم أيسر لقصدهم بما يوهنهم بالكلام أو بالسيف على أن ذكرهم على وجه يعم جميع الأقسام فقال مخاطباً لأعظم المنعم عليهم على وجه التسلية والإعجاز في معرض الجواب لسؤال من كأنه قال: هذا حال الكتاب للمؤمنين فما حاله للكافرين؟ { إن الذين كفروا } أي حكم، بكفرهم دائماً حكماً نفذ ومضى فستروا ما أقيم من الأدلة على الوحدانية عن العقول التى هيئت لإدراكه والفطر الأولى التي خلصت عن مانع يعوقها عن الانقياد له وداموا على ذلك بما دل عليه السباق بالتعبير عن أضدادهم بما يدل على تجديد الإيمان على الدوام واللحاق بالختم والعذاب، ولعله عبر بالماضي والموضع للوصف تنفيراً من مجرد إيقاع الكفر ولو للنعمة وليشمل المنافقين وغيرهم. ولما دل هذا الحال على أنهم عملوا ضد ما عمله المؤمنون من الانقياد كان المعنى { سواء عليهم أأنذرتهم } أي إنذارك في هذا الوقت بهذا الكتاب { أم لم تنذرهم } أي وعدم إنذارك فيه وبعده وقد انسلخ عن أم والهمزة معنى الاستفهام، قال سيبوية: جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. انتهى. ولعله عبر بصورة الاستفهام وقد سلخت عن معناه إفهاماً لأنهم توغلوا في الكفر توغل من وصل في الحمق إلى أنه لو شاهد الملك يستفهمك عنه ما آمن. ولما كان كأنه قيل في أي شيء استوت حالتاهم قبل في أنهم { لا يؤمنون } وهي دليل على خصوص كونه هدى للمتقين وعلى وقوع التكليف بالممتنع لغيره فإنه سبحانه كلفهم الإيمان وأراد منهم الكفران، فصار ممتنعاً لإرادته عدم وقوعه، والتكليف به جار على سنن الحكمة فإن إرادة عدم إيمانهم لم تخرج إيمانهم عن حيز الممكن فيما يظهر، لعدم العلم بما أراد الله من كل شخص بعينه، فهو على سنن الابتلاء ليظهر في عالم الشهادة المطيع من غيره لإقامة الحجة؛ ويأتي في الصّافّات عند**{ افعل ما تؤمر }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [الصافات: 102] تتمة لهذا. قال الحرالي: فحصل بمجموع قوله: { سواء عليهم } إلى آخره وبقوله: { لا يؤمنون } خبر تام عن سابقة أمرهم ولاحقة كونهم، فتم بالكلامين الخبر عنهم خبراً واحداً ملتئماً كتباً سابقاً وكوناً لاحقاً. انتهى. وكل موضع ذكر فيه الكفر فإنما عبر به إشارة إلى أن الأدلة الأصلية في الوضوح بحيث لا تخفى على أحد ولا يخالفها إلا من ستر مرآة عقله إما عناداً وإما بإهمال النظر السديد والركون ألى نوع تقليد. ولما كان من أعجب العجب كون شيء واحد يكون هدى لناس دون ناس علل ذلك بقوله: { ختم الله } أي بجلاله { على قلوبهم } أي ختماً مستعلياً عليها فهي لا تعي حق الوعي، لأن الختم على الشيء يمنع الدخول إليه والخروج منه، وأكد المعنى بإعادة الجار فقال: { وعلى سمعهم } فهم لا يسمعون حق السمع، وأفرده لأن التفاوت فيه نادر، قال الحرالي: وشرّكه في الختم مع القلب لأن أحداً لا يسمع إلا ما عقل.انتهى. { وعلى أبصارهم غشاوة } فهم لا ينظرون بالتأمل. ولما سوى هنا بين الإنذار وعدمه كانت البداءة بالقلوب أنسب تسوية لهم بالبهائم، ولما كان الغبي قد يسمع أو يبصر فيهتدي وكان إلى السمع أضر لعمومه وخصوص البصر بأحوال الضياء نفى السمع ثم البصر تسفيلاً لهم عن حال البهائم، بخلاف ما في الجاثية فإنه لما أخبر فيها بالإضلال وكان الضال أحوج شيء إلى سماع الهادي نفاه، ولما كان الأصم، إذا كان ذا فهم أو بصر أمكنت هدايته وكان الفهم أشرف نفاهما على ذلك الترتيب. ولما وصفهم بذلك أخبر بمآلهم فقال: { ولهم عذاب عظيم } قال الحرالي: وفي قوله: { ولهم } إعلام بقوة تداعي حالهم لذلك العذاب واستحقاقهم له وتنشؤ ذواتهم إليه حتى يشهد عيان المعرفة به - أي العذاب - وبهم أنه لهم وكان عذابهم عظيماً آخذاً في عموم ذواتهم لكونهم لم تلتبس أبدانهم ولا نفوسهم ولا أرواحهم بما يصد عنهم شيئاً من عذابها كما يكون للمعاقبين من مذنبي مؤمني الأمم حيث يتنكب العذاب عن وجوههم ومواضع وضوئهم ونحو ذلك. انتهى. وسيأتى عند قوله تعالى:**{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً }** [البقرة: 165] ما يلتفت إلى هنا. قال الحرالي: " الكفر " تغطية ما حقه الإظهار، و " الإنذار " الإعلام بما يحذر، و " الختم " إخفاء خبر الشيء بجمع أطرافه عليه على وجه يتحفظ به و " القلب " مبدأ كيان الشيء من غيب قوامه، فيكون تغير كونه بحسب تقلب قلبه في الانتهاء ويكون تطوره وتكامله بحسب مدده في الابتداء والنماء، والقلب من الإنسان بمنزلة السكان من السفينة بحسب تقلبه يتصرف سائره، وبوضعه للتقلب والتقليب سمي قلباً، وللطيف معناه في ذلك كان أكثر قسمه صلى الله عليه وسلم بمقلب القلوب، " والغشاوة " غطاء مجلل لا يبدو معه من المغطى شيء و " العذاب " إيلام لا إجهاز فيه، و " العظيم " الآخذ في الجهات كلها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | انتهى. وفي تعقيب ذكر المؤمنين بذكر المختوم على مداركهم المختوم بمهالكهم تعظيم للنعمة على من استجاب له. إذ قال " اهدنا " فهداه، وإعلام بأن الهدى ليس إلا بيده ليلحّلوا في الطلب ويبرؤوا من ادعاء حول أو قوة. ولما افتتح سبحانه بالذين واطأت قلوبهم ألسنتهم في الإيمان وثنى بالمجاهرين من الكافرين الذين طابق إعلانهم إسرارهم في الكفران اتبعه ذكر المساترين الذين خالفت ألسنتهم قلوبهم في الإذعان وهم المنافقون، وأمرهم أشد لإشكال أحوالهم والتباس أقوالهم وأفعالهم، فأضر الأعداء من يريك الصداقة فيأخذك من المأمن؛ وما أحسن ما ينسب إلى الإمام أبي سليمان الخطابي في المعنى: | **تحرّز من الجهال جهدك أنهم** | | **وإن أظهروا فيك المودة أعداء** | | --- | --- | --- | | **وإن كان فيهم من يسرك فعله** | | **فكل لذيذ الطعم أوجله داء** | لا جرم ثنى سبحانه بإظهار أسرارهم وهتك أستارهم في سياق شامل لقسميهم، فقبح أمورهم ووهّى مقاصدهم وضرب لهم الأمثال وبسط لهم بعض البسط في المقال فقال تعالى: { ومن الناس من يقول } أي لما أرسلنا رسولنا انقسم الناس قسمين: مؤمن وكافر، وانقسم الكافر قسمين: فمنهم من جاهر وقال: لا نؤمن أبداً، ومنهم من يقول، ولعله أظهر ولم يضمر لانفرادهم عن المجاهرين ببعض الأحكام، أو لأنه سبحانه لما ذكر طرفي الإيمان والكفر وأحوال المؤمنين وأحوال الذين كفروا ذكر المنافقين المترددين بين الاتصاف بالطرفين بلفظ الناس لظهور معنى النوس فيهم لاضطرابهم بين الحالين، لأن النوس هو حركة الشيء اللطيف المعلق في الهواء كالخيط المعلق الذي ليس في طرفه الأسفل ما يثقله فلا يزال مضطرباً بين جهتين، ولم يظهر هذا المعنى في الفريقين لتحيزهم إلى جهة واحده. قال الحرالي، وعرف للجنس أو للعهد في الذين كفروا لأنهم نوع منهم، وسر الإظهار موضع الإضمار على هذا ما تقدم، { آمنا بالله } أي وحده بما له من الجلال والجمال مستحضرين لذلك، ولما كانوا متهمين أكدوا بإعادة الجار فقالوا: { وباليوم الآخر } الذي جحده المجاهرون، { وما هم بمؤمنين } أي بعريقين في الإيمان كما ادعوه بذكر الاسم الأعظم وإعادة الجار، ولعله نفى العراقة فقط لأن منهم من كان مُزَلزلاً حين هذا القول غير جازم بالكفر وآمن بعد ذلك، وحذف متعلق الإيمان تعميماً في السلب عنهم لما ذكروا وغيره، وجمع هنا وأفرد في [يقول] تنبيهاً على عموم الكفر لهم كالأولين وقلة من يسمح منهم بهذا القول إشارة إلى غلظتهم وشدة عثاوتهم في الكفر وقوتهم. وفي ذكر قصتهم وتقبيح أحوالهم تنبيه على وجوب الإخلاص وحث على الاجتهاد في الطهارة من الأدناس في سؤال الهداية إلى الصراط المستقيم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وتصنيف الناس آخر الفاتحة ثلاثة أصناف: مهتدين ومعاندين وضالين، مثل تصنيفهم أول البقرة ثلاثة: متقين وكافرين مصارحين وهم المعاندون وضالين وهم المنافقون، وإجمالهم في الفاتحة وتفصيلهم هنا من بديع الأساليب وهو دأب القرآن العظيم الإجمال ثم التفصيل. وقد سمى ابن إسحاق كثيراً من المنافقين في السيرة الشريفة في أوائل أخبار ما بعد الهجرة، قال ابن هشام في تلخيص ذلك: وكان ممن انضاف إلى يهود ممن سمي لنا من المنافقين من الأوس والخزرج، من الأوس زوي بن الحارث وبجاد بن عثمان ابن عامر ونبتل بن الحارث وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم. " من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل! وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث إليه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذي قال: إنما محمد أذن " وعباد بن حنيف أخو سهل وعمرو بن خذام وعبد الله بن نبتل وبَحْزَج وهو ممن كان بنى مسجد الضرار وكذا جارية بن عامر ابن العطاف وابنه زيد وخذام بن خالد وهو الذي أخرج مسجد الضرار من داره ومِرْبع بن قيظي وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عامد إلى أحد: لا أحل لك يا محمد إن كنت نبياً أن تمر في حائطي! فابتدره المسلمون ليقتلوه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال **" هذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر "** ، وأخوه أوس بن قيظي وهو الذي قال يوم الخندق " إن بيوتنا عورة " وحاطب بن أمية بن رافع وكان شيخاً جسيماً قد عسى في الجاهلية وكان ابنه يزيد من خيار المسلمين، قتل رضي الله عنه يوم أحد فقال أبوه لمن بشره بالجنة: غررتم والله هذا المسكين من نفسه! وبشير بن أبيرق أبو طعيمة. وفي نسخة: طعمة، وهو سارق الدرعين الذي أنزل الله فيه**{ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم }** [النساء:107] وقزمان حليف لهم أجاد يوم أحد القتال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: **" إنه من أهل النار، فجرح فبشر بالجنة فقال: والله ما قاتلت إلا حمية لقومي! فلما اشتدت به الجراحة قطع رواهش يده فمات ".** ومن الخزرج رافع بن وديعه وزيد بن عمرو وعمرو بن قيس وقيس بن عمرو بن سهل والجد بن قيس وهو الذي قال: " ائذن لي ولا تفتني " وعبد الله بن أبيّ رأس المنافقين وإليه كانوا يجتمعون وهو القائل**{ ليخرجن الأعز منها الأذل }** [المنافقون: 8] وفيه وفي وديعة العوفي ومالك بن أبي فوقل وسويد وداعس وهم من رهطه نزل**{ ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب }** [الحشر: 11] الآية حكاية لما كانوا يدسونه إلى بني النضير إذ حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدق الله وكذبوا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكان ممن تعوذ بالإسلام وأظهره وهو منافق من أحبار يهود من بني قينقاع سعد ابن حنيف وزيد بن اللُّصيت وهو الذي قال في عزوة تبوك: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته! فأعلمه الله بقوله وبمكان الناقة، ونعيمان بن أوفى بن عمرو وعثمان بن أوفى ورافع بن حريملة وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات: **" قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين "** ، ورفاعة بن زيد بن التابوت وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هبت تلك الريح وهو قافل من غزوة بني المصطلق: " لا تخافوا، إنما هبت لموت عظيم من عظماء المنافقين " ، وسلسلة بن برهام وكنانه بن صوريا. فكان هؤلاء من المنافقين ومن نحا نحوهم يحضرون المسجد فيسمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم. انتهى. وفيه اختصار فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآيات. وابتدئت قصتهم بالتنبيه على قلة عقولهم وخفة حلومهم من حيث أن محط حالهم أنهم يخادعون من لا يجوز عليه الخداع وأن الذي حملهم على ذلك أنهم ليس لهم نوع شعور ولا شيء من إدراك بقوله تعالى - جواباً لسؤال من كأنه قال: فما قصدهم بإظهار الإيمان والإخبار عن أنفسهم بغير ما هي متصفة به مع معرفتهم بقبح الكذب وشناعته وفظاعته وبشاعته؟ { يُخادعون الله } أي يبالغون في معاملته هذه المعاملة بإبطان غير ما يظهرون مع ما له من الإحاطة بكل شيء، والخداع أصله الإخفاء والمفاعلة في أصلها للمبالغة لأن الفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده { والذين آمنوا } أي يعاملونهم تلك المعاملة، وأمره تعالى بإجراء أحكام الإسلام عليهم في الدنيا صورته صورة الخدع وكذا امتثال المؤمنين أمره تعالى فيهم. قال الحرالي: وجاء بصيغة المفاعلة لمكان إحاطة علم الله بخداعهم ولم يقرأ غيره ولا ينبغي، والخداع إظهار خير يتوسل به إلى إبطان شر يؤول إليه أمر ذلك الخير المظهر. انتهى. { وما يخدعون } أي بما يغرون به المؤمنين { إلا أنفسهم } يعني أن عقولهم لخباثتها إنما تسمى نفوساً، والنفس قال الحرالي ما به ينفس المرء على غيره استبداداً منه واكتفاء بموجود نفاسته على من سواه. انتهى. وقراءة الحذف هذه لا تنافي قراءة يخادعون لأن المطلق لا يخالف المقيد بالمبالغة، وعبر هنا بصيغة المفاعلة لشعورهم كما قال الحرالي بفساد أحوالهم في بعض الأوقات ومن بعض الأشخاص وبصيغة المجرد لعمههم عن فساد أحوالهم في أكثر أوقاتهم وعمه عامتهم ولا يكون من الله سبحانه إلا بلفظ الخدع لأنهم لا يعلمون ما يخفى عنهم من أمره ولذلك جاء في آية النساء | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ يخادعون الله وهو خادعهم }** [النساء: 142]. انتهى. { وما يشعرون } أي نوع شعور لإفراط جهلهم بأنهم لا يضرون غير أنفسهم لأن الله يعلم سرهم كما يعلم جهرهم. وحذف متعلق بالشعور للتعميم والشعور كما قال الحرالي أول الإحساس بالعلم كأنه مبدأ إنباته قبل أن تكمل صورته تتميز. وانتهى. ثم بين سبحانه أن سبب الغفلة عن هذا الظاهر كون آلة إدراكهم مريضة، شغلها المرض عن إدراك ما ينفعها فهي لا تجنح إلا إلى ما يؤذيها، كالمريض لا تميل نفسه إلى غير مضارها فقال جواباً لمن كأنه قال: ما سبب فعلهم هذا من الخداع وعدم الشعور؟ { في قلوبهم مرض } أي من أصل الخلقة يوهن قوى الإيمان فيها ويوجب ضعف أفعالهم الإسلامية وخللها، لأن المرض كما قال الحرالي: ضعف في القوى يترتب عليه خلل في الأفعال { فزادهم الله } أي بما له من صفات الجلال والإكرام لمخادعتهم بما يرون من عدم تأثيرها { مرضاً } أي سوء اعتقاد بما يزيد من خداعهم وألماً في قلوبهم بما يرون من خيبة مطلوبهم، فانسد عليهم باب الفهم والسداد جملة، والزيادة قال الحرالي: استحداث أمر لم يكن في موجود الشيء. انتهى. { ولهم } أي مع ضرر الغباوة في الدنيا الملحقة بالبهائم { عذاب أليم } في الآخرة أي شديد الألم وهو الوجع اللازم. قاله الحرالي { وبما كانوا } قال الحرالي: من كان الشيء وكان الشيء كذا إذا ظهر وجوده وتمت صورته أو ظهر ذلك الكذا من ذات نفسه. انتهى. { يكذبون } أي يوقعون الكذب وهو الإخبار عن أنفسهم بالإيمان مع تلبّسهم بالكفران، والمعنى على قراءة التشديد يبالغون في الكذب، أو ينسبون الصادق إلى الكذب، وذلك أشنع الكذب. ولما أخبر تعالى عن بواطنهم أتبعه من الظاهر ما يدل عليه فبين أنهم إذا نهوا عن الفساد العام ادّعوا الصلاح العام بقوله: { وإذا قيل لهم } وبناؤه للمجهول إشارة إلى عصيانهم لكل قائل كائناً من كان { لا تفسدوا في الأرض } أي بما نرى لكم من الأعمال الخبيثة، والفساد انتقاض صورة الشيء. قاله الحرالي، { قالوا } قاصرين فعلهم على الصلاح نافين عنه كل فساد مباهتين غير مكترثين { إنما نحن مصلحون } والإصلاح تلافي خلل الشيء. قاله الحرالي. ولما كان حالهم مبيناً على الخداع بإظهار الخير وإبطان الشر وكانوا يرون إفسادهم لما لهم من عكس الإدراك إصلاحاً فكانوا يناظرون عليه بأنواع الشبه كان قولهم ربما غرّ من سمعه من المؤمنين لأن المؤمن غرّ كريم والكافر خِبّ لئيم فقال تعالى محذراً من حالهم مثبتاً لهم ما نفوه عن أنفسهم من الفساد وقاصراً له عليهم { ألا إنهم هم } أي خاصة { المفسدون } أي الكاملو الإفساد البالغون من العراقة فيه ما يجعل إفساد غيرهم بالنسبة إلى إفسادهم عدماً لما في ذلك من خراب ذات البين وأخذ المؤمن من المأمن. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال الحرالي: ولما كان حال الطمأنينة بالإيمان إصلاحاً وجب أن يكون اضطرابهم فيه إفساداً لا سيما مع ظنهم أن كونهم مع هؤلاء تارة ومع هؤلاء تارة من الحكمة والإصلاح وهو عين الإفساد لأنه بالحقيقة مخالفة هؤلاء وهؤلاء فقد أفسدوا طرفي الإيمان والكفر، ولذلك قيل: ما يصلح المنافق، لأنه لا حبيب مصاف ولا عدو مبائن، فلا يعتقد منه على شيء - انتهى. ولما كان هذا الوصف موجباً لعظيم الرهبة اتبعه ما يخففه بقوله: { ولكن لا يشعرون } أي هم في غاية الجلافة حتى لا شعور لهم يحسنون به التصرف فيما يحاولونه من الفساد الآن بما دلت عليه ما في الآية السابقة الدالة على أن المضارع للحال ولا فيما يستقبل من الزمان لأن لا لا تقارنه إلا وهو بمعنى الاستقبال، فلأجل ذلك لا يؤثر إفسادهم إلا في أذى أنفسهم، فلا تخافوهم فإني كافيكموهم. ولما بين حالهم إذا أمروا بالصلاح العام بين أنهم إذا دعوا إلى الصلاح الخاص الذي هو أس كل صلاح سموه سفهاً فقال: { وإذا قيل } أي من أي قائل كان { لهم آمنوا } أي ظاهراً وباطناً { كما آمن الناس } أي الذين هم الناس ليظهر عليكم ثمرة ذلك من لزوم الصلاح واجتناب الفساد والإيمان المضاف إلى الناس أدنى مراتب الإيمان قاله الحرالي، وهو مفهم لما صرح به قوله: وما هم بمؤمنين { قالوا أنؤمن } أي ذلك الإيمان { كما آمن السفهاء } أي الذين استدرجهم إلى ما دخلوا فيه بعد ترك ما كان عليه آباؤهم خفة نشأت عن ضعف العقل، ثم رد سبحانه قولهم بحصر السفه فيهم فقال: { ألا إنهم هم السفهاء } لا غيرهم لجمودهم على رأيهم مع أن بطلانه أظهر من الشمس ليس فيه لبس { ولكن لا يعلمون } أي ليس لهم علم أصلاً لا بذلك ولا بغيره، ولا يتصور لهم علم لأن جهلهم مركب وهو أسوأ الجهل والعلم، قال الحرالي: ما أخذ بعلامة وأمارة نصبت آية عليه - انتهى. ولما كان الفساد يكفي في معرفته والسد عنه أدنى تأمل والسفه لا يكفي في إدراكه والنهي عنه إلا رزانة العلم ختمت كل آية بما يناسب ذلك من الشعور والعلم ولما كان العام جزء الخاص قدم عليه. ولما بيّن نفاقهم وعلته وسيرتهم عند دعاء الداعي إلى الحق بهذة الآيات بين سيرتهم في أقوالهم في خداعهم دليلاً على إفسادهم بقوله: { وإذا لقوا } واللقاء اجتماع بإقبال { الذين آمنوا } أي حقاً ظاهراً وباطناً، ولكن إيمانهم كما قال الحرالي فعل من أفعالهم لم ينته إلى أن يصير صفة لهم، وأما المؤمنون الذين صار إيمانهم صفة لهم فلا يكادون يلقونهم بمقتضاه، لأنهم لا يجدون معهم مدخلاً في قول ولا مؤانسة، لأن اللقاء لا بد فيه من إقبال ما من الملتقيين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | انتهى { قالوا } خداعاً { آمنا } معبرين بالجملة الفعلية الماضية التي يكفي في إفادتها لما سقيت له أدنى الحدوث. { وإذا خلوا } منتهين { إلى شياطينهم } أي الذين هم رؤوسهم من غير أن يكون معهم مؤمن، والشيطان هو الشديد البعد عن محل الخير - قاله الحرالي، { قالوا إنا معكم } معبرين بالأسمية الدالة على الثبات مؤكدين لها دلالة على نشاطهم لهذا الإخبار لمزيد حبهم لما أفاده ودفعاً لما قد يتوهم من تبدلهم من رأى نفاقهم للمؤمنينَ ثم استأنفوا في موضع الجواب لمن قال: ما بالكم تلينون للمؤمنين قولهم؟ { إنما نحن مستهزئون } أي طالبون للهُزء ثابتون عليه فيما نظهر من الإيمان والهزء إظهار الجد وإخفاء الهزل فيه ـ قاله الحرالي. فأجيب من كأنه قال: بماذا جوزوا؟ بقوله: { اللهُ يستهزىء بهم } أي يجازيهم على فعلهم بالاستدراج بأن يظهر لهم من أمره المرذي لهم ما لا يدركون وجهه فهو يجري عليهم في الدنيا أحكام أهل الإيمان ويذيقهم في الدارين أعلى هوان مجدداً لهم ذلك بحسب استهزائهم، وذلك أنكأ من شيء دائم توطّن النفس عليه، فلذلك عبر بالفعليه دون الاسمية. مع أنها تفيد صحة التوبة لمن تاب دون الاسمية. { ويمدهم } من المد بما يلبس عليهم. وقال الحرالي: من المدد وهو مزيد متصل في الشيء من جنسه، { في طغيانهم } أي تجاوزهم الحد في الفساد. وقال الحرالي: إفراط اعتدائهم حدود الأشياء ومقاديرها ـ انتهى. وهذا المد بالإملاء لهم حال كونهم { يعمهون } أي يخبطون خبط الذي لا بصيرة له أصلاً. قال الحرالي: من العمه وهو انبهام الأمور التي فيها دلالات ينتفع بها عند فقد الحس فلا يبقى له سبب يرجعه عن طغيانه، فلا يتعدون حداً إلا عمهوا فلم يرجعوا عنه فهم أبداً متزايدو الطغيان - انتهى. فلما تقرر ذلك كله كانت فذلكته من غير توقف { أولئك } أي الشديدو البعد من الصواب { الذين اشتروا } أي لجوا في هواهم فكلفوا أنفسهم ضد ما فطرها الله عليه مع ما نصب من الأدلة حتى أخذوا { الضلالة } أي التي هي أقبح الأشياء { بالهدى } الذي هو خير الأشياء ومدار كل ذي شعور عليه، فكأنه لوضوح ما قام عليه من الأدلة مع ما ركز منه في الفطر كان في أيديهم فباعوه بها، وسيأتي في سورة يوسف عليه السلام بيان أن مادة شرى بتراكيبها الاثني عشر تدور على اللجاجة { فما } أي فتسبب عن فعلهم هذا أنه ما { ربحت تجارتهم } مع ادعائهم أنهم أبصر الناس بها { وما كانوا } في نفس جبلاتهم { مهتدين } لأنهم مع أنهم لم يربحوا أضاعوا رأس المال، لأنه لم يبق في أيديهم غير الضلال الذي صاحبه في دون رتبة البهائم مع زعمهم أنه لا مثل لهم في الهداية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | | | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ)
قوله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: من أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين، ومن أربعين آية إلي عشرين ومائة في بني إسرائيل. وأخرج وكيع عن مجاهد قال: هؤلاء الآيات الأربع في أول سورة البقرة إلى { المفلحون } نزلت في نعت المؤمنين، واثنتان من بعدها إلى { عظيم } نزلت في نعت الكافرين، وإلى العشر نزلت في المنافقين. وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس قال: أربع آيات من فاتحة سورة البقرة في الذين آمنوا، وآيتان في قادة الأحزاب. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود { الۤمۤ } حرف اسم الله، و { الكتاب } القرآن { لا ريب } لا شك فيه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { ذلك الكتاب } قال: هذا الكتاب. وأخرج ابن جرير وابن الأنباري في المصاحف عن عكرمة. مثله. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { لا ريب فيه } قال: لا شك فيه. وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم عن أبي الدرداء قال { الريب } الشك من الكفر. وأخرج الطستي في مسائل ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل { لا ريب فيه } قال: لا شك فيه قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت ابن الزبعرى وهو يقول: | **ليس في الحق يا أمامة ريب** | | **إنما الريب ما يقول الكذوب** | | --- | --- | --- | وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله { لا ريب فيه } قال: لا شك فيه. وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله. قوله تعالى: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ أخرج وكيع وابن جرير عن الشعبي في قوله { هدى } قال: من الضلالة. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله { هدى } قال: نور { للمتقين } قال: هم المؤمنون. وأخرج ابن اسحق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { هدى للمتقين } أي الذين يحذرون من أمر الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء منه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { هدى للمتقين } قال: للمؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله { هدى للمتقين } قال: جعله الله هدى وضياء لمن صدَّق به، ونور للمتقين. وأخرج ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال: يُحبَسُ الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فينادي منادٍ: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن، لايحتجب الله منهم، ولا يستتر. قيل: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك، وعبدة الأوثان واخلصوا، لله العبادة، فيمرون إلى الجنة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عطية السعدي وكان من الصحابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" لا يبلغ العبد المؤمن أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به بأس ".** وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن أبي هريرة. أن رجلاً قال له: ما التقوى؟ قال: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم. قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن طلق بن حبيب أنه قيل له: ألا تجمع لنا التقوى في كلام يسير يرونه؟ فقال: التقوى العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء رحمة الله، والتقوى ترك معاصي الله على نور من الله مخافة عذاب الله. وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء قال: تمام التقوى أن يتقي الله العبدُ، حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حرماً. يكون حجاباً بينه وبين الحرام. وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام. واخرج ابن أبي الدنيا عن سفيان الثوري قال: إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى. وأخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الله بن المبارك قال: لو أن رجلاً اتقى مائة شيء ولم يتق شيئاً واحداً، لم يكن من المتقين. واخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا عن عون بن عبد الله قال: تمام التقوى أن تبتغي علم ما لم تعلم منها، إلى ما قد علمت منها. وأخرج ابن أبي الدنيا عن رجاء قال: من سره أن يكون متقياً فليكن أذل من قعود إبل، كل من أتى عليه أرغاه. وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق مالك بن أنس عن وهب بن كيسان قال: كتب رجل إلى عبد الله بن الزبير بموعظة. أما بعد... فإن لأهل التقوى علامات يُعْرَفون بها ويُعرِفونها من أنفسهم. من صبر على البلاء، ورضي بالقضاء، وشكر النعماء، وذل لحكم القرآن. وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن المبارك قال: قال داود لابنه سليمان عليه السلام: يا بني إنما تستدل على تقوى الرجل بثلاثة أشياء: لحسن توكله على الله فيما نابه، ولحسن رضاه فيما أتاه، ولحسن زهده فيما فاته. وأخرج ابن أبي الدنيا عن سهم بن سحاب قال: معدن من التقوى لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واخرج أحمد في الزهد وابن أبي الدنيا عن سعيد بن أبي سعيد المقبري قال: بلغنا أن رجلاًً جاء إلى عيسى فقال: يا معلم الخير كيف أكون تقياً لله كما ينبغي له؟ قال: بيسير من الأمر. تحب الله بقلبك كله، وتعمل بكدحك وقوتك ما استطعت، وترحم ابن جنسك كما ترحم نفسك. قال: من ابن جنسي يا معلم الخير؟ قال: ولد آدم كلهم، وما لا تحب أن يؤتى إليك فلا تأته إلى أحد فأنت تقي لله حقاً. وأخرج ابن أبي الدنيا عن أياس بن معاوية قال: رأس التقوى ومعظمه أن لا تعبد شيئاً دون الله، ثم تتفاضل الناس بالتقى والنهى. وأخرج ابن أبي الدنيا عن عون بن عبد الله قال: فواتح التقوى حسن النية، وخواتمها التوفيق، والعبد فيما بين ذلك، بين هلكات وشبهات، ونفس تحطب على سلوها، وعدو مكيد غير غافل ولا عاجز. وأخرج ابن أبي الدنيا عن محرز الطفاري قال: كيف يرجو مفاتيح التقوى من يؤثر على الآخرة الدنيا؟!. وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز قال: ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله، ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيراً فهو خير إلى خير. وأخرج ابن أبي الدنيا عن محمد بن يوسف الفريابي قال: قلت لسفيان أرى الناس يقولون سفيان الثوري، وأنت تنام الليل؟ فقل لي: اسكت... ملاك هذا الأمر التقوى. وأخرج ابن أبي الدنيا عن شبيب بن شبة قال: تكلم رجل من الحكماء عند عبد الملك بن مروان، فوصف المتقي فقال: رجل آثر الله على خلقه، وآثر الآخرة على الدنيا، ولم تكربه المطالب، ولم تمنعه المطامع، نظر ببصر قلبه إلى مثالي إرادته، فسما لها ملتمساً لها، فزهده مخزون، يبيت إذا نام الناس ذا شجون، ويصبح مغموماً في الدنيا مسجون، قد انقطعت من همته الراحة دون منيته، فشفاؤه القرآن، ودواؤه الكلمة من الحكمة والموعظة الحسنة، لا يرى منها الدنيا عوضاً، ولا يستريح إلى لذة سواها. فقال عبد الملك: أشهد أن هذا أرجى بالاً منا، وأنعم عيشاً. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو نعيم في الحلية عن ميمون بن مهران قال: لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه، حتى تعلم من أين مطعمه، ومن أين ملبسه، ومن أين مشربه، أمن حل ذلك أو من حرام؟. وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز. أنه لما وُلي حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف. وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز قال: يا أيها اتقوا الله، فإنه ليس من هالك إلا له خلف إلا التقوى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأخرج ابن أبي الدنيا عن قتادة قال: لما خلق الله الجنة قال لها تكلمي قالت: طوبى للمتقين. وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار قال: القيامة عرس المتقين. وأخرج ابن أبي الدنيا عن محمد بن يزيد الرحبي قال: قيل لأبي الدرداء: إنه ليس أحد له بيت في الأنصار إلا قال شعراً، فما لك لا تقول؟! قال: وأنا قلت فاستمعوه: | **يريد المرءُ أن يُعطي مُناهُ** | | **ويأبى الله إلا ما أرادا** | | --- | --- | --- | | **يقول المرءُ فائدتي وذخري** | | **وتقوى الله أفضل ما استفادا** | وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العفيف وكان من أصحاب معاذ بن جبل قال: يدخل أهل الجنة على أربعة أصناف: المتقين، ثم الشاكرين، ثم الخائفين، ثم أصحاب اليمين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ)
{ ذٰلِكَ } ذا اسمُ إشارة واللاَّمُ كنايةٌ عما جيء به للدلالة على بُعد المشارُ إليه، والكافُ للخطاب، والمشارُ إليه هو المسمَّى، فإنه منزَّلٌ منزلةَ المشاهَدِ بالحسِّ البَصَري، وما فيه من معنى البعدِ، مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه، للإيذان بعلو شأنه، وكونِه في الغاية القاصيةِ من الفضل والشرف، إثرَ تنويهِه بذكر اسمِه، وما قيل من أنه باعتبار التقصّي أو باعتبار الوصولِ من المرسِل إلى المرسَل إليه في حكم المتباعِد، وإن كان مصححاً لإيراده، لكنه بمعزل من ترجيحه على إيراد ما وُضع للإشارة إلى القريب، وتذكيرُه على تقدير كون المسمَّى هي السورة، لأن المشار إليه هو المسمَّى بالاسم المذكورِ من حيث هو مسمًّى به، لا من حيث هو مسمًّى بالسورة، ولئن ادُّعيَ اعتبارُ الحيثية الثانية في الأول بناءً على أن التسمية لتميـيز السور بعضِها من بعض، فذلك لتذكير ما بعده، وهو على الوجه الأول مبتدأٌ على حِدَةٍ، وعلى الوجه الثاني مبتدأ ثانٍ. وقوله عز وعلا: { ٱلْكِتَـٰبِ } إما خبرٌ له، أو صفةٌ، أما إذا كان خبراً له فالجملةُ على الوجه الأولِ مستأنفةٌ مؤكِّدةٌ لما أفادته الجملةُ الأولى من نباهة شأن المسمَّى، لا محلَّ لها من الإعراب، وعلى الوجه الثاني في محل الرفع على أنها خبرٌ للمبتدأ الأول، واسمُ الإشارة مغنٍ عن الضمير الرابط، والكتابُ إما مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ مبالغةً كالخَلْق والتصوير للمخلوق والمصوَّر، وإما فعلٌ بني للمفعول كاللِّباس، من الكتاب الذي هو ضمُّ الحروف بعضِها إلى بعض، وأصله الجمعُ والضمُ في الأمور البادية للحسِّ البصَري، ومنه الكتيبةُ للعسكر، كما أن أصل القراءة الجمعُ والضمُ في الأشياء الخافية عليه، وإطلاقُ الكتاب على المنظوم عبارةً لِما أن مآله الكتابة، والمرادُ به على تقدير كونِ المسمَّى هي السورة جميع القرآن الكريم وإن لم يتم نزولُه عند نزول السورة، إما باعتبار تحققِه في علم الله عز وجل، أو باعتبار ثبوتِه في اللوح، أو باعتبار نزولِه جملةً إلى السماء الدنيا، حسبما ذُكر في فاتحة الكتاب، واللام للعهد والمعنى أن هذه السورة هو الكتاب أي العمدةُ القصوى منه كأنه في إحراز الفضل كلُّ الكتاب المعهودِ، الغنيُّ عن الوصف بالكمال لاشتهاره به فيما بـين الكتب على طريقة قوله صلى الله عليه وسلم: **" الحجُّ عَرَفة "** وعلى تقدير كون المسمَّى كلَّ القرآن، فالمرادُ بالكتاب الجنسُ، واللامُ للحقيقة، والمعنى أن ذلك هو الكتابُ الكاملُ الحقيقُ بأن يُخصَّ به اسمُ الكتاب، لتفوقه على بقية الأفرادِ في حيازة كمالاتِ الجنس، كأن ما عداه من الكُتُب السماوية خارجٌ منه بالنسبة إليه كما يقال هو الرجل، أي الكاملُ في الرجولية الجامعُ لما يكون في الرجال من مراضي الخِصال، وعليه قولُ من قال: [الطويل] | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **[وإنَّ الذي حانت بفلجٍ دماؤهم]** | | **هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ** | | --- | --- | --- | فالمدحُ كما ترى من جهة حصر كمالِ الجنس في فرد من أفراده، وفي الصورة الأولى من جهة حصرِ كمالِ الكلِّ في الجزء، ولا مساغَ هناك لحمل الكتاب على الجنس، لما أن فردَه المعهود هو مجموعُ القرآن المقابلُ لسائر أفرادِه من الكتب السماوية، لا بعضُه الذي يُطلق عليه اسمُ الكتاب باعتبار كونِه جزءاً لهذا الفرد، لا باعتبار كونِه جزئياً للجنس على حِياله، ولأن حصرَ الكمالِ في السورة مُشعرٌ بنقصان سائرِ السور، وإن لم يكن الحصرُ بالنسبة إليها لتحقق المغايَرَة بـينهما، هذا على تقدير كونِ الكتاب خبراً (لذلك)، وأما إذا كان صفةً له فذلك الكتابُ على تقدير كون (ألم) خبرَ مبتدإٍ محذوفٍ، إما خبرٌ ثانٍ أو بدلٌ من الخبر الأول، أو مبتدأٌ مستقلٌ خبرُه ما بعده، وعلى تقدير كونِه مبتدأً إما خبرٌ له، أو مبتدأٌ ثانٍ خبرُه ما بعده، والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول، والمشارُ إليه على كلا التقديرين هو المسمَّى، سواءٌ كان هي السورةَ أو القرآن، ومعنى البعد ما ذُكر من الإشعارِ بعلوِّ شأنِه، والمعنى ذلك الكتاب العجيبُ الشأنِ، البالغُ أقصىٰ مراتبِ الكمال. وقيل المشارُ إليه هو الكتابُ الموعودُ، فمعنى البعدِ حينئذٍ ظاهرٌ، خلا أنه إنْ كان المسمَّى هي السورةَ ينبغي أن يُرادَ بالوعد ما في قوله تعالى:**{ إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }** [المزمل، الآية 5] كما قيل، وإن كان هو القرآنَ فهو ما في التوراة والإنجيل، هذا على تقدير كون (الم) اسماً للسورة أو القرآن، وأما على تقدير كونِها مسرودةً على نمَط التعديد فذلك مبتدأ، والكتابُ إما خبرُه أو صفتُه، والخبرُ ما بعده على نحو ما سلف، أو يُقدَّر مبتدأٌ، أي المؤلَّفُ من هذه الحروف ذلك الكتابُ، وقرىء (الم تنزيلُ الكتاب). وقوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } إما في محل الرفعِ على أنه خبرٌ (لذلك الكتابُ) على الصور الثلاثِ المذكورة، أو على أنه خبرٌ ثانٍ لألف لام ميم أو (لذلك) على تقدير كونِ الكتابِ خبرَه، أو للمبتدأ المقدرِ آخِراً على رأي من يجوِّز كونَ الخبرِ الثاني جملةً، كما في قوله تعالى:**{ فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ }** [طه، الآية 20] وإما في محل النصب على الحالية من (ذلك)، أو من (الكتاب)، والعامل معنى الإشارة، وإما جملةٌ مستأنَفة لا محل لها من الإعراب مؤكِّدة لما قبلها، وكلمةُ (لا) نافية للجنس مفيدةٌ للاستغراق، عاملةٌ عملَ إنَّ بحملها عليها، لكونها نقيضاً لها، ولازمةً للاسم لزومَها، واسمُها مبنيٌّ على الفتح لكونه مفرداً نكرةً لا مضافاً ولا شبـيهاً به، وأما ما ذكره الزجاج من أنه معربٌ وإنما حُذف التنوينُ للتخفيف فمما لا تعويلَ عليه، وسببُ بنائه تضمُّنه لمعنى مِنْ الاستغراقية لأنه مركب معها تركيبَ خمسةَ عشرَ كما توهم، وخبرُها محذوف، أي لا ريب موجودٌ أو نحوُه، كما في قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ }** [هود، الآية 43] والظرفُ صفةٌ لاسمها، ومعناه نفيُ الكونِ المطلق وسلبُه عن الريب المفروضِ في الكتاب، أو الخبرُ هو الظرف، ومعناه سلبُ الكونِ فيه عن الريب المطلق وقد جُعل الخبرُ المحذوفُ ظرفاً، وجعل المذكور خبراً لما بعده. وقرىء (لا ريبٌ فيه) على أن لا بمعنى ليس، والفرق بـينه وبـين الأول أن ذلك موجبٌ للاستغراق، وهذا مجوِّزٌ له، والريب في الأصل مصدرُ رابني إذا حصل فيك الرِّيبة، وحقيقتُها قلقُ النفس واضطرابُها، ثم استعمل في معنى الشك مطلقاً، أو معَ تُهمة، لأنه يُقلق النفسَ ويزيل الطُمَأْنينة، وفي الحديث: **" دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ ".** ومعنى نفيه عن الكتاب أنه في علو الشأن وسطوعِ البرهانِ بحيث ليس فيه مظنةُ أن يُرتاب في حقّيته، وكونِه وحياً منزلاً من عند الله تعالى، لا أنه لا يرتاب فيه أحد أصلاً، ألا ترى كيف جُوِّز ذلك في قوله تعالى:**{ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا }** [البقرة، الآية 23] الخ. فإنه في قوةِ أن يقال: وإن كان لكم ريبٌ فيما نزلنا، أو إنِ ارتبتم فيما نزلنا، الخ إلا أنه خُولِفَ في الأسلوب حيث فُرض كونُهم في الريب لا كونُ الريبِ فيه لزيادة تنزيهِ ساحة التنزيل عنه، مع نوع إشعارٍ بأن ذلك من جهتهم، لا من جهته العالية، ولم يُقصَدْ هٰهنا ذلك الإشعارُ، كما لم يقصَدِ الإشعارُ بثبوت الريبِ في سائر الكتب، ليقتضِيَ المقامُ تقديمَ الظرف، كما في قوله تعالى:**{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ }** [الصافات، الآية 47] { هُدًى } مصدرٌ من هداه، كالسُّرى والبُكى، وهو الدَّلالةُ بلطفٍ على ما يوصِل إلى البُغية، أي ما مِنْ شأنه ذلك، وقيل: هي الدلالة الموصلةُ إليها، بدليل وقوعِ الضلالة في مقابلته، في قوله تعالى:**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ }** [البقرة، الآية 16] وقوله تعالى:**{ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ }** [سبأ، الآية 24] ولا شك في أن عدم الوصولِ معتبرٌ في مفهوم الضلال، فيعتبر الوصولُ في مفهوم مقابلهِ، ومن ضرورة اعتبارِه فيه اعتبارُه في مفهوم الهدى المتعدّي، إذ لا فرق بـينهما إلا من حيث التأثيرُ والتأثّر، ومحصّلهُ أن الهدى المتعدّي هو التوجيهُ الموصِل، لأن اللازم هو التوجُّه الموصِلُ، بدليل أن مقابِلَه الذي هو الضلال توجهٌ غيرُ موصل قطعاً، وهذا كما ترى مبنيٌّ على أمرين: اعتبارِ الوصولِ وجوباً في مفهوم اللازم، واعتبارِ وجودِ اللازم وجوباً في مفهوم المتعدّي، وكلا الأمرين بمعزل من الثبوت، أما الأول فلأن مدارَ التقابل بـين الهدى والضلالِ ليس هو الوصولَ وعدمَه على الإطلاق، بل هما معتبَران في مفهوميهما على وجهٍ مخصوصٍ به، ليتحقق التقابلُ بـينهما. وتوضيحُه أن الهدى لا بد فيه من اعتبار توجّهٍ عن علم إلى ما مِنْ شأنه الإيصالُ إلى البُغية، كما أن الضلال لا بد فيه من اعتبار الجَوْرِ عن القَصْد إلى ما ليس من شأنه الإيصالُ قطعاً، وهذه المرتبةُ من الاعتبار مُسلّمةٌ بـين الفريقين، ومُحقِّقةٌ للتقابل بـينهما، وإنما النِّزاعُ في أن إمكان الوصولِ إلى البغية هل هو كافٍ في تحصيل مفهومِ الهدىٰ، أو لا بد فيه من خروج الوصولِ من القوة إلى الفعل، كما أن عدم الوصولِ بالفعل معتبرٌ في مفهوم الضلال قطعاً؟ إذا تقرر هذا فنقول: إن أريد باعتبار الوصولِ بالفعل في مفهوم الهدىٰ اعتبارُه مقارِناً له في الوجود زماناً حسَبَ اعتبارِ عدمِه في مفهوم مقابلِه فذلك بـيِّنُ البُطلان، لأن الوصولَ غايةٌ للتوجّه المذكور، فينتهي به قطعاً، لاستحالة التوجُّهِ إلى تحصيل الحاصِل، وما يبقىٰ بعد ذلك فهو إما توجّهٌ إلى الثبات عليه، وإما توجّهٌ إلى زيادته، ولأن التوجّهَ إلى المقصدِ تدريجيّ، والوصولَ إليه دفعيّ، فيستحيلُ اجتماعهما في الوجود ضرورة، وأما عدمُ الوصولِ فحيث كان أمراً مستمراً مثلَ ما يقتضيه من الضلال وجبَ مقارنتُه له في جميع أزمنةِ وجوده. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | إذ لو فارقه في آنٍ من آنات تلك الأزمنةِ لقارنه في ذلك الآنِ مقابِلهُ الذي هو الوصول، فما فرضناه ضلالاً لا يكون ضلالاً، وإن أريد اعتبارُه من حيث إنه غايةٌ له واجبةُ الترتُّب عليه لزِم أن يكون التوجُّهُ المقارِنُ لغاية الجِدِّ في السلوك إلى ما من شأنه الوصولُ عند تخلُّفِه عنه لمانعٍ خارجي كاحترام المِنيَّةِ مثلاً من غير تقصيرٍ ولا جَوْر من قِبَل المتوجِّه، ولا خللٍ من جهة المسلكِ ضلالاً، إذ لا واسطةَ بـينهما، مع أنه لا جَوْر فيه عن القصد أصلاً، فبطَلَ اعتبارُ وجوبِ الوصولِ في مفهومِ اللازم قطعاً، وتبـين منه عدمُ اعتبارِه في مفهوم المتعديّ حتماً، وأما اعتبارُ وجودِ اللازم فيه وجوباً وهو الأمرُ الثاني، فبـيانُه مبنيٌّ على تمهيد أصل، وهو أن فعلَ الفاعل حقيقةً هو الذي يصدُر عنه ويتمُّ من قِبَله، لكن لمّا لم يكن له في تحقُّقه في نفسه بدٌّ من تعلّقه بمفعوله اعتُبر ذلك في مدلول اسمِه قطعاً، ثم لما كان له باعتبار كيفيةِ صدورِه عن فاعله، وكيفيةِ تعلّقِه بمفعوله، وغيرِ ذلك آثارٌ شتّى مترتبةٌ عليه متمايزةٌ في أنفسها، مستقلةٌ بأحكامٍ مقتضيةٍ لإفرادها بأسماءٍ خاصة، وعُرض له بالقياس إلى كل أثرٍ من تلك الآثارِ إضافةٌ خاصة ممتازة عما عداها من الإضافات العارضة له بالقياس إلى سائرها، وكانت الآثارُ تابعةً له في التحقّق غيرَ منفكّةٍ عنه أصلاً إذ لا مؤثِّرَ لها سوى فاعلِه عُدَّت من متمماته، واعتُبرت الإضافةُ العارضةُ له بحسَبها داخلةً في مدلوله، كالاعتماد المتعلِّق بالجسم مثلاً، وُضع له - باعتبار الإضافةِ العارضةِ له من انكسار ذلك الجسم الذي هو أثرٌ خاصٌّ لذلك الاعتماد - اسمُ الكسر، وباعتبار الإضافةِ العارضةِ له - من انقطاعه الذي هو أثرٌ آخَرُ له - اسم القطع، إلى غير ذلك من الإضافات العارضةِ له بالقياس إلى آثاره اللازمةِ له، وهذا أمرٌ مطَّردٌ في آثاره الطبـيعية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما الآثارُ التي له مدخَلٌ في وجودها في الجملة من غير إيجابٍ لها تترتب عليه تارة وتفارقه أخرى، بحسب وجودِ أسبابِها الموجبةِ لها وعدمِها - كالآثار الاختياريةِ الصادرةِ عن مؤثراتها بواسطة كونهِ داعياً إليها - فحيث كانت تلك الآثارُ مستقلةً في أنفسها مستندةً إلى مؤثراتها غيرَ لازمةٍ له لزومَ الآثارِ الطبـيعيةِ التابعةِ له لم تعُدْ من متمماته، ولم تُعتبر الإضافةُ العارضةُ له بحسبها داخلةً في مدلوله كالإضافة العارضةِ للأمر بحسَبِ امتثالِ المأمور، والإضافةِ العارضةِ للدعوة بحسب إجابةِ المدعوّ، فإن الامتثال والإجابة وإن عُدّا من آثار الأمرِ والدعوةِ باعتبار ترتّبهما عليهما غالباً، لكنهما حيث كانا فِعلين اختياريـين للمأمور والمدعوِّ مستقِلَّيْن في أنفسهما غيرَ لازمين للأمر والدعوة، لم يُعَدا من متمماتهما، ولم تُعتبر الإضافةُ العارضةُ لهما - بحسبهما - داخلةً في مدلولِ اسمِ الأمرِ والدعوةِ، بل جُعلا عبارة عن نفس الطلب المتعلّقِ بالمأمورِ والمدعوّ، سواءٌ وجد الامتثالُ والإجابةُ أو لا. إذا تمهّد هذا فنقول كما أن الامتثالَ والإجابةَ فعلان مستقلانِ في أنفسهما صادران عن المدعوِّ والمأمورِ باختيارهما غيرُ لازمين للأمر والدعوة لزومَ الآثارِ الطبـيعية التابعة للأفعال الموجبة لها، وإن كانا مترتِّبـين عليهما في الجملة، كذلك هُدى المَهْديّ أي توجُّهُه إلى ما ذكر من المسلك فعلٌ مستقلٌ له صادرٌ عنه باختياره، غيرُ لازم للهداية، أعني التوجيهَ إليه لزومَ ما ذُكر من الآثار الطبـيعية، وإن كان مترتباً عليها في الجملة، فلما لم يُعَدّا من متممات الأمر والدعوة، ولم تعتبر الإضافةُ العارضةُ لهما بحسبهما داخلةً في مدلولهما عُلم أنه لم يُعدَّ الهدى اللازمُ من متممات الهداية، ولم تُعتبر الإضافةُ العارضة لها - بحسبه - داخلةً في مدلولها. إن قيل: ليس الهُدى بالنسبة إلى الهداية كالامتثال والإجابة بالقياس إلى أصليهما، فإنَّ تعلقَ الأمر والدعوة بالمأمورِ والمدعوِّ لا يقتضي إلا اتصافهما بكونهما مأموراً ومدعواً، وليس من ضرورته اتصافُهما بالامتثال والإجابة، إذ لا تلازمَ بـينهما وبـين الأوّلَيْن أصلاً، بخلاف الهدى بالنسبة إلى الهداية، فإن تعلقها بالمهديِّ يقتضي اتصافه به، لأن تعلقَ الفعل المتعدِّي المبنيِّ للفاعل بمفعوله يدل على اتصافه بمصدره المأخوذِ من المبنيِّ للمفعول قطعاً، وهو مستلزِمٌ لاتصافه بمصدرِ الفعل اللازم، وهل الاعتبار هو وجودُ اللازم في مدلول المتعدي حتماً؟ قلنا كما أن تعلقَ الأمر والدعوةِ بالمأمور والمدعوِّ لا يستدعي إلا اتصافَهما بما ذكر من غير تعرّضٍ للامتثال والإجابة إيجاباً وسلباً، كذلك تعلقُ الهدايةِ التي هي عبارةٌ عن الدلالة المذكورة بالمهديّ لا يستدعي إلا اتصافَه بالمدلولية، التي هي عبارةٌ عن المصدر المأخوذ من المبنيّ للمفعول، من غير تعرض لقبول تلك الدلالة، كما هو معنى الهدى اللازم، ولا لعدم قبوله، بل الهدايةُ عينُ الدعوة إلى طريق الحق، والاهتداءُ عينُ الإجابة، فكيف يؤخذ في مدلولها؟ واستلزامُ الاتصافِ بمصدر الفعل المتعدي المبنيِّ للمفعول للاتصاف بمصدر الفعل اللازم مطلقاً إنما هو في الأفعال الطبـيعية كالمكسورية والانكسار، والمقطوعية والانقطاع، وأما الأفعال الاختيارية فليست كذلك كما تحققته فيما سلف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإن قيل: التعلمُ من قبـيل الأفعال الاختياريةِ مع أنه معتبرٌ في مدلول التعليم قطعاً، فليكن الهدى مع الهداية كذلك، قلنا: ليس ذلك لكونه فعلاً اختيارياً على الإطلاق، ولا لكون التعليم عبارةً عن تحصيل العلم للمتعلم كما قيل، فإن المعلم ليس بمستقل في ذلك، ففي إسناده إليه ضربُ تجوّز، بل لأن كلاًّ منهما مفتقر في تحققه وتحصُّله إلى الآخر، فإن التعليمَ عبارةٌ عن إلقاء المبادىءِ العلمية على المتعلم وسَوْقِها إلى ذهنه شيئاً فشيئاً على ترتيب يقتضيه الحال، بحيث لا يُساق إليه بعضٌ منها إلا بعد تلقِّيه لبعضٍ آخر، فكلٌّ منهما متمِّمٌ للآخَر معتبرٌ في مدلوله. وأما الهدى الذي هو عبارةٌ عن التوجُّه المذكور ففعلٌ اختياريٌّ يستقِلُّ به فاعلُه لا دخلَ للهداية فيه سوى كونِها داعيةً إلى إيجاده باختياره، فلم يكن من متمماتها ولا معتبراً في مدلولها. إن قيل: التعليمُ نوعٌ من أنواع الهداية، والتعلمُ نوعٌ من أنواع الاهتداء فيكون اعتبارُه في مدلول التعليم اعتباراً للهدى في مدلول الهداية، قلنا إطلاقُ الهداية على التعليم إنما هو عند وضوحِ المسلك، واستبدادِ المتعلم بسلوكه من غير دخلٍ للتعليم فيه، سوى كونه داعياً إليه، وقد عرفت جليةَ الأمر على ذلك التقدير، إن قيل: أليس تخلّفُ الهدى عن الهداية كتخلف التعلم عن التعليم، فحيث لم يكن ذلك تعليماً في الحقيقة فلتكن الهداية أيضاً كذلك، وليُحمَلْ تسميةُ ما لا يستتبعُ الهدى بها على التجوز، قلنا: شتانَ بـين التخلّفَيْن، فإن تخلف التعلم عن التعليم يكون لقصور فيه، كما أن تخلفَ الانكسار عن الضرب الضعيف لذلك. وأما تخلفُ الهدى عن الهداية فليس لشائبةِ قصورٍ من جهتها، بل إنما هو لفقد سببه الموجبِ له من جهة المهديّ، بعد تكاملِ ما يتم من قبل الهادي. وبهذا التحريرِ اتَّضحَ طريقُ الهداية، وتبـين أنها عبارةٌ عن مطلق الدلالةِ على ما من شأنه الإيصالُ إلى البُغية بتعريف معالمهِ وتبـيـين مسالكِه، من غير أن يُشترط في مدلولها الوصولُ ولا القبول، وأن الدلالة المقارِنة لهما أو لأحدهما أو المفارِقة عنهما - كلُّ ذلك مع قطع النظر عن قيد المقارنة وعدمها - أفرادٌ حقيقية لها، وأن ما في قوله تعالى:**{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ }** [القصص، الآية 56] وقوله تعالى:**{ وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ }** [النحل، الآية 9] ونحوُ ذلك مما اعتُبر فيه الوصولُ من قبـيل المجاز، وانكشف أن الدلالاتِ التكوينية المنصوبة في الأنفس والآفاق والبـيانات التشريعية الواردة في الكتب السماوية على الإطلاق بالنسبة إلى كافة البرية برِّها وفاجرِها هداياتٌ حقيقيةٌ، فائضة من عند الله سبحانه، والحمدُ لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتديَ لولا أن هدانا الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [معاني التقوى ومراتبها] { لّلْمُتَّقِينَ } أي المتصفين بالتقوى حالاً أو مآلاً، وتخصيصُ الهدى بهم لما أنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بآثاره، وإن كان ذلك شاملاً لكل ناظر، من مؤمن وكافر، وبذلك الاعتبار قال الله:**{ هُدًى لّلنَّاسِ }** [البقرة، الآية 185] والمتقي اسمُ فاعلٍ من باب الافتعال من الوقاية وهي فرْطُ الصيانة. والتقوى في عُرف الشرع عبارةٌ عن كمال التوقي عما يضُره في الآخرة قال عليه السلام: **" جُماعُ التقوى في قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ } "** [النحل، الآية 90] الآية، وعن عمرَ بنِ عبد العزيز أنه تركُ ما حرم الله، وأداءُ ما فرضَ الله، وعن شَهْر بن حَوْشَب: المتقي من يترك ما لا بأسَ به حذراً من الوقوع فيما فيه بأسٌ، وعن أبـي يزيد: أن التقوى هو التورعُ عن كل ما فيه شبهة، وعن محمد بن حنيف: أنها مجانبةُ كلِّ ما يبعدك عن الله تعالى، وعن سهل: المتقي من تبرأ عَنْ حَوله وقدرته. وقيل التقوى: ألاّ يراك الله حيث نهاك، ولا يفقِدَك حيث أمرك. وعن ميمونِ بنِ مهران: لا يكون الرجلُ تقياً حتى يكون أشدَّ محاسبةً لنفسه من الشريك الشحيحِ والسُلطانِ الجائر، وعن أبـي تراب: بـين يدي التقوى خمسُ عقباتٍ لا ينالها من لا يجاوِزُهن: إيثارُ الشدة على النعمة، وإيثارُ الضعفِ على القوة، وإيثارُ الذلِّ على العزة، وإيثارُ الجهد على الراحة، وإيثارُ الموتِ على الحياة، وعن بعض الحكماء أنه لا يبلغُ الرجل سَنامَ التقوى إلا أن يكون بحيث لو جُعل ما في قلبه في طبَقٍ فطِيفَ به في السوق لم يستحْيِ ممن ينظُر إليه. وقيل: التقوى أن تَزِين سِرَّك للحق، كما تَزينُ علانيتَك للخلق. والتحقيق أن للتقوى ثلاثَ مراتبَ: (الأولى): التوقي عن العذاب المخلِّد بالتبرؤ عن الكفر، وعليه قوله تعالى:**{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ }** [الفتح، الآية 26] (والثانية): التجنبُ عن كل ما يُؤثِم من فعل أو ترك، حتى الصغائر عند قوم، وهو المتعارَفُ بالتقوى في الشرع، وهو المعنيُّ بقوله تعالى:**{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ }** [الأعراف، الآية 96] و(الثالثة): أن يتنزه عن كل ما يشغَلُ سرَّه عن الحق عز وجل، ويتبتّلَ إليه بكلّيته، وهي التقوى الحقيقيةُ المأمورُ بها في قوله تعالى:**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }** [آل عمران، الآية 102] ولهذه المرتبة عَرْضٌ عريض يتفاوت فيه طبقاتُ أصحابها حسَب تفاوتِ درجاتِ استعداداتهم الفائضةِ عليهم بموجَب المشيئةِ الإلهية، المبنيّةِ على الحِكَم الأبـية، أقصاها ما انتهى إليه هممُ الأنبـياءِ عليهم الصلاة والسلام، حيث جمعوا بذلك بـين رياسَتي النبوةِ والولاية، وما عاقهم التعلقُ بعالم الأشباحِ عن العروجِ إلى معالم الأرواح، ولم تصُدَّهم الملابسةُ بمصالح الخلقِ عن الاستغراق في شؤون الحق، لكمال استعدادِ نفوسِهم الزكيةِ المؤيدةِ بالقوة القدسية، وهدايةُ الكتابِ المبـين شاملةٌ لأرباب هذه المراتب أجمعين، فإن أريد بكونه هدىً للمتقين إرشادُه إياهم إلى تحصيل المرتبة الأولى ونيلِها، فالمرادُ بهم المشارفون للتقوى مجازاً، لاستحالة تحصيلِ الحاصل، وإيثارُه على العبارة المعرِبةِ عن ذلك للإيجاز، وتصديرِ السورة الكريمةِ بذكر أوليائه تعالى وتفخيمِ شأنهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإن أريد به إرشادُه إلى تحصيل إحدى المرتبتين الأخيرتين، فإن عنى بالمتقين أصحابَ الطبقةِ الأولى تعيَّنت الحقيقة، وإن عنى بهم أصحاب إحدى الطبقتين الأخيرتين تعيَّن المجاز، لأن الوصولَ إليهما إنما يتحقق بهدايته المترقَّبة، وكذا الحال فيما بـين المرتبةِ الثانية والثالثة، فإنه إن أريد بالهدى الإرشادُ إلى تحصيل المرتبةِ الثالثة، فإن عنى بالمتقين أصحابَ المرتبة الثانيةِ تعيَّنت الحقيقة، وإن عنى بهم أصحابَ المرتبةِ الثالثةِ تعيَّن المجاز، ولفظُ الهدايةِ حقيقةٌ في جميع الصور، وأما إن أريد بكونه هدىً لهم تثبـيتُهم على ما هم عليه أو إرشادُهم إلى الزيادة فيه على أن يكون مفهومُها داخلاً في المعنى المستعمل فيه فهو مجازٌ لا محالة، ولفظُ المتقين حقيقةٌ على كل حال، واللامُ متعلقةٌ بهدىً أو بمحذوفٍ وقع صفةً له، أو حالاً منه، ومحلُ (هدى) الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي هو هدى، أو خبرٌ مع لا ريب فيه لذلك الكتاب، أو مبتدأٌ خبرُه الظرفُ المقدم، كما أشير إليه، أو النصبُ على الحالية من (ذلك) أو من (الكتاب)، والعامل معنى الإشارة، أو من الضمير في (فيه)، والعاملُ ما في الجار والمجرور من معنى الفعل المنفي، كأنه قيل: لم يحصُلْ فيه الريبُ حال كونه هادياً، على أنه قيدٌ للنفي لا للمنفيّ، وحاصلُه انتفاءُ الريبِ فيه حال كونه هادياً، وتنكيرُه للتفخيم، وحملُه على الكتاب إما للمبالغة، كأنه نفسُ الهدى، أو لجعل المصدر بمعنى الفاعل. هذا والذي يستدعيه جزالةُ التنزيلِ في شأن ترتيب هذه الجُمل أن تكون متناسقةً تقرِّرُ اللاحقةُ منها السابقة، ولذلك لم يتخلل بـينها عاطف، فـ(ألم) جملةٌ برأسها على أنها خبرٌ لمبتدأ مضمر، أو طائفةٌ من حروف المُعجم مستقلةٌ بنفسها دالةٌ على أن المتحدَّى به هو المؤلَّفُ من جنس ما يؤلِّفون منه كلامَهم، و(ذلك الكتابُ) جملةٌ ثانيةٌ مقرِّرةٌ لجهة التحدي، لما دلت عليه من كونه منعوتاً بالكمال الفائق، ثم سجل على غاية فضلِه بنفي الريبِ فيه، إذ لا فضلَ أعلى مما للحق واليقين، و(هدى للمتقين) مع ما يقدَّر له من المبتدأ جملةٌ مؤكدةٌ لكونه حقاً لا يحوم حوله شائبةُ شكٍ ما، ودالةٌ على تكميله بعد كمالِه، أو يستتبعُ السابقة منها اللاحقةُ استتباعَ الدليل للمدلول، فإنه لما نبَّه أولاً على إعجاز المتحدَّى به من حيث إنه من جنس كلامِهم، وقد عجَزوا عن معارضته بالمرة، ظهر أنه الكتابُ البالغُ أقصى مراتبِ الكمال، وذلك مستلزمٌ لكونه في غاية النزاهة عن مظنّة الريب، إذ لا أنقصَ مما يعتريه الشك، وما كان كذلك كان لا محالة هدىً للمتقين، وفي كلِّ منها من النُكت الرائقةِ والمزايا الفائقةِ ما لا يخفى جلالةُ شأنه حسبما تحققته. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تفسير القرآن/ التستري (ت 283 هـ)
قال سهل: { الۤمۤ } [1] اسم الله عزَّ وجلَّ فيه معان وصفات يعرفها أهل الفهم به، غير أن لأهل الظاهر فيه معاني كثيرة، فأما هذه الحروف إذا انفردت، فالألف تأليف الله عزَّ وجلَّ ألف الأشياء كما شاء، واللام لطفه القديم، والميم مجده العظيم. قال سهل: لكل كتاب أنزله الله تعالى سر، وسر القرآن فواتح السور، لأنها أسماء وصفات، مثل قوله: " المص، الر، المر، كهيعص، طسم، حم، عسق " فإذا جمعت هذه الحروف بعضها إلى بعض كانت اسم الله الأعظم، أي إذا أخذ من كل سورة حرف على الولاء، أي على ما أنزلت السورة وما بعدها على النسق: " الر " و " حم " و " نون " معناه الرحمن. وقال ابن عباس والضحاك: " الم " معناه: أنا الله أعلم. وقال علي رضي الله عنه: هذه أسماء مقطعة، إذا أخذ من كل حرف حرف لا يشبه صاحبه فجمعن كان اسماً من أسماء الرحمن إذا عرفوه ودعوا به كان الاسم الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب. وقال سهل: { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } [1-2] الألف الله، واللام العبد، والميم محمد صلى الله عليه وسلم كي يتصل العبد بمولاه من مكان توحيده واقتدائه بنبيه. وقال سهل: بلغني عن ابن عباس أنه قال: أقسم الله تعالى أن هذا الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الكتاب الذي هو من عند الله تعالى فقال: { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } الألف الله، واللام جبريل عليه السلام، والميم محمد صلى الله عليه وسلم، فأقسم الله تعالى بنفسه وجبريل ومحمد عليهما السلام. وقال: إن الله تعالى اشتق من اسمه الأعظم الألف واللام والهاء، فقال:**{ إِنِّيۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ }** [القصص:30] واشتق لهم اسماً من أسمائه فجعله اسم نبيه صلى الله عليه وسلم، وآخر من اسم نبيه آدم عليه السلام فقال:**{ ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ }** [محمد:11] إلاَّ الطاغوت أي الشيطان. ومعنى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [2] أي لا شك فيه. { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [2] أي بياناً للمتقين، والمتقون هم الذين تبرؤوا من دعوى الحول والقوة دون الله تعالى، رجعوا إلى اللجا والافتقار إلى حول الله وقوته في جميع أحوالهم، فأعانهم الله ورزقهم من حيث لا يحتسبون، وجعل لهم فرجاً ومخرجاً مما ابتلاهم الله به. قال سهل: حول الله وقوته فعله، وفعله بعلمه، وعلمه من صفات ذاته. وحول العبد وقوته دعواه الساعة وإلى الساعة، والساعة لا يملكها إلاَّ الله تعالى، فالمتقون الذين يؤمنون بالغيب فالله هو الغيب ودينه الغيب، فأمرهم الله عزَّ وجلَّ أن يؤمنوا بالغيب وأن يتبرؤوا عن الحول والقوة فيما أمروا به ونهوا عنه اعتقاداً وقولاً وفعلاً ويقولوا لا حول لنا عن معصيتك إلا بعصمتك، ولا قوة لنا على طاعتك إلاَّ بمعونتك، إشفاقاً منه عليهم، ونظراً لهم من أن يدعوا الحول والقوة والاستطاعة كما ادعاها من سبقت له الشقاوة، فلما عاينوا العذاب تبرؤوا من ذلك، فلم ينفعهم تبرؤهم حين عاينوا العذاب، وقد أخبر الله عمن هذا وصفهم في قوله:**{ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ }** [غافر:85] أي دعواهم،**{ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا }** [غافر:85]**{ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }** [الأعراف:5] وكما ادعى الحول والقوة والاستطاعة فرعون وقال: متى شئت إني أؤمن، فلما آمن لم يقبل منه، قال الله تعالى:**{ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ }** [يونس:91]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ)
قوله تعالى: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ }. قيل: ذلك الكتاب الذى كتبت علىالخلق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق، لا ريب فيه: لا مبدل له. وقيل: ذلك الكتاب الذى كتبت فى قلوب أوليائى من محبتى ومعرفتى فى الرضا بموارد قضائى، والكتاب هو العهد إلى الحبيب وموضع السر، والنبى صلى الله عليه وسلم مشرف على أسرار ما خوطب به، والأولياء والصديقون بعده على حب معرفتهم وحب الكشف لهم عن لطائفه. وقيل: ذلك الكتاب الذى كتبت على نفسى فى الأزل **" إن رحمتى سبقت غضبى "** وقيل لا ريب فيه: لا شك فيه لمن فتحت سره وزينت قلبه بالفهم عنى، وقيل لا ريب فيه: لمن طهرت سره بنور الاطلاع على لطائف معانيه. قوله تعالى: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }. حقاً لأهل المعرفة وزيادة بيان وهدى. وقال سهل: بيان لمن تكبر أمر حوله وقوته. وقال الجنيد رحمه الله: هدىً للمتقين، وصلة للمنقطعين عن الأعيان. وقال أبو يزيد رحمه الله: المتقى من إذا قال: قال لله وإذا عمل عمل لله. وقال الدارانى: المتقون الذين نزع من قلوبهم حب الشهوات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ)
قوله جلّ ذكره: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }. قيل ذلك الكتاب أي هذا الكتاب، وقيل إشارة إلى ما تقدم إنزاله من الخطاب، وقيل ذلك الكتاب الذي وعدْتُك إنزاله عليك يوم الميثاق. لا ريب فيه، فهذا وقت إنزاله. وقيل ذلك الكتاب الذي كتبتُ فيه الرحمةَ على نفسي لأمتك - لا شك فيه، فتحقق بقولي. وقيل الكتاب الذي هو سابق حكمي، وقديم قضائي لمن حكمت له بالسعادة، أو ختمت عليه بالشقاوة لا شك فيه. وقيل (حكمي الذي أخبرت أن رحمتي سبقت على غضبي لا شك فيه). وقيل إشارة إلى ما كتب في قلوب أوليائه من الإيمان والعرفان، والمحبة والإحسان، وإن كتاب الأحباب عزيز على الأحباب، لا سيما عند فقد اللقاء، وبكتاب الأحباب سلوتهم وأنسهم، وفيه شفاؤهم ورَوْحهم، وفي معناه أنشدوا: | **وكتْبُكَ حولي لا تفارق مضجعي** | | **وفيها شفاء للذي أنا كاتم** | | --- | --- | --- | وأنشدوا: | **ورد الكتاب بما أقَرَّ عيوننا** | | **وشفى القلوب فَنِلْن غايات المنى** | | --- | --- | --- | | **وتقاسم الناسُ المسرةَ بينهم** | | **قِسَماً وكان أجلهم حَظّاً أنا** | قوله جلّ ذكره: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }. أي بياناً وحجة، وضياء ومحجة، لمن وقاه الحق سبحانه وتعالى من ظلمات الجهل، وبصَّره بأنوار العقل، واستخلصه بحقائق الوصل. وهذا الكتاب للأولياء شفاء، وعلى الأعداء عمًى وبلاء. المُتَّقي من اتقى رؤية تقاه، ولم يستند إلى تقواه، ولم يَرَ نجاته إلا بفضل مولاه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ)
{ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } اي ذلك سرّ الذي كُتَمْت في الحروف المُفردة للرّبانيين والروحانيين لا شك فيه وايضاً ذلك الكتابُ الذي كَتَبْتُ في صحائف القُدس من رموزا إلهامي حتى تقرأ منها ارواح الصديقين في حقائق القرآن { لاَ رَيْبَ فِيهِ } اى لا معارضة فيما تفهم اسرار العارفين من نفائس الغيب وايضاً { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } اي الذى عَلمتُ ما كان وما يكون ما يفعلُ الخلقُ بعد كونهم لا شك فيه وقيل { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } الذي جَرى في سابق علمى ان انزله اليك وقال ابو عثمان { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } الذي خاطبتُ به خواص اوليائى واحبائي امرتُهُم فيه ونهيتُهُمْ فيه فمنهم من تقرب إليّ بقراءته ومنهم من تقرب الىّ بفهمه ومنهم من تقرب الىّ بالاوامر فيه فلكل احد من عبادى فيه حَظٌّ عام وخاصٌ وقيل { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } الذي جرى في سابق علمى كتبتُ في قلوب أوليائى من محبّتي ومعرفتى ورضائي وقيل { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } الذي كتبتُ على نفسى في الازل ان رحمتى سَبَقت غضبى والكتاب اسرار الحبيب الى الحبيب فكل واحد مشرّف على ما خوطب به بقدر معرفته وحسب كشف لطائف الخطاب له وقيل { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } اشارةٌ الى ما تقَدَّم من الكتاب وقيل خطاب الاحباب عزيزٌ على الاحباب لاسيَّما عندَ فقْدِ اللقَاء وبكتاب الاحباب سلوتهم وآنسُتُهم وفيه شفاؤهم ورَوْحهم وان الله تعالى انزل كتابه على خواصّ الانبياء ليستقيموا في طلب الرّغائب ويصبروا في نزول النّوائب ويتطابوا بخطابه تسليّاً من فقدان لقائه { لاَ رَيْبَ فِيهِ } اي لا تُهْمَةَ فيما كشفت لاسرار الأنبياء والاولياء من لطائف خطابى وغرائب اسرارى وايضاً لا معارضةَ للنفس فيما عاينْتُ الرَّوحَ من سرّ الملكوت وقيل اي لا شكّ فيه لمِنَ فتحتُ سرّه وزيّنت قلبَهُ بالفهم عنّى وقيل { لاَ رَيْبَ فِيهِ } من طَهّرت سرّه بنور الاطلاع على لطائف معانيه { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } اي هادياً للعَارفينَ الى نفسى وايضاً اي بياناً عما بينى وبين عبادى من اسرار الربوبيّة والعبوديّة وايضاً اي كاشفا عمّا وعَدْت للاتقياء والاصفياء والاولياء وايضاً اي مرشداً للمريدين الى حسن الاداب وهادياً للمحبين إلى حسن الثواب ومفسراً للعارفين حقائق الخطاب وقيل كشفاً لاهل المعرفة وزيادة هدىً وبيانٍ قال ابن عطاء طريقةٌ لِمَن اراد قربى وقال سهل بيانا لمن تبرأ من حولِه وقوته والمتقى الذي وصفه الله تعالى هو الذي عَزَلَ عن الاكوان والحَدَثان تورّعا عن اغواء الشيطان وتخلقاً بخلق الرحمٰن وقال ابو يزيد المتقى من اذا قال الله واذا عَمِلَ عَمِلَ الله وقال الداراني الذي نزع من قلوبهم حب الشهوات وقيل المتّقى من اتقى رؤية تقواهُ ولم يستند الى تقواه ولم يَرَ نجاته الا بفضل مولاهُ وقال سهلٌ اذا كان هو الهادى فمن يضل في ذلك الطريق الا من سَلكه على التجارِب لا على العارف فَيصُده عن مقصده بشؤم تدبيره ويَهلِكه ولو فى في آخر القدم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ)
{ لا ريْبَ فيه } عند التحقيق بأنه الحق، وعلى تقدير القول معناه بالحق الذي هو الكلّ من حيث هو كلّ لأنه مبين لذلك الكتاب الموعود على ألسنة الأنبياء وفي كتبهم بأنه سيأتي كما قال عيسى عليه السلام: " نحن نأتيكم بالتنزيل، وأما التأويل فسيأتي به المهديّ في آخر الزمان ". وحذف جواب القسم لدلالة ذلك الكتاب عليه، كما حذف في غير موضع من القرآن مثل والشمس والنازعات وغير ذلك. أي إنّا منزلون لذلك الكتاب الموعود في التوراة والإنجيل بأن يكون مع محمد حذف لدلالة قوله: { ذلك الكتاب } عليه أي: ذلك الكتاب المعلوم في العلم السابق، الموعود في التوراة والإنجيل حق بحيث لا مجال للريب فيه. { هُدًى للمُتقينَ } أي هدى في نفسه للذين يتقون الرذائل والحجب المانعة لقبول الحق فيه. واعلم أن الناس بحسب العاقبة سبعة أصناف لأنهم: إمّا سعداء، وإمّا أشقياء. قال الله تعالى:**{ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ }** [هود، الآية: 105]، والأشقياء أصحاب الشمال، والسعداء إمّا أصحاب اليمين، وإمّا السابقون المقرّبون. قال الله تعالى:**{ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً }** [الواقعة، الآية: 7] الآية. وأصحاب الشمال إمّا المطرودون الذين حقّ عليهم القول وهم أهل الظلمة والحجاب الكلي المختوم على قلوبهم أزلاً، كما قال تعالى:**{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْس }** [الأعراف، الآية: 179] إلى آخر الآية. وفي الحديث الربانيّ: **" هؤلاء خلقتهم للنار ولا أبالي "** وأما المنافقون الذين كانوا مستعدّين في الأصل، قابلين للتنوّر بحسب الفطرة والنشأة، ولكن احتجبت قلوبهم بالرين المستفاد من اكتساب الرذائل وارتكاب المعاصي، ومباشرة الأعمال البهيمية، والسبعية، ومزاولة المكايد الشيطانية، حتى رسخت الهيئات الفاسقة والملكات المظلمة في نفوسهم، وارتكمت على أفئدتهم فبقوا شاكين حيارى تائهين، قد حبطت أعمالهم، وانتكست رؤوسهم فهم أشدّ عذاباً وأسوأ حالاً من الفريق الأول لمنافاة مسكة استعدادهم لحالهم. والفريقان هم أهل الدنيا وأصحاب اليمين. أما أهل الفضل والثواب، الذين آمنوا وعملوا الصالحات للجنة راجين لها، راضين بها، فوجدوا ما عملوا حاضراً على تفاوت درجاتهم، ولكلّ درجات مما عملوا. ومنهم أهل الرحمة الباقون على سلامة نفوسهم، وصفاء قلوبهم، المتبوئون درجات الجنة على حسب استعداداتهم من فضل ربهم، لا على حسب كمالاتهم من ميراث عملهم. وأما أهل العفو الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وهم قسمان: المعفوّ عنهم رأساً لقوة اعتقادهم، وعدم رسوخ سيئاتهم لقلّة مزاولتهم إياها، أو لمكان توبتهم عنها. فأولئك يبدّل الله سيئاتهم حسنات، والمعذبون حيناً بحسب ما رسخ فيهم من المعاصي حتى خلصوا عن درن ما كسبوا، فنجوا وهم أهل العدل والعقاب، والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا. لكن الرحمة تتداركهم وثلاثتهم أهل الآخرة. والسابقون إمّا محبون وإمّا محبوبون، فالمحبون هم الذين جاهدوا في الله حقّ جهاده، وأنابوا إليه حقّ إنابته، فهداهم سبله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | والمحبوبون هم أهل العناية الأزلية الذين اجتباهم وهداهم إلى صراط مستقيم. والصنفان هما أهل الله، فالقرآن ليس هدًى للفريق الأول من الأشقياء لامتناع قبولهم للهداية لعدم استعدادهم، ولا للثاني لزوال استعدادهم ومسخهم وطمسهم بالكلية بفساد اعتقادهم، فهم أهل الخلود في النار إلا ما شاء الله. فبقي هدى للخمسة الأخيرة الذين يشملهم المتقون، والمحبوب يحتاج إلى هداية الكتاب بعد الجذب والوصول لسلوكه في الله لقوله تعالى لحبيبه:**{ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ }** [الفرقان، الآية: 32]، وقوله:**{ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَك }** [هود، الآية: 120]. والمحبّ يحتاج إليه قبل الوصول والجذب وبعده لسلوكه إلى الله وفي الله. فعلى هذا، المتقون في هذا الموضع هم المستعدّون الذين بقوا على فطرتهم الأصلية، واجتنبوا رين الشرك والشك لصفاء قلوبهم وزكاء نفوسهم، وبقاء نورهم الفطري، فلم ينقضوا عهد الله. وهذه التقوى مقدّمة على الإيمان، ولها مراتب أخرى متأخرة عنه كما سيأتي إن شاء الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ)
{ ذلك الكتاب } الم مبتدأ على انه اسم القرآن على احد الوجوه وذلك خبره اشارة الى الكتاب فيكون الكتاب صفة والمراد به الكتاب الكامل الموعود انزاله فى الكتب المتقدمة وانما اشار بذلك الى ما ليس ببعيد لان الكتاب من حيث كونه موعودا فى حكم البعيد قالوا لما انزل الله تعالى على موسى التوراة وهى الف سورة كل سورة الف آية قال موسى عليه السلام يا رب ومن يطيق قراءة هذا الكتاب وحفظه فقال تعالى اني أنزل كتاباً أعظم من هذا قال على من يا رب قال على خاتم النبيين قال وكيف تقرؤه امته ولهم اعمار قصيرة قال انى ايسره عليهم حتى يقرؤه صبيانهم قال يا رب وكيف تفعل قال إني انزلت من السماء الى الارض مائة وثلاثة كتب خمسين على شيت وثلاثين على ادريس قال وعشرين على ابراهيم والتوراة عليك والزبور على داود والانجيل على عيسى وذكرت الكائنات فى هذه الكتب فأذكر جميع معانى هذه الكتب فى كتاب محمد واجمع ذلك كله فى مائة واربع عشرة سورة واجعل هذه السور فى ثلاثين جزأ والأجزاء فى سبعة اسباع ومعنى هذه الاسباع فى سبع آيات الفاتحة ثم معانها فى سبعة احرف وهى بسم الله ثم ذلك كله فى الألف من الم ثم افتتح سورة البقرة فاقول الم ولما وعد الله ذلك فى التوراة وانزله على محمد عليه السلام جحدت اليهود لعنهم الله ان يكون هذا ذلك فقال تعالى ذلك الكتاب كما فى تفسير التيسير ولهذه الآية وجوه اخر من الاعراب ذكرت فى التفاسير فلتطلب ثمة { لا ريب } كائن { فيه } فقوله ريب اسم لا وفيه خبرها وهو فى الاصل من رابنى الشئ اذا حصل فيك الريبة وهى قلق النفس واضطرابها سمى به الشك لانه يقلق النفس ويزيل الطمأنينية وفى الحديث **" دع ما يريبك الى ما لا يريبك ".** فان الشك ريبة والصدق طمأنينة ومنه ريب الزمان لنوائبه \* وفى التفسير المسمى بالتيسير الريب شك فيه خوف وهو اخص من الشك فكل ريب شك وليس كل شك ريبا والشك هو التردد بين النقيضين لا ترجيح لاحدهما على الآخر عند الشاك ولم يقدم الظرف على الريب لئلا يذهب الفهم الى ان كتابا آخر فيه الريب لا فيه. فان قلت الكفار شكوا فيه فلم يقروا بكتاب الله تعالى والمبتدعون من اهل القبلة شكوا فى معانى متشابهه فاجروها على ظاهرها وضلوا بها والعلماء شكوا فى وجوهه فلم يقطعوا القول على وجه منها والعوام شكوا فيه فلم يفهموا معانيه فما معنى نفى الريب عنه. فالجواب ان هذا نفى الريب عن الكتاب لاعن الناس والكتاب موصوف بانه لا يتمكن فيه ريب فهو حق صدق معلوم ومفهوم شك فيه الناس او لم يكشو كالصدق صدق فى نفسه وان وصفه الناس بالكذب والكذب كذب وان وصفه الناس بالصدق فكذا الكتاب ليس مما يلحقه ريب او يتمكن فيه عيب ويجوز ان يكون خبرا فى معنى الامر ومعناه لا ترتابوا كقوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج }** البقرة 197 المعنى لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا كما فى الوسيط والعيون { هدى } اى هو رشد وبيان { للمتقين } اى للضالين المشارفين التقوى الصائرين اليها ومثله حديث **" من قتل قتيلا فله سلبه ".** وفى تفسير الارشاداى المتصفين بالتقوى حالا او مآلا وتخصيص الهدى بهم لما انهم المقتبسون من انواره المنتفعون بآثاره وان كان ذلك شاملا لكل ناظر من مؤمن وكافر وبذلك الاعتبار قال تعالى { هدى للناس } اى كلهم بيانا وهدى للمتقين على الخصوص ارشادا \* قال فى التيسير وكذلك يقال فى كل من انتفع بشئ دون غيره انه لك على الخصوص اى انت المنتفع به وحدك وليس فى كون بعض الناس لم يهتدوا ما يخرجه من ان يكون هدى فالشمس شمس وان لم يرها الضرير والعسل عسل وان لم يجد طعمه المرور والمسك مسك وان لم يدرك طيبه المأنوف فالخيبة كل الخيبة لمن عطش والبحر زاخر وبقى فى الظلمة والبدر زاهر وخبث والطيب حاضر وذوى والروض ناظر والحسرة كل الحسرة لمن عصى وفسق والقرآن ناه آمر وفارق الرغبة والرهبة والوعد متواتر والوعيد متظاهر ولذلك قال تعالى**{ وإِنه لحسرة على الكافرين }** والمتقى اسم فاعل من باب الافتعال من الوقاية وهى فرط الصيانة قال البغوى هو مأخوذ من الاتقاء واضله الحاجز بين الشيئين ومنه يقال اتقى بترسه اى جعله حاجزا بين نفسه وبين ما يقصده وفى الحديث كنا اذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم اى اذا اشتد الحرب جعلناه حاجزا بيننا وبين العدو فكان المتقى يجعل امتثال امر الله والاجتناب عما نهاه حاجزا بينه وبين العذاب. والتقوى فى عرف الشرع عبارة عن كمال التوقى عما يضره فى الآخرة وله ثلاث مراتب الاولى التوقى عن العذاب المخلد بالتبرى من الكفر وعليه قوله تعالى**{ وألزمهم كلمة التقوى }** الفتح26. والثانية التجنب عن كل ما يؤثم من فعل او ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف بالتقوى فى الشرع وهو المعنى بقوله تعالى**{ ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا }** الأعراف96. والثالثة ان يتنزه عما يشغل سره عن الحق عز وجل ويتبتل اليه بكليته وهو التقوى الحقيقة المأمور بها فى قوله تعالى**{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته }** آل عمران102. اقصى مراتب هذا النوع من التقوى ما انتهى اليه همم الانبياء عليهم السلام حيث جمعوا رياستى النبوة والولاية وما عاقهم التعلق بعالم الاشباح عن العروج الى عالم الارواح ولم تصدهم الملابسة بمصالح الخلق عن الاستغراق فى شؤن الحق لكمال استعداد نفسوهم الزكية المؤيدة بالقوة القدسية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وهداية الكتاب المبين شاملة لا رباب هذه المراتب اجمعين فهداية العام بالاسلام وهداية الخاص بالايقان والاحسان وهداية الاخص بكشف الحجب ومشاهدة العيان. وفى التأويلات النجمية المتقون هم الذين اوفوا بعهد الله من بعد ميثاقه ووصلوا به ما امر الله ان يوصل به من مأمورات الشرع ظاهرا وباطنا يدل على هذا قوله تعالى**{ وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم }** البقرة 40 الى قوله**{ وإياى فاتقون }** البقرة42. اى اذا انتم اقررتم بربوبيتى بقولكم بلى يوم الميثاق اوفوا بعهدى الذى عاهدتمونى عليه وهو العبودية الخالصَة لي أوف بعهدكم الذي عاهدتكم عليه وهو الهداية الى. وفى الرسالة القشيرية والمتقى مثل ابن سيرين كان له اربعون حباً سمناً فاخرج غلامه فأرة من حب فسأله من أى حب اخرجتها فقال لا ادرى فصبها كلها. ومثل ابى يزيد البسطامى اشترى بهمذان جانبا من حب القرطم فلما رجع الى بسطام رأى فيه نملتين فرجع الى همذان ووضع النملتين – وحكى – ان ابا حنيفة رحمه الله كان لا يجلس فى ظل شجرة غريمه ويقول فى الخبر " كل قرض جر نفعها فهو ربا " وقيل ان ابا يزيد غسل ثوبه فى الصحراء مع صاحب له فقال له نعلق الثوب فى جدار الكروم فقال لا نضرب الوتد فى جدار الناس فقال نعلقه فى الشجر فقال انه يكسر الاغصان فقال نبسطه على الارض فقال انه علف الدواب لا نستره عنها فولى ظهره حتى جف جانب ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ)
{ ذّلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ... } قلت: الريب: تحرُّك القلب واضطرابه بالشكوك والأوهام، وتقابله الطمأنينة بالسكون إلى الحق على الدوام. يقول الحقّ جلَ جلاله: يا أيها الرسول المصطفى والنبيّ المجتبى { ذَلِكَ الْكِتَابُ } الذي أنزلناه عليه من جبروت قدسنا وملكوت عزِّنا { لا رَيْبَ فِيهِ } أنه من عندنا. فمن ارتاب فيه، أو نسبه إلى غيرنا، فقد استحق البعد من ساحة رحمتنا، وحلّت عليه شدائد نقمتنا، ومن تحقق به أنه من لدنا، وآمن بمن جاء به من عندنا، فقد استحق دخول حضرة قدسنا حتى يسمع منا ويتكلم بنا، فإذا أحببته كنت له، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يتكلم... الحديث. فيكون من الصديقين المقربين مع النبيين والمرسلين، وكان في ذروة درجات المتقين، الذين يهتدون بهدي القرآن المبين، كما أشار إلى ذلك بقوله: {... هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ } قلت: { هدى } خبر عن مبتدأ مضمر، أو مبتدأ بتقديم الخبر. أي: هو هاد للمتقين، أو فيه الهدى لهم. والهدى: هو الإرشاد والبيان، ومعناه: الدلالة الموصلة إلى الحق. والمتقي: من جعل بينه وبين مقت الله وقاية، وله ثلاث درجات: \* حفظ الجوارح من المخالفات، \* وحفظ القلوب من المساوئ والهفوات، \* وحفظ السرائر من الوقوف مع المحسوسات، فالأولى لمقام الإسلام، وإليه توجه الخطاب بقوله:**{ فَاتَقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }** [التّغَابُن: 16]، والثانية لمقام الإيمان، وإليه توجه الخطاب بقوله:**{ فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَأُوْلِي الأَلْبَابِ }** [المَائدة: 100]، والثالثة لمقام الإحسان، وإليه توجه الخطاب بقوله:**{ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }** [آل عِمرَان: 102]. يقول الحقّ جلّ جلاله: { ذَلِكَ الكِتَابُ } الذي لا يقرب ساحتَه شكٍّ ولا ارتياب، هو عين الهداية لأهل التقى من ذوي الألباب، فلا يزالون يَتَرَقَّوْنَ به في المقامات والأحوال حتى يسمعوه من الكبير المتعال، بلا واسطة تبليغ ولا إرسال، قد انمحت في حقهم الرسوم والأشكال، وهذه غاية الهداية، وتحقيق سابق العناية. قال جعفر الصادق: والله لقد تجلّى الله تعالى لخلقه في كلامه ولكن لا يشعرون. وقال أيضاً - وقد سألوه عن حالة لحقَته في الصلاة حتى خرّ مغشيّاً عليه، فلما سُرِّيَ عنه، قيل له في ذلك فقال: ما زلت أرددت الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته. فدرجات القراءة ثلاث: أدناها: أن يقرأ العبد كانه يقرأ على الله تعالى واقفاً بين يديه، وهو ناظر له ومستمع منه، فيكون حاله السؤال والتملق والتضرّع والابتهال. والثانية: أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يخاطبه بألفاظه، ويناجيه بإنعامه وإحسانه، فمقامه الحياء والتعظيم، والإصغاء والفهم. والثالثة: أن يرى في الكلام المتكلم، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته، بل يكون فانيّا عن نفسه، غائباً في شهود ربه، لم يبق له عن نفسه إخبار ولا مع غير الله قرار. فالأولى لأهل الفناء في الأفعال، والثانية لأهل الفناء في الصفات، والثالثة لأهل الفناء في شهود الذات، رضي الله عنهم، وحشرنا على منهاجهم... آمين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تفسير القرآن/ علي بن ابراهيم القمي (ت القرن 4 هـ)
{ الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } [1-2] قال أبو الحسن علي بن إبراهيم حدثنى أبي عن يحيى بن أبي عمران عن يونس عن سعدان بن مسلم عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال الكتاب علي عليه السلام لا شك فيه هدى للمتقين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ)
ذلكَ الكتابُ هذه لفظة يشار بها إلى ما قرب، وذلك إلى ما بعد، وذاك إلى ما بينهما ويحتمل أن يكون معنى ذلك ها هنا هذا؛ على قول عكرمة وجماعة من أهل العربية كالاخفش وأبي عبيدة وغيرهما؛ قال: | **أقول له والرمح يأطر متنه** | | **تأمل خفافاً انني أنا ذلكا** | | --- | --- | --- | أي انني انا هذا. وقال تعالى ذلك عالم الغيب والشهادة، وهو موجود في الحال وانما جاز أن يستعمل هذا، وهي اشارة إلى حاضر، بمعنى ذلك وهي اشارة إلى غايب لأنه كالحاضر عند الغايب. ألا ترى ان الرجل يحدث حديثاً فيقول السامع هذا كما قلت وربما قال ان ذلك كما قلت وانما جاز ذلك لقرب جوابه من كلام المخبر، وكذلك لما قال تعالى { آلم } وذكرنا معنى ذلك، قال لنبيه: يا محمد هذا الذي ذكرته وبينته، ذلك الكتاب. فلذلك حسن وضع ذلك في مكان هذا، إلا أنه اشارة إلى ما مضى. وقال قوم: ان معناه ذلك الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى وعيسى كما قال الذين اتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون ابناءهم يعني: هذا ذلك الكتاب. وقال قوم: انما اشار إلى ما كان نزل من القرآن بمكة من السور فقال ذلك، والأول اقوى لأنه اشبه باقوال المفسرين. واما من حمل ذلك على انه اشار به إلى التوراة والانجيل فقد ابطل لأنه وصفه بانه لا ريب فيه وانه هدى للمتقين، ووصف ما في ايديهم بانه مغير محرّف في قوله:**{ يحرفون الكلم عن مواضعه }** قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ: القراءة ـ قرأ ابن كثير بوصل الهاء بياء في اللفظ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة فان كان قبلها ساكن غير الياء وصلها بالواو. ووافقه حفص في قوله: فيه مهانا. ووافقه المنسى في قوله: واشركه في أمري. ووافقه قتيبة في قوله: فملاقيه وسأصليه. فمن كسر الهاء مع ان الأصل الضمة فلأجل الياء والكسرة اللتين قبلها. والهاء تشبه الألف لأنها من حروف الحلق ولما فيها من الخفاء: فكما نحوا بالألف نحو الياء بالامالة لأجل الكسرة والياء كذلك كسروا الهاء للكسرة والياء لتتجانس الصورتان، وذلك حسن وتركوا الاشباع كراهية اجتماع المقاربة كما كرهوا اجتماع الامثال، ومن أشبع وأتبعها الياء، فان الهاء وإن كانت خفية فليس يخرجها ذلك من ان تكون كغيرها من حروف المعجم التي لا خفاء فيها نحو الراء والصاد وان الهاء والنون عند الجميع في وزن الشعر بمنزلة الراء والصاد وان كان في الراء تكرير وفي الصاد استطالة، فاذا كان كذلك كان حجزها بين الساكنين كحجز غيرها من الحروف التي لا خفاء فيها المعنى: ومعنى لا ريب فيه، أي لا شك فيه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | والريب الشك، وهو قول ابن عباس ومجاهد وعطاء والسدي وغيرهم. وقيل: هو أشد الشك وهو مصدر رابني الشيء يريبني قال ساعدة بن جويه الهذلي: | **وقالوا تركن الحي قد حصروا به** | | **فلا ريب ان قد كان ثم لحيم** | | --- | --- | --- | أي أطافوا به واللحيم القتيل، يقال لحم اذا قتل والهاء فيه عائدة على الكتاب ويحتمل ان يكون لا ريب فيه خبراً، والمعنى انه حق في نفسه، ولا يكون المراد به انه لا يقع فيه ريب لأن من المعلوم أن الريب واقع فيه من الكفار وفي صحته ويجري ذلك مجرى الخبر اذا كان مخبره على ما هو به في أنه يكون صدقا وان كذبه قوم ولم يصدقوه. ويحتمل أن يكون معناه الأمر أي تيقنوه ولا ترتابوا فيه قوله تعالى: هُدىً لِلمتقِينَ المعنى: معناه نور وضياء ودلالة للمتقين من الضلالة وانما خص المتقين بذلك وان كان هدى لغيرهم من حيث انهم هم الذين اهتدوا به وانتفعوا به كما قال: **{ إنما تنذر من اتبع الذكر }** وان كان انذر من لم يتبع الذكر ويقول القائل: في هذا الأمر موعظة لي اولك وان كان فيه موعظة لغيرهما. ويقال هديت فلانا الطريق اذا ارشدته ودللته عليه، أهديه هداية الاعراب: ويحتمل ان يكون منصوبا على الحال من الكتاب وتقديره ذلك الكتاب هاديا للمتقين وذلك يكون مرفوعاً بآلم. والكتاب نعت لذلك، ويحتمل ان يكون حالا من الهاء في (فيه)، كأنه قال: لا ريب فيه هاديا ويحتمل ان يكون رفعاً من وجوه: أولها ـ ان يكون خبراً بعد خبر كأنه قال: هذا كتاب هدى أي قد جمع انه الكتاب الذي وعدوا به وانه هدى كما يقولون: هذا حلو حامض يريدون انه قد جمع الطعمين. ويحتمل ان يكون رفعاً بانه خبر ابتداء محذوف وتقديره هو هدى لأن الكلام الأول قد تم ويحتمل ان يكون رفعه على قولك ذلك الكتاب لا ريب كأنك قلت: هذا الكتاب حق لأن لا شك بمعنى حق. ثم قال بعد ذلك فيه هدى للمتقين. وهدى يذكر في جميع اللغات وحكي عن بعض بني اسد هذه هدى حسنة تدغم النون في اللام عند الاكثر (والمتقين) مجرور باللام والمتقي هو الذي يتقي بصالح اعماله عذاب الله مأخوذ من اتقاء المكروه بما يجعله حاجزاً بينه وبينه كما قال ابو حية النميري: | **والقت قناعاً دونه الشمس واتقت** | | **باحسن موصولين كف ومعصم** | | --- | --- | --- | وقيل ان المتقين هم الذين اتقوا ما حرم عليهم وفعلوا ما وجب عليهم. وقيل ان المتقين هم الذين يرجون رحمة الله ويحذرون عقابه. وقيل ان المتقين هم الذين اتقوا الشرك وبرئوا من النفاق وهذا الوجه ضعيف لأنه يلزم عليه وصف الفاسق المتهتك بانه متق اذا كان برياً من الشرك والنفاق. وأصل الاتقاء الحجز بين الشيئين ومنه اتقاه بالترس لأنه جعله حاجزاً بينه وبينه واتقاه بحق كذلك ومنه الوقاية لأنها تحجز بين الرأس والاذى. ومن التقية في اظهار خلاف الابطان. والفرق بينه وبين النفاق: ان المنافق يظهر الخير ويبطن الشر، والمتقي يظهر القبيح ويبطن الحسن. ويقال وقاه يقيه وقاية وتوقاه توقياً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ)
قوله جل اسمه: ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ " ذلك " اسم مبهم يُشار به الى البعيد، فإن كان اشارة الى ما في اللوح المحفوظ أو الى القرآن باعتبار كونه في اللوح المحفوظ لقوله تعالى:**{ وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا }** [الزخرف:4] سواء كان الۤمۤ اسماً للقرآن أو السورة، أو مقسَما به، كما اخترناه، فيكون إشارة الى البعيد ما هو الرسم. وأما إذا جعل إشارة الى الۤمۤ وأوّل بالمؤلَّف من هذه الحروف، أو فُسِّر بالسورة، أو القرآن الموجود بين أظهرنا، ففي الإشارة الى القريب الحاضر بما يُشار الى البعيد الغائب لا بدّ من وجه. وقد ذكروا فيه وجوها: أحدها: إنّه وقعت الإشارة الى الۤمۤ بعدما سبق التكلّم به وتقضّى والمقتضّي في حكم المتباعد. وثانيها: إنّه لمّا وصَل من المرسِل الى المرسَل إليه وقع في حد البُعد عنه. وثالثها: إنّ القرآن وإن كان حاضراً الى ظاهره وصورته، لكنّه غائب نظراً إلى أسراره ومعانيه، لاشتماله على علومٍ عظيمة وحِكَم كثيرة يتعسّر اطّلاع القوّة البشريّة عليها، يل يتعذّر في هذه النشأة فيجوز أن يشار إليه كما يشار الى البعيد الغائب. ورابعها: إنّ الله تعالى وعَد رسولَه (صلّى الله عليه وآله) عند مبعثه أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء، وهو (صلّى الله عليه وآله) أخبَر أمّته بذلك، ويؤيّده قوله:**{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }** [المزمل:5] في سورة المزمّل وهي إنّما نزلَت في ابتداء المبعث. وخامسها: إنّه تعالى خاطَب بني إسرائيل؛ لأن سورة البقرة مدنيّة، وأكثرها احتجاج على اليهود، وقد كانت بنو اسرائيل أخبرهم موسى وعيسى (عليهما السلام) أنّ الله يرسل محمداً (صلّى الله عليه وآله) وينزّل عليه كتاباً، فقال تعالى: { ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } ، أي الذي أخبر به الأنبياء المتقدّمون أنّ الله سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل. وسادسها: ما قاله الأصمّ: إنّ الله تعالى أنزل الكتاب بعضَه بعد بعض، فنَزل قبل سورة البقرة سوَر كثيرة، وهي كلّ ما نزل بمكّة ممّا فيه الدلالة على التوحيد وعلْم المعاد، وعلم النفس، وإثبات النبوّة، وأحوال الملائكة والجنّ، وعلْم السماء والعالَم وغير ذلك. فقوله " ذَلِكَ " إشارة الى تلك السوَر والآيات التي نزلت قبل هذه السورة، وقد يسمّى بعض القرآنِ قرآناً كما في قوله تعالى:**{ وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ }** [الأعراف:204] وقال تعالى: حاكياً عن الجن:**{ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ }** [الأحقاف: 30] وهم ما سمعوا إلاّ البعض. واعلم أنّ أصل ذلك وهذا " ذا " وهي كلمة إشارة زيدت الكاف عليها للخطاب، واللاّم للتوكيد، والهاء للتنبيه، فأصلهما واحد، فإذا قَرُب الشيء أُشير إليه فقيل: " هذا " اى تنبّهْ أيّها المخاطَب، فيشبه أن يكون دلالة ذلك على البعيد عُرفاً طارياً على أصل الوضع للقرينة التي ذكرناها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | و " الكتاب " أصله: الكَتْب. وهو الجمع، ومنه " الكتيبة " للجند لانضمام بعضهم الى بعض، وهو مصدرٌ بمعنى المكتوب، كالحساب، وقيل: سمّي به المفعول مبالغةً ثمّ عبّر عن المنظوم لفظاً قبل أن يكتب، لأنه مما يكتب، كما يقال للمكتوب: كلام، باعتبار انّه ما كان قبل الكتابة. وقد مر في المفاتيح إنّهما واحد بالذات مختلفان بالإضافة وهو اسمٌ للقرآن وله أسماء كثيرة: الكتاب، والقرآن، والفرقان والذكر:**{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ }** [الزخرف:44]. والتذكرة:**{ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ }** [الحاقة:48]. والذكرىٰ:**{ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ }** [الذاريات:55]. والتنزيل:**{ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [الشعراء:192]. والحديث:**{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ }** [الزمر:23]. والموعظة:**{ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ }** [يونس:57]. والشفاء:**{ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ }** [يونس:57]. والحكم:**{ وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً }** [الرعد:37]. والحكمة:**{ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ }** [القمر:5]. والحكيم:**{ يسۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ }** [يس:1 - 2]. والحبل:**{ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً }** [آل عمران: 103]. والروح:**{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا }** [الشورى:52]. والبرهان:**{ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ }** [النساء:174]. والكريم:**{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ }** [الواقعة:77 - 78] والعظيم:**{ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ }** [الحجر:87]. والفصل:**{ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ }** [الطارق:13]. والهدى: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } (2). والمهيمن:**{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ }** [المائدة:48]. وغير ذلك كثيرٌ كما يظهر بالمراجعة إلى القرآن. فصل في اتّصال قوله: { الۤمۤ } ، بقوله: { ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } ، قال صاحب الكشّاف: إن جعلت الۤمۤ اسماً للسورة، ففي التأليف وجوهٌ: أن يكون الۤمۤ مبتدءاً وذلك متبدءاً ثانيا؛ والكتاب خبره، والجملة خبر المبتدإ الأول. ومعناه: إنّ ذلك هو الكتابُ الكامل، كأنّ ما عداه من الكُتب في مقابلته ناقص، وانّه الذي يستأهل أن يسمّى كتاباً، كما تقول: هو الرجل، أي الكامل في الرجوليّة، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيّات الخصال. وأن يكون الكتاب صفة، ومعناه: " هو ذلك الكتاب الموعود " ، وأن يكون " الۤمۤ " خبر مبتدإ محذوف، أي: " هذه الۤمۤ } ويكون " ذلك " خبراً ثانياً، أو بدلاً على أن يكون " الكتاب " صفة. وأن يكون " هذه الۤمۤ " جملة، و " ذلك الكتاب " جملة أخرى وإن جعلت الۤمۤ بمنزلة الصوت، كان ذلك بمتدأ خبره " الكتاب " أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل، او " الكتاب " صفته والخبر ما بعده. أو قدر مبتدأ محذوف، أي هو يعني المؤلَّف من هذه الحروف ذلك الكتاب. وقرأ عبد الله الۤمۤ تنزيل الكتاب لا ريب فيه، وتأليف هذا ظاهرٌ، انتهى كلامه. وعلى ما اخترناه من كون " الۤمۤ جملة قَسَمية إما أن يكون " ذلك " مبتدأ و " الكتاب " خبره، أو عطف بيان، أو صفة له، أو بدل منه، و " لا ريب فيه " جملة في مضوع الخبر، والمعنى أُقسِم بالله ذي الخلق والأمر انّ ذلك الكتاب هو الكتاب الذي لا ريب فيه، لأنّ علومه برهانيّات لا يعتريها تبديل وتغيير ولا نسخ وتحريف، ومقدّماتها يقينيّات لا يشوبها شكّ وشبهة ولا يشوّشها وهمٌ ورَيبٌ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما جعل " لا ريب " فيه في موضع الحال، وعاملها إسم الإشارة، وجعل " هدىً " خبراً عن ذلك الكتاب، فلا يخلو عن بُعد. فصل الرَّيب: قريب من الشكّ، وفيه زيادةٌ، كأنه ظنّ بشيء، تقول: رابَني أمر فلان، إذا طننتَ به. ومنه قوله (صلّى الله عليه وآله): **" دعْ ما يُريبكَ الى ما لا يُريبك ".** وأما قولهم: رَيبُ الأمر، ورَيبُ الزمان لحوادثه، كقوله تعالى:**{ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ }** [الطور:30]، وقول الشاعر: | **قَضينا من تهامةَ كلَّ ريب** | | **وخيبرَ ثمَّ أجمعنا السيُوفا** | | --- | --- | --- | في معنى ما يختلج في القلب من أسباب الغيظ وقلَق النفس واضطرابها، فهما يرجعان أيضاً إلى معنى الشكّ، لأن الشكّ ريبة، والعلْم طمأنينة، وما يخاف به من ريب المنون أمرٌ محتمل فهو كالمشكوك فيه. وكذلك ما اختلج فيه القلْب وتعلقت به النفس فهو غير مستيقن. أقول: إعلم أنّ الإمكان والشكّ يجريان مجرى واحداً، كما انّ الوجوب والعَلْم اليقيني يجريان مجرى واحداً، إلاّ أن الأولين حال الوجود العيني، والأخيرين حال الوجود العلمي، وإذا كان الموجود عين المعلوم، فقد كان الوجوب عين العلم، كما في علم الباري بذاته، وبالأمور الصادرة عن ذاته من جهة علمه بذاته. وكذلك قد يكون الإمكان عين الشكّ، كما في إدراكنا الأشياء المحسوسة والمتغيّرة، فقوله لاَ رَيَب فيه، المراد منه نفي كونه مظنّة الريب بوجه من الوجوه - لكونه من العقليّات الدائمة الموجودة في عِلْم الله وفي اللوح المحفوظ - من التغيّر والنسخ، وسائر الكتب ليست كذلك، لأنّها ككتاب المحْوِ والإثبات قابلة للنسخ والتبديل. وإنّما قلنا " لا ريب فيه " يراد منه نفي الريب بالكليّة، لأن " لا " نفي لماهية الريب وجنسها، ونفي الماهية يقتضي نفي كلّ فرد من أفرادها، لأنه لو ثَبت فردٌ من أفرادها، لثبَتت الماهية معه، وذلك يناقض نفيَها بالكليّة. ولهذا السرّ كان قولنا: لا إلٰه إلاّ الله، نفياً لجميع الآلهة سوى الله. وأمّا قراءة " لا ريبٌ فيه " بالرفع، نقيض قولنا: ريبٌ فيه، كما قرأها ابو الشعثاء، فذلك النفي لا يوجب انتفاء جميع الأفراد، لأنّه ليس لنفي الماهية، بل لنفي فرد من الأفراد، وهو لا ينافي ثبوت فرد آخر. واعلم أنّه إذا جعل " ذلك الكتاب " إشارة الى القرآن الحاضر عندنا، فيكون معنى " لا ريب فيه ": أنّه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب العاقل بعد إمعان النظر الصحيح والفكر السليم في كونه وَحياً من عند الله، بالِغاً حدّ الإعجاز، لا انّ أحداً لا يرتاب فيه، فليس المراد نفي الريب على سبيل الاستغراق فيه، إذ كم من مرتاب فيه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | بل المراد نفي كونه مظنّة للريب ومتعلّقاً له. ألا ترى الى قوله:**{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ }** [البقرة:23] الآية، فإنّه ما أبعدَ وجود الريب عنهم، بل بيّن لهم الطريق الى أزاحة ذلك عن أذهانهم، وهو أن يجتهدُوا ويجرّبوا نفوس أمثالهم في معارضة نجْم من نجومه، وهم أمراء الكلام وزُعماء المحاورة، ويبذلوا غاية جهدهم في مقابلة سورة من سوره، وهم فُرسان اللسان والمُتهالِكون على الافتنان في القصائد والرجَز، حتّى إذا عجَزوا عنها تحقّق لهم أن ليس في كونه بالغاً من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بذّت بلاغة كل ناطق، وشقّت غبار كلّ سابق، محالٌ للشبهة ولا مدخل للريبة. ليعلموا أنّه لم يتجاوز الحدّ الخارج من قول الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح عيون البصراء، إلاّ لأنّه ليس بكلام البشَر، وأنّه كلام خالِق القُوى والقدَر. وقيل: معناه: لا ريب فيه للمتقين، و " هدى " حال من الضمير المجرور، والعامل فيه الظرف الواقع صفة للمنفي. أقول: وهذا كقولك لمن يباحثك في مقدّمة علميّة: ما قلته لك أمرٌ بديهي عند من يهتدي به من العقول الصحيحة والقلوب السليمة. وأما النكتة في تقدير " الريب " ها هنا على الظرف، وتأخير " الغَول " عنه في قوله:**{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ }** [الصافات:47]، فهي أنّ الأهمّ ها هنا نفي الريب بالكلية عن الكتاب، ولو قلت: لا فيه ريب، لأوهم أنّ هناك كتاباً آخر حصل فيه الريب، كما قصد في قوله: لاَ فيهَا غَولٌ، تفضيل خمر الجنّة على خمور الدنيا بأنّها لا تغتال العقول كما يغتال خمر الدنيا. تنبيه الوقف على " فيه " هو المشهور، وعن نافع وعاصم انّهما وقَفا على " ريب " ولا بدّ لهما أن ينويا خبراً، ونظيره قولك: لا ضَيْرَ ولا بأس. فالتقدير: لا ريب فيه؛ فيه هدى. قيل: إنّ القراءة المشهورة أَوْلىٰ، لأنّ كون الكتاب نفسه هدىً أَوْلىٰ من أن يكون فيه هدى، وأوفق لما تكرّر في تسمية القرآن من أنّه نورٌ وهُدى. قوله جل اسمه: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ إعلم أنّه من جملة الأوصاف التي امتاز بها القرآن عن سائر الكتب النازلة على الأنبياء السابقين - صلوات الله على نبيّنا وعليهم اجمعين - أنّ القرآن نفسَه هُدىً ونورٌ، لأنّ المراد منهما، الحاصل بالمصدر، وسائر الكتب فيها هدىً ونور، كما في قوله تعالى:**{ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ }** [المائدة:44]. وقال في حقّ القرآن:**{ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ }** [المائدة:15]. وقال:**{ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ }** [الشورى:52]. وأمّا قوله:**{ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ }** [آل عمران:3 - 4]. فليس فيه نصوصيّة على كونها هدى، لاحتمال أن يكون " هدىً " حالاً من ضمير " أنزل ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكذا قوله:**{ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ }** [الأنعام:91]. لاحتمال كونه حالاً من فاعل أنزَلَ أو جَاءَ. والفرق الآخر، أنّ القرآن هدىً للمتقين، لم يكاشف بأسراره عند تجلّي أنواره إلاّ الخواصّ والمقرّبون من عباده، وهم المحبوبون وأهل المشيّة الإلٰهيّة كما قال:**{ نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا }** [الشورى:52]. وأمّا سائر الكتب فيشارك في هداها الجمهور من الناس لقوله:**{ هُدًى لِّلنَّاسِ }** [البقرة:185]. والقرآن أيضاً لاشتماله على الكتاب لما قد مرّ أنّه كلام وكتاب جميعاً، يشارك في هداه الناس، وكذا قال تعالى:**{ شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ }** [البقرة:185]. وقد مرّ في المفاتيح نظير هذا المرام. والهُدىٰ في الأصل مصدرٌ على وزن فُعّل كالسُرىٰ والبكا، ومعناه الدلالة. وقيل: بل الدلالة الموصِلةِ الى المطلوب. والكلام من الجانبين مذكور والانتقاض بالآيتين مشهور. قال صاحب الكشّاف: هو الدلالة الموصِلة الى البُغية، واستدلّ عليه بوجوه ثلاثة: بوقوع الضلالة في مقابله، قال تعالى:**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرُواْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ }** [البقرة:16]. وقال:**{ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }** [سبأ:24]. وبأنّه يقال " مهدي " في موضع المدح كمهتدي. ولو لم يكن من شرطه الايصال، لم يكن الوصف بالهُدىٰ مدحاً لأحد، لاحتمال انّه هُديَ فلم يهتد، وبأن " اهتدى " مطاوع " هدىٰ " ، ولن يكون المطاوع على خلاف معنى أصله، كما يقال: كَسَرتُه فانكَسَر، وغمَمته فاغتمَّ. والجواب عن الأول: إنّ الفرق بين الهُدىٰ والاهتداء معلومٌ، فمقابل الهُدىٰ الإضلال، لا الضلال. وعن الثاني: المنتفِعُ بالهُدىٰ يسمّىٰ مَهديّاً، لأن الوسيلة إذا لم تُفْضِ إلى المقصود، كانت نازلة منزلة المعدوم. وعن الثالث: بالنقض، فإنّ الإيتمار مطاوع للأمر، يقال: امرتُه فأتَمَر، وليس من شرط الأمر حصول الايتمار. وبالمعارضة بقولك: هَديتُه فلم يهتَدِ. تحقيق فيه اشارة [الهداية وكون القرآن هدى] واعلم أنّ أفاعيل المبادي الذاتيّة والعوالي الفعّالة، وإن كانت من قبلها عامّة تامّة لازمة الآثار والنتائج ليست فيها شائبة قوّة ونقص وفتور، إلا أنّها قد يتخلّف عنها الأثر والنتيجة لا لقصور من جانب الفاعل وعدم تماميّة وكماليّة، بل لضعف القابل، أو لسوء استعداده، أو انحرافه عن جهة القبول. ومنها الهداية، كإنزال القرآن ونحوه من الله والقرآن عين الهُدىٰ، بمعنى الحاصل بالمصدَر كما مرّ، والله هو الهادي للعباد كلّهم دائماً بالذات، لأنّ شأنه الرحمة والجود، ودأبه إفاضة الخير والوجود على الجميع من غير فتور من قِبَله، إلا انّ القوابل متفاوتةٌ،**{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً }** [البقرة:26]. إذ المراد من الهداية أو الهدى، ليس مجرد المعنى الإضافي العقلي الذي تَحَقُّقُه فرع تحقّق الطرفين، بل المراد ما به يقعُ الاهتداءُ كالقرآن والنبي (صلّى الله عليه وآله)، وكذا الكلام في نظائره كالنور والعلم والقدرة وأشباهها. فالهداية بهذا المعنى ذاتيّةٌ للقرآن، والإضلال عارضٌ، وهذا كالشمس شأنها التنويرُ والإضاءةُ، ومع هذا قد يحصل من إضاءتِها وتنويرِها في بعض الموادّ ضدّ ذلك كالظُّلمة والسواد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فمَن قال: " إنّ الهُدىٰ معناه الدلالة الموصِلة إلى البغية " أراد به فعْل ما يوجِب الوصولَ إلى المطلوب لمن هو أهله ومستحقّه، ومن تعلّقت المشيّةُ الإلٰهية بحصول السعادة الأخرويّة له، فقوله تعالى مخطاباً لبينه (صلّى الله عليه وآله):**{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }** [القصص:56] بمنزلة قوله تعالى:**{ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ }** [الروم:52] وبمنزلة قوله: انَّ الشّمسَ لا تنوِّرُ أبصارَ الخفافيش. وكذا قوله تعالى:**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** [فصّلت:17]. بمنزلة قولك: شوّقناهم فلم يشتاقوا وعلّمناهم فلم يتعلموا، ليس بمناف لكون الهداية بمعنى الدلالة الموصِلة على ما حقّقناه -. فقوله: { هُدىً لِلْمتَّقين } ، معناه إنّهم المهتدون بأنوار الكتاب، والمنتَفِعون بآياته دون غيرِهم، وإن كانت دلالته عامّة لكل ناظرٍ من مسلمٍ وكافرٍ، وصالحٍ وفاجرٍ. وبهذا الاعتبار قال: هُدىً لِلنَّاسِ، أو لأنّه لا ينتفع بالتأمّل فيه والتدبّر في آياته إلا من صَفَتْ صفحَةُ باطِنه وتطهَّر وجْهُ سرّه عن كدورات الأوهام الفاسِدة، والآثام المظلِمة، واستعمله في مطالعة الآيات الإلٰهيّة والأنوار الربّانية، والنظر في المعجزات النبويّة، والعلوم الوهبيّة لأنّه كالغذاء الصالح لحفظ الصحّةِ البدنيّة، فاذا تناولَه البدنُ الذي ليس بالنقيِّ، لا يزيده إلا شرّاً ووبالاً وسقَماً ونكالاً كما قاله بعض الأطباء. وإليه أشار بقوله:**{ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }** [الإسراء:82]. فصل في التقوى أصله وَقْوىٰ قُلبَت الواوُ تاءً كالتراث أصله وراث، فالأصل في المتّقين: الموتقين، مُفْتَعلين من الوقاية. والاتّقاء في أصل اللغة: الحجز بين الشيئين، يقال اتّقاه بالتّرس، أي جعله حاجزاً بينه وبينه. والوقاية: فرط الصيانة، سواء كان في أمرٍ دنيويٍّ أو أخرويّ، لكن لمّا وقع المتّقي في عرف الشرع في معرض المدح، فلَن يكون متّقياً إلاّ من اتّقى عمّا يضرّه في الآخرة. وله مراتب ثلاث: إحداها: التوقّي عن العذاب المخلَّد، بالتبرّي عن الشرك والجحود للحقّ والدين، والإنكار للعلم والحكْمة واليقين، وعليه يحمل قوله تعالى**{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ }** [الفتح:26]. والثانية: الاجتناب عن المآثم والمعاصي في فعْل أو ترك، حتّى الصغائر عند القوم، فرُوي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: **" لا يبلُغُ العبدُ درجةَ المتَّقين حتّى يدَع ما لا بأس به حذراً ممّا به بأس "** ، وهو المعنيُّ بقوله تعالى:**{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ آمَنُواْ وَٱتَّقَواْ }** [الأعراف:96] الآية. والثالثة: أن ينزّه عما يشغل سرّه عن الحقّ، ويجرّد عما سواه ويتبتل اليه بشَراشِره، وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله:**{ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }** [آل عمران:102]. واعلم أنّ التقوى جاءت في القرآن بمعانٍ كثيرة، كلّها ترجع الى هذه المراتب. فمنها: الإيمان، كقوله تعالى:**{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا }** [الفتح:26]. أي كلمة التوحيد وقوله:**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [الحجرات:3]. وفي الشعراء:**{ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ }** [الشعراء:11]. أي لا يؤمنون. ومنها: الخشية، كقوله في أول النساء:**{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ }** [النساء:1]. ومثله في أول الحجّ: و[في] الشعراء:**{ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ }** [الشعراء:124]. أي ألاَ تَخشون، وكذلك قول هودٌ وصالحٌ. ولوطٌ وشعيبٌ لقومهم. وفي العنكبوت:**{ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ }** [العنكبوت:16]. يعني: اخشوه. ومنها: التوبة كقوله تعالى:**{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ آمَنُواْ وَٱتَّقَواْ }** [الأعراف:96] أي تابوا. ومنها: الطاعة كقوله تعالى في النحل:**{ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ }** [النحل:2]. وفيه أيضاً:**{ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ }** [النحل:52]. وفي المؤمنون:**{ أَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ }** [المؤمنون:52]. ومنها: ترك المعصية كقوله:**{ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }** [البقرة:189]. أي ولا تعصوه. ومنها: الإخلاص كَقوله في سورة الحج:**{ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ }** [الحج:32]. أي من إخلاص القلوب. تنبيه [التقوى في الكتاب والسنّة] إعلم أنّ التقوى كنزٌ عزيزٌ، فلئن ظفرتَ به فكم تجد فيه من جوهرٍ شريف، وعلق نفيسٍ، وخيرٍ كثير، ورزقٍ كريم، وفوزٍ كبير، وغُنْم جسيم، ومُلْكٍ عظيم. وكأنّ خيرات الدنيا والآخرة جُمعت فجُعلت تحت هذه الخصلة الواحدة التي هي التقوى، وكم في القرآن من ذكرِها، وكمْ علّق بها من خيرٍ، وكمْ وُعد عليها من أجرٍ وثوابٍ وكمْ أضاف إليها من السعادة، وسنذكر عدّة من جملها. أولها: المِدْحَة والثناء، قوله:**{ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ }** [آل عمران:186]. وثانيها: الحفظ والحراسة من الأعداء، قوله:**{ وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً }** [آل عمران:120]. وثالثها: التأييد والنصرة، قوله:**{ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }** [النحل:128]. وقوله:**{ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ }** [الجاثية:19]. ورابعها: النجاة من الشدائد، والرزق من الحلال، قوله:**{ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ }** [الطلاق:2 - 3]. وخامسها: اصلاح العمل، قوله تعالى:**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }** [الأحزاب:70 - 71]. وسادسها: غفران الذنوب، قوله تعالى:**{ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ }** [آل عمران:31]. وسابعها: المحبّة، قوله تعالى:**{ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ }** [التوبة:7]. وثامنها: القبول، قوله:**{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ }** [المائدة:27]. وتاسعها: الإكرام والإعزاز، قوله:**{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ }** [الحجرات:13]. وعاشرها: البشارة عند الموت، قوله تعالى:**{ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ }** [يونس:63 - 64]. وحادي عشرها: النجاة من النار، قوله:**{ ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ }** [مريم:72] وقوله:**{ وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى }** [الليل:17]. وثاني عشرها: الخلود في الجنّة، قوله:**{ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }** [آل عمران:133]. فهذه كلّ خيرٍ وسعادةٍ يتعلّق بالتقوى، لكونه من شرائف المقامات القلبية. وعن ابن عباس: قال النبيُّ (صلّى الله عليه وآله): **" من أحبَّ أن يكون أكرم الناس، فليتّق الله، ومن أحبّ أن يكون أقوى الناس، فليتوكّل على الله، ومن أحبّ أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق مما في يده ".** وروي عن امير المؤمنين (عليه السلام) انّه قال: التقوى ترك الإصرار على المعصية، وترك الاغترار بالطاعة. وقال الحسن: التقوى أن لا تختار على الله سوى الله، وتعلمَ أنّ الأمورَ كلّها بيد الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال ابراهيم بن أدهم: التقوى أن لا يجدَ الخلقُ في لسانِك عيباً، ولا الملائكةُ في أعمالك عيباً، ولا مَلَكُ العرش في سرّك عيباً. وقال الواقدي: التقوى أن تُزّين سرَّك للحقِّ، كما زيَّنت طاهرَك للخَلْق. ويقال: التقوى أن لا يراكَ مولاكَ حيث نهاكَ. ويقال: المتّقي من سلّك طريقَ المصطفىٰ، ونبذ الدنيا وراءَ القفا، وكلَّف نفسَه الإخلاصَ والوفاء، واجتنبَ الحرامَ والجفاء. نكتة: لو لم يكن للمتّقين فضلٌ إلا ما في قوله تعالى: { هُدىً لِلمُتَّقينَ } ، لكفاهم، لأنّه تعالى قد بيّن انّ القرآن هُدىً للناس في قوله:**{ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ }** [البقرة:185]. ثمّ قال ها هنا في القرآن: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } ، فهذا يدلّ على أنّ المتقين هم كلّ الناس، فمَن لا يكون متقياً كأنّه ليس بإنسان. وها هنا سؤالات: أحدها: إنّ كون الشيء هدىً ودليلاً لا يختلف لشيء دون شيء؛ فلِماذا جُعِل القرآن هدىً للمتقين؟ وقد سبق تحقيق الجواب. وثانيها: إنّ المتّقي مهتدٍ؛ والمهتدي لا يهتدي ثانياً. فالقرآن لا يكون هدىً للمتقين. والجواب: إنّ المتّقي مهتدٍ بنفس ذلك الهدى، لا بهدىً ثانٍ، كما انّ الموجود موجودٌ بنفس الوجود القائم به حين كونه موجوداً، وتحصيل الحاصل بنفس ذلك التحصيل غير مستحيل، إنما المستحيلُ تحصيل الحاصل بتحصيل آخر، وايجاد الموجود بوجود آخر. وثالثها: كيف وصفَ القرآن كلّه بأنه هدىً، وفيه مجملٌ ومتشابهٌ كثير، ولولا دلالة العقل لما تميّز المحكَم من المتشابه، والمبيَّن من المُجمل، فيكون الهدى في الحقيقة هو العقل لا القرآن، وعن هذا نقل عن علي (عليه السلام)، أنّه قال لابن عباس حين بعثه رسولاً إلى الخوارج: لا تحتجْ عليهم بالقرآن فإنّه حمّالٌ ذو وجهين، ولو كان هدىً لما قال (عليه السلام) ذلك، ولأنّا نرى جميعَ فِرق الإسلام يحتجّون به، ونرى القرآن مملوّاً، بعض آياته صريحٌ في الجبر، وبعضها صريحٌ في القدَر، ولا يمكن التوفيق بينهما إلاّ بالتعسّف الشديد، فكيف يكون هدىً؟ والجواب: إنّ ذلك المجمل والمتشابه، لمّا لم ينفك عما هو المراد على التعيين، وهو إمّا دلالة العقل المنوّر بنور القرآن، وإمّا دلالة المبيّن والمحكّم من الآيات، صار كلّه هدى. وأما قوله: " لا يمكن التوفيق بين آيات الجبر وآيات القَدَر إلاّ بالتعسّف الشديد " ، فليس كذلك عند مَن هو من أهل القرآن، وهم المتّقون الراسخون في العلم والعرفان. واربعها: كلّما يتوقّف صحة كون القرآن حجةً عليه، لم يكن القرآن هدىً فيه، فاستحال كونُ القرآنِ هدىً في معرفة الله وصفاتِه، ومعرفةِ النبوّة والمعاد، ولا شكّ أنّ هذه أصول المطالب، وهي أشرف العلوم، فإذا لم يكن القرآن فيه هدىً، فكيف جعله الله هدىً على الإطلاق؟ والجواب: إنّ كمال المعرفة بالله ورسله وملكوته والنشأة الآخرة، لا يحصُل إلاّ بالقرآن، وكذا العلم بالشرائع الإلٰهية، وسائر الحقائق النبويّة، لا يُستفاد إلاّ به، والمتوقّف عليه صحّة كون القرآن حجةً هو أصل الاعتقاد بالله واليوم الآخر على وجهٍ يشترك فيه أكثر الناس، ويذعن به أوائل العقول، من غير حاجة الى ممارسة القرآن ومطالعة الآيات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والإيمان بالله واليوم الآخر مرتبةٌ عظيمةٌ ومنزلةٌ شريفةٌ، لا يوجد إلاّ في عرف القرآن وعلمَ آياتِه ومعانيه على وجهٍ تتنوّر به قلوبُ أهل الحقّ، وهو غير الاعتقاد الذي قد يحصل بمجرّد التقليد أو الرواية من غير بصيرة واهتداء، ويشترك أوائل الفِطَر ومبادئ العقول، وأمّا الإيمان الحقيقي، فالمؤمن به يحتاج الى فطرة ثانية، ونور يقذفه الله في قلب مَن يشاء مِن عباده. وخامسها: إنّ الهدى، هو الذي بلغ في البيان والوضوح الى حيث بيَّن غيره، والقرآن ليس كذلك، فإنّ المفسّرين لا يذكرون آية إلاّ وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة. وما يكون كذلك لا يكون مبيَّناً في نفسه، فضلاً عن أن يكونَ مبيِّناً لغيره، فكيف يكون هدى؟ والجواب: من تكلَّم في التفسير، وشأنه نقل الأقاويل المتعارضة من غير بصيرة يقتدرُ بها على ترجيح واحدٍ منها على الباقي، أو الاطلاع على فهم جديد أعطاه الله من لدنه، فهذا السؤال متوجّهٌ عليه، لا على أهل القرآن من أرباب التأويلات والعلوم الربوبيّات والنبوّات. تتمة في الإعراب: حكَم صاحبُ الكشّاف أولاً أنّ محل " هدى للمتقين " الرفعُ، لأنّه خبر مبتدإ محذوف. أو خبرٌ مع " لا ريب فيه " (لذلك). أو مبتدأ إذا جُعل الظرفُ المقدم خبراً عنه، أو أنّه منصوب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة، أو الظرف كما مرّ. ثم أضربَ عن هذا المجال صفحاً، وجعل " الۤمۤ " جملةً برأسها، أو طائفة من حروف المعجم مستقلّة بنفسها، " وذلك الكتاب " جملةً ثانية، و " لا ريب فيه " ثالثة، " وهدىً للمتقين " رابعة، قائلاً: إنّه أرسخُ عِرقاً في البلاغة وموجب حسن النظْم حيث جيء بأربع جمل متناسقة هكذا من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض، تعزّز اللاحقة منها السابقة. بيانه: أنّه نبّه أولاً على أنّه الكلام المتحدّىٰ [به]، ثمّ اشير اليه بأنّه الكتابُ المنعوت بغاية الكمال، ثمّ نصّ على كماله بنفي الريب عنه، إذ لا كمال أعلى مما للحقّ واليقين، ولا نقصَ أنقص ممّا للباطل والشبهة. ثمّ اكدّ كونه يقيناً لا يحوم الشكّ حوله، وحقّاً لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلْفه، بأنّه هدىً للمتقين، وبعد أن رتّبت هذا الترتيب الأنيق، ونظمت هذا النظْم السويّ، حيث تستتبع كلّ واحدة منها ما يليها استتباع الدليل للمدلول، لم يخلُ كلّ واحدة من الأربع من نكتة جزيلة: ففي الأولى: الحذف والرمز الى الغرَض بألطفِ وجه. وفي الثانية: ما في التعريف من الفخامة. وفي الثالثة: تقديم الريب على الظرف حذراً عن ايهام خلاف المقصود. وفي الرابعة: الحذفُ والتوصيفُ للبالغة بالمصدر، وايراده منكّراً للتعظيم، وتخصيصه بالمتّقين باعتبار الغاية، وتسمية المُشارف بالتقوى متّقياً ايجازاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير الصافي في تفسير كلام الله الوافي/ الفيض الكاشاني (ت 1090 هـ)
{ (1) ألَم }: في المعاني عن الصادق عليه السلام ألم هو حرف من حروف اسم الله الأعظم المقطّع في القرآن الذي يؤلفه النبيّ صلّى الله عليه وآله أو الامام فإذا دعا به أُجيب. أقول: فيه دلالة على أن الحروف المقطّعات أسرار بين الله تعالى ورسوله ورموز لم يقصد بها إفهام غيره وغير الرّاسخين في العلم من ذرّيته والتخاطب بالحروف المفردة سنّة الأحباب في سنن (سنة خ ل) المحابّ فهو سرّ الحبيب مع الحبيب بحيث لا يطّلع عليه الرقيب: | **بين المحبين سرّ ليس يفشيه** | | **قول ولا قلم للخلق يحكيه** | | --- | --- | --- | والدليل عليه أيضاً من القرآن قوله عز وجل: وأُخر متشابهات، إلى قوله: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. ومن الحديث ما رواه العياشي عن أبي لبيد المخزومي قال: قال أبو جعفر عليه السلام: يا أبا لبيد إنه يملك من ولد العباس إثنا عشر يقتل بعد الثامن منهم اربعة تصيب أحدهم الذبحة فتذبحه فئة قصيرة أعمارهم خبيثة سيرتهم منهم الفويسق الملقب بالهادي والناطق والغاوي يا أبا لبيد إن لي في حروف القرآن المقطعة لعلماً جمّاً إن الله تبارك وتعالى أنزل { الم } ذلك الكتاب فقام محمد حتى ظهر نوره وثبتت كلمته وولد يوم ولد وقد مضى من الألف السابع مأة سنة وثلاث سنين ثم قال: وتبيانه في كتاب الله في الحروف المقطعة إذا عددتها من غير تكرار وليس من حروف مقطعة حرف تنقضي أيامه إلا وقام من بني هاشم عند انقضائه ثم قال: الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فذلك مائة وواحد وستون ثم كان بدور خروج الحسين بن علي عليهما السلام الم الله فلما بلغت مدته قام قائم من ولد العباس عند المص ويقوم قائمنا عند انقضائها بالمر فافهم ذلك وعد واكتمه. وفي تفسير الامام أن معنى الم إن هذا الكتاب الذي أنزلته هو الحروف المقطعة التي منها الف لام ميم وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين. أقول: هذا أيضاً يدل على أنها من جملة الرموز المفتقرة إلى هذا البيان فيرجع إلى الأول وكذا سائر ما ورد في تأويلها وهي كثيرة. وفي المجمع عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي. أقول: ومن الأسرار الغريبة في هذه المقطعات أنها تصير بعد التركيب وحذف المكررات " عليّ صراط حق نمسكه أو صراط علي حق نمسكه ". { (2) ذَلِكَ الْكِتَابُ }: في تفسير الإمام عليه السلام يعني القرآن الذي افتتح بالم هو ذلك الكتاب الذي أخبرت به موسى عليه السلام ومن بعده من الأنبياء وهم أخبروا بني إسرائيل اني سأنزله عليك يا محمد { لاَ رَيْبَ فيهِ }: لا شك فيه لظهوره عندهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | العيّاشي عن الصادق عليه السلام قال: كتاب علي لا ريب فيه. أقول: ذلك تفسيره وهذا تأويله وإضافة الكتاب إِلى علي بيانيّة يعني أن ذلك إشارة إلى علي والكتاب عبارة عنه، والمعنى أن ذلك الكتاب الذي هو علي لا مرية فيه وذلك لأن كمالاته مشاهدة من سيرته وفضائله منصوص عليها من الله ورسوله واطلاق الكتاب على الانسان الكامل شائع في عرف أهل الله وخواص أوليائه. قال أمير المؤمنين عليه السلام: | **دواؤك فيك وما تشعر** | | **وداؤك منك وما تبصر** | | --- | --- | --- | | **وانت الكتاب المبين الذي** | | **بأحرفه يظهر المُضْمَرُ** | | **وتَزعُم أنّكَ جِرْمٌ صغير** | | **وفيكَ انطوَى العالمَ الأكبرُ** | وقال الصادق عليه السلام الصورة الإنسانية هي أكبر حجّة لله على خلقه وهي الكتاب الذي كَتَبَه الله بيده. { هُدىً }: بيان من الضلالة. { لِلْمُتَّقِينَ }: الذين يتّقون الموبقات ويتّقون تسليط السّفه على أنفسهم حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه عملوا بما يوجب لهم رضاء ربّهم. وفي المعاني والعياشي عن الصادق عليه السلام: المتّقون شيعتنا. أقول: وإنّما خص المتّقين بالاهتداء به لأنهم المنتفعون به وذلك لأن التقوى شرط في تحصيل المعرفة الحقّة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ)
تحقيق مراتب الوجود وانّه حقيقة واحدة مشكّكة { الۤمۤ } ، اعلم انّ الوجود حقيقة واحدة متأصّلة فى التحقّق ظاهرة فى مراتب كثيرة متفاوتة بالشدّة والضّعف والتقدّم والتأخّر متكثّرة بحسب تكثّر التّعيّنات الّتى نشأت من تنزّلاتها والتعيّنات تابعة لها فى التحقّق مجعولة بمجعوليّتها معلولة بمعلوليّتها لا حكم لها فى انفسها لانّها من حيث هى ليست الاّ هى لا معدومة ولا موجودة ولا موصوفة بشيء من توابعهما، والمدارك الحيوانيّة لتقيّدها بالتعيّنات الكثيرة لا تدرك الاّ الموجودات المقيّدة بالتعيّنات من حيث هى مقيّدة ولذا تتوهّم انّ الاصل فى التحقّق والمجعول بالذّات والمحكوم عليه هى التعيّنات وانّ الوجودات امور اعتباريةً لا حقيقة لها ولا عليّة ولا معلوليّة فيها. واعلم ايضاً انّ مرتبة من تلك الحقيقة غيب مطلق لا خبر عنها ولا اسم لها ولا رسم والاخبار عنها بأن لا خبر عنها من قبيل الأخبار عن المعدوم المطلق بأنه لا خبر عنه والاسم الّذى استأثره الله تعالى لنفسه ولم يظهره لغيره هو فى تلك المرتبة، ومرتبة منها ظهور المرتبة الاولى وتجلّيه تعالى بأسمائه وصفاته وذلك الظّهور يسمّى باعتبارٍ بالواحديّة وباعتبارٍ بالمشيئة كما يسمّى باعتبارٍ بالعرش وباعتبارٍ بالكرّسى وباعتبارٍ بالله وباعتبارٍ بالعلىّ وهى كلمة الله وفعل الله واضافته الاشراقيّة ونور الله فى السّماوات والارض وتسمّى بنفس الرّحمن للتّشبيه بنفس الانسان وهى البرزخ بين الوجوب والامكان والجامع بين الاضداد كلّها وفى تلك المرتبة يجئ الكثرة كما شئت بحسب كثرة الاسماء والصّفات وبحسب كثرة التعيّنات: تحقيق معنى بسيط الحقيقة كلّ الاشياء وما قيل انّ بسيط الحقيقة كلّ الاشياء وليس بشئ منها، اشارة الى تلك المرتبة؛ والاّ فمرتبة الوجوب الذّاتىّ لا خبر عنه كما مرّ ووجه كونها كلّ الاشياء انّها ماخوذة لا بشرط والمأخوذ لا بشرطٍ لا ينافى المأخوذ بشرطٍ بل هو مقطوع النّظر عن الشّرط وما ورد فى الايات والاخبار فى بيان هذا الاتّحاد مشيراً الى بقاء المغايرة بين هذه المرتبة وبين الاشياء مثل قوله تعالى**{ وَهُوَ مَعَكُمْ }** [الحديد: 4] وقوله تعالى**{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ }** [البقرة: 115] وقوله**{ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ }** [فصلت: 54] وقوله**{ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ }** [النور: 35] وقول المعصوم (ع) داخل فى الاشياء لا بالممازجة وقوله (ع) ما رأيت شيئاً الاّ ورأيت الله فيه وغير ذلك ممّا يدلّ على الاتّحاد والمغايرة اجود من قولهم بسيط الحقيقة كلّ الاشياء وليس بشيئ من الاشياء، حيث يحتاج الى هذا القيد ويوهم اتّحاده مع الاشياء ومن حيث انّها مقيّدة بقيودها ومراتب منها ظهورات تلك المرتبة بحسب تنزّلاتها وترقيّاتها وتكثّراتها بحسب التعيّنات وتلك المراتب هى الّتى تسمّى باعتبار بالملائكة الّذين هم قيام لا ينظرون والصّافات صفّاً والمدبّرات امراً والرّكّع والسجّد وعالم الكون المنقسم الى السّماويّات والارضيّات، وباعتبارٍ بالاقلام العالية واللّوح المحفوظ ولوح المحو والاثبات وعالم العين المنقسم الى الاباء العلويّة والامّهات السّفليّة ودار الجنّة وكلّ تلك المراتب نازلها مثال وظهور لعاليها وعاليها حقيقة لنازلها والانسان الّذى هو خلاصة جملة الموجودات ايضاً له مراتب كمراتب العالم وكلّ مرتبة منه حقيقة او رقيقة لما سواه فكلّما يجرى على لسان بشريّته رقيقة وتنزّل وظهور لما يجرى على لسان مرتبة مثاله، وما يجرى على لسان مثاله رقيقة لما يجرى على لسان قلبه، وهكذا وكلّ تلك رقائق لما ثبت فى المشيّة وفضل الانسان بقدر الاستشعار بتلك المراتب والاتّصال بها، ومن لا يدرك من الانسان سوى البشريّة فقدره قدر البهيمة واكثر النّاس غافلون عن تلك المراتب لا يدركون من الانسان سوى ما فى ظاهره والمستشعر بتلك المراتب والمتحقّق بها اذا تكلّم هو او غيره بكلمة يستشعر بحقائق تلك الكلمة وصور حروفها فى المراتب العالية او يتحقّق بها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | تحقيق جريان الحروف المقطّعة على لسان المنسلخ عن هذا البنيان وما قيل: انّ كلّ حرف من القرآن فى الالواح العالية اعظم من جبل احد؛ صحيح عند هذا الاستشعار او التحقّق، وقد يتحقّق الانسان بالمراتب العالية او يستشعر بها اوّلاً ثمّ ينزّل من تلك المراتب على بشريّته الكلمات الّتى هى رقائق ما يظهر عليه من الحقائق فى تلك المراتب، وقد نقل عن بعض انّه كان اذا سمع كلمة دالّة على المعانى العالية او ذكر كلمة كذلك يأخذه الغشى وينسلخ من بشريّته وربّما كان يتكلّم حين الغشى بالحقائق الالٰهيّة وقد كان رسول الله (ص) يأخذه حالة شبيهة بالغشى حين نزول الوحى وكان (ص) قد يظهر عليه الحقائق حينئذٍ فى تلك المراتب بنحو التّفصيل وتنزّل على بشريّته ايضاً بنحو التَّفصيل وتسمّى النّازلة بكلام الله وبالحديث القدسى، وقد يظهر الحقائق بنحو الاجمال والبساطة وتنزّل على بشريّته كذلك فيعبّر عنها بطريق الاجمال وبالحروف المقطّعة مثل فواتح السّور. معنى تأويل القرآن وبطونه وتأويل القرآن عبارة عن ارجاع الفاظه الى حقائقها الثابتة فى تلك المراتب، وبطون القرآن عبارة عن الحقائق الثابتة فى تلك المراتب ولكن المراتب باعتبار كليّاتها سبعاً وباعتبار جزئيّاتها ترتقى الى سبعمائة الف اختلف الاخبار فى تحديد البطون ولعدم امكان التّعبير عن تلك الحقايق للرّاقدين فى مراقد الطّبع الاّ بالامثال كما يظهر الحقائق العينيّة للنّائمين عن هذا العالم بالامثال اختلف الاخبار فى تفسر فواتح السّور وما ورد فى تفسيرها صريحاً او تلويحاً تبلغ اثنى عشر وجهاً فنقول: { الۤمۤ } ، امّا بعض حروف الاسم الاعظم القى اليه (ص) تنبيهاً له (ص) حتّى يؤلّفه ويدعو به او هو من الأسرار الّتى لا يطلع عليها احداً او هو مأخوذ من حروف الكلمات الّتى هي اشارة اليها مثل انا الله المجيد او هو مأخوذ من حروف الاسماء الّتى هي اشارة اليها مثل الله، جبرئيل (ع) محمّد (ص) او هو اسم للسّورة او للقرآن كما قيل او هو اسم لله أو لمحمّد (ص) او هى اسماء للحروف البسيطة المركّب منها الكلمات، والمقصود انّ المؤلّف، من مسمّياتها هذا القرآن او السّورة وهى لغتكم وانتم عاجزون عن مثله او هو اشارة الى مراتب وجود العالم او مراتب وجوده (ص) او هو اشارة الى بد وظهور اقوام وآجالهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فى الوجوه المحتملة فى اعراب فواتح السور وعدم اعرابها وقد ذكر اكثر هذه الوجوه فى الاخبار صريحاً وما لم يذكر صريحاً يستفاد منها تلويحاً وسائر ما قيل فيها ضعيف جدّاً وما يترتّب عليها من جهة خواصّها ومزاجها واعدادها فخارج عن اسلوب العربيّة، فإن كان حروف الاسم الاعظم فامّا ان يكون له محلّ من الاعراب اولا، فان كان ذا محلّ من الاعراب فامّا ان يكون مبتدء محذوف الخبر او خبراً محذوف المبتدأ او مفعولاً لمحذوف مثل اذكر او ادع او الّف ممّا يناسب المقام او هو مقسم به منصوبَ بفعل القسم او مبتدأ لما بعده او خبر لما بعده او منادى بتقدير حرف النّداء فهذه ثمانية اوجهٍ تجرى بأعيانها او بامثالها فى جميع الوجوه المحتملة فى { الۤمۤ } الّتى هى اثنا عشر ويحصل من ضرب الثمانيّة فى الاثنى عشر ستّة وتسعون وجهاً ويجرى فى كلّ وجوه عديدة من الاعراب بحسب تركيبه مع ما بعده ونذكر وجوه الاعراب فى واحد من الستّة والتّسعين لتكون ميزاناً للباقى فنقول اذا كان { الۤمۤ } مأخوذا من حروف الاسم الاعظم وكان مبتدء محذوف الخبر تقديره { الۤمۤ } حروف الاسم الاعظم مثلاً فذلك بدل منه او عطف بيان والكتاب صفة لذلك او بدل منه ولا ريب على قراءة الفتح والرّفع " لا " فيه لنفى الجنس او عاملة عمل ليس او ملغاة عن العمل فتلك اثنى عشر والجملة حال او مستأنفة فتلك اربعة وعشرون وخبر " لا " محذوف لشيوع حذف خبر لا حتّى قيل انّه لا خبر لها وفيه صفة لريب او حال عنه لوقوعه فى سياق النفى او حال عن { الۤمۤ } فتلك اثنان وسبعون وهدى حال من الرّيب او من { الۤمۤ } او صفة لريب او خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف بالوجوه الثّلثة فى حمل المصدر على الذّات او تمييز فتلك ستّة عشر وجهاً مضروبة فى الاثنين والسّبعين فيحصل الف ومئة واثنان وخمسون 1152 و { للمتّقين } صفة لهدى او لريب او حال عن الم او عن ريب او خبر مبتدء محذوف او ظرف لغو متعلّق بهدى او بفيه فتلك سبعة مضروبة فى سابقتها تحصل ثمانية آلاف واربعة وستّون 8064، او على الوجوه الاربعة والعشرين الحاصلة عند تركيب لا ريب، لفظ فيه خبر مقدّم { وهدى } مبتدء مؤخّر والجملة صفة لريب او حال منه او حال من الم او مستأنفة فتلك ستّة وتسعون و { للمتّقين } على الوجوه الثمانية باضافة وجه كونه خبراً بعد خبر الى الوجوه السبعة السّابقة فتلك بعد الضّرب سبعمائة وثمانية وستّون تجمع مع الوجوه السّابقة تحصل ثمانية آلاف وثمانمائة واثنان وثلثون 8832، او على الوجوه الاربعة والعشرين { هدى } مبتدء وللمتّقين خبره والمسوّغ تقديم فيه وفيه حال عن هدى او ظرف لغو متعلّق بالخبر او متعلّق بهدى على ضعف والجملة على الوجوه الاربعة فتلك اثنا عشر تضرّب فى الاربعة والعشرين وتحصل مئتان وثمانية وثمانون وتجمع مع السّابقة حتّى تحصل تسعة آلاف ومائة وعشرون 9120، أو نقول على الوجوه الاربعة والعشرين " فيه " خبر لا وهدى صفة للرّيب او حال عنه او عن الم او خبر بعد خبر او خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف بالاوجه الثّلاثة فى حمل المصدر او هدى تميز وللمتّقين صفة بالوجهين او حال بالوجهين او خبر مبتدء محذوف او خبر بعد خبر او لغو بالوجهين فهذه ثلاثة آلاف وستّمائةٍ وثمانية واربعون 3648 أو نقول على الوجوه الاربعة والعشرين فيه صفة لريب او حال عنه او عن " الۤمۤ " وهدى على الوجوه الثّلاثة فى حمل المصدر خبر لا وللمتّقين على الوجوه الثّمانية وبعد الضّرب تحصل الف وسبعمائةٍ وثمانية وعشرون 1728، أو نقول على الاربعة والعشرين فيه على الوجوه الثّلاثة وهدى على التّسعة عشر وللمتّقين خبر لا تحصل بعد الضّرب الف وثلاث مئة وتسعة وستون 1369، أو نقول على الوجوه الاربعة والعشرين فيه هدى جملة معترضة او صفة او حال بالوجهين وللمتّقين خبر لا فهذه بعد الضّرب ستّة وتسعون 96، أو نقول على الاربعة والعشرين فيه هدى خبر لا وللمتّقين على الوجوه التّسعة باضافة كونه خبراً بعد خبر لهدى الى الثّمانية السّابقة فهذه مأتان وستّة عشر 216، أو نقول على الاربعة والعشرين فيه هدى للمتّقين جملة واحدة خبر لا وفيه لغو متعلّق بقوله للمتّقين او بهدى او حال عن هدى فهذه اثنان وسبعون 72 تجمع وتضاف الى مجموع الحاصل السّابق تحصل ستّة عشر الفاً ومائان وتسعة واربعون 16249 او نقول ذلك بدل او عطف بيان على تقدير كون " الۤمۤ " مبتدء محذوف الخبر والكتاب مبتدء وما بعده خبره والجملة حال او مستأنفة والخبر لا ريب محذوف الخبر على الثّلاثة في لفظ لا وفيه صفة الرّيب او حال منه وامّا كونه خبراً بعد خبر او حالاً عن " الۤمۤ " او عن الكتاب فضعيف جدّاً لاحتياج لا ريب حينئذٍ الى تقدير عائد للمبتدء وهدى صفة للرّيب او حال عنه او عن " الۤمۤ " او عن الكتاب او خبر بعد خبر للكتاب او خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف بالاوجه الثّلاثة فى حمل المصدر او هدى تميز وللمتّقين صفة لهدى او لريب او حال عن " الۤمۤ " او عن الكتاب او عن الرّيب او خبر بعد خبر او خبر مبتدء محذوف او ظرف لغو متعلّق بهدى او بفيه فهذه بعد الضّرب اربعة آلاف وسبعمائة واثنان وخمسون 4752، او نقول على الوجوه الاثنى عشر حين كون لا ريب محذوف الخبر خبراً للكتاب فيه هدى صفة لريب او حال منه او من الكتاب او من " الۤمۤ " او خبر بعد خبر او جملة مستأنفة وللمتّقين على العشرة باضافة كونه خبرا بعد خبر لهدى الى التّسعة السّابقة تحصل بعد الضّرب سبعمائة وعشرون 720 او نقول على الاثنى عشر هدى للمتّقين جملة على السّتة وفيه حال من هدى او لغو متعلّق بقوله للمتّقين او بهدى فهذه مأتان وستّة عشر 216، او نقول على الاثنى عشر خبر لا ريب لفظة فيه وهدى صفة للرّيب او حال منه او من " الۤمۤ " او من الكتاب او خبر بعد خبر للكتاب او خبر بعد خبر للا ريب او خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف بثلاثة اوجه فى حمل المصدر او تميز وللمتّقين صفة هدى او صفة ريب او حال عن الرّيب او عن " الۤمۤ " او عن الكتاب او خبر بعد خبر للكتاب او للا ريب او خبر مبتدء محذوف او لغو متعلّق بهدى او بفيه فهذه ثلثة آلاف 3000، او نقول على الوجوه الاثنى عشر فيه صفة لريب او حال عنه او عن الكتاب وهدى خبر لا ريب على الوجوه الثلاثة فى المصدر وللمتّقين على العشرة فهذه الف وثمانون 1080، او نقول على الاثنى عشر فيه على الثّلاثة وهدى على الاثنين والعشرين وللمتّقين خبر لا او على الاثنى عشر فيه هدى صفة او حال عن الرّيب او عن الكتاب او خبر بعد خبر وللمتّقين خبر لا او على الاثنى عشر فيه هدى خبر لا وللمتّقين على العشرة او فيه هدى للمتّقين خبر لا فهذه تسعمائةٍ واثنان وسبعون يجمع مع سابقتها فتصير عشرة آلاف وسبعمائة وستّين 10760 تضاف عليها المجموع السّابق فتصير سبعة وعشرين الفاً وتسعة 27009، او نقول ذلك بدل او عطف بيان والكتاب مبتدء والجملة حال او مستأنفة ولا ريب محذوف الخبر على الثّلاثة حال او معترضة وفيه خبر الكتاب وهدى على الاثنين والعشرين وللمتّقين على التّسعة فهذه بعد الضّرب تصير اربعة آلاف وسبعمائة واثنين وخمسين 4752، او نقول ذلك بدل او عطف بيان والكتاب معطوف مبتدء والجملة على الوجهين ولا ريب محذوف الخبر على السّتّة وفيه صفة لريب او حال عنه او عن الكتاب وهدى على الثّلاثة خبر الكتاب وللمتّقين على التّسعة فهذه الف وتسعمائة واربعة واربعون 1944، او نقول على الاربعة والعشرين عند لا ريب لفظ فيه خبر لا وهدى على الثّلاثة خبر الكتاب وللمتّقين على التّسعة فهذه ستّمائة وثمانية واربعون 648، او نقول ذلك بدل او عطف بيان والكتاب مبتدء والجملة على الوجهين والخبر للمتّقين ولا ريب محذوف الخبر على السّتة وفيه على الثّلاثة وهدى صفة لريب او حال منه او من الكتاب او خبر مبتدء محذوف بالاوجه الثّلاثة فى المصدر او تميز فهذه الف ومائة واثنان وخمسون 1152، او نقول على الاربعة والعشرين عند تركيب لا ريب حين كون للمتّقين خبر الكتاب فيه خبر لا وهدى خبر بعد خبر او صفة للريب او حال عنه او عن الكتاب او خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف على الثّلاثة فى حمل المصدر او تميز فهذه اربعمائة وستّة وخمسون 456، او نقول على الاربعة والعشرين عند لا ريب حين كون خبر الكتاب للمتّقين فيه على الثّلاثة وهدى خبر لا على الثلاثة او على الاربعة والعشرين فيه هدى خبر لا فهذه مئتان واربعون 240، او نقول ذلك بدل او عطف بيان والكتاب مبتدء والجملة على الوجهين ولا ريب محذوف الخبر على السّتة وخبر الكتاب فيه هدى وللمتّقين على التّسعة او على الاربعة والعشرين فيه هدى للمتّقين خبر الكتاب فهذه مئتان واربعون تجمع مع سابقتها وتضاف الى المجموع فتصير ستّة وثلثين الفاً واربعمائة وواحداً واربعين 36441، او نقول " الۤمۤ " محذوف الخبر وذلك مبتدء والكتاب خبره والجملة حال او مستأنفة ولا ريب محذوف الخبر على الثّلاثة فى لفظ لا خبر بعد خبر او حال عن " الۤمۤ " او عن ذلك او مستأنفة وفيه خبر بعد خبر او صفة للريب او حال عنه او عن ذلك او عن " الۤمۤ " وهدى صفة للريب او حال عنه او عن ذلك او عن " الۤمۤ " او خبر بعد خبر او خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف بالاوجه الثّلاثة فى حمل المصدر او تميز وللمتّقين صفة هدى او صفة ريب او حال عن الريب او عن ذلك او عن " الۤمۤ " او خبر بعد خبر او خبر مبتدء محذوف او ظرف لغو بالوجهين فهذه ثلاثة وعشرون الفاً وسبعمائةٍ وستّون 23760، او نقول ذلك مبتدء والكتاب خبره والجملة على الوجهين ولا ريب على الاثنى عشر وجملة فيه هدى على الخمسة وللمتّقين على التّسعة او على الاربعة والعشرين الحاصلة عند تركيب لا ريب جملة فيه هدى للمتّقين على الخمسة وفيه على الاربعة بجعله حالاً عن هدى او ظرفاً للخبر او لهدى او خبراً مقدّماً فهذه الف وخمسمائةٍ وستّون 1560، او نقول جملة ذلك الكتاب على الوجهين ولا ريب على الاثنى عشر وفيه خبر لا وهدى خبر بعد خبر للا ريب او لذلك او خبر مبتدء محذوف او مفعول فعل محذوف او صفة ريب او حال عنه او عن ذلك او عن " الۤمۤ " بثلاثة اوجه فى المصدر او تميز وللمتّقين خبر بعد خبر بالوجهين او خبر مبتدء محذوف او صفة هدى او صفة ريب او حال عن الرّيب او عن ذلك او عن " الۤمۤ " او ظرف لغو متعلّق بهدى او بفيه فهذه ستّة آلاف 6000، او نقول جملة ذلك الكتاب على الوجهين ولا ريب على الاثنى عشر وفيه صفة ريب او حال عنه او عن " الۤمۤ " او عن ذلك وهدى على الثّلاثة خبر لا وللمتّقين على العشرة فهذه الفان وثمان مئة وثمانون 2880، او نقول على الاربعة والعشرين عند تركيب لا ريب فيه على الاربعة وهدى على التّسعة عشر وللمتّقين خبر لا فهذه الف وثمانمائة واربعة وعشرون 1824 او نقول على الاربعة والعشرين فيه هدى خبر لا وللمتّقين على العشرة او فيه هدى للمتّقين بالوجوه الاربعة فى لفظ فيه خبر لا فهذه ثلاثمائةٍ وستّة وثلاثون 336، تجمع مع سابقتها وتضاف الى المجموع الحاصل السّابق فتصير اثنين وسبعين الفاً وثمانمائةٍ وواحداً 72801، او نقول ذلك مبتدء والجملة على الوجهين والكتاب بدل او عطف بيان ولا ريب محذوف الخبر على الثّلاثة خبر ذلك وفيه على الخمسة وهدىً على الاثنين والعشرين وللمتّقين على التّسعة فهذه احد عشر الفاً وثمانمائةٍ وثمانون 11880، او نقول على الاثنى عشر عند تركيب لا ريب لفظ فيه خبر لا وهدىً على الخمسة والعشرين وللمتّقين على العشرة فهذه ثلاثة آلاف 3000، او نقول على الوجوه الاثنى عشر عند لا ريب جملة فيه خبر لا وللمتّقين على العشرة او جملة فيه هدى للمتّقين بالوجوه الاربعة فى لفظ فيه خبر لا فهذه مائة وثمانية وستّون 168، او نقول على الوجوه الاثنى عشر عند لا ريب لفظ فيه على الاربعة وهدىً خبر لا بالثّلاثة وللمتّقين على العشرة فهذه الف واربعمائة واربعون 1440، او نقول على الاثنى عشر عند لا ريب لفظ فيه على الاربعة وهدىً على التّسعة عشر وللمتّقين خبر لا فهذه تسعمائة واثنا عشر 912، او نقول على الاثنى عشر عند لا ريب للمتّقين خبر لا وفيه هدىً على الخمسة باضافة كونها جملة معترضة فهذه ستّون 60 تجمع مع سابقتها وتضاف الى مجموع الحاصل السّابق فتصير تسعين الفاً وتسعمائة وثلاثة وخمسين 90953، او نقول ذلك مبتدء والجملة على الوجهين والكتاب بدل او عطف بيان ولا ريب محذوف الخبر على السّتة وفيه خبر ذلك وهدىً على الاثنين والعشرين وللمتّقين على التّسعة فهذه اربعة آلاف وسبعمائة واثنان وخمسون 4752، او نقول على الاربعة والعشرين عند تركيب لا ريب محذوف الخبر لفظ فيه على الاربعة وهدىً على الثّلاثة خبر ذلك وللمتّقين على التّسعة او على الاربعة والعشرين فيه خبر لا وهدىً على الثلاثة خبر ذلك وللمتّقين على العشرة او فيه على الاربعة وهدىً على الثّلاثة خبر ذلك وللمتّقين خبر لا على ضعف فهذه ثلاثة آلاف وستّمائة 3600 او نقول على الاربعة والعشرين عند لا ريب محذوف الخبر لفظ فيه على الاربعة وهدىً على التّسعة عشر وللمتّقين خبر ذلك او فيه هدىً على الاربعة او على الاربعة والعشرين للمتّقين خبر ذلك وفيه خبر لا وهدىً على الاثنين والعشرين او على الاربعة والعشرين للمتّقين خبر ذلك وفيه على الاربعة وهدىً خبر لا بالثلاثة او على الاربعة والعشرين للمتّقين خبر ذلك وفيه هدىً خبر لا فهذه الفان وسبعمائة وستّون 2760، او نقول على الاربعة والعشرين عند لا ريب محذوف الخبر فيه هدىً خبر ذلك وللمتّقين على التّسعة او للمتّقين خبر لا او فيه هدىً للمتّقين بالوجوه الاربعة فى لفظ فيه خبر ذلك فهذه ثلاثمائةٍ وستّة وثلاثون 336 تجمع مع سابقتها وتضاف الى مجموع الحاصل السّابق فتصير مائة الف والفين واربعمائة وواحداً 102401، او نقول على تقدير كون " الۤمۤ " محذوف الخبر ذلك مبتدء والكتاب مبتدئان والجملة على الوجهين ولا ريب محذوف الخبر بالثّلاثة خبر المبتدء الثّانى وفيه صفة للريب او حال منه او من الكتاب او من ذلك او " الۤمۤ " او خبر بعد خبر لذلك او للكتاب وهدىً خبر بعد خبر بالوجهين او صفة الرّيب او حال منه او من الكتاب او من ذلك او من " الۤمۤ " او خبر مبتدأ محذوف او مفعول فعل محذوف بالثلاثة فى حمل المصدر او تميز وللمتّقين صفة لهدىً او لريب او حال بالوجوه الاربعة او خبر بعد خبر بالوجهين او خبر مبتدء محذوف او ظرف لغو بالوجهين فهذه اثنا عشر الفاً وتسعمائة وستّة وثلاثون 12936، او نقول على السّتة عند لا ريب لفظ فيه خبر لا وهدىً خبر بعد خبر للا ريب او للكتاب او لذلك او صفة لريب او حال بالوجوه الاربعة او خبر مبتدأ محذوف او مفعول فعل محذوف بالوجوه الثّلاثة فى المصدر او تميز وللمتّقين صفة لهدىً او لريب او حال بالاربعة او خبر بعد خبر بالثلاثة او خبر مبتدأ محذوف او ظرف لغو بالوجهين فهذه الفان ومائتان واثنان وثلاثون 2232، او نقول على السّتة عند لا ريب لفظ فيه على السّبعة وهدىً على الثلاثة خبر لا وللمتّقين على الاثنى عشر فهذه الف وخمسمائة واثنا عشر 1512، او نقول على السّتّة عند لا ريب لفظ فيه على السّبعة وهدىً على الاحد والثّلاثين وللمتّقين خبر لا او على السّتّة عند لا ريب فيه هدىً على السّبعة وللمتّقين خبر لا او فيه هدىً للمتّقين بالاربعة فى لفظ فيه خبر لا او فيه هدىً خبر لا وللمتّقين على الاثنى عشر فهذه الف واربعمائة واربعون 1440، او نقول ذلك مبتدء والكتاب مبتدئان والجملة على الوجهين ولا ريب محذوف الخبر بالثّلاثة فى لفظ لا معترضة او حال عن الكتاب او عن ذلك او عن " الۤمۤ " وفيه خبر الكتاب وهدىً صفة ريب او خبر بعد خبر بالوجهين او حال بالوجوه الاربعة او خبر مبتدأ محذوف او مفعول فعل محذوف بالثّلاثة فى لفظ المصدر او تميز وللمتّقين صفة بالوجهين او حال بالاربعة او خبر بعد خبر بالوجهين او خبر مبتدأ محذوف او ظرف لغو بالوجهين فهذه سبعة آلاف وثلاثمائة واثنان وتسعون 7392، او نقول على الاربعة والعشرين عند لا ريب لفظ فيه صفة او حال بالاربعة وهدىً بالثلاثة خبر الكتاب وللمتّقين بالاحد عشر فهذه ثلاثة آلاف وتسعمائةٍ وستّون 3960، او نقول على الاربعة والعشرين فيه خبر لا وهدىً بالثّلاثة خبر الكتاب وللمتّقين على الاحد عشر فهذه سبعمائة واثنان وتسعون 792، او نقول على الاربعة والعشرين عند لا ريب لفظ فيه على الخمسة وهدىً صفة او حال بالاربعة او خبر مبتدأ محذوف او مفعول فعل محذوف بالثّلاثة فى لفظ المصدر او تميز وللمتّقين خبر الكتاب او على الاربعة والعشرين فيه خبر لا وهدىً على الخمسة والعشرين بزيادة كونه خبراً بعد خبر للا ريب على الوجوه السّابقة وللمتّقين خبر الكتاب او على الاربعة والعشرين فيه هدىً خبر لا وللمتّقين خبر الكتاب او فيه على الخمسة وهدىً خبر لا بالثّلاثة او على الاربعة والعشرين عند لا ريب محذوف الخبر فيه هدىً على الخمسة وللمتّقين خبر الكتاب فهذه ثلاثة آلاف وسبعمائة واربعة واربعون 3744، او نقول على الاربعة والعشرين عند لا ريب محذوف الخبر فيه هدىً خبر الكتاب وللمتّقين على الاحد عشر او فيه هدىً للمتّقين بالاربعة فى لفظ فيه خبر الكتاب فهذه مئتان واربعة وستّون 264 تجمع مع سابقتها وتضاف الى مجموع الحاصل السّابق فتصير مائة وستّة وثلاثين الفاً وستّمائة وثلاثة وسبعين 136673. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهذه وجوه الوجه الواحد من الوجوه السّتة والتّسعين واذا ضرب هذه فى السّتة والتّسعين تحصل ثلاثة عشر الف الف ومائة وعشرون الفاً وستّمائة وثمانية 13120608، وعلى الوجوه المندرجة السّابقة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تفسير الأعقم/ الأعقم (ت القرن 9 هـ)
الكلام: في أوائل السور مثل { الم } و { الر } و { حم } و { طس } و { طسم } و { المص } و { كهيعص } قيل: هي أسماء للسور، وقيل: أسماء لله تعالى، روي: ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) انه كان يقول في دعائه: " يا حم يا طس يا كفها " ، وقيل: مأخوذة من اسماء الله تعالى، وقيل: أسماء كانت العرب تكاتب بها فنزل القرآن عليها فلم يأتوا بمثله فدلَّ على انه معجزٌ. { ذلك الكتاب } اشارة الى ما تقدم إنزاله، وقيل: ذلك بمعنى هذا. { لا ريب فيه } اي لا شك فيه، قال الشاعر: | **ليس في الحق يا أميمة ريبٌ** | | **انما الريبُ ما يقول الكذوبُ** | | --- | --- | --- | { هدىً للمتقين } قيل: جمع التقوى في قوله تعالى:**{ إِن الله يأمر بالعدل والإِحسان }** [النحل: 90] الآية. وعن ابن عباس: المتقي الذي يتقي الشر والكبائر والفواحش، قال في الثعلبي عن ابن عمر: المتقي ان لا ترى نفسك خيراً من أحد، وقال أيضاً: المتقي الذي يقول لكل من رآه من المسلمين هوَ خير مني، وقال بعض الحكماء: لا يبلغ الرجل سنام التقوى الا اذا كان يحب لو جُعِل ما في قلبه على طبق فيطاف به في السوق لم يستح من شيء عليه، روي ذلك في الثعلبي ايضاً وخصَّ المتقون بالذكر لانتفاعهم، وقيل: المتقي الذي يحب للناس ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه من الشريك لشريكه قال الشاعر: | **حل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى** | | **كن شبه ماشٍ فوق ارض الشوك يحذر ما يرى** | | --- | --- | --- | | **لا تحقرن صغيرة إنّ الجبال من الحصى** | | | { بالغيب } قيل: هو اللوح، وقيل: هو القرآن وسائر ما اخبر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من البعث وغيره، وقيل: قول لا اله الا الله، وقيل: الآخرة وما فيها، وقيل: خوف الله بالسر والعلانية. { ويقيمون الصلاة } اقامتها تعديل أركانها وحفظها من ان يقع الزيغ في فرائضها وسننها، وقيل: انه ادامتُها. { ومما رزقناهم ينفقون } من الزكاة، وقيل: على سبيل البر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير تفسير كتاب الله العزيز/ الهواري (ت القرن 3 هـ)
قوله: { ذََلِكَ الْكِتَابُ } أي هذا الكتاب { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك فيه. { هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ } يعني بياناً للمتَّقين الذين يتَّقون الشّرك؛ يهتدون به إلى الجنة. وبلغنا عن ابن مسعود أنه كان يقرأها: (لاَ شَكَّ فِيهِ). { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } أي: الذين يصدِّقون بالبَعثِ وبالحساب وبالجنة وبالنار، وكل هذا غُيِّب عنهم. قوله: { وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ }. يقول: ويقيمون الصلواتِ الخمسَ المفروضةَ عليهم، يحافظون على وضوئها ومواقيتها، وركوعها وسجودها على ما سنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في كل صلاة منها. قوله: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } يعني الزَّكاة المفروضة على ما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهب والفضة، والإِبل والبقر والغنم، والبر والشعير، والتمر والزبيب. وفي قول الحسن وغيره من أصحابنا: وما سوى ذلك فليس فيه زكاة حتى يُباع فتكون فيه زكاة الأموال، يُزكِّيه مع ماله إِذا زكَّى إن كان له مال. وبعض أصحابنا يجعل الذُّرة مع البر والشعير. وقد فسَّرنا ذلك في أحاديث الزكاة. ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" السنة سنتان، وما سوى ذلك فريضة: سنة في فريضة، الأخذ بها هدى وتركها ضلالة، وسنة في غير فريضة، الأخذ بها فضيلة وتركها ليس بخطيئة ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ)
{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } اسم الإشارة مبتدأ و { الكِتَابُ } نعته أو بدله أو عطف بيان له، وجملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } من لا واسمها وخبرها خبر المبتدأ، او اسم الإشارة مبتدأ خبره { الكتاب } وجملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } خبر ثان أو حال من الكتاب أو مستأنفة، أو اسم الإشارة مبتدأ خبره { هُدىً } و { الكِتَابُ } نعت أو بيان أو بدل، وجملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } معترضة أو { الكِتابِ } خبر و { هُدىً } خبر ثان والجملة بينهما معترضة أو الكتاب خبر والجملة خبر ثان وهدى خبر ثالث، أو هدى حال من الهاء أو من الكتاب إذا جعلنا الكتاب خبراً وهدى خبر لمحذوف، أى هو هدى، أو هدى خبر لمحذوف { لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِّلمُتَقِينَ } فحذف فيه الثانى لدلالة الأول أو فيه خبر لهدى، وحذف خبر لا أى لا ريب فيه، فحذف فيه الأول لدلالة فيه الثانى كما قال بعد أوقف على لا ريب فيه، قال ابن هشام يدل على خلاف ذلك قوله تعالى فى سورة السجدة**{ الم تَنزِيلُ الكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِ العَالَمِينَ }** والجملة بعد { الم } جواب { الم } إن جعل قسما، وإن جعل اسماً للقرآن أو السورة فمبتدأ خبره ذلك، أو خبر لمحذوف، وذلك خبر ثان أو بدل، وكذا الأعاريب بأوجهه إذا جعلنا { الم } بمعنى المؤلف من الحروف، وإنما صح الإخبار عنه على هذا مع أنه أعم بذلك الكتاب، مع أنه أخص، لأن المراد الكامل فى تأليفه البالغ غاية الفصاحة والبلاغة هو ذلك الكتاب، وإنما صح الإخبار بهدى عن القرآن وإتيانه حالا مع أنه مصدر لتأويله بالوصف، أى هاد أو تقدير مضاف، أى ذو هدى أو ذا هدى، أو للمبالغة، وإذا جعلنا خبر لا محذوفاً وفيه نعت اسمها، فالوقف على فيه كما إذا جعل خبراً للا، وإذا جعلنا خبر لا محذوفاً، وفيه خبر لهدى، والوقف على لا ريب، والإشارة عائدة إلى الم أن أول بالمؤلف من هذه الحروف الألف واللام والميم، وليس المراد خصوص الأحرف الثلاثة، بل هن وسائر حروف أب ت ث، وذلك كما تقول علمته أ ب ت ث، وتريد الحروف كلها، أى ذلك الكلام المؤلف من حروف التهجى، وهو القرآن كله، أو الإشارة عائدة إلى الم مفسراً بالقرآن أو مفسراً بالسورة سورة البقرة، وإنما صح على هذا الوجه كون السورة كتاباً لأنها جزء الكتاب الذى هو القرآن، فعبر باسم الكل واسمه هو لفظ الكتاب عن البعض، وهو هذه السورة لمزيد اختصاص، وهو طولها وكثرة الأحكام فيها، أو صح كونها كتاباً تأكيداً وتعظيماً كأنها القرآن كله أو صح باعتبار المعنى اللغوى وهو المجموع والسورة مركبة من حروف وكلمات، وجمل وآيات، وأحكام وقصص، ووعد ووعيد، وأمر ونهى، وإنما أشار إلى السورة والقرآن أو المؤلف من الحروف وهو القرآن أيضاً بإشارة البعيد، مع أن كل واحد من الثلاثة حاضر لعلو شأن كل من الثلاثة، حتى كأنه مرتفع فى الجو ارتفاعاً حسيا. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال السكاكى والخطيب القزوينى يعرف المسند إليه بالإشارة لتعظيمه بالبعد، نحو { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ } قال السعد تنزيلا لبعد درجته ورفعة محله منزلة بعد المسافة ولفظ ذلك صالح للإشارة إلى كل غائب عيناً كان أو معنى، بأن يحكى أولا، ثم يشار إليه نحو، جاءنى رجل فقال ذلك الرجل وضربنى زيد فهالنى ذلك الضرب، لأن المحكى عنه غائب، ويجوز على قلة لفظ الحاضر نحو فقال هذا الرجل وهالنى هذا الضرب، أى هذا المذكور عن قريب، فهو وإن كان غائباً لكن جرى ذكره عن قريب، فكأنه حاضر، وقد يذكر المعنى الحاضر المتقدم بلفظ البعيد نحو بالله، وذلك قسم عظيم لأفعلن، لأن المعنى غير مدرك حساً فكأنه بعيد، وكل ما فرغ المتكلم من التكلم به صح الحكم عليه بحكم الغائب البعيد، لأنه قد انقطع من اللسان، فلم يكن بعد انقطاعه مسموعاً فى الحضرة، وجاء القرآن الكريم على ما تعرفه العرب، والله سبحانه وتعالى منزه عن اللسان والجوارح عن كل نقص ومثال. قال القاضى أو لما وصل من المرسل بكسر السين وهو الله سبحانه وتعالى، إلى المرسل إليه صلى الله عليه وسلم، صار متباعداً فأشير إليه بما يشار إلى البعيد، وإنما يعنى بوصوله من المرسل سبحانه وتعالى، وصوله من اللوح المحفوظ، أو من أيدى الملائكة الناقلين، أو من السماء الدنيا، وإنما صحت الإشارة بذا مع أنه للمذكر، وإلى آلم إذا فسر بالسورة، لأنه قد أخبر عنه بمذكر وهو الكتاب، أو هدى أو كلاهما أو لأنه قد نعت بمذكر وهو الكتاب، أو عطف به عليه عطف بيان، أو بدل منه وأل فى الكتاب للكمال، والحقيقة ففيه فصاحة التعريف كأنه قبل الكتاب المنعوت بغاية الكمال المتساهل أن يسمى كتاباً، وهذا مما ينتجه قوله آلم أى المؤلف من حروف الهجاء، فاذا وقع التحدى بما ألف منها وكان من جنس كلامهم وعجزوا عنه، فلا بد أنه بالغ حد الكمال، ولا بد أن يتعلق به ريب، كما قال لا ريب فيه، لأنه لا نقص مما تعلق به ريب، وما كان كذلك لا بد أن يكون هدى للمتعقين، كما قال هدى للمتقين، فكل جملة مستتبعة لما بعدها استتباع الدليل للمدلول، وكل جملة مقررة لما قبلها، ويصح أن تكون الإشارة إليه، أعنى إلى الكتاب على أنه نعتها أو بيانها أو بدلها، أى ذلك الكتاب الكامل، أو خبرها، أى ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، ويجوز أن تكون أل فيه للعهد الذكرى، وإنما ذكر فيما نزل هذه الآية من القرآن، مثل قوله عز وجل | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا }** أو ذكر بلفظ { الم } على أنه قسم مراد به السورة أو القرآن أو للعهد الذهنى، فأن القرآن الكريم فى ذهن النبى صلى الله عليه وسلم، لا يخلو منه بتفكر فيما نزل منه وينتظر نزول الباقى، ولأنه معهود فى الكتب المتقدمة، راسخ ذكره فى أذهان من يقرؤها قد وصل ذهنه صلى الله عليه وسلم، أو للعهد الحضورى لحضور بعضه وهو ما نزل، فإن الشىء المتصل إذا حضر عندك بعضه وغاب عنك باقيه مثل حبل قربت لبعضه وتراه، وغاب عنك باقيه يصدق عليه أنه حاضر، قال ابن عصفور كل لام واقعة بعد الإشارة أو أى فى النداء إذا كان مدخولها تابعاً لما قبله، أو واقعة بعد إذا الفجائية، فهى للعهد الحضورى، وقد قيل المراد بقوله ذلك الكتاب ما قد كان نزل من القرآن المشار إليه بإشارة الغائب تعظيما لعلو شأنه، وهو فى الحقيقة حاضر إذا اعتبر نزوله حضوراً، ويناسب العهد الذهنى ما قيل إن الله تبارك وتعالى وعد نبيه صلى الله عليه وسلم فى منام أو إلهام أو بوحى فى أوائل البعثة قبل أن ينزل عليه شىء من القرآن أن ينزل عليه كتاب لا يمحوه الماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، أى لا يبلى ولا يتغير ولا يندرس بكثرة التردد فيه، أى بكثرة تردده المؤدى إلى أن يمحى، فيترك فيندرس وانتفى بسبب كثرة التردد فيه بتكرار قراءته أن يكون بالياً مندرساً، وانتفى أن يكون بالياً متغيراً مع كثرة قراءته، صانه الله عن أن يغير مع كثرة من يتلوه، والحمد لله. ولما نزل بعضه قال الله تبارك وتعالى هذا هو ذلك الكتاب الذى وعدتك به أو وعده ذلك ببعض القرآن مثل**{ سنلقى عليك قولا ثقيلا }** كأنه قيل هذا الموعود إنزاله بعد ما نزل بعضه، ويناسب العهد الذهنى أيضاً ما قيل إن الله وعد بنى إسرائيل أن ينزل لهم كتاباً على رسول إلى الناس كافة من ولد إسماعيل، ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة - صانها الله بفضله - وبها خلق كثير من اليهود نزلت الآية، أى هذا الكتاب الذى وعدت به على لسان موسى وعيسى، أن أنزله عليه فكفروا به وبما أنزل إليه | **لا تكذب إن اليهود وقد زا غوا عن الحق معشر خبثاء** | | | | --- | --- | --- | والكتاب لغة الضم والجمع، ومن ذلك يقال للجند كتيبة لاجتماعه، وكتبت المال جمعته، وهو مصدر سمى به المفعول مبالغة، وهو القرآن، لكثرة المعانى والألفاظ والحروف فيه، واجتماعها وانضمامها فى الألسنة والصحف واللوح المحفوظ، ويجوز أن يكون اسماً موضوعا لذلك غير مصدر، بل اسم كرجل ولباس، فكما أنه سمى اللباس لملابسته ومخالطته لمن لبسه، كذلك سمى القرآن، لأنه مما يجمع ويضم كما ذكر، ولسنا نحتاج أن نقول إن تسميته كتابا من مجاز الأول بمعنى أنه سيكتبه الناس أو أن نقول إنها باعتبار الإمكان والقوة بأنه قد جمع تحقيقاً وبالفعل فى اللوح المحفوظ، نعم قد يقال سمى بذلك قبل أن يكتب فيه، لأن هذا الاسم من جملة القرآن مكتوب فى اللوح المحفوظ، فيحتاج أن نقول هى باعتبار الإمكان والقوة، ومن مجاز الأول أى يؤل إلى الكتابة، وقابل لأن يكتب فى اللوح المحفوظ وما بعده من أوراق وغيرها، أى يضم ويجمع فيها قيل إنه حقيقة فى ضم الحروف بعضها إلى بعض فى الخط، وقيل إنه حقيقة عرفته فى ضم بعضها إلى بعض فى التكلم بها وقرأ ابو عمرو بإدغام هاء فيه فى هاء هدى، وهكذا كل مثلين من كلمتين، ولو تحرك أولهما أو كان قبله ساكن إلا | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فلا يحزنك كفره }** وما كان تاء الخطاب أو التكلم أو منوناً أو مشدداً، ومعنى لا ريب فيه، أنه حق ليس أهلا للريب أى الشك، وليس فيه ما يوجب الشك فى لفظه ولا فى معناه لوضوح بيانه، وظهور برهانه كظهور الشمس، وكونه بالغاً غاية الإعجاز عند من نظر فيه بعقله نظراً صحيحاً، وليس المراد أنه لم يشك فيه أحد، فإنهم قد شكوا فيه، كما قال الله عز وجل**{ وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله }** لكن أبطل ريبتهم لعجزهم عن أن يأتوا بمثله، أو بسورة مثل سورة منه، أو بعشر سور أو بآية، ولو اجتمعوا مع جميع بنى آدم الأموات، ومن سيوجد مما وجد، ومع الجن كذلك، وقيل المعنى أنه لا يشك فيه أحد من المتقين، بناء على أن للمتقين هو خبر لأمر قوله عز وجل { هَدىً لِّلْمُتَّقِينَ } أى لا ريب للمتقين فيه فيدخل قوله للمتقين فى أعاريب { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } المتقدمة فيكون فيه نعتاً لريب، ويكون هدى حالا من الهاء أو خبرها محذوف، أى لا ريب فيه للمتقين هدى للمتقين، فحذف لدلالة قوله للمتقين عليه، والأولى ما تقدم فى قوله جل وعلا { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } والريب الشك، وكان ابن مسعود يقرؤه لا شك فيه، فيحتمل قراءة التلاوة، ويحتمل قراءة التفسير وهو فى الأصل مصدر، من رابك إذا حصل فيك الريبة، وهى قلق النفس واضطرابها، سمى به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة، ومنه ريب الزمان لنوائبه، وقوله صلى الله عليه وسلم **" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "** لأن الشك ريبة الصدق طمأنينة، ورواه الترمذى وصححه، وقدم الصدق طمأنينة على الشك ريبة، وذلك أن نوائب الزمان وهى حوادثه تقلق النفس وتزعجها، وكذا ما يشك فيه، لأن الشك تساوى الطرفين وتردد النفس بلا ترجيح، فيحصل لها قلق بذلك، والريب أخص من الشك، لأنه شك مع تهمة، والمراد هنا نفى كل من الريب والشك، وخص ذكر الريب نظراً لما عند المرتابين، ومعنى الحديث أترك ما فيه شك منتقلا إلى ما لا شك فيه، فإذا ارتابت نفسك فى شىء فاتركه، وإذا اطمأنت فى شىء فافعله، فإن نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق وترتاب من الكذب، وهذا مخصوص بذوى النفوس الشريفة القدسية الطاهرة، وقال الترمذى فى ذلك الحديث إنه حسن صحيح، ولكن فى سنده أبو الجوز وهو رواية عن الحسن، وتوقف فيه أحمد، وقال بعضهم إنه مجهول لا يعرف، وروى الحديث أيضاً النسائى وابن حبان وقالا إن أبا الجوز ثقة، ولفظ ابن حبان فإن الخير طمأنينة والشر ريبة، ورواه الحاكم أيضاً، والذى أراه للترمذى، وأن الكذب ريبة، وراوى الحديث هو الحسن بن على ابن أبى طالب، ورواه أحمد أيضاً عن أنس، وروى الطبرانى مرفوعاً عن ابن عمر، وليس كما قال الدارقطنى أن هذا من كلام ابن عمر، وأنه يروى أيضاً من كلام مالك، وروى الدارقطنى بإسناد ضعيف عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال لرجل | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " قال وكيف لى العلم بذلك؟، قال " إذا أردت أمراً فضع يدك على صدرك فإن القلب يضطرب للحرام ويسكن للحلال، وأن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة " "** زاد الطبرانى قيل له فمن الورع؟ قال الذى يقف عن الشبهة. والهدى الإرشاد والبيان، والدلالة، وخص المتقين به لأنهم المرتشدون بارشاده والمبينون ببيانه، بخلاف غيرهم، فإنه إرشاد وبيان ودلالة لهم أيضاً، لكن لا يقتدون بإرشاده وبيانه ودلالته، ويجوز أن يكون المراد بالهدى الإيصال إلى المقصود والتوفيق إليه. لا مطلق الإرشاد والبيان والدلالة إليه، فإنه يرد فى كلام العرب على وجهين، ومن الثانى قوله عز وجل**{ إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء }** وقوله عز وجل**{ لعلى هدى أو فى ضلال مبين }** بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - يبين الحق لكل أحد، إنما نفى عنه أن يكون الإيصال إلى المقصود والتوفيق إليه لمن أحب بيده، وبدليل مقابلة الهدى بالضلال، ومن الأول**{ فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى }** أى بينا لهم الحق وتركوه، ولم يرد التوفيق، لأن الموفق لا يمكن أن يترك الحق إلى العمى، وقوله { هدى للناس } أى إرشاد تجميعهم لكن من تدبره بعقله، ونظر فى المعجزات والآيات نفعه واشتفى به، ومن أعرض ازداد خساراً كما قال الله عز وجل**{ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً }** كالطعام والشراب الكريمين، فإنهما ينفعان الجسم الصحيح ويتضرر بهما المريض، لعلة فيه لا فيهما، وتخصيص بعضهم الهدى بالوجه الأول وبعضهم بالثانى مردود بورودهما جميعاً، ولا نسلم أنه لا يقال مهدى إلا لمن اهتدى، بل يقال أيضاً لمن هدى فلم يهتد، ولئن سلمناه لنقولن إنما قيل مهدى للمنفع بالهدى لانتفاعه دون غيره، ولا مدخل لذلك فى أن الهدى للدلالة، أو للدلالة الموصلة إلى البغية بتثليث الموحدة، أعنى إلى المطلوب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإن قلت كيف يكون هدى وفيه المجمل والمتشابه؟ قلت لزوال الإجمال بتبيينه صلى الله عليه وسلم، والمتشابه لا يضر بهم جهله، ويكفى الإيمان به، وأيضاً قد يبينه راسخ فى العلم، والمتقى من يبالغ فى الحذر من شىء يعالج الحذر منه وينفر من أن يقع فى أقل قليل منه كمحاذرة السم، فقد يحذر ما لا يكون فيه ذلك المحذور بحسب ما ظهر مخافة أن يكون فيه وهو لا يعلم به، أو أن يؤدى إلى ما هو فيه، ويختص ذلك فى الشرع بشدة محاذرة المعصية والشبهة، وما يخاف أن تكون فيه إحداهما أو يؤدى إلى إحداهما فهو يترك كثيراً من الحلال لئلا يقع فى ذلك، وفى عرف الخواص من أهل الشرع أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق سبحانه وتعالى، وينقطع إليه بجملته ظاهره وباطنه، ويجوز تفسير التقوى به فى قوله تعالى**{ اتقوا الله حق تقاته }** وهو التقوى الحقيقى المطلوب، وعن ابن عباس رضى الله عنهما المتقى من يترك الفواحش والكبائر والشرك، وفي معناه التارك ما حرم الله المؤدى ما افترض، فإن ترك أداء الفرض فاحشة أو كبيرة أو بشرك، وفى معناه أيضاً من لا يراه الله حيث نهاه، وفى معناه المقتدى بالنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفى معناه تارك الاغترار بالطاعة والإصرار على المعصية، هذه العبارات كلها فى معنى عبارة ابن عباس، ويتولد من ذلك ألا يرى نفسه خيراً من أحد، وكل ذلك من الوقاية وهى الحجز بين الشيئين، فإن المتقى يحتجز من غضب الله عز وجل وعذابه، والتاء الأولى من المتبقى بدل من الواو، والثانية تاء المفتعل، وإن قلت كيف يكون القرآن أو بعضه هدى للمتقى؟.. بل هدى للضال وإلا لزم تحصيل الحاصل؟ قلت المعنى أنه يزيدهم الهدى أو أن الاتقاء الحاصل معهم، إنما حصل لهم بهدى القرآن، أو معنى المتقين المشارفون للاتقاء على الإيجاز والتشريف والتفخيم لهم، أو أريد بالهدى غايته، لأن غير المتقين يحصل لهم مبدأة، وقرأ أبو الشعثاء جابر بن زيد رحمه الله أو سليم بن أسود لا ريب بالرفع والتنوين على إعمال لا عمل ليس، أو على إهمالها، فعلى إعمالها عمل ليس الأحسن كون خبرها محذوفاً، وفيه نعت اسمها، أو فيه خبر لهدى، وهدى مبتدأ، أى لا ريب فيه، فيه هدى للمتقين، وعلى كل قراءة وكل وجه نكر هذا التعظيم، وإنما لم يقدم لفظ فيه على لا ريب كما قدم فيها على قول، لأنه لم يقصد نفى الريب عن القرآن خاصة وإثباته لسائر الكتب المنزلة كما قصد إثبات القول لسائر الخمور، ونفيه عن خمر الجنة فقط، فلو قيل لا فيه ريب لأوهم الكلام أن فى سائر الكتب ريباً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ)
{ ذَلِكَ الْكِتَٰبُ } القرآن، الشبيه في علو شأنه بالعالى حسا كالعرش، وأصل الإشارة أن تكون إلى محسوس، فإذا أشير إلى غير محسوس لاستحملة إحساسه، مثل، { ذلكم الله ربكم } ، أو لعدم حضوره نحو، { تلك الجنة } ، فلتحققه كالمشاهد، وعبارة البد للتعظيم، ولأن كل ما انقضى، أو ليس في يدى فهو بعيد { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ليس أهلا لأن يشك فيه عاقل، لظهور براهينه. ومن شك فيه، أو من الله، فلقصور نظره، أو عدم استعمال عقله. قيل ولا ريب فيه عند الله والمؤمنين والنبى، ويضعف أن يكون المعنى، لا تشكوا فيه، لما علمت من ضعف مجىء الجملة الاسمية للإنشاء، { هُدًى } من الشرك والمعاصى { لِلْمُتَّقِينَ } الذين قضى الله أن يرجعوا إلى التوحيد والعبادة، وترك المعاصى، والحذر منها، ومن العقاب عليها، أو ذلك ثابت لهم أو زيادة، أو أراد للمتقين وغيرهم، فحذف، وهذا ضعيف، أو خصهم، لأنهم الفائزون، كقوله تعالى:**{ إِنما أنت مُنذر مَن يَخْشَٰهَا }** [النازعات: 45] وهذا على الحذف، والتقوى تقوى الشرك، وهى تقوى العوام، ولا تنفع فى الآخرة بلا أداء فرض، واجتناب فسق. وتقوى الخواص، وهى تقوى الشرك والمعاصى مع أداء الوجب والسنن المؤكدة. وتقوى خواص الخواص، وهى تقوى ما يشغل عن الله، عز وجل، ويسميه بعض العلماء ورع الصديقين، وهدى خبر ثان لذلك، أو لا ريب محذوف الخبر، وفيه خبر لهدى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- )
{ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } ذا من أسماء الإِشارة، يشار بها إلى القريب والبعيد، فإن كان المشار إليه قريبا جردت أو اقترنت بها المفيدة للتنبيه، وإن كان بعيدا اقترنت بالكاف الدالة على الخطاب، وتأتي تارة مع اللام في قولك (ذلك)، وأخرى بدونها في قولك (ذاك). عِظَم قدر القرآن ودلالاته: والمشار إليه هنا الكتاب المرموز إليه بـ { ألم } لأن هذه الكلمات - كما تقدم - تدل على بعض الحروف التي تركب منها، ومجيء الإِشارة بالصيغة الدالة على البعد مع قرب المشار إليه محمولة على التنويه به، وبعظم قدره وعلو شأنه، كما قال تعالى عن نفسه: { ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } ، ومثله وارد في فصيح الكلام العربي كقول خفاف بن ندبة السلمي: | **فإن تك خيلي قد أصيب صميمها** | | **فعمدا على عين تيممت مالكا** | | --- | --- | --- | | **أقول له والرمح يأطر متنه** | | **تأمل خفافا إنني أنا ذلكا** | فإنه عدل عن قوله أنا هذا لما ذكرناه من النكتة وهي بيان رفعة شأنه وعلو قدره، ومن هنا قال ابن عباس وابن جريج ومجاهد وعكرمة والسدي - فيما رواه عنهم ابن جرير -: المراد بذلك الكتاب؛ هذا الكتاب. وروي مثله عن أبي عبيدة، وقال جماعة: لا داعي إلى هذا التأويل الذي يخرج بكلمة ذلك عن أصل مدلولها. واختلف هؤلاء في المشار إليه على أقوال: أولها: أنه الكتاب الذي كتبه الله على خلقه، فيه ذكر سعادتهم وشقاوتهم وآجالهم وأرزاقهم، والمراد بكونه لا ريب فيه، لا مبدل له. ثانيها: أنه الكتاب الذي كتبه الله على نفسه في الأزل، أن رحمته سبقت غضبه، كما جاء في حديث أبي هريرة عند مسلم، وهذان القولان من الضعف بمكان، وإخباره تعالى عن الكتاب بأنه هدى للمتقين كاف في إبطالهما. ثالثها: أنه الكتاب الذي وعد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو المعني في حديث عياض بن حمار المجاشعي عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: **" إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان.. إلى آخره ".** رابعها: أن المشار إليه ما نزل من القرآن بمكة؛ لأن البقرة أول القرآن نزولا بعد الهجرة. خامسها: أنه القول الموعود به في قوله عز وجل:**{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }** [المزمل: 5] وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يستشرف لانزال هذا الوعد من ربه، فلما نزلت فاتحة البقرة بالمدينة كان المراد بذلك الكتاب ما وعد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم بمكة أن يوحيه إليه، وهذا القول والقول الثالث ينبعان من نبع واحد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | سادسها: أن الاشارة إلى ما في التوراة والانجيل و { ألم } اسم للقرآن، والمراد أن هذا القرآن هو ذلك الكتاب الذي دلت عليه التوراة والانجيل، فهما يشهدان بصحته وهو يستغرق ما فيهما ويزيد عليهما. سابعها: أن الاشارة إلى نفس التوراة والانجيل، والمراد ما ذكر من قبل أن القرآن مستوعب لما فيهما، فكأنه هو عينهما، وهو مروي عن عكرمة ورده الألوسي وما أحراه بالرد. ثامنها: أن المشار إليه ما بقي في اللوح المحفوظ من القرآن غير نازل عند نزول الآية. تاسعها: أنه الكتاب الذي وعد الله به أهل الكتاب أن ينزله على خاتم النبيين. عاشرها: أنه الكتاب الذي كانوا يستفتحون به على الذين كفروا. وذكر أبو حيان عن شيخه أبي جعفر بن إبراهيم بن الزبير أنه كان يقول: ذلك إشارة إلى الصراط في قوله: { اهدنا الصراط } كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم: ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب، ثم قال أبو حيان إثر ذلك وبهذا الذي ذكره الأستاذ تبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد. وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره لا إلى شيء لم يجر له ذكر. اهـ. وما أبعد هذا القول عن التحقيق، وأدناه إلى الهذيان، وإذا تأملت هذه الأقوال الاحدى عشر المبنية على أن المشار إليه بذلك بعيد، وجدتها جميعا ملتبسة بأنواع التكلفات التي يجدر بالمفسر أن لا يحمل عليها أفصح الكلام وأبلغه، وإن تعجب فعجب أن يأبى هؤلاء إخراج { ذلك } عن الاشارة بها إلى البعيد واللجوء إلى مثل هذه التأويلات التي لا تستند إلى حجة، على أن تعاقب أداتي الاشارة إلى القريب وإلى البعيد لا يخفى على من تأمل آيات الكتاب وتتبع الفصيح من كلام العرب، وثم وجه آخر وهو أن الكلام الذي تقضى له حكم البعيد وإن قرب عهده، كما حرره صاحب الكشاف، وبما أن فاتحة السورة وصلت من المرسل إلى المرسل إليه، كان لها حكم البعد، فصح أن تقع إشارته عليها، ونحوه قوله عز وجل:**{ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ }** [البقرة: 68] فالاشارة إلى فارض وبكر، وإنما أُشير إليهما بصيغة البعد لتقضي ذكرهما، ومثله**{ ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ }** [يوسف: 37]. وذُكِّر اسم الاشارة مراعاة لتذكير الكتاب سواء كان الكتاب خبرا أم بدلا، فإن اعتبر خبرا فهذه المراعاة واضحة لشيوع اعتبار أحوال الأخبار في التذكير والتأنيث والافراد والجمع، كقول امرىء القيس: | **وبدلت قرحا داميا بعد صحة** | | **فيالك من نعمى تحولن أبؤسا** | | --- | --- | --- | فالضمير في تحولن عائد إلى نعمى، وإنما جمع مراعاة للخبر وهو أبؤس، وإن عد بدلا فالتذكير أوضح لأن الاشارة واقعة على الكتاب. وعلى الأول فالتعريف للجنس، ويستفاد من التركيب قصر حقيقة الكتاب على القرآن لما فيه من تعريف المسند والمسند إليه، وهو داخل فيما يسمى بالقصر الإِدعائي، ويراد أنه الكتاب الجامع للصفات الكمالية في جنس الكتب، حتى صار ما عداه بجانبه في حكم العدم، ومثله شائع في الكلام العربي كقولهم: محمد هو الرجل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويراد به أنه اجتمعت فيه صفات الرجولة حتى كأن من عداه لم يَعُد لهم شيء منها، ومن هذا الباب قول الشاعر: | **وإن الذي حانت بفلج دماؤهم** | | **هم القوم كل القوم يا أم خالد** | | --- | --- | --- | وما أجدر هذا الكتاب - الذي جمع ما تفرق من الهدايات، وتجددت في كل عصر آياته، وتجلت في كل طور مزاياه، وبقي دون غيره محفوظا من أيدي العابثين، وكيد المغرضين - أن يُعَد وحده الحقيق باسم الكتاب، لا سيما وأن الرجوع إلى غيره من الكتب لا يصح بعد إنزاله، فقد اختفت مشاعلها جميعا ببزوغ شمسه، وانطوت آياتها بانتشار آيته، مع ما أصيبت به من تحريف الأيدي العابثة، وإدخال أصحاب الأهواء والأغراض ما أرادوا فيها. وعلى الثاني؛ فالتعريف للعهد ويراد به الكتاب المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، المرموز إليه بفاتحة هذه السورة، ولا يضير كونه لم يكتمل إنزاله عند ما نزلت الآية لأن للبعض حكم الكل، وما نزل قبلها جانب عظيم منه، فإن أغلبه كان نزوله بمكة، ومع ذلك يمكن أن تكون في هذا التعبير إشارة لطيفة إلى أن الله تعالى سينجز وعده لرسول الله صلى الله عليه وسلم بإنزال جميع الكتاب عليه. والكتاب بمعنى المكتوب، وهذا الوزن شائع فيما هو بمعنى المفعول، كلباس بمعنى الملبوس، وإله بمعنى المألوه، وعماد بمعنى المعمود به، وحروفه دالة على الجمع والضم، ومنه الكتيبة فإنها تجمع شتات المقاتلين، والكتاب يجمع حروفا وكلمات، والقرآن الكريم جامع لسور، وسوره جامعة لآيات وجمل ومفردات وحروف، فمن ثم صدق عليه معنى الكتاب، وفي هذه التسمية إيماء إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته، وهو موحٍ بوجوب تدوينه لحفظه من الذهاب، وصونه عن النسيان، ولأجل هذا قال العلماء: إن كتابة القرآن فرض كفاية على المسلمين. و(الريب): الشك. روي ذلك عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أخرجه عنه ابن جرير والحاكم وصححه، وأخرج مثله ابن اسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وروى أحمد في الزهد وابن أبي حاتم نحوه عن أبي الدرداء، ومثله عن قتادة عند عبد بن حميد وعن مجاهد وعطاء والسدي والربيع بن أنس عند ابن جرير، ويعضده إطلاق العرب الريب على الشك كقول عبدالله بن الزَّبَعْرَى: | **ليس في الحق يا أميمة ريب** | | **إنما الريب ما يقول الجهول** | | --- | --- | --- | ويطلقونه على التهمة كقول جميل: | **بثينة قالت يا جميل أربتني** | | **فقلت كلانا يا بثين مريب** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأصله القلق واضطراب النفس، فإن الشك من لازمة الاضطراب وعدم الارتياح، ومنه حديث **" دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "** ، وقيل إن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة، فإن الأمر متى كان مشكوكا فيه كان مصدرا للقلق وعدم الاستقرار، ومتى كان صدقا ظاهرا اطمأنت إليه النفس وسكنت، ولأجل ذلك قيل: ريب الزمان في نوائبه، لأنها مزعجة للنفس مقلقة للقلب. ومن العلماء من يفرق بين الريب والشك، فبعضهم يقول: الريب هو الشك مع التهمة، وهو يعني أن الريب أعمق من الشك. وقال الراغب: إن الشك وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر، والريب التوهم في الشيء، ثم انكشافه عما توهم فيه، وأضاف إلى ذلك التفرقة بينهما وبين المرية، فقال عن المرية: هي التردد في المتقابلين. وطلب الامارة مأخوذة من مرى الضرع إذا مسحه للدر. وقال الجولي: الشك ما استوى فيه الاعتقادان أو لم يستويا، ولكن لم ينته أحدهما لدرجة الظهور الذي تنبني عليه الأمور، والريب ما لم يبلغ درجة اليقين وإن ظهر نوع ظهور. مقاصد القرآن الكريم: والكتاب العزيز ليس موضعا لريب، فإن مقاصده ظاهرة، ومعانيه ناصعة، وآياته ساطعة، فلا يخامر العقل السليم شك في أنه من عند الله، وأنه مصدر هداية الناس، ومنبع سعادتهم، وبهذا يندفع ما عسى أن يقال إن كثيرا من الناس مرتابون فيه غير مطمئنين إلى صدقه، فكيف ينفى الريب عنه لا سيما وأن المكذبين به والمعرضين عنه أكثر من الذين صدقوا به واتبعوه؟ ويؤكد ما ذكرناه في المراد بنفي الريب أن الله عز وجل وجه الخطاب إلى المرتابين فيه بقوله:**{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ }** [البقرة: 23]، حيث أتى بإن الشرطية المستعملة في الشك دون إذا المستعملة في اليقين، وذلك أن الكتاب ليس مظنة للريب، فلو خامرهم منه شيء لضعف عقولهم وغلبة الهوى عليها فعليهم أن يستعرضوا ملكاتهم البيانية ويختبروا طاقاتهم، هل بإمكانهم أن يأتوا بسورة من مثله؟ ولو استنفدوا قواهم واستظهروا بنصرائهم، مع كونهم فرسان البيان الذين لا يركب في أثرهم، وقد أنزل القرآن على أمي نشأ بين ظهرانيهم، وقد اكتشفوا عاداته، ودرسوا سيرته، واكتشفوا سريرته، ولم يعرفوا منه في عنفوان شبابه طموحا إلى الظهور وتطلعا إلى مباراتهم في مضمار البيان. وهذا التركيب يفيد نفي الريب عن القرآن من غير تعرض لإِثباته أو نفيه عن غيره، فلذلك لم يقل: لا فيه ريب كما قال في خمر الجنة:**{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ }** [الصافات: 47] تعريضا بخمور الدنيا التي تغتال العقول، أفاد ذلك الزمخشري وهو واضح لمن درس قواعد البلاغة وفهم مقاصد البلغاء وإن أنكره أبو حيان. والجمهور قرأوا بنصب ريب بلا النافية للجنس، وهي قراءة تنص على نفي كل فرد من أفراد الريب، ولذلك قالوا إنها توجب الاستغراق، وذكر عن أبي الشعثاء سليم بن أسود المحاربي أنه قرأ بالرفع، وهي محتملة لنفي الجنس، أو نفي فرد من أفراده، فلذلك قالوا إنها تجوِّز الاستغراق، وقراءة الجمهور أبلغ، وعليها الاعتماد في الصلاة وغيرها بخلاف الأخرى لشذوذها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والوقف على { فيه } لا على { ريب } عند الأكثر، لارتباط فيه بالجملة، وروي عن نافع وعاصم أنهما وقفا على { لا ريب } وربطا { فيه } بالجملة الثانية، وقراءتهما تقتضي تقدير خبر لِلاَ كما في قوله تعالى:**{ قَالُواْ لاَ ضَيْرَ }** [الشعراء: 50]، وقول العرب لا بأس، وتقديره فيه. { فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } ، واعتمد ذلك القرطبي حيث فصل { فيه } عن جملة لا ريب وربطها بقوله { هدى للمتقين } وأبى ذلك أكثر المفسرين، لأن اعتبار الكتاب بأن نفسه هدى أبلغ من اعتباره منطويا على الهدى، كما أن ما في سورة السجدة وهو قوله تعالى:**{ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [السجدة: 6] يتفق مع قراءة الجمهور وتفسيرهم. { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } القرآن هداية للمتقين: بدأ سبحانه بنفي الريب عن كتابه ليكون ذلك كالتقعيد لإِثبات هدايته، لأن ما حام حوله الريب لا يصلح لأن يكون هاديا، وثنى على ذلك بإثبات أنه هدى للمتقين، وهو من باب قولهم التخلية قبل التحلية، وما جانبه الريب جدير أن يكون هدى، إذ الهدى لظهوره ونصوع دلالته لا يبقى معه شيء من الريب، وهو مصدر هَدَى، كالسرى والتقى والبكى بالقصر في لغة، وقد سبق في تفسير الفاتحة تفصيل معناه وشرح أقسامه، وبقي أن أضيف إلى ما تقدم أنه لا خلاف في كون هذه الكلمة تفيد الدلالة، وإنما الخلاف في كون هذه الدلالة موصِّلة إلى البغية أولا، فالزمخشري يرى أنها موصِّلة ويستدل لذلك بثلاثة أوجه: أولها: وقوع الضلال مقابلا للهدى في قوله تعالى:**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ }** [البقرة: 16]، وقوله:**{ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }** [سبأ: 24]، والضلالة هي الخيبة وعدم الوصول إلى المطلوب، فلو لم يعتبر الوصول في الهدى لم يجز التقابل بينهما لإِمكان اجتماعهما. ثانيها: أن كلمة مهدي تفيد المدح كالمهتدي، ولا يوصف بالاهتداء إلا الواصل إلى البغية المطلوبة بالهداية. ثالثها: أن اهتدى مطاوع هدى ولا يختلف مفهوم المطاوع عن مفهوم أصله؛ ككسرته فانكسر وجبرته فانجبر. ووافق الزمخشري على رأيه هذا البيضاوي والجرجاني، وقد أخذ الجرجاني - في حاشية الكشاف - يدفع عن كلام الزمخشري كل ما أورد عليه، وخالفه قطب الأئمة في هميانه، والفخر الرازي في مفاتيح الغيب، وأبو السعود والألوسي في تفسيريهما، وأطال أبو السعود في نقض كل ما تعلق به الزمخشري، وأخذ يحلل مفهوم الهداية المتعدية واللازمة تحليلا فلسفيا، وانتهى - بعد تطوافه الطويل بين المعالم اللغوية والفلسفية - إلى أن اللازمة لا تكون لازمة للمتعدية وإن كانت أثرا من آثارها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أنواع الهداية: وإذا رجعت إلى ما تقدم تحريره في الفاتحة الشريفة، أدركت أن الهداية تختلف باختلاف نوعها، فإن كانت هداية توفيق - وهي لا تكون إلا من الله - فهي موصِّلة إلى البغية قطعا، وإن كانت هداية بيان فهي توصل إليها إن اقترنت بتوفيق الله للمهدي، أما إذا لم تقترن به فلا تؤدي إليها، بدليل قوله تعالى:**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** [فصلت: 17] وهذه الهداية تسند إلى الله كما في هذه الآية، وإلى غيره كما في قوله:**{ يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا }** [السجدة: 24]، ومقابلة الهدى بالضلال في قوله: { لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } لا يستدل بها على الإِيصال، لأن الهدى فيه بمعنى الاهتداء، وهو لازم، والاختلاف إنما هو في المتعدي ويقابله الاضلال لا الضلال، كما لا يدل مجيء اهتدى مطاوعا لهدى أن فعل الهداية موصل إلى البغية، لأن الفعل المتعدي لا يستلزم وقوع المطاوعة في مقابله، ولذلك جاز نفي المطاوعة، في نحو أمرته فلم يأتمر، ونهيته فلم ينته، وعلمته فلم يتعلم، وهذبته فلم يتهذب، وبهذا تعلم عدم امتناع قول القائل: هديته فلم يهتد، وإطلاق المهدي في موضع المدح لأن الهداية سبب للاهتداء، مع حصول التوفيق، ويمكن أن يكون الخلاف اعتباريا، فمن نظر إلى اقتران الهداية بالتوفيق اعتبرها موصِّلة، ومن قطع النظر عن ذلك جوَّز أن تكون موصلة وغير موصلة، وقد مر بكم في تفسير الفاتحة أن الهداية تكون تكوينية، وهي هداية الفطرة والحواس والعقل، ولا غموض في أن الهداية الفطرية والهداية الحسية موصلتان إلى البغية، وكذلك هداية العقل لمن وُفق لاستخدامه، وإذا ما رجعتم إلى ما ذكرته هناك كملت لكم الفائدة وانجلى عنكم اللبس. وبهذا التحرير يمكنكم فهم وجه تخصيص هدى الكتاب بالمتقين هنا وبالمؤمنين في قوله تعالى:**{ هُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ }** [النمل: 2]، وقوله:**{ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ }** [لقمان: 3]، مع قوله في آيات الصوم من هذه السورة**{ شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ }** [البقرة: 185]، وقوله:**{ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ }** [القلم: 52]، ذلك لأن المؤمنين - وهم المتقون والمحسنون - هم المنتفعون بهداية القرآن، إذ لم يلبثوا عندما أشرق لهم نوره فأبصروا الحق أن اتبعوه، أما غيرهم فقد أخلدوا إلى الباطل وتصامموا عن حجج القرآن وتعاموا عن حقائقه، ذلك لأنهم استحكم في نفوسهم التقليد الأعمى، فكان حاجزا حديديا بينهم وبين الانتفاع بهداه، وإن كان منشورا لجميع الناس ليس بينه وبينهم حائل إلا هذا العتو والاستكبار، وذلك معنى قول الحق تعالى:**{ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }** [الاسراء: 82]، فهو شفاء لنفوس أهل الإِيمان من أمراض الجهل والمعصية ورحمة لهم، لأنهم اتبعوه في الدنيا فاقتادهم إلى مواطن السلامة وبحبوحة السعادة، أما غيرهم من الذين أصروا واستكبروا استكبارا، فإنهم لم يزدادوا به إلا خسارا، لأنهم بتكذيبهم إياه، وإعراضهم عنه - بعد انبلاج حجته - ازدادوا كفرا إلى كفرهم، وضلالا مع ضلالهم، وذلك المراد من قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى }** [فصلت: 44]. فالهدى هنا هو هدى التوفيق، بخلافه في نحو قوله تعالى: { هدى للناس } فهو محمول على هدى البيان. معنى التقوى ومجالاتها: و { المتقون } جمع متق، وهو دال على الاجتناب، لأنه مأخوذ من وقاه يقيه فاتقاه؛ بمعنى: جنَّبه يجنِّبه فاجتنبه واستخدم مجازا في اجتناب ما يسخط الله، وقد تكرر كثيرا في القرآن نحو: { وإياي فاتقون } ، { واتقوا الله } ، { وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }. فإنه ليس من المعقول أن يراد باتقاء الله اجتناب ذاته تعالى لاستحالة ذلك، وإنما يراد به اتقاء عذابه الذي يوجبه التهاون بأوامره وارتكاب نواهيه. وإنما أضيفت التقوى إلى الله لتعظيم شأن مخالفته، وتهويل ما يترتب عليها من عقاب. وذكر اللغويون أن الوقاية فرط الصيانة، ومن هذا المعنى أخذ علماء الشريعة تعريف التقوى فقالوا: إنها صيانة الإِنسان نفسه مما يوجب العقوبة من فعل أو ترك، وقسموها إلى مراتب: أولها: توقي الشرك. ثانيها: توقي الكبائر، ومنها الإِصرار على الصغائر. ثالثها: ما أشار إليها حديث عطية السعدي عند أحمد وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، والترمذي وحسنه، وابن ماجة، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس ".** وذكر بعض العلماء أن الرتبة الأولى هي تقوى العوام، والثانية هي تقوى الخواص، والثالثة هي تقوى خواص الخواص. وبما أن أصدق ما يفسر به القرآن القرآن نفسه، فإن علينا - ونحن بصدد بيان ما يراد بالمتقين - أن نستلهم حقيقة التقوى مما وصف الله به المتقين في كتابه، كقوله هنا في وصفهم:**{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }** [البقرة: 3]. وقوله بعد بيان أركان البر الاعتقادية والعملية والخلقية في هذه السورة:**{ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ }** [البقرة: 177] وقوله في سورة آل عمران:**{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلْقَانِتِينَ وَٱلْمُنْفِقِينَ وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ }** [آل عمران: 15 - 17]. وقوله فيها:**{ وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [آل عمران: 133 - 135]. وما روي من أقوال المفسرين من الصحابة والتابعين في التقوى والمتقين، فهو مقتبس من هذه الآيات ونظائرها، وهو متحد في معناه وإن اختلفت عباراتهم عنه، من ذلك ما أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في قوله { هدى للمتقين }: أي الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء منه. وأخرج ابن أبي حاتم عن معاذ - رضي الله عنه - أنه قيل له: من المتقون؟ فقال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة. وأخرج أحمد في " الزهد " عن أبي الدرداء قال: تمام التقوى أن يتقي الله العبدُ حتى يتقيَ من مثقال ذرة حين يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما، يكون حجابا بينه وبين الحرام. وروي مثله عن جماعة من التابعين، وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة أن رجلا قال له: ما التقوى؟ قال: هل وجدت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم. قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنده أو جاوزته أو قصرت عنه. قال: ذاك التقوى. وذكر القرطبي أن عمر سأل أُبَيًّا - رضي الله عنهما - عن التقوى فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم. قال: فما صنعت فيه؟ قال: تشمرت وحذرت. قال: فذاك التقوى. ونظم معنى هذه الإِجابة ابن المعتز في قوله: | **خل الذنوب صغيرها** | | **وكبيرها ذاك التقى** | | --- | --- | --- | | **واصنع كماش فوق أر** | | **ض الشوك يحذر ما يرى** | | **لا تحقرن صغيرة** | | **إن الجبال من الحصى** | وذكر أبو السعود عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أن التقوى ترك ما حرم الله وأداء ما فرض. وعن شهر ابن حوشب: المتقي من يترك ما لا بأس به حذرا من الوقوع فيما فيه بأس. وعن أبي يزيد أن التقوى هو التورع عن كل ما فيه شبهة. وعن محمد بن حنيف: أنه مجانبة كل ما يبعدك عن الله تعالى. وعن سهل: المتقي من تبرأ من حوله وقدرته. وقال بعضهم: التقوى ألا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك. وقال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح، والسلطان الجائر. وقال بعض الحكماء: لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلا أن يكون لو جُعل ما في قلبه في طبق فطيف به في السوق لم يستحي ممن ينظر إليه. وقيل: التقوى أن تزين سرك للحق كما تزين علانيتك للخلق. وهذه الأقوال كلها صادرة من أصل واحد، فهي متحدة المضمون وإن اختلفت بحسب اختلاف نظر أصحابها إلى مراتب التقوى ومقامات المتقين، فمنهم من نظر إلى أصل التقوى أو إلى زاوية من زواياه، ومنهم من نظر إلى ذروته وسنامه أو إلى قاعدته الكلية المستجمعة لجميع جزئياته. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومما ذكرناه من المعنى اللغوي للتقوى يستفاد أن أصله دال على السلب، لأنه بمعنى التجنب والترك، ولكن بالرجوع إلى الآيات التي أسلفنا ذكرها وأمثالها، وإلى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف الصالح، يتضح أن للتقوى في الشرع شقين؛ شقا سلبيا وهو ترك ما نهى الله عنه، وآخر إيجابيا وهو فعل ما أمر به، ولا بد من الجمع بينهما للاتصاف بحقيقة التقوى الشرعية، وقد جمعت كلمة التقوى في الشرع بين السلب والإِيجاب - مع أن حقيقتها الوضعية للسلب - لأجل ما في فعل الطاعات واجتناب المعاصي من توقي سخط الله المؤدي إلى عقابه. هذا ويرى العلامة السيد رشيد رضا أن العقاب الإِلهي الذي يجب على الناس اتقاؤه قسمان؛ دنيوي وأخروي، وكل منهما يتقى باتقاء أسبابه، وهي نوعان؛ مخالفة دين الله وشرعه، ومخالفة سننه في نظام خلقه، فأما عقاب الآخرة فيتقى بالإِيمان الصحيح، والتوحيد الخالص، والعمل الصالح، واجتناب ما ينافي ذلك من الشرك والكفر والمعاصي والرذائل، وذلك مبين في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأفضل ما يستعان به على فهمهما واتباعهما سيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأولين من آل الرسول صلى الله عليه وسلم وعلماء الأمصار، وأما عقاب الدنيا فيجب أن يستعان على اتقائه بالعلم بسنن الله تعالى في هذا العالم ولا سيما سنن اعتدال المزاج، وصحة الأبدان وأمثلتها ظاهرة، وسنن الاجتماع البشري، فاتقاء الفشل والخذلان في القتال يتوقف على معرفة نظام الحرب وفنونها، وإتقان آلاتها وأسلحتها التي ارتقت في هذا العصر ارتقاء عجيبا وهو المشار إليه بقوله تعالى:**{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ.. }** [الأنفال: 60]. كما يتوقف على أسباب القوة المعنوية من اجتماع الكلمة واتحاد الأمة والصبر والثبات والتوكل على الله، واحتساب الأجر عنده،**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ }** [الأنفال: 45 - 46]. وما ذكره يؤكد شمول مفهوم التقوى لجميع أعمال الخير سواء كانت فائدتها عاجلة أم آجلة. والانسان مطالب باستصحاب التقوى من بداية طريق حياته إلى نهايتها، لأنها محفوفة بالمخاطر، مفروشة بالأشواك، فإن كل خطوة يخطوها الإِنسان مهددة بكمين، إما من غرائزه وشهواته، وإما من عواطفه ونزعاته، وإما من مطامعه ومطامحه، وإما من خوفه ورجائه، وهي طبائع موجودة في كل أحد وكل منها صالح لاستخدامه في الخير والشر، فلذا كان كل واحد منها سلاحا ذا حدين، وكان الإِنسان على أي حال مطالبا بضبطها وتوجيهها إلى الخير والصلاح والبناء، والتقوى هي العامل الوحيد لضبطها وعدم إرسال العنان لها، والباعث على استخدامها فيما يعود بالمصلحة على صاحبها وعلى مجتمعه وأمته، وناهيك أن التقوى تستلزم تجريد النفس من كل خوف ورجاء إلا خوف خالقها ورجاءه، وبهذا يتضح لك أن الحركات النفسية داخلة في مدلول التقوى، وهو الذي يقتضيه قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ }** [الحج: 32]، وقوله:**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمْتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ }** [الحجرات: 3]. وقد صرح بذلك صلى الله عليه وسلم في قوله: **" التقوى ها هنا "** وأشار إلى قلبه. وتدخل في ضمن التقوى أقوال الخير كما تدخل أعماله، بدليل قوله تعالى:**{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا }** [الفتح: 26]. وليس قوله صلى الله عليه وسلم: **" التقوى ها هنا "** بمقتض حصر التقوى في صفات القلب، وإنما يشير إلى أن صلاح القلب هو أساس لصلاح الأعمال، لأنه سلطان الجوارح الذي يوجهها، إما إلى الخير وإما إلى الشر، كما جاء في حديث النعمان بن بشير عند الشيخين: **".. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ".** ولأهمية التقوى وكونها مصدر كل صلاح ومنبع كل فضيلة وأساس كل خير، تكرر الأمر بها في الكتاب العزيز، وتكرر الثناء على المتقين، ولا تكاد تجد أمرا مكررا في القرآن كالأمر بالتقوى سواء كان صريحا أو في معرض الثناء على المتقين، وتجد ذلك مقرونا بالأوامر والنواهي، والتبشير والانذار، والقصص والأمثال، والامتنان والاخبار، فاقرأ مثلا قول الله عز وجل:**{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }** [البقرة: 223] تجد الأمر بالتقوى يتوسط التشريع والانذار والتبشير، وتأمل قوله عز وجل في تقرير تمتيع المطلقات**{ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ }** [البقرة: 241]. وقوله تعالى بعد ذكر طائفة من أحكام الدَّيْن في آيته الأولى:**{ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ }** [البقرة: 282]، وبعد ذكر جانب من أحكامه والأمر بأداء الأمانة في آيته الثانية:**{ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ }** [البقرة: 283]، وقوله في سورة الطلاق في معرض تبيان أحكامه:**{ يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ.. }** [الطلاق: 1]، تدرك أن تقوى الله سبحانه هو الفلك الذي يدور فيه تشريعه الحكيم. واقرأ في باب الامتنان قول الله تعالى:**{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً }** [النساء: 1]، وقوله:**{ وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِيۤ أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ }** [الشعراء: 132 - 134]. واقرأ في باب التبشير والانذار قوله تعالى:**{ وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ }** [النحل: 30 - 31]، وقوله:**{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ }** [الحج: 1 - 2]، وقوله سبحانه: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }** [الحشر: 18]، وغيرها من آيات الوعد والوعيد، تدرك قيمة التقوى عند الله وأهميتها في الحياة. التقوى جماع الخير في الدنيا والآخرة: ولما للتقوى من قيمة كانت ميزان التفاضل عند الله، كما قال سبحانه:**{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ }** [الحجرات: 13]، وجعلت هي الغاية من العبادة، كما في قوله عز وجل:**{ يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }** [البقرة: 21]، وكما جاء ذكرها مقرونا بمطلق العبادة، جاء في معرض العبادات المفصلة، ومنه قوله تعالى في الصوم:**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }** [البقرة: 183]، وقوله في الحج:**{ ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }** [البقرة: 197]، وقوله:**{ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }** [البقرة: 203]، وقوله:**{ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ }** [الحج: 32]. وفي معنى ذلك قوله تعالى في الصلاة:**{ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ }** [العنكبوت: 45]، وتلك هي حقيقة التقوى، وفي معناه أيضا قوله في الزكاة:**{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا }** [التوبة: 103]. وقد وعد الله بمعيته المتقين من عباده في قوله:**{ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ }** [النحل: 128]. وجعل ولايته لمن جمع بين الايمان والتقوى، ووعد هؤلاء بالبشارة في الحياة الدنيا والآخرة، وعدم خوفهم وحزنهم يوم الفزع الأكبر وذلك في قوله:**{ أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ.. }** [يونس: 62 - 64]، كما وعد سبحانه المتقين بحسن العاقبة في الدارين، أما في الدنيا فالبعز والنصر، وأما في الآخرة فبالسعادة والفلاح، وذلك في قوله:**{ ..وَٱلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ }** [طه: 132]، وقوله:**{ ..وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }** [الأعراف: 128]. ويكفي ما ذكرته من الآيات شاهدا ودليلا على أن التقوى هي منبع السعادة والفوز في الآخرة، ومنشأ العز والكرامة في الدنيا، وهي مع ذلك سبيل النجاة من الشدائد، ومفتاح لباب الرزق والخير، كما يدل عى ذلك قوله تعالى:**{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ آمَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ }** [الأعراف: 96]. وقوله:**{ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ }** [الطلاق: 2 - 3]. جعلنا الله من عباده المتقين وحزبه المفلحين. ولربما تساءل بعض الناس: هل المتقون بحاجة إلى الهداية مع تسنمهم ذروة التقوى وبلوغهم منتهى الصلاح؟ والجواب: أن العبد مهما بلغ من مراتب التقوى وقطع من مراحل الاهتداء لا يزال بحاجة إلى مزيد عناية من الله تنفحه بروح الهداية، ولطف المواهب، ومن هذا الباب قوله عز وجل في سورة الفاتحة تعليما لعباده المتقين: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ، وقد سبق الكلام على ذلك، وليس ببعيد أن يكون المراد هدى للذين علم الله صيرورتهم إلى التقوى، لجواز أن يطلق على الشيء اسم ما يصير إليه، ومن هذا الباب قول الرسول صلى الله عليه وسلم: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **" من قتل قتيلا فله سلبه "** فإنه عندما وقع عليه القتل لم يكن قتيلا. وروي من طريق ابن عباس - رضي الله عنهما -: **" إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض وتضل الضالة "** وقد حكى الله عن نوح - عليه السلام - أنه قال في دعائه على قومه:**{ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً }** [نوح: 27] يعني صائرا إلى الفجور والكفر، ولو روعي ما كانوا عليه من الضلال عند بداية نزول القرآن فقيل: " هدى للضالين " لم يستقم المعنى، لأن من الضالين من ختم الله على قلوبهم وسمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فلا يهتدون بأسباب الهداية، ولذا قال تعالى عنهم في هذه السورة:**{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }** [البقرة: 6]، وقال عنهم:**{ لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ.. }** [يس: 7 - 10]، فلا يصح اعتبار القرآن هدى لهم لأنهم لا ينتفعون بهدايته، وإنما المنتفع فريق كان على الضلال فلما تجلت له حقائق التنزيل ونارت لعقله دلائله، بارح الضلالة إلى الهدى، وفارق الجاهلية إلى الإِسلام، ولو أريدت الترجمة الدقيقة المعبرة عن جميع هذه الأحوال، لقيل هدى للذين تحولوا عن الفجور إلى التقوى، وخرجوا من الكفر إلى الإِيمان، ولكن بجانب ما في هذه العبارة من الطول فإن عبارة القرآن سادّة مسدَّها ومغنية عنها مع تميزها برقة الأسلوب. والمراد بالمتقين الذين نعتوا من بعد بما في الآيات اللاحقة، وهم الذين وفقوا للتخلص من علائق الكفر، والتطهر من أدران الجاهلية، سواء كانوا من قبل من الوثنيين أو من أهل الكتاب، وهو الذي يستفاد من كلام جمهور المفسرين، وللأستاذ الامام الشيخ محمد عبده رأي آخر فيهم لَخَّصه السيد رشيد رضا فيما يلي: كان من الجاهليين من مقت عبادة الأصنام وأدرك أن فاطر السماوات والأرض لا يرضيه الخضوع لها، وأن الإِله الحق يحب الخير ويبغض الشر، فكان منهم من اعتزل الناس لذلك، وكانوا لا يعرفون من عبادة الله إلا الالتجاء والابتهال وتعظيم جانب الربوبية - وذلك ما كان يسمى صلاة في لسانهم - وبعض الخيرات التي يهتدي إليها العقل في معاملة الخلق، وكان من أهل الكتاب من وصفهم الله تعالى بمثل قوله:**{ ..مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ٱللَّهِ آنَآءَ ٱللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـٰئِكَ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | [آل عمران: 113 - 114]، وبقوله:**{ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ }** [المائدة: 82 - 83] فأمثال هؤلاء من الفريقين هم المراد بالمتقين، ولا حاجة إلى تخصيص ما جاء في وصفهم بالمؤمنين منهم بعد الإِسلام، أو بالمسلمين، بل أولئك هم الذين كان في قلوبهم اشمئزاز مما عليه أقوامهم، وفي نفوسهم شيء من التشوق إلى هداية يهتدون بها، ويشعرون باستعداد لها، إذا جاءهم شيء من عند الله تعالى، فالمتقون في هذه الآية إذاً هم الذين سلمت فطرتهم فأصابت عقولهم ضربا من الرشاد، ووجد في أنفسهم شيء من الاستعداد لتلقي نور الحق يحملهم على توقي سخط الله تعالى والسعي في مرضاته بحسب ما وصل إليه علمهم، وأداهم إليه نظرهم واجتهادهم. وبنى الأستاذ على رأيه هذا تفسيره ما يأتي من نعوت المتقين، وكلامه ككلام غيره قابل للنقاش، وسوف تأتي إن شاء الله مناقشته في المكان المناسب من الآيات الناعتة للمتقين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ)
جملة مستأنفة وابتداء كلام أو متعلقة بما قبلها وفيه احتمالات أطالوا فيها وكتاب الله تعالى يحمل على أحسن المحامل وأبعدها من التكلف وأسوغها في لسان العرب وذلك إشارة إلى الكتاب الموعود به صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:**{ إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }** [المزمل: 5] كما قال الواحدي أو على لسان موسى وعيسى عليهما السلام لقوله تعالى:**{ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }** [البقرة: 89] الآية ويؤيده ما روى عن كعب «عليكم بالقرآن فإنه فهم العقل ونور الحكمة وينابيع العلم وأحدث الكتب بالله عهداً»، وقال في التوراة «يا محمد إني منزل عليك توراة حديثة تفتح بها أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً» كما قاله غير واحد أو إلى ما بين أيدينا والإشارة بذلك للتعظيم وتنزيل البعد الرتبـي منزلة البعد الحقيقي كما في قوله تعالى:**{ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ }** [يوسف: 32] كما اختاره في «المفتاح» أو لأنه لما نزل عن حضرة الربوبية وصار بحضرتنا بعد ومن أعطى غيره شيئاً أو أوصله إليه أو لاحظ وصوله عبر عنه بذلك لأنه بانفصاله عنه بعيد أو في حكمه، وقد قيل: كل ما ليس في يديك بعيد. ولما لم يتأت هذا المعنى في قوله تعالى:**{ وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ }** [الأنعام: 92] لأنه إشارة إلى ما عنده سبحانه لم يأتِ بذلك مع بعد الدرجة وهذا الذكر حروف التهجي في الأول وهي تقطع بها الحروف وهو لا يكون إلا في حقنا وعدم ذكرها في الثاني فلذا اختلف المقامان وافترقت الإشارتان كما قاله السهيلي، وهو عند قوم تحقيق ويرشدك إلى ما فيه عندي نظر دقيق وأبعد بعضهم فوجه البعد بأن القرآن لفظ وهو من قبيل الأعراض السيالة الغير القارة فكل ما وجد منه اضمحل وتلاشى وصار منقضياً غائباً عن الحس وما هو كذلك في حكم البعيد، وقيل لأن صيغة البعيد والقريب قد يتعاقبان كقوله تعالى في قصة عيسى عليه السلام:**{ ذٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ }** [آل عمران: 58] ثم قال تعالى:**{ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْقَصَصُ ٱلْحَقُّ }** [آل عمران: 62] وله نظائر في الكتاب الكريم ونقله الجرجاني عن طائفة وأنشدوا: | **أقول له والرمح يأطر متنه** | | **تأمل خفافاً إنني أنا ذلكا** | | --- | --- | --- | وليس بنص لاحتمال أن يكون المراد إنني أنا ذلك الذي كنت تحدث عنه وتسمع به، وقول الإمام الرازي: إن ذلك للبعيد عرفاً لا وضعاً فحمله هنا على مقتضى الوضع اللغوي لا العرفي مخالف لما نفهمه من كتب أرباب العربية وفوق كل ذي علم عليم والقول بأن الإشارة إلى التوراة والإنجيل ـ كما نقل عن عكرمة ـ إن كان قد ورد فيه حديث صحيح قبلناه وتكلفنا له وإلا ضربنا به الحائط وما كل احتمال يليق، وأغرب ما رأيناه في توجيه الإشارة أنها إلى الصراط/ المستقيم في الفاتحة كأنهم لما سألوا الهداية لذلك قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب وهذا إن قبلته يتبين به وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد على أتم وجه وتكون الإشارة إلى ما سبق ذكره والذي تنفتح له الآذان أنه إشارة إلى القرآن ووجه البعد ما ذكره صاحب «المفتاح» ونور القريب يلوح عليه، والمعتبر في أسماء الإشارة هو الإشارة الحسية التي لا يتصور تعلقها إلا بمحسوس مشاهد فإن أشير بها إلى ما يستحيل إحساسه نحو | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ذَلِكُـمُ ٱللَّهُ رَبُّـكُمْ }** [غافر: 62] أو إلى محسوس غير مشاهد نحو**{ تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ }** [مريم: 63] فلتصييره كالمشاهد وتنزيل الإشارة العقلية منزلة الحسية كما في الرضى فالإشارة هنا لا تخلو عن لطف، وقول بعضهم إن اسم الإشارة إذا كان معه صفة له لم يلزم أن يكون محسوساً ـ وهم محسوس ـ. والكتاب كالكتب مصدر كتب ويطلق على المكتوب كاللباس بمعنى الملبوس والكتب ـ كما قال الراغب ـ ضم أديم إلى أديم بالخياطة، وفي المتعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض والأصل في الكتابة النظم بالخط وقد يقال ذلك للمضموم بعضه إلى بعض باللفظ ولذا يستعار كل واحد للآخر ولذا سمي كتاب الله وإن لم يكن كتاباً والكتاب هنا إما باق على المصدرية وسمي به المفعول للمبالغة أو هو بمعنى المفعول وأطلق على المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التي يتألف منها في الخط تسمية بما يؤل إليه مع المناسبة وقول الإمام ـ إن اشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته وسميت الكتيبة لاجتماعها فسمي الكتاب كتاباً لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم أو لأن الله تعالى ألزم فيه التكاليف على الخلق ـ كلام ملفق لا يخفى ما فيه، ويطلق الكتاب كالقرآن على المجموع المنزل على النبـي المرسل صلى الله عليه وسلم وعلى القدر الشائع بين الكل والجزء ولا يحتاج هنا إلى ما قيل في دفع المغالطة المعروفة بالجذر الأصم ولا أرى فيه بأساً إن احتجته واللام في الكتاب للحقيقة مثلها في أنت الرجل والمعنى ذلك هو الكتاب الكامل الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب لغاية تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس حتى كأن ما عداه من الكتب السماوية خارج منه بالنسبة إليه، وقال ابن عصفور: كل لام وقعت بعد اسم الإشارة وأي في النداء وإذا الفجائية فهي للعهد الحضوري وقرىء (تنزيل الكتاب). والريب الشك وأصله مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة وهي قلق النفس ومنه ريب الزمان لنوائبه فهو مما نقل من القلق إلى ما هو شبيه به ويستعمل أيضاً لما يختلج في القلب من أسباب الغيظ، وقول الإمام الرازي: إن هٰذين قد يرجعان إلى معنى الشك لأن ما يخاف من الحوادث محتمل فهو كالمشكوك وكذلك ما اختلج في القلب فإنه غير مستيقن مستيقن رده، فالمنون من الريب أو يشك فيه ويختلج في القلب من أسباب الغيظ على الكفار مثلاً مما { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أو فيه ريب وفرق أبو زيد بين رابني وأرابني فيقال رابني من فلان أمر إذا كنت مستيقنا منه بالريب وإذا أسأت به الظن ولم تستيقن منه قلت أرابني وعليه قول بشار: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **أخوك الذي إن ربته قال إنما** | | **أراب وإن عاتبته لان جانبه** | | --- | --- | --- | وبعض فرق بين الريب والشك بأن الريب شك مع تهمة، وقال الراغب: الشك وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر بأمارة، والمرية التردد في المتقابلين وطلب الأمارة من مرى الضرع أي مسحه للدر، والريب أن يتوهم في الشيء ثم ينكشف عما توهم فيه، وقال الجولي: يقال الشك لما استوى فيه الاعتقادان أو لم يستويا ولكن لم ينته أحدهما لدرجة الظهور الذي تنبني عليه الأمور والريب لما لم يبلغ درجة اليقين وإن ظهر نوع ظهور ولذا حسن هنا { لاَ رَيْبَ فِيهِ } للإشارة إلى أنه لا يحصل فيه ريب فضلاً عن شك ونفى سبحانه الريب فيه مع كثرة المرتابين ـ لا كثَّرهم الله تعالى ـ على معنى أنه في علو الشأن وسطوع البرهان بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر/ في كونه وحياً من الله تعالى لا أن لا يرتاب فيه حتى لا يصح ويحتاج إلى تنزيل وجود الريب عن البعض منزلة العدم لوجود ما يزيله، وقيل إنه على الحذف كأنه قال لا سبب ريب فيه لأن الأسباب التي توجبه في الكلام التلبيس والتعقيد والتناقض والدعاوى العارية عن البرهان وكل ذلك منتف عن كتاب الله تعالى، وقيل معناه النهي وإن كان لفظه خبراً أي لا ترتابوا فيه على حد**{ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ }** [البقرة: 197] وقيل معناه لا ريب فيه للمتقين فالظرف صفة و { لّلْمُتَّقِينَ } خبر و { هُدًى } حال من الضمير المجرور أي لا ريب كائناً فيه للمتقين حال كونه هادياً وهي حال لازمة فيفيد انتفاء الريب في جميع الأزمنة والأحوال ويكون التقييد كالدليل على انتفاء الريب و { لا } لنفي اتصاف الاسم بالخبر لا لنفي قيد الاسم فلا تتوجه إليه ليختل المعنى نعم هو قول قليل الجدوى مع أن الغالب في الظرف الذي بعد لا هذه كونه خبراً وإنما لم يقل سبحانه لا فيه ريب على حد**{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ }** [الصافات: 47] لأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد وهو أن كتاباً غيره فيه الريب كما قصد فيه الآية تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها فليس فيها ما في غيرها من العيب قاله الزمخشري، وبعضهم لم يفرق بين ليس في الدار رجل وليس رجل في الدار حتى أنكر أبو حيان إفادة تقديم الخبر هنا الحصر وهو مما لا يلتفت إليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقرأ سليم أبو الشعثاء (لا ريب فيه) بالرفع وهو لكونه نقيضاً لريب فيه وهو محتمل لأن يكون إثباتاً لفرد ونفيه يفيد انتفاءه فلا يوجب الاستغراق كما في القراءة المشهورة ولهذا جاز لا رجل في الدار بل رجلان دون لا رجل فيها بل رجلان فلا لعموم النفي لا لنفي العموم والوقف على { فِيهِ } هو المشهور وعليه يكون الكتاب نفسه هدى وقد تكرر ذلك في التنزيل وعن نافع وعاصم الوقف على { لاَ رَيْبَ } ولا ريب في حذف الخبر، وذهب الزجاج إلى جعل { لاَ رَيْبَ } بمعنى حقاً فالوقف عليه تام إلا أنه أيضاً دون الأول، وقرأ ابن كثير (فيهي) بوصل الهاء ياء في اللفظ وكذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة فإن كان قبلها ساكن غير الياء وصلها بالواو ووافقه حفص في**{ فِيهِ مُهَاناً }** [الفرقان: 69] و**{ مُلاَقِيهِ }** { الإنشقاق: 6 } و**{ سأصليه }** [المدثر: 26]، والباقون لا يشبعون وإذا تحرك ما قبل الهاء أشبعوه، وقرأ الزهري وابن جندب بضم الهاء من الكنايات في جميع القرآن على الأصل. والهدى في الأصل مصدر هدى أو عوض عن المصدر وكل في كلام سيبويه ولم يجىء من المصادر بهذه الزنة إلا قليل كالتقى، والسرى، والبكى بالقصر في لغة ولقى كما قال الشاطبـي وأنشد: | **وقد زعموا حلماً لقاك فلم أزد** | | **بحمد الذي أعطاك حلماً ولا عقلاً** | | --- | --- | --- | والمراد منه هنا اسم الفاعل بأحد الوجوه المعروفة في أمثاله وهو لفظ مؤنث عند ابن عطية ومذكر عند اللحياني وبنو أسد يؤنثون كما قال الفراء فهو كالهداية وقد تقدم معناها وفي «الكشاف» هي الدلالة الموصلة إلى البغية واستدل عليه بثلاثة وجوه، الأول: وقوع الضلال في مقابله كما في قوله تعالى:**{ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَـٰلٍ }** [سبأ: 24] والضلال عبارة عن الخيبة وعدم الوصول إلى البغية فلو لم يعتبر الوصول في مفهوم الهدى لم يتقابلا لجواز الاجتماع بينهما، والثاني: أنه يقال مهدي في موضع المدح كمهتد ومن حصل له الدلالة من غير الاهتداء لا يقال له ذلك فعلم أن الايصال معتبر في مفهومه، والثالث: أن اهتدى مطاوع هدى ولن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله ألا ترى إلى نحو كسره فانكسر وفيه بحث أما أولاً: فلأن المذكور في مقابلة الضلالة هو الهدى اللازم بمعنى الاهتداء مجازاً أو اشتراكاً وكلامنا في المتعدي ومقابلة الاضلال ولا استدلال به إذ ربما يفسر بالدلالة على ما لا يوصل ولا يجعله ضالاً على أنه لو فسرت الهداية بمطلق الدلالة على ما من شأنه الإيصال أوصل أم لا، وفسر الضلال المقابل لها ـ وتقابل الإيجاب والسلب ـ بعدم تلك الدلالة المطلقة لزم منه عدم الوصول لأن سلب الدلالة المطلقة سلب للمقيدة إذ سلب الأعم يستلزم سلب الأخص فليس في هذا التقابل ما يرجح المدعي، وأما ثانياً: فلأنا لا نسلم أن الضلالة عبارة عن الخيبة/ الخ بل هو العدول عن الطريق الموصل إلى البغية فيكون الهدى عبارة عن الدلالة على الطريق الموصل، نعم إن عدم الوصول إلى البغية لازم للضلالة ويجوز أن يكون اللازم أعم، وأما ثالثاً: فلأنه لا يلزم من عدم إطلاق المهدي إلا على المهتدي أن يكون الوصول معتبراً في مفهوم الهدى لجواز غلبة المشتق في فرد من مفهوم المشتق منه، وأما رابعاً: فلأنا لا نسلم أن اهتدى مطاوع هدى بل هو من قبيل أمره فأتمر من ترتب فعل يغاير الأول فإن معنى هداه فاهتدى دله على الطريق الموصل فسلكه بدليل أنه يقال هداه فلم يهتد على أن جمعا يعتد بهم قالوا: لا يلزم من وجود الفعل وجود مطاوعه مطلقاً ففي المختار لا يجب أن يوافق المطاوع أصله ويجب في غيره ويؤيده قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَمَا نُرْسِلُ بِٱلأَيَـٰتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا }** [الإسراء: 59] مع قوله سبحانه:**{ وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا }** [الإسراء: 60] فقد وجد التخويف بدون الخوف ولا يقال كسرته فما انكسر والفرق بينهما مفصل في «عروس الأفراح»، وأما خامساً: فلأن ما ذكره معارض بما فيه الهداية وليس فيه وصول إلى البغية وقد مر بعضه ولهذا اختلفوا هل هي حقيقة في الدلالة المطلقة مجاز في غيرها أو بالعكس أو هي مشتركة بينهما أو موضوعة لقدر مشترك؟ وإلى كل ذهب طائفة، وقيل والمذكور في كلام الأشاعرة أن المختار عندهم ما ذكر في «الكشاف» وعند المعتزلة ما ذكرناه والمشهور هو العكس ـ والتوفيق بأن كلام الأشاعرة في المعنى الشرعي والمشهور مبني على المعنى اللغوي أو العرفي ـ يخدشه اختيار صاحب «الكشاف» مع تصلبه في الاعتزال ما اختاره مع أن الظاهر في القرآن المعنى الشرعي فالأظهر للموفق عكس هذا التوفيق، والحق عند أهل الحق أن الهداية مشتركة بين المعنيين المذكورين وعدم الإهلاك وبه يندفع كثير من القال والقيل. و { ٱلْمُتَّقِينَ } جمع متق اسم فاعل من وقاه فاتقى ففاؤه واو لا تاء، والوقاية لغة الصيانة مطلقاً وشرعاً صيانة المرء نفسه عما يضر في الآخرة والمراتب متعددة لتعدد مراتب الضرر فأولاها: التوقي عن الشرك؛ والثانية: التجنب عن الكبائر ـ ومنها الإصرار على الصغائر ـ والثالثة: ما أشير إليه بما رواه الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: **" لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس "** وفي هذه المرتبة يعتبر ترك الصغائر ولذا قيل: | **خل الذنوب كبيرها** | | **وصغيرها فهو التقى** | | --- | --- | --- | | **واصنع كماش فوق أر** | | **ض الشوك يحذر ما يرى** | | **لا تحقرن صغيرة** | | **إن الجبال من الحصى** | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفي هذه المرتبة اختلفت عبارات الأكابر، فقيل: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، وقيل: التبري عن الحول والقوة، وقيل: التنزه عن كل ما يشغل السر عن الحق، وفي هذا الميدان تراكضت أرواح العاشقين وتفانت أشباح السالكين حتى قال قائلهم: | **ولو خطرت لي في سواك إرادة** | | **على خاطري سهواً حكمت بردتي** | | --- | --- | --- | وهداية الكتاب المبين شاملة لأرباب هذه المراتب أجمعين فإن أريد بكونه هدى للمتقين إرشاده إياهم إلى تحصيل المرتبة الأولى: فالمراد بهم المشارفون مجازاً لاستحالة تحصيل الحاصل وإيثاره على العبارة المعربة عن ذلك للإيجاز، وتصدير السورة الكريمة بذكر أوليائه تعالى وتفخيم شأنهم واعتبار المشارفة بالنظر إلى زمان نسبة الهدى فلا ينافي حسن التعقيب بـ**{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ }** [البقرة: 3] لأن ذلك كما قيل بالنظر إلى زمان إثبات تلك النسبة كما يقال قتل قتيلاً دفن في موضع كذا وربما جعل التقدير هم الذين في جواب من المتقون؟ وحمل الكل/ على المشارفة يأباه السوق وقد يقال المتقين مجاز بالمشارفة والصفة ترشيح بلا مشارفة ولا تجوز كما هو المعهود في أمثاله أو نقول هو على حد نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الشفيع يوم المحشر فلا إشكال وإن أريد به إرشاده إلى تحصيل إحدى المرتبتين الأخيرتين فإن عنى بالمتقين أصحاب المرتبة الأولى تعينت الحقيقة وإن عنى بهم أصحاب الطبقتين الأخيرتين تعين المجاز لأن الوصول إليهما إنما يتحقق بهدايته المرقية، وكذا الحال فيما بين المرتبة الثانية والثالثة فإن أريد بالهدى الإرشاد إلى تحصيل المرتبة الثالثة فإن عنى بالمتقين أصحاب المرتبة الثانية تعينت الحقيقة وإن عنى بهم أصحاب المرتبة الثالثة تعين المجاز، ولفظ الهداية حقيقة في جميع الصور وأما إن أريد بكونه هدى لهم تثبيتهم على ما هم عليه وإرشادهم إلى الزيادة فيه على أن يكون مفهومها داخلاً في المعنى المستعمل فيه فهو مجاز محالة ولفظ (المتقين) حقيقة على كل حالة كذا حققه مولانا مفتى الديار الرومية ومنه يعلم اندفاع ما قيل أن الهداية إن فسرت بالدلالة الموصلة يقتضي أن يكون { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } دالاً على تحصيل الحاصل كأنه قيل دلالة موصلة إلى المطلوب للواصلين إليه وإن فسرت بالدلالة على ما يوصل كان هناك محذوراً آخر فإن المهتدي إلى مقصوده يكون دلالته على ما يوصله إليه لغواً، ووجه الاندفاع ظاهر لكن حقق بعض المحققين أن الأظهر أنه لا حاجة إلى التجوز هنا لأنه إذا قيل السلاح عصمة للمعتصم والمال غنى للغني على معنى سبب غناه وعصمته لم يلزم أن يكون السلاح والمال سبي عصمة وغنى حادثين غير ما هما فيه، فما نحن فيه غير محتاج للتأويل وليس من المجاز في شيء إذ المتقي مهتدٍ بهذا الهدى حقيقة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد اختلف أهل العربية والأصول في الوصف المشتق هل هو حقيقة في الحال أو الاستقبال وهل المراد زمان النسبة أو التكلم من غير واسطة بينهما؟ والذي عليه المحققون أنه زمن النسبة، وقد ذهب السبكي والكرماني إلى أن " من قتل قتيلاً فله سلبه " حقيقة وخطآ من قال أنه مجاز ولا يقال إنه لا مفاد لإثبات القتل لمقتول به لأن قصد البليغ بمعونة القرينة العقلية أن القتل المتصف به صادر عن هذا القاتل دون غيره فكأنه قيل لم يشاركه فيه غيره فسلبه له دون غيره، ومن هنا جعل المعنى فيما نحن فيه لا هدى للمتقين إلا بكتاب الله تعالى المتلألىء نور هدايته الساطع برهان دلالته وإذا علق حكم على اسم الإشارة الموصوف نحو عصرت هذا الخل مثلاً فهناك تعليقان في الحقيقة تعليق الحكم السابق بذات المشار إليه وتعليق الإشارة والمعتبر زمان الإشارة لا زمان الحكم السابق فإذا صحّ إطلاق الخل على المشار إليه واتصافه بالخلية مثلاً في زمان الإشارة ـ مع قطع النظر ـ عن الحكم السابق كان حقيقة وإلا فمجاز فافهم وتدبر. ثم لا يقدح في كونه هدى ما فيه من المجمل والمتشابه لأنه لا يستلزم كونه هدى هدايته باعتبار كل جزء منه فيجوز أن يذكر فيه ما فيه ابتلاء لذوي الألباب من الفحول بما لا تصل إليه الأفهام والعقول أو لأن ذلك لا ينفك عن بيان المراد منه كما ذهب إليه الشافعية فهو بعد التبيين هدى وتوقف هدايته على شيء لا يضر فيها كما أنه على رأي متوقف على تقدّم الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقد نص الإمام على أنه كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لا يكون القرآن هدي فيه كمعرفة ذات الله وصفاته ومعرفة النبوات لئلا يلزم الدور إلا أن يكون هدى في تأكيد ما في العقول والاعتداد به، وبعض صحح أن القرآن في نفسه مدى في كل شيء حتى معرفة الله تعالى لمن تأمل في أدلته العقلية وحججه اليقينية كما يشعر به ظاهر قوله تعالى:**{ شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ }** [البقرة: 185] ويكون الاقتصار على المتقين هنا بناء على تفسيرنا الهداية/ مدحاً لهم ليبين سبحانه أنهم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال تعالى:**{ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـٰهَا }** [النازعات: 45] مع عموم إنذاره صلى الله عليه وسلم وأما غيرهم فلا**{ وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرءانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا }** [الإسراء: 45] و**{ لا يَزِيدُ ٱلظَّـٰلِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا }** [الإسراء: 82] وأما القول بأن التقدير ـ هدى للمتقين والكافرين ـ فحذف لدلالة المتقين على حد**{ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [النحل: 81] فمما لا يلتفت إليه. هذا ولا يخفى ما في هذه الجمل والآيات من التناسق فـ**{ الۤمۤ }** [البقرة: 1] أشارت إلى ما أشارت و { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } قررت بعض إشارتها بأنه الكتاب الكامل الذي لا يحق غيره أن يسمى كتاباً في جنسه أي باب التحدي والهداية و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } كالتأكيد لأحد الركنين و { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } كالتأكيد للركن الآخر. وخلاصته هو الحقيق بأن يتحدى به لكمال نظمه في باب البلاغة وكماله في نفسه وفيما هو المقصود منه، وقيل: بالحمل على الاستئناف كأنه سئل ما باله صار معجزاً؟ فأجيب بأنه كامل بلغ أقصى الكمال لفظاً ومعنى وهو معنى { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } ثم سئل عن مقتضى الاختصاص بكونه هو الكتاب الكامل فأجيب بأنه لا يحوم حوله ريب ثم لما طولب بالدليل على ذلك استدل بكونه { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } لظهور اشتماله على المنافع الدينية والدنيوية والمصالح المعاشية والمعادية بحيث لا ينكره إلا من كابر نفسه وعاند عقله وحسه، وقد يقال الإعجاز مستلزم غاية الكمال وغاية كمال الكلام البليغ ببعده من الريب والشبه لظهور حقيته وذلك مقتض لهدايته وإرشاده فإن نظر إلى اتحاد المعاني بحسب المآل كان الثاني مقرراً للأول فلذا ترك العطف وإن نظر إلى أن الأول مقتض لما بعده للزومه بعد التأمل الصادق فالأول لاستلزامه ما يليه وكونه في قوته يجعله منزلا منه منزلة بدل الاشتمال لما بينهما من المناسبة والملازمة فوزانه وزان حسنها في أعجبتني الجارية حسنها وترك العطف حينئذ لشدة الاتصال بين هذه الجمل. وفيها أيضاً من النكت الرائقة والمزايا الفائقة ما لا يخفى جلالة قدره ـ على من مرّ ما ذكرناه ـ على فكره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ)
{ ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ }. مبدأ كلام لا اتصال له في الإعراب بحروف**{ الم }** البقرة 1 كما علمتَ مما تقدم على جميع الاحتمالات كما هو الأظهر. وقد جوز صاحب «الكشاف» علَى احتمال أن تكون حروف { ألم } مسوقة مساق التهجي لإظهار عجز المشركين عن الإتيان بمثل بعض القرآن، أَن يكون اسمُ الإشارة مشاراً به إلى { الم } باعتباره حرفاً مقصوداً للتعجيز، أي ذلك المعنى الحاصل من التهجي أي ذلك الحروف باعتبارها من جنس حروفكم هي الكتابُ أي منها تراكيبه فما أَعجزَكم عن معارضته، فيكون { الم } جملة مستقلة مسوقة للتعريض. واسم الإشارة مبتدأ والكتابُ خبراً. وعلى الأظهر تكون الإشارة إلى القرآن المعروف لَدَيْهم يومئذٍ واسم الإشارة مبتدأ والكتاب بدل وخبرُه ما بعده، فالإشارة إلى الكتاب النازِل بالفعل وهي السور المتقدمة على سورة البقرة لأن كل ما نزل من القرآن فهو المعبر عنه بأنه القرآن وينضم إليه ما يلحق به، فيكون الكتاب على هذا الوجه أطلق حقيقة على ما كُتب بالفعل، ويكون قوله الكتاب على هذا الوجه خبراً عن اسم الإشارة، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع القرآن ما نزل منه وما سينزل لأن نزوله مترقَّب فهو حاضر في الأذهان فشبه بالحاضر في العيان، فالتعريف فيه للعهد التقديري والإشارة إليه للحضور التقديري فيكون قوله الكتاب حينئذٍ بدلاً أو بياناً من { ذلك } والخبر هو { لا ريب فيه }. ويجوز الإتيان في مثل هذا باسم الإشارة الموضوع للقريب والموضوع للبعيد، قال الرضي «وُضِع اسم الإشارة للحضور والقربِ لأنه للمشار إليه حسًّا ثم يصح أن يشار به إلى الغائب فيصح الإتيان بلفظ البعد لأن المحكي عنه غائب، ويقل أن يذكر بلفظ الحاضر القريب فتقول جاءني رجل فقلت لذلك الرجل وقلت لهذا الرجل، وكذا يجوز لك في الكلام المسموع عن قريب أن تشير إليه بلفظ الغيبة والبعد كما تقول «واللَّهِ وذلك قسم عظيم» لأن اللفظ زال سماعه فصار كالغائب ولكن الأغلب في هذا الإشارةُ بلفظ الحضور فتقول " وهذا قسم عظيم» ا هـ، أي الأكثر في مثله الإتيان باسم إشارة البعيد ويقل ذكره بلفظ الحاضر، وعكس ذلك في الإشارة للقول. وابن مالك في «التسهيل» سوَّى بين الإتيان بالقريب والبعيد في الإشارة لكلام متقدم إذ قال وقد يتعاقبان أي اسم القريب والبعيد مشاراً بهما إلى ماوَلياه أي من الكلام، ومثَّله شارحه بقوله تعالى بعد قصة عيسى**{ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم }** آل عمران 58 ثم قال**{ إن هذا لهو القصص الحق }** آل عمران 62 فأشار مرة بالبعيد ومرة بالقريب والمشار إليه واحد، وكلام ابن مالك أوفق بالاستعمال إذ لا يكاد يحصر ما ورد من الاستعمالين فدعوى الرضي قلة أن يذكر بلفظ الحاضر دعوى عريضة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وإذا كان كذلك كان حكم الإشارة إلى غائب غير كلام مثلَ الإشارة إلى الكلام في جواز الوجهين لكثرة كليهما أيضاً، ففي القرآن**{ فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه }** القصص 15 فإذا كان الوجهان سواء كان ذلك الاستعمال مجالاً لتسابق البلغاء ومراعاة مقتضيات الأحوال، ونحن قد رأيناهم يتخيرون في مواقع الإتيان باسم الإشارة ما هو أشد مناسبة لذلك المقام فدلنا على أنهم يعرِّفون مخاطبيهم بأغراض لا قبل لتعرفها إلا إذا كان الاستعمال سواء في أصل اللغة ليكون الترجيح لأحد الاستعمالين لا على معنى، مثل زيادة التنبيه في اسم الإشارة البعيد كما هنا، وكما قال خُفاف بن نَدْبة | **أقول لَه والرمحُ يأطر مَتْنَه تأمل خُفَافاً إِنني أَنَا ذلك** | | | | --- | --- | --- | وقد يؤتى بالقريب لإظهار قلة الاكتراث كقول قيس بن الخَطِيم في «الحماسة» | **متَى يأتِ هذَا الموتُ لا يلفِ حاجة لنفسيَ إلا قد قضيتُ قضاءها** | | | | --- | --- | --- | فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن لجعله بعيد المنزلة. وقد شاع في الكلام البليغ تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال لأن الشيء النفيس عزيز على أهله فمن العادة أن يجعلوه في المرتفعات صوناً له عن الدروس وتناول كثرة الأيدي والابتذال، فالكتاب هنا لما ذكر في مقام التحدي بمعارضته بما دلت عليه حروف التهجي في**{ الم }** البقرة 1 كان كالشيء العزيز المنال بالنسبة إلى تناولهم إياه بالمعارضة أو لأنه لصدق معانيه ونفع إرشاده بعيد عمن يتناوله بهُجر القول كقولهم**{ افتراه }** يونس 38 وقولهم**{ أساطير الأولين }** الأنعام 25. ولا يرد على هذا قوله**{ وهذا كتاب أنزلناه }** الأنعام 92 فذلك للإشارة إلى كتاب بين يدي أهله لترغيبهم في العكوف عليه والإتعاظ بأوامره ونواهيه. ولعل صاحب «الكشاف» بنى على مثل ما بنى عليه الرضي فلم يعُدَّ { ذلك الكتاب } تنبيهاً على التعظيم أو الاعتبار، فللَّه در صاحب «المفتاح» إذ لم يُغفل ذلك فقال في مقتضِيات تعريف المسند إليه بالإشارة أوْ أنْ يقصد ببعده تعظيمه كما تقول في مقام التعظيم ذلك الفاضل وأولئك الفحول وكقوله عز وعلا { الم ذلك الكتاب } ذهاباً إلى بعده درجةً. وقوله { الكتاب } يجوز أن يكون بدلاً من اسم الإشارة لقصد بيان المشار إليه لعدم مشاهدته، فالتعريف فيه إذن للعهد، ويكون الخبر هو جملة { لا ريب فيه } ، ويجوز أن يكون الكتاب خبراً عن اسم الإشارة ويكون التعريف تعريف الجنس فتفيد الجملة قصر حقيقة الكتاب على القرآن بسبب تعريف الجُزءين فهو إذن قصر ادِّعائي ومعناه ذلك هو الكتاب الجامع لصفات الكمال في جنس الكتب بناء على أن غيره من الكتب إذا نسبت إليه كانت كالمفقود منها وصفُ الكتاب لعدم استكمالها جميع كمالات الكتب، وهذا التعريف قد يعبر عنه النحاة في تعداد معاني لام التعريف بمعنى الدلالة على الكمال فلا يرد أنه كيف يحصر الكتاب في أنه الم أو في السورة أو نحو ذلك إذ ليس المقام مقام الحصر وإنما هو مقام التعريف لا غير، ففائدة التعريف والإشارة ظاهرية وليس شيء من ذلك لغواً بحال وإن سبق لبعض الأوهام على بعض احتمال. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والكتاب فِعال بمعنى المكتوب إما مصدر كاتَب المصوغ للمبالغة في الكتابة، فإن المصدر يجىء بمعنى المفعول كالخَلق، وإما فعال بمعنى مَفعول كلِباس بمعنى ملبوس وعِماد بمعنى مَعمود به. واشتقاقه من كَتَب بمعنى جمع وضم لأن الكتاب تجمع أوراقه وحروفه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة كل ما ينزل من الوحي وجعل للوحي كتاباً، وتسمية القرآن كتاباً إشارة إلى وجوب كتابته لحفظه. وكتابة القرآن فرض كفاية على المسلمين. { لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }. حال من الكتاب أو خبر أول أو ثان على ما مر قريباً. والريب الشك وأصل الريب القلق واضطراب النفس، وريبُ الزمانِ وريبُ المنون نوائِب ذلك، قال الله تعالى**{ نتربص به ريب المنون }** الطور 30 ولما كان الشك يلزمه اضطراب النفس وقلقها غلب عليه الريب فصار حقيقة عرفية يقال رابه الشيء إذا شككه أي بِجَعلِ ما أوجب الشك في حاله فهو متعد، ويقال أرابه كذلك إذ الهمزة لم تكسبه تعدية زائدة فهو مثل لَحِق وأَلْحق، وزَلَقه وأزلقه وقد قيل إن أراب أضعف من راب أراب بمعنى قَرَّبه من أن يشك قاله أبو زيد، وعلى التفرقة بينهما قال بشار | **أخوك الذي إن ربته قال إنما أرَبْتَ وإن عاتبتَه لان جانبه** | | | | --- | --- | --- | وفي الحديث **" دع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك "** أي دع الفعل الذي يقربك من الشك في التحريم إلى فعل آخر لا يدخل عليك في فعله شك في أنه مباح. ولم يختلف متواتر القراء في فتح { لا ريب } نفياً للجنس على سبيل التنصيص وهو أبلغه لأنه لو رفعَ لاحتمل نفي الفرد دون الجنس فإن كانت الإشارة بقوله { ذلك } إلى الحروف المجتمعة في { الم } على إرادة التعريض بالمتحَدَّيْنَ وكان قوله { الكتاب } خبراً لاسم الإشارة على ما تقدم كان قوله { لا ريب } نفياً لريب خاص وهو الريب الذي يعرض في كون هذا الكتاب مؤلفاً من حروف كلامهم فكيف عجزوا عن مثله، وكان نفي الجنس فيه حقيقة وليس بادعاء، فتكون جملة { لا ريبَ } منزَّلة منزِلةَ التأكيد لمفاد الإشارة في قوله { ذلك الكتاب } وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المجرور وهو قوله { فيه } متعلقاً بريب على أنه ظرف لغو فيكون الوقف على قوله { فيه } وهو مختار الجمهور على نحو قوله تعالى**{ وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه }** الشورى 7 وقوله**{ ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه }** آل عمران 9 ويجوز أن يكون قوله { فيه } ظرفاً مستقراً خبراً لقوله بعده { هدى للكتقين } ومعنى «في» هو الظرفية المجازية العرفية تشبيهاً لدلالة اللفظ باحتواء الظرف فيكون تخطئة للذين أعرضوا عن استماع القرآن فقالوا | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ لا تسمعوا لهذا القرآن }** فصلت 26 استنزالاً لطائر نفورهم كأنه قيل هذا الكتاب مشتمل على شيء من الهدى فاسمعوا إليه ولذلك نكر الهدى أي فيه شيء من هدى على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر **" إنك امْرؤ فيك جاهلية "** ويكون خبر لا محذوفاً لظهوره أي لا ريب موجود، وحذف الخبر مستعمل كثيراً في أمثاله نحو**{ قالوا لا ضير }** الشعراء 50 وقول العرب لا بأس، وقول سعد بن مالك | **من صد عن نيرانها فأنا ابن قيس لا بَرَاحُ** | | | | --- | --- | --- | أي لا بقاء في ذلك، وهو استعمال مجازي فيكون الوقف على قوله { لا ريب } وفي «الكشاف» أن نافعاً وعاصماً وقفا على قوله { ريب } وإن كانت الإشارة بقوله { ذلك } إلى { الكتاب } باعتبار كونه كالحاضر المشاهد وكان قوله { الكتاب } بدلاً من اسم الإشارة لبيانه فالمجرور من قوله { فيه } ظرف لغو متعلق بريب وخبر لا محذوف على الطريقة الكثيرة في مثله، والوقف على قوله { فيه } ، فيه معنى نفي وقوع الريب في الكتاب على هذا الوجه نفي الشك في أنه منزل من الله تعالى لأن المقصود خطاب المرتابين في صدق نسبته إلى الله تعالى وسيجىء خطابهم بقوله**{ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله }** البقرة 23 فارتيابهم واقع مشتهر، ولكن نزل ارتيابهم منزلة العدم لأن في دلائل الأحوال ما لو تأملوه لزال ارتيابهم فنزل ذلك الارتياب مع دلائل بطلانه منزلة العدم. قال صاحب «المفتاح» «ويقلبون القضية مع المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع فيقولون لمنكر الإسلام الإسلام حق وقوله عز وجل في حق القرآن { لا ريب فيه } - وكم من شقي مرتاب فيه - وارد على هذا فيكون المركب الدال على النفي المؤكد للريب مستعملاً في معنى عدم الاعتداد بالريب لمشابهة حال المرتاب في وهن ريبه بحال من ليس بمرتاب أصلاً على طريقة التمثيل. ومن المفسرين من فسر قوله تعالى { لا ريب فيه } بمعنى أنه ليس فيه ما يوجب ارتياباً في صحته أي ليس فيه اضطراب ولا اختلاف فيكون الريب هنا مجازاً في سببه ويكون المجرور ظرفاً مستقراً خبرَ لا فيَنظُر إلى قوله تعالى**{ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً }** النساء 82 أي إن القرآن لا يشتمل على كلام يوجب الريبة في أنه من عند الحق رب العالمين، من كلام يناقض بعضه بعضاً أو كلام يجافي الحقيقة والفضيلة أو يأمر بارتكاب الشر والفساد أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة، وانتفاء ذلك عنه يقتضي أن ما يشتمل عليه القرآن إذا تدبَّر فيه المتدبرُ وجده مفيداً اليقين بأنه من عند الله والآية هنا تحتمل المعنيين فلنجعلهما مقصودين منها على الأصل الذي أصلناه في المقدمة التاسعة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهذا النفي ليس فيه ادعاء ولا تنزيل فهذا الوجه يغني عن تنزيل الموجود منزلة المعدوم فيفيد التعريض بما بين يدي أهل الكتاب يومئذٍ من الكتب فإنها قد اضطربت أقوالها وتخالفت لما اعتراها من التحريف وذلك لأن التصدي للإخبار بنفي الريب عن القرآن مع عدم وجود قائل بالريب فيما تضمنه أي بريب مستند لموجب ارتياب إذ قصارى ما قالوه فيه أقوال مجملة مثل هذا سحر، هَذا أساطير الأولين يدل ذلك التحدي على أن المراد التعريض لا سيما بعد قوله { ذلك الكتاب } كما تقول لمن تكلم بعد قوم تكلموا في مجلس وأنتَ ساكت هذا الكلام صوابٌ تعرض بغيره. وبهذا الوجه أيضاً يتسنى اتحاد المعنى عند الوقف لدى من وقف على { فيه } ولَدى من وقف { على ريب } ، لأنه إذا اعتبر الظرف غير خبر وكان الخبر محذوفاً أمكن الاستغناء عن هذا الظرف من هاته الجملة، وقد ذكر «الكشاف» أن الظرف وهو قوله { فيه } لم يقدم على المسند إليه وهو { ريب } أي على احتمال أن يكون خبراً عن اسم لا كما قُدم الظرف في قوله**{ لا فيها غول }** الصافات 47 لأنه لو قدم الظرف هنا لقصد أن كتاباً آخر فيه الريب ا هـ. يعني لأن التقديم في مثله يفيد الاختصاص فيكون مفيداً أن نفي الريب عنه مقصور عليه وأن غيره من الكتب فيه الريب وهو غير مقصود هنا. وليس الحصر في قوله { لا ريب فيه } بمقصود لأن السياق خطاب للعرب المتحدَّيْنَ بالقرآن وليسوا من أهل كتاب حتى يُرد عليهم. وإنما أريد أنهم لا عذر لهم في إنكارهم أنه من عند الله إذ هم قد دُعوا إلى معارضته فعَجزوا. نعم يستفاد منه تعريض بأهل الكتاب الذين آزروا المشركين وشجعوهم على التكذيب به بأن القرآنَ لعلو شأنه بين نظرائه من الكُتب ليس فيه ما يدعو إلى الارتياب في كونه منزلاً من الله إثارة للتدبر فيه هل يجدون ما يوجب الارتياب فيه وذلك يستطير جاثم إعجابهم بكتابهم المبدلِ المحرف فإن الشك في الحقائق رائد ظهورها. والفجر بالمستطير بين يدي طلوع الشمس بشير بسفورها. وقد بنَى كلامه على أن الجملة المكيفة بالقصر في حالة الإثبات لو دخل عليها نفي وهي بتلك الكيفية أفاد قصر النفي لا نفىَ القصر، وأمثلة صاحب «المفتاح» في تقديم المسند للاختصاص سوَّى فيها بين ما جاء بالإثبات وما جاء بالنفي. وعندي فيه نظر سأذكره عند قوله تعالى**{ ليس عليك هداهم }** البقرة 272. وحكم حركة هاء الضمير أو سكونها مقررة في علم القراءات في قسم أصولها. وقوله { هدى للمتقين } الهدى اسم مصدر الهَدْي ليس له نظير في لغة العرب إلا سُرًى وتُقىً وبُكًى ولُغًى مصدر لغي في لغة قليلة. وفعله هدَى هدياً يتعدى إلى المفعول الثاني بإلى وربما تعدى إليه بنفسه على طريقة الحذف المتوسع فيما تقدم في قوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ اهدنا الصراط المستقيم }** الفاتحة 6. والهدى على التحقيق هو الدلالة التي من شأنها الإيصال إلى البغية وهذا هو الظاهر في معناه لأن الأصل عدم الترادف فلا يكون هُدى مرادفاً لدل ولأن المفهوم من الهُدى الدلالة الكاملة وهذا موافق للمعنى المنقول إليه الهدى في العرف الشرعي. وهو أسعد بقواعد الأشعري لأن التوفيق الذي هو الإيصال عند الأشعري مِنْ خلق الله تعالى في قلب الموفَّق فيناسب تفسير الهداية بما يصلح له ليكون الذي يهدي يوصل الهداية الشرعية. فالقرآن هدى ووصفه بالمصدر للمبالغة أي هو هاد. والهدى الشرعي هو الإرشاد إلى ما فيه صلاح العاجل الذي لا ينقض صلاح الآجل. وأثر هذا الهدى هو الاهتداء فالمتقون يهتدون بهديه والمعاندون لا يهتدون لأنهم لا يتدبرون، وهذا معنى لا يختلف فيه وإنما اختلف المتكلمون في منشأ حصول الاهتداء وهي مسألة لا حاجة إليها في فهم الآية. وتفصيل أنواع الهداية تقدم عند قوله تعالى { اهدنا الصراط }. ومحل هدى إن كان هو صدر جملة أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف هو ضمير الكتاب فيكون المعنى الإخبار عن الكتاب بأنه الهدى وفيه من المبالغة في حصول الهداية به ما يقتضيه الإخبار بالمصدر للإشارة إلى بلوغه الغاية في إرشاد الناس حتى كانَ هو عين الهُدى تنبيهاً على رجحان هُداه على هدى ما قبله من الكتب، وإن كان الوقف على قوله { لا ريب } وكان الظرف صدرَ الجملةِ الموالية وكان قوله { هدى } مبتدأ خبره الظرف المتقدم قبله فيكون إخباراً بأن فيه هدى فالظرفية تدل على تمكن الهدى منه فيساوي ذلك في الدلالة على التمكن الوجهَ المتقدم الذي هو الإخبار عنه بأنه عين الهدى. والمتقي من اتصف بالاتقاء وهو طلب الوقاية، والوقاية الصيانة والحفظ من المكروه فالمتقي هو الحذر المتطلب للنجاة من شيء مكروه مضر، والمراد هنا المتقين الله، أي الذين هم خائفون غضبه واستعدوا لطلب مرضاته واستجابة طلبه فإذا قرىء عليهم القرآن استمعوا له وتدبروا ما يدعو إليه فاهتدوا. والتقوى الشرعية هي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات من الكبائر وعدم الاسترسال على الصغائر ظاهراً وباطناً أي اتقاء ما جعل الله الاقتحام فيه موجباً غضبه وعقابه، فالكبائر كلها متوعد فاعلها بالعقاب دون اللمم. والمراد من الهُدَى ومن المتقين في الآية معناهما اللغوي فالمراد أن القرآن من شأنه الإيصال إلى المطالب الخيرية وأن المستعدين للوصول به إليها هم المتقون أي هم الذين تجردوا عن المكابرة ونزهوا أنفسهم عن حضيض التقليد للمضلين وخشوا العاقبة وصانوا أنفسهم من خطر غضب الله هذا هو الظاهر، والمراد بالمتقين المؤمنون الذين آمنوا بالله وبمحمد وتلقوا القرآن بقوة وعزم على العمل به كما ستكشف عنهم الأوصاف الآتية في قوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ الذين يؤمنون بالغيب }** إلى قوله**{ من قبلك }** البقرة 3، 4. وفي بيان كون القرآن هدى وكيفية صفة المتقي معان ثلاثة الأول أن القرآن هدى في زمن الحال لأن الوصف بالمصدر عوض عن الوصف باسم الفاعل وزمن الحال هو الأصل في اسم الفاعل والمراد حال النطق. والمتقون هم المتقون في الحال أيضاً لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال كما قلنا، أي أن جميع من نزه نفسه وأعدها لقبول الكمال يهديه هذا الكتاب، أو يزيده هدى كقوله تعالى**{ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم }** محمد 17. الثاني أنه هدى في الماضي أي حصل به هدى أي بما نزل من الكتاب، فيكون المراد من المتقين من كانت التقوى شعارهم أي أن الهدى ظهر أثره فيهم فاتقوا وعليه فيكون مدحاً للكتاب بمشاهدة هديه وثناء على المؤمنين الذين اهتدوا به وإطلاق المتقين على المتصفين بالتقوى فيما مضى، وإن كان غير الغالب في الوصف باسم الفاعل إطلاق يعتمد على قرينة سياق الثناء على الكتاب. الثالث أنه هدى في المستقبل للذين سيتقون في المستقبل وتُعين عليه هنا قرينة الوصف بالمصدر في { هدى } لأن المصدر لا يدل على زمان معين. حصل من وصف الكتاب بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل، لو وُصف باسم الفاعل فقيل هادٍ للمتقين، فهذا ثناء على القرآن وتنويه به وتخلص للثناء على المؤمنين الذين انتفعوا بهديه، فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم ومبالغ علمهم واختلاف مطالبهم، فمن منتفع بهديه في الدين، ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة، ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين، وكل أولئك من المتقين وانتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم. وقد جعل أئمة الأصول الاجتهاد في الفقه من التقوى، فاستدلوا على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى**{ فاتقوا الله ما استطعتم }** التغابن 16 فإن قَصَّر بأحد سعيُه عن كمال الانتفاع به، فإنما ذلك لنقص فيه لا في الهداية، ولا يزال أهل العلم والصلاح يتسابقون في التحصيل على أوفر ما يستطيعون من الاهتداء بالقرآن. وتلتئم الجمل الأربع كمالَ الالتئمام فإن جملة**{ الم }** البقرة 1تسجيل لإعجاز القرآن وإنحاء على عامة المشركين عجزهم عن معارضته وهو مؤلف من حروف كلامهم وكفى بهذا نداء على تعنتهم. وجملة { ذلك الكتاب } تنويه بشأنه وأنه بالغ حد الكمال في أحوال الكتب، فذلك موجه إلى الخاصة من العقلاء أن يقول لهم هذا كتاب مؤلف من حروف كلامكم، وهو بالغ حد الكمال من بين الكتب، فكان ذلك مما يوفر دواعيكم على اتباعه والافتخار بأنْ منحتموه فإنكم تعُدون أنفسكم أفضل الأمم، فكيف لا تسرعون إلى متابعة كتاب نزل فيكم هو أفضل الكتب فوزان هذا وزان قوله تعالى { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } إلى قوله | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ورحمة }** الأنعام 156، 157، وموَجَّه إلى أهل الكتاب بإيقاظهم إلى أنه أفضل مما أوتوه. وجملةُ { لا ريب } إن كان الوقف على قوله { لا ريب } تعريضٌ بكل المرتابين فيه من المشركين وأهل الكتاب أي أن الارتياب في هذا الكتاب نشأ عن المكابرة، وأن لا ريب فإنه الكتاب الكامل، وإن كان الوقف على قوله { فيه } كان تعريضاً بأهل الكتاب في تعلقهم بمحرف كتابيهم مع ما فيهما من مثار الريب والشك من الاضطراب الواضح الدال على أنه من صنع الناس، قال تعالى**{ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً }** النساء 82. وقال في «الكشاف» ثم لم تخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن نظمت هذا التنظيم السري من نكتة ذاتِ جزالة ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر - وهو الهدى - موضع الوصف وإيراده منكراً والإيجاز في ذكر المتقين ا هـ. فالتقوى إذن بهذا المعنى هي أساس الخير، وهي بالمعنى الشرعي الذي هو غاية المعنى اللغوي جماع الخيرات. قال ابن العربي لم يتكرر لفظ في القرآن مثلما تكرر لفظ التقوى اهتماماً بشأنها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ)
قوله تعالى { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }. صرح في هذه الآية بأن هذا القرآن هدى للمتقين، ويفهم من مفهوم الآية - أعني مفهوم المخالفة المعروف بدليل الخطاب - أن غير المتقين ليس هذا القرآن هدى لهم، وصرح بهذا المفهوم في آيات أخر كقوله**{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى }** فصلت 44 وقوله**{ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }** الإسراء 82 وقوله**{ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ }** التوبة 124-125 وقوله تعالى**{ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً }** المائدة 64 الآيتين. ومعلوم أن المراد بالهدى في هذه الآية الهدى الخاص الذي هو التفضل بالتوفيق إلى دين الحق، لا الهدى العام، الذي هو إيضاح الحق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير الميزان في تفسير القرآن/ الطبطبائي (ت 1401 هـ)
بيان لما كانت السورة نازلة نجوماً لم يجمعها غرض واحد إلاَّ أن معظمها تنبىء عن غاية واحدة محصلة وهو بيان أن من حق عبادة الله سبحانه أن يؤمن عبده بكل ما أنزله بلسان رسله من غير تفرقة بين وحي ووحي، ولا بين رسول ورسول ولا غير ذلك، ثم تقريع الكافرين والمنافقين وملامة أهل الكتاب بما ابتدعوه من التفرقة في دين الله والتفريق بين رسله، ثم التخلص إلى بيان عدة من الأحكام كتحويل القبلة وأحكام الحج والإِرث والصوم وغير ذلك. قوله تعالى { الم } ، سيأتي بعض ما يتعلق من الكلام بالحروف المقطعة التي في أوائل السوَر، في أول سورة الشورى إن شاء الله، وكذلك الكلام في معنى هداية القرآن ومعنى كونه كتاباً. وقوله تعالى { هدىً للمتقين الذين يؤمنون } ، المتقون هم المؤمنون، وليست التقوى من الأوصاف الخاصة لطبقة من طبقاتهم، أعني لمرتبة من مراتب الإِيمان حتى تكون مقاماً من مقاماته نظير الإِحسان والإِخبات والخلوص، بل هي صفة مجامعة لجميع مراتب الإِيمان إذا تلبس الإِيمان بلباس التحقق، والدليل على ذلك أنه تعالى لا يخص بتوصيفه طائفة خاصة من طوائف المؤمنين على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم والذي أخذه تعالى من الأوصاف المعرِّفة للتقوى في هذه الآيات التسع عشرة التي يبيّن فيها حال المؤمنين والكفار والمنافقين، خمس صفات وهي الإِيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإِنفاق مما رزق الله سبحانه، والإِيمان بما أنزله على أنبيائه، والإِيقان بالآخرة، وقد وصفهم بأنهم على هدى من ربهم فدلَّ ذلك على أن تلبسهم بهذه الصفات الكريمة بسبب تلبسهم بلباس الهداية من الله سبحانه، فهم إنما صاروا متقين أولي هذه الصفات بهداية منه تعالى، ثم وصف الكتاب بأنه هدى لهؤلاء المتقين بقوله تعالى { ذلِكَ الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } فعلمنا بذلك أن الهداية غير الهداية، وأن هؤلاء وهم متقون محفوفون بهدايتين، هداية أولى بها صاروا متقين، وهداية ثانية أكرمهم الله سبحانه بها بعد التقوى وبذلك صحّت المقابلة بين المتقين وبين الكفار والمنافقين، فإنه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين وعماءين، ضلال أول هو الموجب لأوصافهم الخبيثة من الكفر والنفاق، وضلال ثان يتأكد به ضلالهم الأول، ويتصفون به بعد تحقق الكفر والنفاق كما يقوله تعالى في حق الكفار**{ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة }** البقرة 7، فنسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إلى أنفسهم، وكما يقوله في حق المنافقين**{ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً }** البقرة 10 فنسب المرض الأول إليهم والمرض الثاني إلى نفسه على حد ما يستفاد من قوله تعالى**{ يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاَّ الفاسقين }** البقرة 26 وقوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم }** الصف 5. وبالجملة المتقون واقعون بين هدايتين، كما أن الكفار والمنافقين واقعون بين ضلالين. ثم إن الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الأولى قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة، فإن الفطرة إذا سلمت لم تنفك من أن تتنبه شاهدة لفقرها وحاجتها إلى أمر خارج عنها، وكذا احتياج كل ما سواها مما يقع عليه حس أو وهم أو عقل إلى أمر خارج يقف دونه سلسلة الحوائج، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحس منه يبدأ الجميع وإليه ينتهي ويعود، وانه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات الأعمال والأخلاق، وهذا هو الإِذعان بالتوحيد والنبوة والمعاد وهي أصول الدين، ويلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيته، واستعمال ما في وسع الإِنسان من مال وجاه وعلم وفضيلة لإِحياء هذا الأمر ونشره، وهذان هما الصلاة والإِنفاق. ومن هنا يعلم أن الذي أخذه سبحانه من أوصافهم هو الذي يقضي به الفطرة إذا سلمت وانه سبحانه وعدهم أنه سيفيض عليهم أمراً سماه هداية، فهذه الأعمال الزاكية منهم متوسطة بين هدايتين كما عرفت، هداية سابقة وهداية لاحقة، وبين الهدايتين يقع صدق الاعتقاد وصلاح العمل، ومن الدليل على أن هذه الهداية الثانية من الله سبحانه فرع الأولى، آيات كثيرة كقوله تعالى**{ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة }** إبراهيم 27. وقوله تعالى**{ يا أيُّها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به }** الحديد 28. وقوله تعالى**{ إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم }** محمد 7. وقوله تعالى**{ والله لا يهدي القوم الظالمين }** الصف 7. وقوله تعالى**{ والله لا يهدي القوم الفاسقين }** الصف 5. إلى غير ذلك من الآيات. والأمر في ضلال الكفار والمنافقين كما في المتقين على ما سيأتي إن شاء الله. وفي الآيات إشارة إلى حياة أُخرى للإِنسان كامنة مستبطنة تحت هذه الحياة الدنيوية، وهي الحياة التي بها يعيش الإِنسان في هذه الدار وبعد الموت وحين البعث، قال تعالى**{ أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها }** الأنعام 122 وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله. وقوله سبحانه { يؤمنون } ، الإِيمان تمكن الاعتقاد في القلب مأخوذ من الأمن كأن المؤمن يعطى لما آمن به الأمن من الريب والشك وهو آفة الاعتقاد، والإِيمان كما مرّ معنى ذو مراتب، إذ الإِذعان ربما يتعلق بالشيء نفسه فيترتب عليه أثره فقط، وربما يشتد بعض الاشتداد فيتعلق ببعض لوازمه، وربما يتعلق بجميع لوازمه فيستنتج منه أن للمؤمنين طبقات على حسب طبقات الإِيمان. وقوله سبحانه { بالغيب } ، الغيب خلاف الشهادة وينطبق على ما لا يقع عليه الحس، وهو الله سبحانه وآياته الكبرى الغائبة عن حواسنا، ومنها الوحي، وهو الذي أُشير إليه بقوله { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } فالمراد بالإِيمان بالغيب في مقابل الإِيمان بالوحي والإِيقان بالآخرة، هو الإِيمان بالله تعالى ليتم بذلك الإِيمان بالأصول الثلاثة للدين، والقرآن يؤكد القول على عدم القصر على الحس فقط ويحرص على اتباع سليم العقل وخالص اللب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقوله سبحانه { وبالآخرة هم يوقنون } ، العدول في خصوص الإِذعان بالآخرة عن الإِيمان إلى الإِيقان، كأنه للإِشارة إلى أن التقوى لا تتم إلاَّ مع اليقين بالآخرة الذي لا يجامع نسيانها، دون الإِيمان المجرد، فإن الإِنسان ربما يؤمن بشيء ويذهل عن بعض لوازمه فيأتي بما ينافيه، لكنه إذا كان على علم وذكر من يوم يحاسب فيه على الخطير واليسير من أعماله لا يقتحم معه الموبقات ولا يحوم حوم محارم الله سبحانه البتة قال تعالى**{ ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إنّ الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب }** ص 26 فبيّن تعالى أن الضلال عن سبيل الله إنما هو بنسيان يوم الحساب فذكره واليقين به ينتج التقوى. وقوله تعالى { أُولئك على هدى من ربهم } ، الهداية كلها من الله سبحانه، لا ينسب إلى غيره البتة إلاَّ على نحو من المجاز كما سيأتي إن شاء الله، ولما وصفهم الله سبحانه بالهداية وقد قال في نعتها**{ فمن يرد الله أنْ يهديه يشرح صدره }** الأنعام 125. وشرح الصدر سعته وهذا الشرح، يدفع عنه كل ضيق وشح، وقد قال تعالى**{ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون }** الحشر 9، عقب سبحانه ها هُنا أيضاً قوله { أُولئك على هدى من ربهم } ، بقوله { وأولئك هم المفلحون } الآية. بحث روائي في المعاني عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى { الذين يؤمنون بالغيب } ، قال من آمن بقيام القائم عليه السلام أنه حق. أقول وهذا المعنى مروي في غير هذه الرواية وهو من الجري. وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى { ومما رزقناهم ينفقون } قال ومما علمناهم يبثّون. وفي المعاني عنه عليه السلام في الآية ومما علمناهم يبثون وما علمناهم من القرآن يتلون. أقول والروايتان مبنيتان على حمل الانفاق على الأعم من انفاق المال كما ذكرناه. بحث فلسفي هل يجوز التعويل على غير الإِدراكات الحسية من المعاني العقلية؟ هذه المسألة من معارك الآراء بين المتأخرين من الغربيين، وإن كان المعظم من القدماء وحكماء الإِسلام على جواز التعويل على الحس والعقل معاً، بل ذكروا أن البرهان العلمي لا يشمل المحسوس من حيث أنه محسوس، لكن الغربيين مع ذلك اختلفوا في ذلك، والمعظم منهم وخاصة من علماء الطبيعة على عدم الاعتماد على غير الحس، وقد احتجوا على ذلك بأن العقليات المحضة يكثر وقوع الخطأ والغلط فيها مع عدم وجود ما يميّز به الصواب من الخطأ وهو الحس والتجربة المماسّان للجزئيات بخلاف الإِدراكات الحسيّة فإنا إذا أدركنا شيئاً بواحد من الحواس اتّبعنا ذلك بالتجربة بتكرار الأمثال، ولا نزال نكرر حتى نستثبت الخاصة المطلوبة في الخارج ثم لا يقع فيه شك بعد ذلك، والحجة باطلة مدخولة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أولاً بأن جميع المقدمات المأخوذة فيها عقلية غير حسية، فهي حجة على بطلان الاعتماد على المقدمات العقلية بمقدمات عقلية، فيلزم من صحة الحجة فسادها. وثانياً بأن الغلط في الحواس لا يقصر عدداً من الخطأ والغلط في العقليات، كما يرشد إليه الأبحاث التي أوردوها في المبصرات وسائر المحسوسات، فلو كان مجرد وقوع الخطأ في باب موجباً لسده وسقوط الاعتماد عليه لكان سد باب الحس أوجب وألزم. وثالثاً أن التميز بين الخطأ والصواب مما لا بد منه في جميع المدركات غير أن التجربة وهو تكرر الحس ليست آلة لذلك التميز بل القضية التجربية تصير إحدى المقدمات من قياس يحتج به على المطلوب، فإنا إذا أدركنا بالحس خاصة من الخواص ثم اتبعناه بالتجربة بتكرار الأمثال تحصل لنا في الحقيقة قياس على هذا الشكل إن هذه الخاصة دائمي الوجود أو أكثري الوجود لهذا الموضوع، ولو كانت خاصة لغير هذا الموضوع لم يكن بدائمي أو أكثري، لكنه دائمي أو أكثري وهذا القياس كما ترى يشتمل على مقدمات عقلية غير حسية ولا تجريبية. ورابعاً هب أن جميع العلوم الحسيّة مؤيدة بالتجربة في باب العمل لكن من الواضح أن نفس التجربة ليس ثبوتها بتجربة أُخرى وهكذا إلى غير النهاية بل العلم بصحته من طريق غير طريق الحس، فالاعتماد على الحس والتجربة اعتماد على العلم العقلي اضطراراً. وخامساً ان الحس لا ينال غير الجزئي المتغير والعلوم لا تستنتج ولا تستعمل غير القضايا الكلية وهي غير محسوسة ولا مجربة، فإن التشريح مثلاً إنما ينال من الإِنسان مثلاً أفراداً معدودين قليلين أو كثيرين، يعطي للحس فيها مشاهدة أن لهذا الإِنسان قلباً وكبداً مثلاً ويحصل من تكرارها عدد من المشاهدة يقل أو يكثر وذلك غير الحكم الكلي في قولنا كل إنسان له قلب أو كبد، فلو اقتصرنا في الاعتماد والتعويل على ما يستفاد من الحس والتجربة فحسب من غير ركون على العقليات من رأس لم يتم لنا إدراك كلي ولا فكر نظري ولا بحث علمي، فكما يمكن التعويل أو يلزم على الحس في مورد يخص به كذلك التعويل فيما يخص بالقوة العقلية، ومرادنا بالعقل هو المبدأ لهذه التصديقات الكلية والمدرك لهذه الأحكام العامة، ولا ريب أن الإِنسان معه شيء شأنه هذا الشأن، وكيف يتصور أن يوجد ويحصل بالصنع والتكوين شيء شأنه الخطأ في فعله رأساً؟ أو يمكن أن يخطئ في فعله الذي خصه به التكوين؟ والتكوين إنما يخص موجوداً من الموجودات بفعل من الأفعال بعد تثبت الرابطة الخارجية بينهما، وكيف يثبت رابطة بين موجود وما ليس بموجود أي خطأ وغلط؟. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما وقوع الخطأ في العلوم أو الحواس فلبيان حقيقة الأمر فيه محل آخر ينبغي الرجوع إليه والله الهادي. بحث آخر فلسفي الإِنسان البسيط في أوائل نشأته حين ما يطأ موطأ الحيوة لا يرى من نفسه إلاَّ أنه ينال من الأشياء أعيانها الخارجية من غير أن يتنبه أنه يوسط بينه وبينها وصف العلم، ولا يزال على هذا الحال حتى يصادف في بعض مواقفه الشك أو الظن، وعند ذلك يتنبه أنه لا ينفك في سيره الحيوي ومعاشه الدنيوي عن استعمال العلم لا سيما وهو ربما يخطئ ويغلط في تميّزاته، ولا سبيل للخطأ والغلط إلى خارج الأعيان، فيتيقن عند ذلك بوجود صفة العلم فيه وهو الإِدراك المانع من النقيض. ثم البحث البالغ يوصلنا أيضاً إلى هذه النتيجة، فإن ادراكاتنا التصديقية تحلل إلى قضية أول الأوائل وهى أن الإِيجاب والسلب لا يجتمعان معاً ولا يرتفعان معاً فما من قضية بديهية أو نظرية إلاَّ وهي محتاجة في تمام تصديقها إلى هذه القضية البديهية الأولية، حتى أنا لو فرضنا من أنفسنا الشك فيها وجدنا الشك المفروض لا يجامع بطلان نفسه وهو مفروض، وإذا ثبتت هذه القضية على بداهتها ثبت جم غفير من التصديقات العلمية على حسب مساس الحاجة إلى اثباتها، وعليها معول الإِنسان في انظاره وأعماله. فما من موقف علمي ولا واقعة عملية إلاَّ ومعوّل الإِنسان فيه على العلم، حتى أنه إنما يشخّص شكه بعلمه أنه شك، وكذا ظنه أو وهمه أو جهله بما يعلم أنه ظن أو وهم أو جهل هذا. ولقد نشأ في عصر اليونانيين جماعة كانوا يسمون بالسوفسطائيين نفوا وجود العلم، وكانوا يبدون في كل شيء الشك حتى في أنفسهم وفي شكهم، وتبعهم آخرون يسمون بالشكاكين قريبوا المسلك منهم نفوا وجود العلم عن الخارج عن أنفسهم وأفكارهم إدراكاتهم وربما لفقوا لذلك وجوهاً من الاستدلال. منها أن أقوى العلوم والإِدراكات وهي الحاصلة لنا من طرق الحواس مملوءة خطأ وغلطاً فكيف بغيرها؟ ومع هذا الوصف كيف يمكن الاعتماد على شيء من العلوم والتصديقات المتعلقة بالخارج منا؟. ومنها أنا كلما قصدنا نيل شيء من الأشياء الخارجية لم ننل عند ذلك إلاَّ العلم به دون نفسه فكيف يمكن النيل لشيء من الأشياء؟ إلى غير ذلك من الوجوه. والجواب عن الأول أن هذا الاستدلال يبطل نفسه، فلو لم يجز الاعتماد على شيء من التصديقات لم يجز الاعتماد على المقدمات المأخوذة في نفس الاستدلال، مضافاً إلى أن الاعتراف بوجود الخطأ وكثرته اعتراف بوجود الصواب بما يعادل الخطأ أو يزيد عليه، مضافاً إلى أن القائل بوجود العلم لا يدعي صحة كل تصديق بل إنما يدعيه في الجملة، وبعبارة أُخرى يدعي الإِيجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي والحجة لا تفي بنفي ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والجواب عن الثاني أن محل النزاع وهو العلم حقيقته الكشف عمّا وراءه فإذا فرضنا أنا كلما قصدنا شيئاً من الأشياء الخارجية وجدنا العلم بذلك اعترفنا بأنا كشفنا عنه حينئذٍ، ونحن إنما ندعي وجود هذا الكشف في الجملة، ولم يدع أحد في باب وجود العلم أنا نجد نفس الواقع وننال عين الخارج دون كشفه، وهؤلاء محجوجون بما تعترف به نفوسهم اعترافاً اضطرارياً في أفعال الحياة الاختيارية وغيرها، فإنهم يتحركون إلى الغذاء والماء عند إحساس ألم الجوع والعطش، وكذا إلى كل مطلوب عند طلبه لا عند تصوره الخالي، ويهربون عن كل محذور مهروب عنه عند العلم بوجوده لا عند مجرد تصوره، وبالجملة كل حاجة نفسانية ألهمتها إليهم إحساساتهم أوجدوا حركة خارجية لرفعها ولكنهم عند تصور تلك الحاجة من غير حاجة الطبيعة إليها لا يتحركون نحو رفعها، وبين التصورين فرق لا محالة، وهو أن أحد العلمين يوجده الإِنسان باختياره ومن عند نفسه والآخر إنما يوجد في الإِنسان بإيجاد أمر خارج عنه مؤثر فيه، وهو الذي يكشف عنه العلم، فإذن العلم موجود وذلك ما أردناه. واعلم أن في وجود العلم شكاً قوياً من وجه آخر وهو الذي وضع عليه أساس العلوم المادية اليوم من نفي العلم الثابت وكل علم ثابت، بيانه أن البحث العلمي يثبت في عالم الطبيعة نظام التحول والتكامل، فكل جزء من أجزاء عالم الطبيعة واقع في مسير الحركة متوجه إلى الكمال، فما من شيء إلاَّ وهو في الآن الثاني من وجوده غيره وهو في الآن الأول من وجوده، ولا شك أن الفكر والإِدراك من خواص الدماغ، فهي خاصة مادية لمركب مادي، فهي لا محالة واقعة تحت قانون التحول والتكامل، فهذه الإِدراكات ومنها الإِدراك المسمى بالعلم واقعة في التغير والتحول، فلا معنى لوجود علم ثابت باق وإنما هو نسبي، فبعض التصديقات أدوم بقاء وأطول عمراً أو أخفى نقيضاً ونقضاً من بعض آخر وهو المسمى بالعلم فيما وجد. والجواب عنه أن الحجة مبنية على كون العلم مادياً غير مجرد في وجوده وليس ذلك بيّناً ولا مبيّناً بل الحق أن العلم ليس بمادي البتة، وذلك لعدم إنطباق صفات المادة وخواصها عليه. 1 فإن الماديات مشتركة في قبول الانقسام وليس يقبل العلم بما أنه علم الانقسام البتة. 2 والماديات مكانية زمانية والعلم بما أنه علم لا يقبل مكاناً ولا زماناً، والدليل عليه إمكان تعقل الحادثة الجزئية الواقعة في مكان معيّن وزمان معيّن في كل مكان وكل زمان مع حفظ العينية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | 3 والماديات بأجمعها واقعة تحت سيطرة الحركة العمومية، فالتغير خاصة عمومية فيها مع أن العلم بما أنه علم لا يتغير، فإن حيثية العلم بالذات تنافي حيثية التغير والتبدل وهو ظاهر عند المتأمل. 4 ولو كان العلم مما يتغير بحسب ذاته كالماديات لم يمكن تعقل شيء واحد ولا حادثة واحدة في وقتين مختلفين معاً، ولا تذكر شيء أو حادثة سابقة في زمان لاحق، فإن الشيء المتغير وهو في الآن الثاني غيره في الآن الأول، فهذه الوجوه ونظائرها دالة على أن العلم بما أنه علم ليس بمادي البتة، وأما ما يحصل في العضو الحساس أو الدماغ من تحقق عمل طبيعي فليس بحثنا فيه أصلاَ ولا دليل على أنه هو العلم، ومجرد تحقق عمل عند تحقق أمر من الأمور لا يدل على كونهما أمراً واحداً، والزائد على هذا المقدار من البحث ينبغي أن يطلب من محل آخر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ)
سورة البقرة من السور التى ابتدئت ببعض حروف التهجى. وقد وردت هذه الفواتح تارة مفردة بحرف واحد، وتارة مركبة من حرفين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة. فالسور التى بدأت بحرف واحد ثلاثة وهى سور ص، ق، ن. والسور التى بدأت بحرفين تسعة وهى طه، يس، طس، { وحم } فى ست سور هى غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف. والسورة التى بدأت بثلاثه أحرف ثلاث عشرة سورة وهى { ألم } فى ست سور البقرة، وآل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة و { الر } فى خمس سور هى يونس، هود، يوسف، الحجر، إبراهيم و { طسم } فى سورتين هما الشعراء، القصص. وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما. الرعد، { المر } ، والأعراف، { المص } ، وسورتان - أيضاً - بدئتا بخمسة أحرف وهما مريم { كهيعص } ، والشورى { حم عسق }. فيكون مجموع السور التى افتتحت بالحروف المقطعة تسعا وعشرين سورة. هذا، وقد وقع خلاف بين العلماء فى المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور القرآنية، ويمكن إجمال خلافهم فى رأيين رئيسين الرأى الأول يرى أصحابه أن المعنى المقصود منها غير معروف، فهى من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه. وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس - فى إحدى رواياته - كما ذهب إليه الشعبى، وسفيان الثورى، وغيرهم من العلماء، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبى أنه سئل عن فواتح السور فقال إن لكل كتاب سراً، وإن سر هذا القرآن فى فواتح السور. ويروى عن ابن عباس أنه قال عجزت العلماء عن إدراكها. وعن على - رضي الله عنه - أنه قال " إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجى ". وفى رواية أخرى عن الشعبى أنه قال " سر الله فلا تطلبوه ". ومن الاعتراضات التى وجهت إلى هذا الرأى، أنه كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس، لأنه من المتشابه، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل، أو مثله كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها.. وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإِفهام عنها عند كل الناس، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد منها، وكذلك بعض أصحابه المقربين - ولكن الذى ننفيه أن يكون الناس جميعاً فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة فى أوائل بعض السور. وهناك مناقشات أخرى للعلماء حول هذا الرأى يضيق المجال عن ذكرها. أما الرأى الثانى فيرى أصحابه أن المعنى المقصود منها معلوم، وأنها ليست من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه. وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم فى تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة، من أهمها ما يأتى 1- أن هذه الحروف أسماء للسور، بدليل قول النبى صلى الله عليه وسلم | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح "** وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها كسورة ص وسورة يس. ولا يخلو هذا القول من الضعف، لأن كثيراً من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح، والغرض من التسمية رفع الاشتباه. 2- وقيل إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى. 3 - وقيل إنها حروف مقطعة، بعضها من أسماء الله - تعالى - وبعضها من صفاته، فمثلاً { الۤمۤ } أصلها أنا الله أعلم. 4 - وقيل إنها اسم الله الأعظم. إلى غير ذلك من الأقوال التى لا تخلو من مقال، والتى أوصلها السيوطى فى " الإِتقان " إلى أكثر من عشرين قولا. 5 - ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال إن هذه الحروف المقطعة قد وردت فى افتتاح بعض السور للإِشعار بأن هذا القرآن الذى تحدى الله به المشركين هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التى يعرفونها، ويقدرون على تأليف الكلام منها، فإذا عجزوا عن الإِتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه فى الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة، وفضلا عن ذلك فإن تصدير السور بمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإِنصات والتدبر، لأنه يطرق أسماعهم فى أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة فى مجارى كلامهم، وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها، فيستمعوا حكما وحججاً قد يكون سبباً فى هدايتهم واستجابتهم للحق. هذه خلاصة لأراء العلماء فى الحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور القرآنية، ومن أراد مزيداً لذلك فليرجع - مثلاً - إلى كتاب " الإِتقان " للسيوطى، وإلى كتاب " البرهان " للزركشى، وإلى تفسير الألوسى. ثم قال - تعالى - { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }. { ذَلِكَ } اسم إشارة واللام للبعد حقيقة فى الحس، مجازاً فى الرتبة، والكاف للخطاب، والمشار إليه - على الراجح - الكتاب الموعود به صلى الله عليه وسلم فى قوله - تعالى -**{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }** قال صاحب الكشاف فإن قلت أخبرنى عن تأليف { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } مع { الۤمۤ } قلت إن جعلت { الۤمۤ } اسماً للسورة ففى التأليف وجوه. أن يكون { الۤمۤ } مبتدأ و { ذَلِكَ } مبتدأ ثانياً، و { ٱلْكِتَابُ } خبره. والجملة خبر المبتدأ الأول. ومعناه أن ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب فى مقابلته ناقص، وأنه الذى يستأهل أن يسمى كتاباً، كما تقول هو الرجل، أي الكامل فى الرجولية، الجامع لما يكون فى الرجال من مرضيات الخصال. وإن جعلت { الۤمۤ } بمنزلة الصوت، كان " ذلك " مبتدأ خبره " الكتاب " ، أى ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | .. اهـ ملخصاً. وقيل المشار إليه { الۤمۤ } على أنه اسم للسورة والمراد المسمى. و { ٱلْكِتَابُ } مصدر كتب كالكتب، وأصل الكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة. واستعمل عرفا فى ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط، وأريد به هنا المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التى يتألف منها فى الخط، تسمية للشىء باسم ما يؤول إليه. والريب فى الأصل مصدر رابه الأمر إذا حصل عنده فيه ريبة، وحقيقة الريبة، قلق النفس واضطرابها، ثم استعمل فى معنى الشك مطلقاً. وقال ابن الأثير الريب هو الشك مع التهمة. وهدى. مصدر هداه هدى وهداية وهدية - بكسرها - فهدى، ومعناه الدلالة الموصلة إلى البغية، وضده الضلال. والمتقون جمع متق، اسم فاعل من اتقى وأصله اوتقى - بوزن افتعل - من وقى الشئ وقاية، أى صانه وحفظه مما يضره ويؤذيه. والمعنى ذلك الكتاب الكامل، وهو القرآن الكريم، ليس محلا لأن يرتاب عاقل أو منصف فى أنه منزل من عند الله، وأنه هداية وإرشاد للمتقين الذين يجتنبون كل مكروه من قول أو فعل، حتى يصونوا أنفسهم عما يضرها ويؤذيها. وكانت الإِشارة بصيغة البعيد، لأنه سامى المنزلة أينما توجهت إليه، فإن نظرت إليه من ناحية تراكيبه فهو معجز للبلغاء، وإن نظرت إليه من ناحية معانيه فهو فوق مدارك الحكماء، وإن نظرت إليه من ناحية قصصه وتاريخه فهو أصدق محدث عن الماضين، وأدق محدد لتاريخ السابقين، فلا جرم أن كانت الإِشارة فى الآية باستعمال اسم الإِشارة للبعيد لإِظهار رفعة شأن هذا القرآن، وقد شاع فى كلام البلغاء تمثيل الأمر الشريف بالشىء المرفوع فى عزة المنال، لأن الشىء النفيس عزيز على أهله، فمن العادة أن يجعلوه فى مكان مرتفع بعيد عن الأيدى. وصحت الإِشارة إلى الكتاب وهو لم ينزل كله بعد، لأن الإِشارة إلى بعضه كالإِشارة إلى الكل حيث كان بصدد الإِنزال، فهو حاضر فى الأذهان، فشبه بالحاضر فى العيان. ونفى عنه الريب على سبيل الاستغراق مع وقوع الريب فيه من المشركين حيث وصفوه بأنه أساطير الأولين، لأنه لروعة حكمته، وسطوع حجته، لا يرتاب ذو عقل متدبر فى كونه وحياً سماوياً، ومصدر هداية وإصلاح. فالجملة الكريمة تنفى الريب فى القرآن عمن شأنهم أن يتدبروه، ويقبلوا على النظر فيه بروية، ومن ارتاب فى القرآن فلأنه لم يقبل عليه بأذن واعية، أو بصيرة نافذة، أو قلب سليم. وقدم جملة { لاَ رَيْبَ فيهِ } على جملة { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } لأنه أراد أن ينفى عن ساحة كونه كتاباً هادياً غبار الريب، وغيوم الشكوك، حتى يستقر فى النفوس وصفه، وتطمئن القلوب لآثاره ومقاصده وهداياته. وفصل جملة { لاَ رَيْبَ فيهِ } عما قبلها لكمال الاتصال، حيث كانت جملة { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } مفيدة لكماله، وجملة { لاَ رَيْبَ فيهِ } مفيدة لنفى الريب عنه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والمراد بكونه { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } مع أنه هداية لهم ولغيرهم، لأنهم هم المنتفعون به دون سواهم. قال تعالى**{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }** ومعنى كونه هدى لهم أنه يزيدهم هدى على ما لديهم من الهدى كما قال - تعالى -**{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْْ }** ويصح أن يكون المعنى هدى للناس الذين صاروا متقين بهذه الهداية، كما أقول هديت مهتديا، أو كتبت مكتوبا، على معنى أنى هديت شخصاً صار مهدياً بهذه الهداية، وكتبت خطاباً صار مكتوباً بهذه الكتابة، وهو أسلوب عربى صحيح. كما ورد فى حديث **" من قتل قتيلا فله سلبه ".** قال صاحب الكشاف ومحل { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } الرفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف، أو خبر مع { لاَ رَيْبَ فيهِ } لـ " ذلك "... والذى هو أرسخ عرقاً فى البلاعة أن يضرب عن هذه المحال صفحاً، وأن يقال إن قوله { الۤمۤ } جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة برأسها. و { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } جملة ثانية. و { لاَ رَيْبَ فيهِ } ثالثة. { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } رابعة. وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم، حيث جئ بها متناسقة هكذا من غير نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض. فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال. فكان تقريراً لجهة التحدى، وشدا من أعضاده ثم نفى عنه أن يتشبث به من طرف الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله. لأنه لا كمال أكمل من الحق واليقين. ولا نقص أنقص ما للباطل والشبه. وقيل لبعض العلماء فيم لذتك؟ فقال فى حجة تتبختر اتضاحاً، وفى شبهة تتضاءل افتضاحا. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ثم لم تخل كل واحدة من الأربع - بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق - من نكتة ذات جزالة. ففى الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه. وفى الثانية ما فى التعريف من الفخامة، وفى الثالثة ما فى تقديم الريب على الظرف، وفى الرابعة الحذف. ثم فصل القرآن بعد ذلك أوصاف المتقين، ومدحهم بجملة من المناقب الحميدة، فقال { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } أي يصدقون بما غاب عن حواسهم، كالصانع وصفاته، وكاليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وثواب وعقاب. والإِيمان لغة التصديق والإِذعان، وهو إفعال من الأمن. وشرعاً التصديق بما علم بالضرورة أنه من الدين، كالايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | .. الخ، وعدى { يُؤْمِنُونَ } بالباء لتضمينه معنى أقر واعترف. والغيب مصدر غاب يغيب، وكثيراً ما يستعمل بمعنى الغائب، وهو الظاهر من هذه الآية الكريمة. ومعناه ما لا تدركه الحواس، ولا يعلم ببداهة العقل. قال بعض العلماء وخص بالذكر الإِيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإِيمان، لأن الإِيمان بالغيب هو الأصل فى اعتقاد إمكان ما لا تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوى، فإذا آمن به المرء وتصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله - تعالى - فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما من يعتقد أنه ليس من وراء عالم الماديات عالم آخر، فقد راض نفسه على الإِعراض عن الدعوة، كما هو حال الماديين الذين يقولون " ما يهلكنا إلا الدهر والإِيمان بالغيب يستلزم التصديق به على وجه الجزم، وهو لا يحصل إلا عن دليل. ولا شك أن قيام البراهين على صدق من أخبر بالغيب يجعل المؤمن بهذا الغيب مصدقاً عن دليل، فنحن لا نحتاج فى الإِيمان بالملائكه والكتب السماوية السابقة، والرسل الذين أرسلوا من قبل، والبعث وما فيه من ثواب وعقاب، لا نحتاج فى الإِيمان بكل ذلك إلى دليل زائد على الأدلة التى قامت على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والإِيمان بالغيب دليل على اتساع العقول، وسلامة القلوب، إذ أن معنى الإِيمان بالغيب هو أن عقولهم قد سلم إدراكها، وتقشعت عنها غشاواتها، وامتد نظرها فى الكائنات فأدركت أن لها مبدعاً حكيماً وخالقاً قديراً، جعلها تسير بنظام محكم، فهذه كواكب تظهر وتغيب، وسماء مرفوعة بغير عمد، وأرض راسية لا تميد ولا تضطرب...**{ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ }** فكان من ذلك لتلك العقول براهين قاطعة على وجود خالق مدبر، وحكيم قدير، ومبدع لا تأخذه سنة ولا نوم. والإِيمان بالغيب الذى أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقوى ويعظم كلما قوى الإِيمان فى القلوب، واستولى الصفاء على النفوس، وقد مدح النبى صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالغيب فى أحاديث متعددة، منها ما جاء عن خالد بن دريك، **" عن ابن محيريز قال قلت لابن جمعة حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم أحدثك حديثاً. تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال نعم، قوم من بعدكم يؤمنون بى ولم يرونى ".** قال ابن كثير فقد مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية لا مطلقاً. وأخرج ابن أبى حاتم والطبرانى وابن منده وأبو نعيم **" عن بديلة بنت أسلم قالت صليت الظهر أو العصر فى مسجد بنى حارثة، واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين، ثم جاء من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت، فتحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فقال " أولئك قوم آمنوا بالغيب " ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | تلك أول صفة نتيجة التقوى وهى الإِيمان بالغيب، أما الصفة الثانية التى مدح الله بها المتقين فهى قوله - تعالى - { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ }. الصلاة فى اللغة الدعاء، من صلى يصلى إذا دعا، واستعملها الشارع فى العبادة ذات الركوع والسجود لاشتمالها على الدعاء، والإِقامة فى الأصل الدوام والثبات، من قولك قام الحق أى ظهر وثبت. ومعنى { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ } يؤدونها فى أوقاتها المقدرة لها، مع تعديل أركانها، وإيقاعها مستوفية لواجباتها وسننها وآدابها وخشوعها، فإن الصلاة المقامة بحق هى تلك التى يصحبها الإخلاص، واستحضار جلال الله فى الركوع والسجود، وهى التى تترتب عليها الآثار العظيمة من تزكية النفس، وعفافها، وتركها لكل الشرور والآثام، كما قال - تعالى -**{ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ }** وقدم الإِيمان بالغيب على إقامة الصلاة تعظيماً لعمل القلب، واعتداداً بشرطية الإِيمان فى صحة أعمال الجوارح. وقدم إقامة الصلاة على الإِنفاق، لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولأنها تتكرر فى اليوم خمس مرات، ولأنها صلة بين العبد وربه، والإِنفاق صلته بالناس، ولأن مشروعيتها كانت سابقة على مشروعية الزكاة. أما الصفة الثالثة التى مدح الله بها المتقين فهى قوله - تعالى - { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }. أى ومما أعطيناهم وملكناهم يتصدقون فى وجوه الخير، ويمدون أيديهم بالإِحسان إلى الفقير والمسكين. والرزق عند جمهور العلماء ما صلح للانتفاع به حلالا كان أو حراماً، خلافاً للمعتزلة الذين يرون أن الحرام ليس برزق. والإِنفاق إخراج المال وإنفاده وصرفه، يقال نفق - كفرح ونصر - نفد وفنى أو قلّ. وأنفق ماله أنفده، وأصل المادة يدل على الخروج والذهاب، ومنه نافق فلان، والنافقاء، والنفق. وقال " ينفقون " ولم يقل أنفقوا، ليشعر بأن الإِنفاق منهم يتجدد بين وقت وآخر. ولم يحدد وجوه الانفاق بل تركها مطلقة لتشمل الفرض والواجب وغيرهما من وجوه الإِحسان. وإيراد " من " فى قوله تعالى - { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ } للإِشارة إلى أن مواظبتهم على إنفاق أموالهم بين الحين والحين، كفيل بتوصيلهم إلى زمرة المهتدين المفلحين، وللإِشعار بأنهم ينفقون بعض أموالهم مبتعدين عن الإِسراف والتبذير حتى لا يتركوا ورثتهم عالة يتكففون وجوه الناس. هذا، وقد عنى القرآن الكريم عناية فائقة بالحض على الإِنفاق فى وجوه الخير، ومدح الذين يفعلون ذلك مدحاً عظيماً فى عشرات الآيات، وذلك لأن الأمة التى يكثر فيها المنفقون لأموالهم فى وجوه الخير، لا بد أن تعز كلمتها، وتسلم من كوارث شتى، كالجهل، والفقر، والمرض. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فببذل الماء تسد حاجات البؤساء، وتشاد معاهد التعليم، وتقام وسائل حفظ الصحة، وتنمو المحبة والمودة بين الأغنياء والفقراء. قال تعالى**{ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ في سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }** ثم أضاف القرآن إلى صفات المتقين وصفاً رابعاً فقال { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } والمراد بقوله - تعالى - { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } القرآن الكريم، وإنما عبر عنه بلفظ الماضى - وإن كان بعضه مترقباً - تغليباً للموجود على ما لم يوجد. والمراد بقوله - تعالى - { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } ، الكتب الإِلهية السابقة التى أنزلها الله على أنبيائه كموسى وعيسى وداود. وهذا كقوله - تعالى -**{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِن قَبْلُ }** والإِيمان بما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم يستلزم الإِيمان برسالته، ويستوجب العمل بما تضمنته شريعته. وإيجاب العمل بما تضمنه القرآن الذى أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم باق على إطلاقه. أما الكتب السماوية السابقة فيكفى الإِيمان بأنها كانت وحياً وهداية، وقد تضمن القرآن الكريم ما اشتملت عليه هذه الكتب من هدايات وأصبح بنزوله مهيمناً عليها، قال - تعالى -**{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ }** وصار من المحتم على كل عاقل أن يعمل بما جاء به القرآن من توجيهات. وقدم الإِيمان بما أنزل عليه على الإِيمان بما أنزل على الذين من قبله - مع أن الترتيب يقتضى العكس - لأن إيمانهم بمن قبله لا قيمة له إلا إذا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. ولم يقل ويؤمنون بما أنزل من قبلك بتكرير يؤمنون، للإِشعار بأن الإِيمان به وبهم واحد، لا تغاير فيه وإن تعدد متعلقه. ويرى بعض العلماء أن المراد من الآية الكريمة، أهل الكتاب الذين آمنوا بالكتب السماوية التى نزلت قبل القرآن، نم لما نزل القرآن على النبى محمد صلى الله عليه وسلم وعرفوا أنه الحق - آمنوا به أيضاً -، فصار لهم أجران، كما جاء فى الحديث الشريف، الذى ثبت فى الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال **" ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين يوم القيامة رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بى، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها، ثم أعتقها ".** ثم وصف الله المتقين بوصف خامس فقال { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } الآخرة تأنيث الآخر. وهذا اللفظ تارة يجىء وصفاً ليوم القيامة مع ذكر الموصوف، كما فى قوله - تعالى -**{ وَلَلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ }** وتارة بهذا المعنى ولكن بدون ذكر الموصوف، كما فى الآية التى معنا، وكما فى قوله - تعالى - | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً }** وسميت آخرة لأنها تأتى بعد الدنيا التى هى الدار الأولى. و { يُوقِنُونَ } من الإِيقان وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، بحيث لا يطرأ عليه شك، ولا تحوم حوله شبهة. يقال يقن الماء إذا سكن وظهر ما تحته، ويقال يقنت - بالكسر - يقناً، وأيقنت، وتيقنت، واستيقنت بمعنى واحد. والمعنى وبالدار الآخرة وما فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب هم يوقنون إيقاناً قطعياً، لا أثر فيه للادعاءات الكاذبة، والأوهام الباطلة. وفى إيراد " هم " قبل قوله " يوقنون " تعريض، بغيرهم، ممن كان اعتقادهم فى أمر الآخرة غير مطابق للحقيقة أو غير بالغ مرتبة اليقين. ولا شك أن الإِيمان باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، له أثر عظيم فى فعل الخيرات، واجتناب المنكرات، لأن من أدرك أن هناك يوماً سيحاسب فيه على عمله، فإنه من شأنه أن يسلك الطريق القويم الذي يكسبه رضى الله يوم يلقاه. قال أبو حيان وذكر لفظة { هُمْ } فى قوله { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } ولم يذكرها فى قوله { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإِنفاق فاحتاج هذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد ولأنه لو ذكر { هُمْ } هناك لكان فيه قلق لفظى، إذ يكون التركيب " ومما رزقناهم هم ينفقون ". ثم بين - سبحانه - بعد ذلك الثمار التى ترتبت على تقواهم فقال { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }. المفلحون من الفلاح وهو الظفر والفوز بدرك البغية، وأصله من الفلح - بسكون اللام - وهو الشق والقطع، ومنه فلاحة الأرض وهو شقها للحرث. وأستعمل منه الفلاح فى الفوز كأن الفائز شق طريقه وفلحه للوصول إلى مبتغاه، أو انفتحت له طريق الظفر وانشقت. والمعنى أولئك المتصفون بما تقدم من صفات كريمة، على نور من ربهم، وأولئك هم الفائزون بما طلبوا، الناجون مما منه هربوا، بسبب إيمانهم العميق، وأعمالهم الصالحة. والآية الكريمة كلام مستأنف لبيان أن أولئك المتقين فى المنزلة العليا من الكمال الإِنسانى، فقد وصفهم - سبحانه - بأنهم على هدى عظيم، ويدل على عظم هذا الهدى إيراده بصيغة التنكير، إن من المعلوم عند علماء البيان أن التنكير يدل بمعونة المقام على التعظيم. كما يدل - أيضاً - على عظم هذا الهدى وصفه بأنه " من ربهم " فهو الذى وفقهم إليه، ويسر لهم أسبابه. وفى قوله - تعالى - { عَلَىٰ هُدًى } إشعار بأنهم تمكنوا منه تمكن من استعلى على الشىء، وصار فى قرار راسخ منه. وجملة { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } بيان لما ظفر به المتقون الحائزون لتلك الخصال، من سعادة فى الدنيا والآخرة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وتعريف الخبر وهو { ٱلْمُفْلِحُونَ } مع إيراد ضمير الفصل " هم " يفيد أن الفلاح مقصور على أولئك المتقين، فمن لم يؤمن بالغيب، أو أضاع الصلاة، أو بخل بالمال الذى منحه الله إياه فلم يؤده فى وجوهه المشروعة، فإنه لا يكون من المهتدين، ولا من المفلحين الذين سعدوا فى دنياهم وآخرتهم. قال الإِمام الرازى " وفى تكرير " { أُوْلَـٰئِكَ } تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى، فقد ثبت لهم الاختصاص بالفلاح - أيضاً - فقد تميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين، فإن قيل فلم جىء بالعاطف؟ وما الفرق بينه وبين قوله**{ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ }** قلنا قد اختلف الخبران ههنا فلذلك دخل العاطف، بخلاف الخبرين ثمة فإنهما متفقان، لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شىء واحد، وكانت الثانية مقررة لما فى الأولى، فهى من العطف بمعزل ". وقال صاحب الكشاف بعد تفسيره لهذه الآية الكريمة "... فانظر كيف كرر الله التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى، وهى ذكر اسم الاشارة، وتكريره، وتعريف المفلحين، وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين أولئك، ليبصرك مرتباتهم، ويرغبك فى طلب ما طلبوا، وينشطك لتقديم ما قدموا، ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب والتمنى على الله ما لا تقتضيه حكمته ولم تسبق به كلمته... ". وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد مدحت القرآن الكريم بما يستحقه، وأثنت على من اهتدوا بهديه، ووصفتهم بالصفات السامية، وبشرتهم بالبشارات الكريمة. وبعد أن انتهى القرآن من بيان شأن الكتاب وأثره فى الهداية والإِرشاد، وتصوير حال المتقين الذين اهتدوا به، وما اكتسبوه بالهداية من أوصاف سامية، وما كان لهم على ذلك من خير العاقبة وحسن الجزاء، أقول بعد أن انتهى من بيان كل ذلك شرع فى بيان حال الكافرين، وما هم عليه من سوء الحال وقبيح الأوصاف فقال { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ..وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير الوجيز/ الواحدي (ت 468 هـ)
{ الم } أنا الله أعلم. { ذلك الكتاب } أَيْ: هذا الكتاب، يعني: القرآن. { لا ريبَ فيه } أَيْ: لا شكَّ فيه، [أَيْ]: إنَّه صدقٌ وحقٌّ. [وقيل: لفظه لفظ خبرٍ، ويُراد به النهي عن الارتياب. قال: { فلا رفث ولا فسوق } ولا ريب فيه أنَّه] { هدىً }: بيانٌ ودلالةٌ { للمتقين }: للمؤمنين الذين يتَّقون الشِّرْك. [في تخصيصه كتابه بالهدى للمتقين دلالةٌ على أنَّه ليس بهدىً لغيرهم، وقد قال:**{ والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر.... }** الآية]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير المنتخب في تفسير القرآن الكريم / لجنة القرآن و السنة
1- ألف لام ميم: هذه حروف ابتدأ الله سبحانه وتعالى بها ليشير بها إلى إعجاز القرآن الكريم المؤلف من حروف كالحروف التى يؤلِّف منها العرب كلامهم، ومع ذلك عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن، وهى مع ذلك تنطوى على التنبيه للاستماع لتميز جرسها. 2- هذا هو الكتاب الكامل وهو القرآن الذى ننزله لا يرتاب عاقل منصف فى كونه من عند الله، ولا فى صدق ما اشتمل عليه من حقائق وأحكام، وفيه الهداية الكاملة للذين يستعدون لطلب الحق، ويتوقُّون الضرر وأسباب العقاب. 3- وهؤلاء هم الذين يصدقون - فى حزم وإذعان - بما غاب عنهم، ويعتقدون فيما وراء المحسوس كالملائكة واليوم الآخر، لأن أساس التدين هو الإيمان بالغيب، ويؤدون الصلاة مستقيمة بتوجه إلى الله وخشوع حقيقى له، والذين ينفقون جانبا مما يرزقهم الله به فى وجوه الخير والبر. 4- والذين يصدقون بالقرآن المنزل عليك من الله، وبما فيه من أحكام وأخبار، ويعملون بمقتضاه، ويصدقون بالكتب الإلهية التى نزلت على من سبقك من الأنبياء والرسل كالتوراة والإنجيل وغيرهما، لأن رسالات الله واحدة فى أصولها، ويتميزون بأنهم يعتقدون اعتقاداً جازماً بمجئ يوم القيامة وبما فيه من حساب وثواب وعقاب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير/ أبو بكر الجزائري (مـ 1921م)
{ الۤـمۤ } شرح الكلمة: الۤـمۤ: هذه من الحروف المقطعة تكتب الۤـمۤ وتقرأ هكذا: ألِفْ لام مِّيمْ. والسور المفتتحة بالحروف المقطعة تسع وعشرون سورة أولها البقرة هذه وآخرها القلم " نۤ " ومنها الأحادية مثل صۤ. وقۤ، ونۤ، ومنها الثنائية مثل طه، ويسۤ، وحمۤ، ومنها الثلاثية والرباعية والخماسية ولم يثبت في تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء وكونها من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه أقرب إلى الصواب ولذا يقال فيها: الۤـمۤ: الله أعلم بمراده بذلك. وقد استخرج منها بعض أهل العلم فائدتين: الأولى أنه لما كان المشركون يمنعون سماع القرآن مخافة أن يؤثر في نفوس السامعين كان النطق بهذه الحروف حمۤ. طسۤ. قۤ. كۤهيعۤصۤ وهو منطق غريب عنهم يستميلهم إلى سماع القرآن فيسمعون فيتأثرون وينجذبون فيؤمنون ويسمعون وكفى بهذه الفائدة من فائدة. والثانية لما انكر المشركون كون القرآن كلام الله أوحاه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كانت هذه الحروف بمثابة المتحدِّي لهم كأنها تقول لهم: إن هذا القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف فألفوا أنتم مثله. ويشهد بهذه الفائدة ذكر لفظ القرآن بعدها غالباً نحو { الۤـمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ }.**{ الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ }** [يونس: 1، يوسف: 1، الحجر: 1]،**{ طسۤ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْقُرْآنِ }** [النمل: 1]، كأنها تقول: إنه من مثل هذه الحروف تألف القرآن فألفوا أنتم نظيره فإن عجزتم فسلموا أنه كلام الله ووحيه وآمنوا به تفلحوا. { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } شرح الكلمات: ذلك: هذا، وإنما عُدل عن لفظ هذا إلى ذلك. لما تفيده الإِشارة بلام البعد من علو المنزلة وارتفاع القدر والشأن. الكتاب: القرآن الكريم الذي يقرأه رسول الله صلى الله علي وسلم على الناس. لا ريب: لا شك في أنه وحي الله وكلامه أوحاه إلى رسوله. فيه هدىً: دلالةٌ على الطريق الموصل إلى السعادة والكمال في الدارين. للمتقين: المتقين أي عذاب الله بطاعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه. معنى الآية: يخبر تعالى أن ما أنزله على عبده ورسوله من قرآن يمثل كتاباً فخماً عظيماً لا يحتمل الشك ولا يتطرق إليه احتمال كونه غير وحي الله وكتابه بحال، وذلك لإعجازه، وما يحمله من هدى ونور لأهل الإيمان والتقوى يهتدون بهما الى سبل السلام والسعادة والكمال. هداية الآية: من هداية الآية: 1- تقوية الإيمان بالله تعالى وكتابه ورسوله، الحث على طلب الهداية من الكتاب الكريم. 2- بيان فضيلة التقوى وأهلها. الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدىً من ربهم، وأولئك هم المفلحون. شرح الجمل: يؤمنون بالغيب: يصدقون تصديقاً جازماً لكل ما هو غيب لا يدرك بالحواس كالربّ تبارك وتعالى ذاتاً وصفاتٍ والملائكة والبعث، والجنة ونعيمها والنار وعذابها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | ويقيمون الصلاة: يُديمون أداء الصلوات الخمس في أوقاتها مع مراعاة شرائطها وأركانها وسننها ونوافلها الراتبة وغيرها. ومما رزقناهم ينفقون: من بعض ما آتاهم الله من مال ينفقون وذلك بإخراجهم لزكاة أموالهم وبإنفاقهم على أنفسهم وأزواجهم وأولادهم ووالديهم وتصدقهم على الفقراء والمساكين. يؤمنون بما أنزل إليك: يصدقون بالوحي الذي أنزل إليك أيها الرسول وهو الكتاب والسنة. وما أنزل من قبلك: ويصدقون بما أنزل الله تعالى من كتب على الرسل من قبلك كالتوراة والإنجيل والزبور. وبالآخرة هم يوقنون: وبالحياة في الدار الآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب هم عالمون متيقنون لا يشكون في شيء من ذلك ولا يرتابون لكامل إيمانهم وعظم اتقائهم. أولئك على هدى من ربهم: الإشارة إلى أصحاب الصفات الخمس السابقة والإخبار عنهم بأنهم بما هداهم الله تعالى إليه من الإيمان وصالح الأعمال هم متمكنون من الاستقامة على منهج الله المفضي بهم إلى الفلاح. وأولئك هم المفلحون: الإِشارة الى أصحاب الهداية الكاملة والإخبار عنهم بأنهم هم المفلحون الجديرون بالفوز الذي هو دخول الجنة بعد النجاة من النار. معنى الآيات: ذكر تعالى في هذه الآيات الثلاث صفات المتقين من الإِيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بما أنزل الله من كتب والإيمان بالدار الآخرة وأخبر عنهم بأنهم لذلك هم على أتم هداية من ربهم، وأنهم هم الفائزون في الدنيا بالطهر والطمأنينة وفي الآخرة بدخول الجنة بعد النجاة من النار. هداية الآيات: من هداية الآيات: دعوة المؤمنين وترغيبهم في الاتصاف بصفات أهل الهداية والفلاح، ليسلكوا سلوكهم فيهتدوا ويفلحوا في دنياهم وأخراهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير مقاتل بن سليمان/ مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ)
{ الۤمۤ } [آية: 1] { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } ، وذلك أن كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، لما دعاهما النبى صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، قالا: ما أنزل الله كتاباً من بعد موسى، تكذيباً به، فأنزل الله عزوجل فى قولهما: { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } ، بمعنى هذا الكتاب الذى كفرت به اليهود، { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ، يعنى لا شك فيه أنه من الله جاء، وهو أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: هذا القرآن { هُدًى } من الضلالة { لِّلْمُتَّقِينَ } من الشرك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تيسير التفسير/ القطان (ت 1404 هـ)
بدئت سورة البقرة بهذه الحروف الثلاثة، وهي تُقرأ حروفاً مفرّقة، لا لفظة واحدة، وفي القرآن عدة سور بدئت بحروف على هذ النحو، منها البقرة آل عمران مدنيّتان والباقي سور مكيّة. وقد جاءت بدايات هذه السوَر على أنواع: منها ما هو حرف واحد مثل " ص. والقرآنِ ذي الذِكر ". " ق. والقرآن المجيد " " ن. والقلمِ وما يسطُرون "؛ ومنها ما هو حرفان، مثل " طه ما أنزلنا عليكَ القرآن لتشقى ". " يس والقرآنِ الحكيم ". " حم تنزيلُ الكتاب من اللهِ العزيزِ الحكيم "؛ ومنها ما هو ثلاثة أحرف أو اكثر مثل " ألم " " المص " " كهيعص " و " حم عسق " الخ. وهذه الحروف أربعة عشر حرفاً، جمعها بعضهم في عبارة " نصٌّ حكيم قاطع له سر ". والعلماء في تفسير معنى هذه الحروف فريقان: فريق يرى أنها مما استأثر الله بعلمه. ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان المراد منها، فالله أعلم بمراده. وفريق يقول: لا يجوز ان يرد في كتاب الله ما ليس مفهوماً للخلْق. وهؤلاء اختلفوا في تفسير هذه الحروف اختلافاً كثيرا. فبعضهم يقول إنها أسماء للسور التي بدئت بها؛ وبعضهم يعتبرها رموزاً لبعض أسماء الله تعالى أو صفاته، فالألف مثلاً اشارة الى انه تعالى " أحد، أول، آخر، أبدي، أزلي " ، واللام مثلا اشارة الى انه " لطيف " ، والميم الى انه " ملك، مجيد، منان " الخ.. اما الرأي الأشهر الذي اختاره المحققون فهو: انها حروف أنزلت للتنبيه على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف، وفي متناول المخاطَبين به من العرب، فهو يتحداهم ان يصوغوا من تلك الحروف مثله، وهم أمراء الكلام، واللغةُ لغتهم هم. من هذه الحروف يصوغ البشر كلاما وشعرا، ومنها يجعل الله قرآنا معجزاً، فما أعظم الفرق بين صنع البشر وصنع الله! { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }. ذلك: اسم اشارة للبعيد كنايةً عن الإجلال والرفعة، ولذا لم يقل سبحانه " هذا هو الكتاب ". والمعنى: هذا هو الكتاب الكامل، القرآن، الذي انزلناه على عبدنا، لا يرتاب في ذلك عاقل منصف، ولا في صدق ما اشتمل عليه من حقائق وأحكام. وقد جعلنا فيه الهداية الكاملة للَّذين يخافون الله ويعملون بطاعته، قد سمت نفوسهم فاهتدت الى نور الحق والسعي في مرضاة الله. و " فيه " هنا لا تفيد الحصر، بل الشمول، لكنه ليس كتاب علم، بالمعنى الحديث، وانما هو كتاب كامل في الدين. أما { مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ } فانها تعني: من شيء متعلق بالدين، لا بالعلوم الطبيعية التي يستجدّ منها كل عصر نصيب. المتقون: جمع متقٍ، وهو المؤمن المطيع لأوامر الله. وأصلُ الاتقاء هو اتخاذ الوقاية التي تحجز عن الشر، فكأن المتقي يجعل امتثال أوامر الله حاجزاً واقيا بينه وبين العقاب الإلَهي، وهؤلاء المتقون هم الذين وصفهم الله تعالى بقوله: الذين يؤمنون بالغيب الآيات 3ـ5. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير أيسر التفاسير/ د. أسعد حومد (ت 2011م)
{ ٱلْكِتَابُ } (2) - لاَ شَكَّ في أَنَّ هَذَا القُرآنَ (الكِتَابُ) مُنْزَلٌ مِنْ عِندِ اللهِ، وَهُوَ هُدًى وَنُورٌ يَهتَدِي بِهِ المُتَّقُونَ، الذِينَ يَجتَهِدُونَ في العَمَلِ بِطَاعَةِ اللهِ، وَيَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَأَسْبَابَ العِقَابِ. الاتِّقَاءُ - هُوَ الحَجْزُ بَيْنَ شَيئَين وَمِنْهُ اتَّقَى الطَّعنَةَ بِتُرْسِهِ، أَيْ جَعَلَ التُّرْسَ حَاجِزاً بَيْنَ الرُّمْحِ وَبَيْنَهُ. هُدًى - هَادٍ مِنَ الضَّلالَةِ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ)
قوله تعالى: { الۤمۤ }: اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور، فذهب كثير منهم إلى أنّها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها، فنحن نؤمن بتنزيلها ونكل إلى الله تأويلها. قال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه): في كل كتاب سر، وسر القرآن أوائل السور. وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: إنّ لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي. وفسّره الآخرون، فقال سعيد بن جبير: هي أسماء الله مقطّعة، لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم، ألا ترى أنّك تقول:**{ الۤرَ }** [الحِجر: 1] وتقول:**{ حمۤ }** [الدُخان: 1] وتقول:**{ نۤ }** [القلم: 1] فيكون الرحمن، وكذلك سائرها على هذا الوجه، إلاّ أنّا لا نقدر على وصلها والجمع بينها. وقال قتادة: هي أسماء القرآن. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي أسماء للسور المفتتحة بها. وقال ابن عباس: هي أقسام أقسم الله بها، وروي أنّه ثناء أثنى الله به على نفسه. وقال أبو العالية: ليس منها حرف إلاّ وهو مفتاح لإسم من أسماء الله عز وجل، وليس منها حرف إلاّ وهو في الآية وبلائه، وليس منها حرف إلاّ في مدّة قوم وآجال آخرين. وقال عبد العزيز بن يحيى: معنى هذه الحروف أنّ الله ذكرها، فقال: اسمعوها مقطعة، حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك، وكذلك تعلم الصبيان أولا مقطعة، وكان الله أسمعهم مقطعة مفردة، ليعرفوها إذا وردت عليهم، ثم أسمعهم مؤلّفة. وقال أبو روق: إنّها تكتب للكفار، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالقراءة في الصلوات كلّها، وكان المشركون يقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون. فربما صفّقوا وربما صفّروا وربما لفظوا ليغلّطوا النبي صلى الله عليه وسلم فلمّا رأى رسول الله ذلك أسرَّ في الظهر والعصر وجهر في سائرها، وكانوا يضايقونه ويؤذونه، فأنزل الله تعالى هذه الحروف المقطعة، فلمّا سمعوها بقوا متحيرين متفكّرين، فاشتغلوا بذلك عن إيذائه وتغليطه، فكان ذلك سبباً لاستماعهم وطريقاً إلى انتفاعهم. وقال الأخفش: إنّما أقسم الله بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها، ولأنّها مباني كتبه المنزلة بالألسن المختلفة، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأصول كلام الأُمم بما يتعارفون ويذكرون الله ويوحّدونه، وكأنّه أقسم بهذه الحروف إنّ القرآن كتابه وكلامه لا ريب فيه. وقال النقيب: هي النبهة والاستئناف ليعلم أنّ الكلام الأول قد انقطع، كقولك: ولا إنّ زيداً ذهب. وأحسن الأقاويل فيه وأمتنها أنّها إظهار لإعجاز القرآن وصدق محمد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنّ كل حرف من هذه الحروف الثمانية والعشرين. والعرب تعبّر ببعض الشيء عن كلّه كقوله تعالى:**{ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَْ }** [المرسلات: 48] أي صلّوا لا يصلّون، وقوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب }** [العلق: 19] فعبر بالركوع والسجود عن الصلاة إذ كانا من أركانها، وقال:**{ ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ }** [آل عمران: 182] أراد جميع أبدانكم. وقال:**{ سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ }** [القلم: 16] أي الأنف فعبّر باليد عن الجسد، وبالأنف عن الوجه. وقال الشاعر في امرأته: | **لما رأيت امرها في خطي** | | **وفنكت في كذب ولط** | | --- | --- | --- | | **أخذت منها بقرون شمط** | | **فلم يزل ضربي بها ومعطي** | فعبّر بلفظة " خطي " عن جملة حروف أبجد. ويقول القائل: (أ ب ت ث) وهو لا يريد هذه الأربعة الأحرف دون غيرها، بل يريد جميعها وقرأت الحمد لله، وهو يريد جميع السورة، ونحوها كثير، وكذلك عبّر الله بهذه الحروف عن جملة حروف التهجّي، والإشارة فيه أنّ الله تعالى نبّه العرب وتحدّاهم، فقال: إنّي قد نزّلت هذا الكتاب من جملة الثمانية والعشرين التي هي لغتكم ولسانكم، وعليها مباني كلامكم، فإن كان محمد هو النبي يقوله من تلقاء نفسه، فأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة مثله، فلمّا عجزوا عن ذلك بعد الإجهاد ثبت أنّه معجزة. هذا قول المبرّد وجماعة من أهل المعاني، فإن قيل: فهل يكون حرفاً واحداً عوداً للمعنى؟ وهل تجدون في كلام العرب أنْ يقال: الم زيد قائم؟ وحم عمرو ذاهب؟ قلنا: نعم، هذا عادة العرب يشيرون بلفظ واحد إلى جميع الحروف ويعبّرون به عنه. قال الراجز: | **قلت لها قفي فقالت قاف** | | **لا تحسبي أنّا نسينا الإيجاف** | | --- | --- | --- | أي قف أنت. وأنشد سيبويه لغيلان: | **نادوهم ألا الجموا ألا تا** | | **قالوا جميعاً كلّهم ألا فا** | | --- | --- | --- | أي لا تركبون فقالوا: ألا فاركبوا. وأنشد قطرب في جارية: | **قد وعدتني أم عمرو أن تا** | | **تدهن رأسي وتفليني تا** | | --- | --- | --- | | **أراد أن تأتي وتمسح** | | | وأنشد الزجّاج: | **بالخير خيرات وإن شرّاً فا** | | **ولا أريد الشرّ إلاّ أن تا** | | --- | --- | --- | أراد بقوله (فا): وإن شراً فشر له، وبقوله: تا إلا أن تشاء. قال الأخفش: هذه الحروف ساكنة لأنّ حروف الهجاء لا تعرب، بل توقف على كلّ حرف على نيّة السكت، ولا بدّ أن تفصل بالعدد في قولهم واحد ـ اثنان ـ ثلاثة ـ أربعة. قال أبو النجم: | **أقبلت من عند زياد كالخرف** | | **تخط رجلاي بخط مختلف** | | --- | --- | --- | تكتبان في الطريق لام الألف فإذا أدخلت حرفاً من حروف العطف حركتها. وأنشد أبو عبيدة: | **إذا اجتمعوا على ألف وواو** | | **وياء هاج بينهم جدال** | | --- | --- | --- | وهذه الحروف تُذكّر على اللفظ وتؤنّث على توهم الكلمة. قال كعب الأحبار: خلق الله العلم من نور أخضر، ثم أنطقه ثمانية وعشرين حرفاً من أصل الكلام، وهيّأها بالصوت الذي سمع وينطق به، فنطق بها العلم فكان أوّل ذلك كلّه (.....) فنظرت إلى بعضها فتصاغرت وتواضعت لربّها تعالى، وتمايلت هيبة له، فسجدت فصارت همزة، فلمّا رأى الله تعالى تواضعها مدّها وطوّلها وفضّلها، فصارت ألفاً، فتلفظه بها، ثم جعل القلم ينطق حرفاً حرفاً إلى ثمانية وعشرين حرفاً، فجعلها مدار الكلام والكتب والأصوات واللغات والعبادات كلّها إلى يوم القيامة، وجميعها كلّها في أبجد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وجعل الألف لتواضعها مفتاح أول أسمائه، ومقدّماً على الحروف كلّها، فأمّا قوله عزّ وجلّ: { الۤمۤ } فقد اختلف العلماء في تفسيرها. عطاء بن السايب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله تعالى: { الۤمۤ } قال: أنا الله أعلم. أبو روق عن الضحاك في قوله { الۤمۤ }: أنا الله أعلم. مجاهد وقتادة: { الۤمۤ } اسم من أسماء القرآن. الربيع بن أنس: (ألف) مفتاح اسم الله، و(لام) مفتاح اسمه لطيف، و(ميم) مفتاح اسمه مجيد. خالد عن عكرمة قال: { الۤمۤ } قسم. محمد بن كعب: (الألف) آلاء الله، و(اللام) لطفه، و(الميم) ملكه. وفي بعض الروايات عن ابن عباس: (الألف) الله، و(اللام) جبرئيل، أقسم الله بهم إنّ هذا الكتاب لا ريب فيه، ويحتمل أن يكون معناه على هذا التأويل: أنزل الله هذا الكتاب على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وقال أهل الإشارة: (ألف): أنا، (لام): لي، (ميم): منّي. وعن علي بن موسى الرضا عن جعفر الصادق، وقد سئل عن قوله: { الۤمۤ } فقال: في الألف ست صفات من صفات الله: الابتداء؛ لأنّ الله تعالى ابتدأ جميع الخلق، و(الألف). إبتداء الحروف، والاستواء: فهو عادل غير جائر، و(الألف) مستو في ذاته، والانفراد: والله فرد والألف فرد، وإتصال الخلق بالله، والله لا يتصل بالخلق، فهم يحتاجون إليه وله غنىً عنهم. وكذلك الألف لا يتصل بحرف، فالحروف متصلة: وهو منقطع عن غيره، والله باينَ بجميع صفاته من خلقه، ومعناه من الإلفة، فكما أنّ الله سبب إلفة الخلق، فكذلك الألف عليه تألفت الحروف وهو سبب إلفتها. وقالت الحكماء: عجز عقول الخلق في ابتداء خطابه، وهو محل الفهم، ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى معرفة حقائق خطابه إلاّ بعلمهم، فالعجز عن معرفة الله حقيقة خطابه. وأما محل { الۤمۤ } من الإعراب فرفع بالابتداء وخبره فيما بعده. وقيل: { الۤمۤ } ابتداء، و { ذَلِكَ } ابتداء آخر و { ٱلْكِتَابُ } خبره، وجملة الكلام خبر الابتداء الأول. { ذَلِكَ }: قرأت العامة { ذلك } بفتح الذال، وكذلك هذه وهاتان، وأجاز أبو عمرو الإمالة في هذه، (ذ) للاسم، واللام عماد، والكاف خطاب، وهو إشارة إلى الغائب. و { ٱلْكِتَابُ }: بمعنى المكتوب كالحساب والعماد. قال الشاعر: | **بشرت عيالي إذ رأيت صحيفةً** | | **أتتك من الحجج تتلى كتابها** | | --- | --- | --- | أو مكتوبها، فوضع المصدر موضع الاسم، كما يقال للمخلوق خلق، وللمصور تصوير، وقال: دراهم من ضرب الأمير، أي هي مضروبة، وأصله من الكتب، وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض، مأخوذ من قولهم: كتب الخرز، إذا خرزته قسمين، ويقال للخرز كتبة وجمعها كتب. قال ذو المرّجة: | **وفراء غرفية أثاي خوارزها** | | **مشلشل ضيعته فبينها الكتب** | | --- | --- | --- | ويقال: كتبت البغل، إذا حرمت من سفرتها الخلقة، ومنه قيل للجند كتيبة، وجمعها كتائب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قال الشاعر: | **وكتيبة جاءوا ترفل** | | **في الحديد لها ذخرٌ** | | --- | --- | --- | واختلفوا في هذا { ٱلْكِتَابُ } قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك ومقاتل: هو القرآن، وعلى هذا القول يكون (ذلك) بمعنى (هذا) كقول الله تعالى:**{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ }** [الأنعام: 83] أي هذه. وقال خفاف بن ندبه السلمي: | **إن تك خيلي قد أُصيب صميمها** | | **فعمداَ على عين تيممت مالكا** | | --- | --- | --- | | **أقول له الرمح يأطر متنه** | | **تأمل خفافاً إنني أنا ذالكا** | يريد (هذا). وروى أبو الضحى عن ابن عباس قال: معناه ذلك الكتاب الذي أخبرتك أن أوجّه إليك. وقال عطاء بن السائب: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } الذي وعدتكم يوم الميثاق. وقال يمان بن رئاب: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } الذي ذكرته في التوراة والإنجيل. وقال سعيد بن جبير: هو اللوح المحفوظ. عكرمة: هو التوراة والإنجيل والكتب المتقدمّة. وقال الفراء: إنّ الله تعالى وعد نبيه أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ولا يَخْلَق على كثرة الردّ، فلمّا أنزل القرآن قال: هو الكتاب الذي وعدتك. وقال ابن كيسان: تأويله أنّ الله تعالى أنزل قبل البقرة بضع عشرة سورة كذّب بكلهّا المشركون ثم أنزل سورة البقرة بعدها فقال: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } يعني ما تقدم البقرة من القرآن. وقيل: ذلك الكتاب الذي كذب به مالك بن الصيف اليهودي. { لاَ رَيْبَ فِيهِ }: لا شكّ فيه، إنّه من عند الله. قال: { هُدَى }: أي هو هدىً، وتم الكلام عند قوله فيه، وقيل: " هو " نصب على الحال، أي هادياً تقديره لا ريب في هدايته للمتقين. قال أهل المعاني: ظاهره نفي وباطنه نهي، أي لا ترتابوا فيه، كقوله تعالى:**{ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ }** [البقرة: 197]: أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الهدى، والبيان وما يهتدي به ويستبين به الإنسان. فصل في التقوى { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }: اعلم أنّ التقوى أصله وقى من وقيت، فجعلت الواو تاء، كالتكلان فأصله وكلان من وكلت، والتخمة أصلها وخمة من وخم معدته إذا لم يستمرئ. واختلف العلماء في معنى التقوى وحقيقة المتقي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" جماع التقوى في قول الله تعالى: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ... } الآية "** [النحل: 90]. قال ابن عباس: المتقي الذي يتقي الشرك والكبائر والفواحش. وقال ابن عمر: التقوى أن لا يرى [نفسه] خيراً من أحد. وقال الحسن: المتقي الذي يقول لكل من رآه هذا خيرٌ مني. وقال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار: حدِّثني عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، وقال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت وتشمّرت، فقال كعب: ذلك التقوى، ونظمه ابن المعتز فقال: | **خلّ الذنوب صغيرها** | | **وكبيرها ذاك التقى** | | --- | --- | --- | | **واضع كماش فوق أر** | | **ض الشوك يحذر ما يرى** | | **لا تحتقرنّ صغيرة** | | **إنّ الجبال من الحصا** | وقال عمر بن عبد العزيز: ليس التقوى قيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله، فما رزق بعد ذلك فهو خير على خير. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقيل لطلق بن حبيب: أجمل لنا التقوى؟ فقال: التقوى عمل يطلبه الله على نور من الله رجاء ثواب الله، والتقوى ترك معصية الله على نور من الله مخافة عقاب الله. وقال بكر بن عبد الله: لا يكون الرجل تقياً حتى يكون يتقي الطمع، ويتقي الغضب. وقال عمر بن عبد العزيز: المتقي لمحرم لا تحرم، يعني في الحرم. وقال شهر بن حوشب: المتقي الذي يترك مالا يأتمن به حذراً لما به بأس. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: إنّما سمي المتقون؟ لتركهم ما لا بأس به حذراً للوقوع فيما به بأس. وقال سفيان الثوري والفضيل: هو الذي يحب للناس ما يحب لنفسه. وقال الجنيد بن محمد: ليس المتقي الذي يحب للناس ما يحب لنفسه، إنّما المتقي الذي يحب للناس أكثر مما يحب لنفسه، أتدرون ما وقع لأستاذي سري بن المفلّس؟ سلّم عليه ذات يوم صديق له فردّ عليه، وهو عابس لم يبشَّ له، فقلت له في ذلك فقال: بلغني أنّ المرء المسلم إذا سلّم على أخيه وردّ عليه أخوه قسمت بينهما مائة رحمة، فتسعون لأجلهما، وعشرة للآخر فأحببت أنْ يكون له التسعون. محمد بن علي الترمذي: هو الذي لا خصم له. السري بن المفلّس: هو الذي يبغض نفسه. الشبلي: هو الذي يبغي ما دون الله. قال جعفر الصادق: أصدق كلمة قالت العرب قول لبيد: | **ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل** | | | | --- | --- | --- | الثوري: هو الذي اتّقى الدنيا وأقلها. محمد بن يوسف المقري: مجانبة كل ما يبعدك عن الله. القاسم بن القاسم: المحافظة على آداب الشريعة. وقال أبو زيد: هو التورّع عن جميع الشبهات. وقال أيضاً: المتقي من إذا قال قال لله، وإذا سكت سكت لله، وإذا ذكر ذكر لله تعالى. الفضيل: يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوّه كما يأمنه صديقه. وقال سهل: المتقي من تبرّأ من حوله وقوّته. وقال: التقوى أنْ لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك. وقيل: هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو أن تتقي بقلبك عن الغفلات، وبنفسك من الشهوات، وبحلقك من اللذات، وبجوارحك من السيئات، فحينئذ يرجى لك الوصول لما ملك الأرض والسماوات. أبو القاسم (حكيم): هو حسن الخلق. وقال بعضهم: يستدل على تقوى الرجل بثلاث: بحسن التوكّل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر على ما فات. وقيل: المتقي من اتّقى متابعة هواه. وقال مالك: حدثنا وهب بن كيسان أنّ بعض فقهاء أهل المدينة كتب إلى عبد الله بن الزبير أنّ لأهل التقى علامات يعرفون بها: الصبر عند البلاء، والرضا بالقضاء، والشكر عند النعمة، والتذلل لأحكام القرآن. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقياً حتى يكون أشدّ محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر. وقال أبو تراب: بين يدي التقوى عقبات، من لا يجاوزها لا ينالها، اختيار الشدة على النعمة، واختيار القول على الفضول، واختيار الذلّ على العزّ، واختيار الجهد على الراحة، واختيار الموت على الحياة. وقال بعض الحكماء: لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلاّ إذا كان بحيث لو جعل ما في قلبه على طبق، فيطاف به في السوق لم يستحي من شيء عليها. وقيل: التقوى أن تزيّن سرّك للحقّ، كما تزيّن علانيتك للخلق. وقال أبو الدرداء: | **يريد المرء أنْ يعطى مناه** | | **ويأبى الله إلاّ ما أرادا** | | --- | --- | --- | | **يقول المرء فائدتي وذخري** | | **وتقوى الله أفضل ما استفادا** | فصل في الإيمان { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } اعلم أنّ حقيقة الإيمان هي التصديق بالقلب، لأن الخطاب الذي توجّه عليها بلفظ آمنوا إنّما هو بلسان العرب، ولم يكن العرب يعرفون الإيمان غير التصديق، والنقل في اللغة لم يثبت فيه، إذ لو صح النقل عن اللغة لروي عن ذلك، كما روي في الصلاة التي أصلها الدعاء. إذا كان الأمر كذلك وجب علينا أن نمتثل الأمر على ما يقتضيه لسانهم، كقوله تعالى في قصة يعقوب عليه السلام وبنيه**{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا }** [يوسف: 17]: أي بمصدق لنا ولو كنّا صادقين، ويدل عليه من هذه الآية أنّه لما ذكر الإيمان علّقه بالغيب، ليعلم أنّه تصديق الخبر فيما أخبر به من الغيب، ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات اللازمة للأبدان وفي الأموال فقال: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } والدليل عليه أيضاً أنّ الله تعالى حيث ما ذكر الإيمان [نسبه] إلى القلب فقال:**{ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ }** [المائدة: 41]، وقال:**{ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ }** [النحل: 106]، وقال:**{ أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ }** [المجادلة: 22]، ونحوها كثير. فأما محل الإسلام من الإيمان فهو كمحل الشمس من الضوء: كل شمس ضوء، وليس كل ضوء شمساً، وكل مسك طيب، وليس كل طيب مسكاً، كذلك كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيماناً، إذا لم يكن تصديقاً؛ لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع، يدل عليه قوله تعالى:**{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا }** [الحجرات: 14] من خوف السيف، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: **" الإيمان سراً " وأشار إلى صدره " والإسلام علانية "** ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: **" يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه ".** وكذلك اختلف جوابه لجبرائيل في الإسلام والإيمان، فأجاب في الإيمان بالتصديق، وفي الإسلام بشرائع الإيمان، وهو ما روى أبو بريده، وهو يحيى بن معمر قال: أول من قال في القدر بالبصرة سعيد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هو: ما في القدر؟ فوافقنا عبد الله ابن عمر بن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام لي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنّه قد ظهر قبلنا أناس يقرأون القرآن ويفتقرون [إلى] العلم وذكر من لسانهم أنّهم يزعمون أن لا قدر، وأنّ الأمر أنفٌ، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنّهم برءاء مني، والذي يحلف به عبد الله ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أُحد ذَهَباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثم قال: أخبرنا أبي عمر بن الخطاب قال: **" بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بيّاض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسند ركبته إلى ركبته، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا " ، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدّقه قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ".** **قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: " أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك " ، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " ، قال: فأخبرني عن إماراتها؟ قال: " أن تلد الأَمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة شاهقون في البنيان " ، قال: ثم انطلق، فلبث علينا ثم قال: يا عمر من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: " فإنّه جبرائيل عليه السلام أتاكم ليعلمكم دينكم ".** ثم يسمى اقرار اللسان وأعمال الأبدان إيماناً بوجه من المناسبة وضرب من المقاربة؛ لأنها من شرائعه وتوابعه وعلاماته وإماراته كما نقول: رأيت الفرح في وجه فلان، ورأيت علم زيد في تصنيفه؛ وإنّما الفرح والعلم في القلب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" الإيمان بضع وسبعون باباً، أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها شهادة أن لا إله إلاّ الله ".** وعن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: **" الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الحسن بن علي قال: حدثني علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" الإيمان معرفة بالقلب، وإقرارٌ باللسان،وعمل بالأركان ".** وعن علي بن الحسين زين العابدين قال: حدثنا أبي سيد شباب أهل الجنة قال: حدثنا أبي سيد الأوصياء قال: حدثنا محمّد سيد الأنبياء قال: **" الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول واتباع الرسول ".** وامّا الغيب فهو ما كان مغيّباً عن العيون محصّلاً في القلوب وهو مصدر وضع موضع الاسم فقيل للغائب غيب، كما قيل للصائم: صوم، وللزائر: زَور، وللعادل: عدل. الربيع بن أبي العالية { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } قال: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كلّه. عمر بن الأسود عن عطاء بن أبي رباح: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } قال: بالله، من آمن بالله فقد آمن بالغيب. سفيان عن عاصم بن أبي النجود في قوله { يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } قال: الغيب: القرآن. وقال الكلبي: بما نزل من القرآن وبما لم يجىء بعد. الضحاك: الغيب لا إله إلاّ الله وما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم وقال زرّ بن حبيش وابن جريج وابن واقد: يعني بالوحي، نظيره قوله تعالى:**{ أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ }** [النجم: 35] وقوله:**{ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً }** [الجن: 26] وقوله:**{ وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ }** [التكوير: 24]. الحسن: يعني بالآخرة. عبد الله بن هاني: هو ما غاب عنهم من علوم القرآن. وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) انه قال: **" كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم جالساً فقال: " أتدرون أي أهل الأيمان أفضل؟ " قالوا: يا رسول الله الملائكة، قال: " هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم الله تعالى بالمنزلة التي أنزلهم، بل غيرهم ".** **قلنا: يا رسول الله الأنبياء؟ قال: " هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم، بل غيرهم " ، قلنا: يا رسول الله فمن هم؟ قال: " أقوام يأتون من بعدي هم في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يرونني، يجدون الورق المعلَّق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً ".** وروى حسن إن الحرث بن قيس عن عبد الله بن مسعود: عند الله يحتسب ما سبقتمونا إليه يا أصحاب محمد من رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن مسعود: نحن عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم تروه، ثم قال عبد الله: إنّ أمر محمد كان بيّناً لمن رآه والذي لا اله الاّ هو ما آمن مؤمن أفضل من إيمان الغيب، ثمّ قرأ: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ } أي يديمونها ويأتمونها ويحافظون عليها بمواقيتها وركوعها وسجودها وحقوقها وحدودها، وكل من واظب على شيء وقام به فهو مقيم له يقال أقام فلان الحجّ بالناس، وأقام القوم [سوقهم] ولم يعطلوها قال الشاعر: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **فلا تعجل بأمرك واستدمه** | | **فما صلّى عصاك [كمستديم]** | | --- | --- | --- | أي أراد بالصلاة هاهنا الصلوات الخمس، فذكرها بلفظ الواحد، كقوله: { فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ } أراد الكتب [البقرة: 213]، وأصل الصلاة في اللغة: الدّعاء، ثمّ ضمّت إليها [عبادة] سُميت مجموعها صلاة لأن الغالب على هذه العبادة الدّعاء. وقال أبو حاتم الخارزمي: اشتقاقها من الصِلا وهو النار، فأصله من الرفق وحُسن المعاناة للشيء؛ وذلك إنّ الخشبة المعْوّجة إذا أرادوا تقويمها [سحنوها بالنار] قوموها [بين خشبتين] فلذلك المصلّي ينبغي أن يتأنى في صلاته ويحفظ حدودها ظاهراً وباطناً ولا يعجّل فيها ولا يخفّ [ولا يعرف] قال الشاعر: | **فلا تعجّل بأمرك واستدمه** | | **فما صلّى عصاك كمستديم** | | --- | --- | --- | أي ما قوّم أمرك كالمباني. { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } أعطيناهم، والرزق عند أهل السنّة: ما صحّ الإنتفاع به، فإن كان طعاماً فليتغدّى به، وان كان لباساً فلينقى والتوقي، وإن كان مسكناً فللانتفاع به سكنى، وقد ينتفع المنتفع بما هيّئ الانتفاع به على الوجهين: حلالا وحراماً، فلذلك قُلنا إنّ الله رزق الحلال والحرام، [وأصل الرزق] في اللغة: هو الحظ والبخت. { يُنْفِقُونَ } يتصدقون، وأصل الإنفاق: الإخراج عن اليد أو عن الملك. يُقال: نفق المبيع إذا كثر مشتروه وأسرع خروجه، ونفقت الدآبة إذا خرجت روحها، ونافقاء اليربوع من ذلك لأنه إذا أتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق وأنفق إن خرج منه، والنفق: سُرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر يخرج إليه. { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ }: أي يصدّقون { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ }: يا محمد يعني القرآن { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ }: يعني الكتب المتقدمة مثل صحف إبراهيم وموسى والزّبور والأنجيل وغيرها. { وَبِٱلآخِرَةِ } أي بالدار الآخرة، وسميّت آخرة لأنّها تكون بعد الدُّنيا ولأنّها أُخّرت حتى تفنى الدنيا ثم تكون. { هُمْ يُوقِنُونَ } يعلمون ويتيقّنون أنها كائنة، ودخل (هم) تأكيداً، يُسمّيه الكوفيون عماداً والبصريون فصلا. { أُوْلَـٰئِكَ } أهل هذه الصفة، وأولاء: أسم مبني على الكسر، ولا واحد لهُ من لفظه، والكاف خطاب، ومحل أولئك رفع بالابتداء وخبره في قوله: { عَلَىٰ هُدًى } رشد وبيان وصواب. { مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ } ابتدائان و { هُمُ } عماد { ٱلْمُفْلِحُونَ } خبر الابتداء وهم الناجون الفائزون فازوا بالجنّة ونجوا من النار، وقيل: هم الباقون في الثواب والنعيم المقيم. وأصل الفلاح في اللغة: البقاء. قال لبيد: | **نحلُّ بلادا كلها حل قبلنا** | | **ونرجو فلاحاً بعد عاد وحمير** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **لو كان حي مدرك الفلاح** | | **أدركه ملاعب الرماح** | | --- | --- | --- | | **أبو براء يدرة المسياح** | | | وقال مجاهد: أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين، وآيتان بعدهما نزلت في الكافرين، وثلاث عشرة آيةً بعدها نزلت في المنافقين. { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }: يعني مشركي العرب، وقال الضحّاك: نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال الكلبي: يعني اليهود، وقيل: المنافقون. والكفر: هو الجحود والإنكار. وأصله من الكفر وهو التغطية والسّتر، ومنه قيل للحراث: كافر؛ لأنّه [يستر البذر]، قال الله تعالى:**{ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ }** [الحديد: 20]: يعني الزرّاع، وقيل للبحر: كافر، ولليل: كافر. قال لبيد: | **حتى إذا ألقت يداً في كافر** | | **وأجن عورات الثغور ظلامها** | | --- | --- | --- | | **في ليلة كفر النجوم غمامها** | | | ومنه: المتكفّر بالسلاح، وهو الشاكي الذي غطّى السلاح جميع بدنه. فيسمى الكافر كافراً لأنه ساترللحق ولتوحيد الله ونعمه ولنبوّة أنبيائه. { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ }: أي واحد عليهم ومتساوي لديهم، وهو اسم مشتق من التساوي. { أَأَنذَرْتَهُمْ }: أخوّفتهم وحذّرتهم. قال أهل المعاني: الإنذار والإعلام مع تحذير، يُقال: أنذرتهم فنذروا، أي أعلمتهم فعلموا، وفي المثل: وقد أُعذر من أنذر، وفي قوله: { أَأَنذَرْتَهُمْ } وأخواتها أربع قراءات: تحقيق الهمزتين وهي لغة تميم وقراءة أهل الكوفة؛ لأنها ألف الإستفهام دخلت على ألف القطع وحذف الهمزة التي وصلت بفاء الفعل وتعويض مده منها كراهة الجمع بين الهمزتين وهي لغة أهل الحجاز، وادخال ألف بين الهمزتين وهي قراءة أهل الشام في رواية هشام وإحدى الروايتين عن أبي عمرو. قال الشاعر: | **تطاولت فاستشرقت قرابته** | | **فقلن له: أأنت زيد لا بل قمر** | | --- | --- | --- | والأخبار اكتفاء بجواب الإستفهام، وهي قراءة الزهري. { أَمْ }: حرف عطف على الإستفهام. { لَمْ }: حرف جزم لا يلي إلاّ الفصل؛ لأنّ الجزم مختص بالأفعال. { تُنْذِرْهُمْ }: تحذرهم { لاَ يُؤْمِنُونَ } وهذه الآية خاصّة فيمن حقّت عليه كلمة العذاب في سابق علم الله، وظاهرها إنشاء ومعناها إخبار، ثمّ ذكر سبب تركهم للإيمان فقال: { خَتَمَ ٱللَّهُ }: أي طبع { عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } والختم والطبع بمعنى واحد وهما التغطية للشيء [والاستيثاق] من أن يدخله شيء آخر. فمعنى الآية: طبع الله على قلوبهم وأغلقها وأقفلها فليست تعي خبراً ولا تفهمه. يدل عليه قوله:**{ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ }** [محمد: 24]. وقال بعضهم: معنى الطبع والختم: حكم الله عليهم بالكفر والشقاوة كما يُقال للرجل: ختمت عليك أن لا تفلح أبداً. { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ }: فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به، وإنما وحّده لأنه مصدر، والمصادر لا تُثنّى ولا تجمع، وقيل: أراد سمع كل واحد منهم كما يُقال: آتني برأس كبشين، أراد برأس كل واحد منهما، قال الشاعر: | **كلوا في نصف بطنكم تعيشوا** | | **فإن زمانكم زمن خميص** | | --- | --- | --- | وقال سيبويه: توحيد السمع يدل على الجمع لأنه لا توحيد جمعين كقوله تعالى: { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [البقرة: 257] يعني الأنوار. قال الراعي: | **بها جيف الحسري فأما عظامها** | | **فبيض وأما جلدها فصليب** | | --- | --- | --- | وقرأ ابن عبلة: وعلى أسماعهم، وتم الكلام عند قوله { وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ }. ثم قال: { وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ }: أي غطاء وحجاب، فلا يرون الحق، ومنه غاشية السرج، وقرأ المفضل بن محمد الضبي: { غِشَاوَةٌ } بالنصب كأنّه أضمر له فعلا أو جملة على الختم: أي وختم على أبصارهم غشاوة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | يدل عليه قوله تعالى:**{ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً }** [الجاثية: 23]. وقرأ الحسن: { غُشَاوَةٌ } بضم الغين، وقرأ الخدري: { غَشَاوَةٌ } بفتح الغين، وقرأ أصحاب عبد الله: غشوة بفتح الغين من غير ألف. { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }: القتل والأسر في الدنيا، والعذاب الأليم في العقبى، والعذاب كلّ ما يعنّي الإنسان ويشقّ عليه، ومنه: عذّبه السواط ما فيها من وجود الألم، وقال الخليل: العذاب ما يمنع الانسان من مراده، ومنه: الماء العذب لأنه يمنع من العطش، ثم نزلت في المنافقين: عبد الله بن أُبي بن سلول الخزرجي، ومعتب بن بشر، وجدّ بن قيس وأصحابهم حين قالوا: تعالوا إلى خلة نسلم بها من محمد وأصحابه ونكون مع ذلك مستمسكين بديننا، فأجمعوا على أن يقرّوا كلمة الإيمان بألسنتهم واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود. فقال الله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ... }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | | | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1419 هـ)
في الآية الثانية من سورة البقرة وصف الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بأنه الكتاب. وكلمة قرآن معناها أنه يُقرأ، وكلمة كتاب معناها أنه لا يحفظ فقط في الصدور، ولكن يُدوّن في السطور، ويبقى محفوظاً إلى يوم القيامة، والقول بأنه الكتاب، تمييز له عن كل كتب الدنيا، وتمييز له عن كل الكتب السماوية التي نزلت قبل ذلك، فالقرآن هو الكتاب الجامع لكل أحكام السماء، منذ بداية الرسالات حتى يوم القيامة، وهذا تأكيد لارتفاع شأن القرآن وتفرده وسماويته ودليل على وحدانية الخالق، فمنذ فجر التاريخ، نزلت على الأمم السابقة كتب تحمل منهج السماء، ولكن كل كتاب وكل رسالة نزلت موقوتة، في زمانها ومكانها، تؤدي مهمتها لفترة محددة وتجاه قوم مُحدَّدين. فرسالة نوح عليه السلام كانت لقومه، وكذلك إبراهيم ولوط وشعيب وصالح عليهم السلام.. كل هذه رسالات كان لها وقت محدود، تمارس مهمتها في الحياة، حتى يأتي الكتاب وهو القرآن الكريم الجامع لمنهج الله سبحانه وتعالى. ولذلك بُشر في الكتب السماوية التي نزلت قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام بأن هناك رسولاً سيأتي، وأنه يحمل الرسالة الخاتمة للعالم، وعلى كل الذين يصدقون بمنهج السماء أن يتبعوه.. وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:**{ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ.. }** [الأعراف: 157]. والقرآن هو الكتاب، لأنه لن يصل إليه أي تحريف أو تبديل، فرسالات السماء السابقة ائتمن الله البشر عليها، فنسوا بعضها، وما لم ينسوه حرفوه، وأضافوا إليه من كلام البشر، ما نسبوه إلى الله سبحانه وتعالى ظلماً وبهتاناً، ولكن القرآن الكريم محفوظ من الخالق الأعلى، مصداقاً لقوله تعالى:**{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }** [الحجر: 9]. ومعنى ذلك ألا يرتاب انسان في هذا الكتاب، لأن كل ما فيه من منهج الله محفوظ منذ لحظة نزوله إلى قيام الساعة بقدرة الله سبحانه وتعالى: يقول الحق جل جلاله: { لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2]. والإِعجاز الموجود في القرآن الكريم هو في الأسلوب وفي حقائق القرآن وفي الآيات وفيما رُوِيَ لنا من قصص الأنبياء السابقين، وفيما صحح من التوراة والإنجيل، وفيما أتى به من علم لم تكن تعلمه البشرية وما زالت حتى الآن لا تعلمه، كل ذلك يجعل القرآن لا ريب فيه، لأنه لو اجتمعت الإنس والجن ما استطاعوا أن يأتوا بآية واحدة من آيات القرآن، ولذلك كلما تأملنا في القرآن وفي أسلوبه، وجدنا أنه بحق لا ريب فيه، لأنه لا أحد يستطيع أن يأتي بآية، فما بالك بالقرآن. فهذا الكتاب ارتفع فوق كل الكتب، وفوق مدارك البشر، يوضح آيات الكون، وآيات المنهج، وله في كل عصر معجزات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | إن كلمة الكتاب التي وصف الله سبحانه وتعالى بها القرآن تمييزاً له عن كل الكتب السابقة، تلفتنا إلى معان كثيرة، تحدد لنا بعض أساسيات المنهج التي جاء هذا الكتاب ليبلغنا بها. وأول هذه الأساسيات، أن نزول هذا الكتاب، يستوجب الحمد لله سبحانه وتعالى. واقرأ في سورة الكهف:**{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا \* قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً }** [الكهف: 1-2]. ويلفت الله سبحانه وتعالى عباده الى أن إنزاله القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم يستوجب الحمد من البشر جميعاً، لأن فيه منهج السماء، وفيه الرحمة من الله لعباده، وفيه البشارة بالجنة والطريق إليها، وفيه التحذير من النار وما يقود إليها، وهذا التحذير أو الإنذار هو رحمة من الله تعالى لخلقه. لأنه لو لم ينذرهم لفعلوا ما يستوجب العذاب، ويجعلهم يخلدون في عذاب أليم. ولكن الكتاب الذي جاء ليلفتهم إلى ما يغضب الله، حتى يتجنبوه، إنما جاء برحمة تستوجب الحمد، لأنها أرتنا جميعاً، الطريق الى النجاة من النار، ولو لم ينزل الله سبحانه وتعالى الكتاب، ما عرف الناس المنهج الذي يقودهم الى الجنة، وما استحق أحد منهم رضا الله ونعيمه في الآخرة. وفي سورة الكهف، نجد تأكيداً آخر.. إن كتاب الله، وهو القرآن الكريم لن يستطيع بشر أن يبدل منه كلمة واحدة، واقرأ قوله جل جلاله:**{ وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً }** [الكهف: 27]. ويبين الله سبحانه وتعالى لنا أن هذا الكتاب، جاء لنفع الناس، ولنفع العباد، وأن الله ليس محتاجاً لخلقه، فهو قادر على أن يقهر من يشاء على الطاعة، ولا يمكن لخلق من خلق الله أن يخرج من كون الله عن مرادات الله، واقرأ قوله سبحانه وتعالى:**{ طسۤمۤ \* تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ \* لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ \* إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }** [الشعراء: 1-4]. ويأتي الله سبحانه وتعالى بالقسم الذي يلفتنا الى أن كل كلمة من القرآن هي من عند الله، كما أبلغها جبريل عليه السلام لمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه:**{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ \* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ \* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ \* فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ \* لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ \* تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [الواقعة: 75-80]. ثم يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى ذلك الكتاب الذي هو منهج للإنسان على الأرض، فبعد أن بيَّن لنا جل جلاله، بما لا يدع مجالاً للشك أن الكتاب منزل من عنده، وأنه يصحح الكتب السابقة كالتوراة، والإنجيل والتي أئتمن الله عليها البشر، فحرفوها وبدلوها، وهذا التحريف أبطل مهمة المنهج الإلهي بالنسبة لهذه الكتب، فجاء الكتاب الذي لم يصل إليه تحريف ولا تبديل، ليبقى منهجاً لله، إلى أن تقوم الساعة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | أول ما جاء به هذا الكتاب هو إيمان القمة، بأنه لا إله إلا الله الواحد الأحد.. والله سبحانه وتعالى يقول:**{ الۤمۤ \* ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ \* نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ }** [آل عمران: 1-3]. وهكذا نعرف ان الكتاب نزل ليؤكد لنا، ان الله واحد أحد، لا شريك له، وأن القرآن يشتمل على كل ما تضمنته الشرائع السماوية من توراة وإنجيل، وغيرها من الكتب. فالقرآن نزل ليُفَرِّقَ بين الحق الذي جاءت به الكتب السابقة، وبين الباطل الذي أضافه أولئك الذين ائتمنوا عليها. ثم يحدد الحق تبارك وتعالى لنا مهمتنا في أن هذا الكتاب مطلوب أن نبلغه للناس جميعاً، واقرأ قوله سبحانه:**{ الۤمۤصۤ \* كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ }** [الأعراف: 1-2]. فالخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم، يتضمن خطاباً لأمته جميعاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم كُلِّف بأن يُبَلِّغَ الكتاب للناس، ونحن مكلفون بأن نتبع المنهج نفسه ونبلغ ما جاء في القرآن للناس حتى يكون الحساب عدلاً، وأنهم قد بلغوا منهج الله، ثم كفروا به أو تركوه، إذن فإبلاغ الكتاب من المهمات الأساسية التي حددها الله سبحانه وتعالى بالنسبة للقرآن. والكتاب فيه رد على حجج الكفار وأباطيلهم. واقرأ قول الله تبارك وتعالى:**{ الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ \* أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ ٱلْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ }** [يونس: 1-2]. وفي هذه الآيات الكريمة: يلفتنا الله سبحانه وتعالى إلى حقيقتين.. الحقيقة الأولى هي إن الكفار يتخذون من بشرية الرسول حُجة بأن هذا الكتاب ليس من عند الله. وكان الرد هو: إن كل الرسل السابقين كانوا بشراً، فما هو العجب في أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً بشراً. واللفتة الثانية هي إن هذا القرآن مكتوب بالحروف نفسها التي خلقها الله لنا لنكتب بها، ومع ذلك فإن القرآن الكريم نزل مستخدماً لهذه الحروف التي يعرفها الناس جميعاً، معجزاً في ألا يستطيع الإنس والجن، مجتمعين أن يأتوا بسورة واحدة منه. ثم يلفتنا الحق سبحانه وتعالى لفتة اخرى إلى أن هذا الكتاب محكم الآيات، ثم بَيَّنَهُ الله لعباده، واقرأ قوله جل جلاله في سورة هود:**{ الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ \* أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [هود: 1-2]. هذه هي بعض الآيات في القرآن الكريم، التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يلفتنا فيها إلى معنى الكتاب، فآياته من عند الله الحكيم الخبير، وكل آية فيها إعجاز مُتَحدَّي به الإنس والجن، وهذا الكتاب لابد أن يبلغ للناس جميعاً، فالكتاب ينذرهم ألا يعبدوا إلا الله، ليكون الحساب عدلاً في الآخرة، فمَنْ أنذر وأطاع كان له الجنة، ومَنْ عصى كانت له النار والعياذ بالله. ثم يلفتنا الله إلى أن هذا الكتاب فيه قصص الأنبياء السابقين منذ آدم عليه السلام، يقول جل جلاله:**{ الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ \* إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ \* نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ }** [يوسف:1-3]. وهكذا نجد أن القرآن الكريم، قد جاء ليقص علينا أحسن القصص بالنسبة للأنبياء السابقين، والأحداث التي وقعت في الماضي، ولم يأت القرآن بهذه القصص للتسلية أو للترفيه، وإنما جاء بها للموعظة ولتكون عبرة إيمانية، ذلك أن القصص القرآني يتكرر في كل زمان ومكان. ففرعون هو كل حاكم طغى في الأرض، ونصب نفسه إلهاً، وقارون هو كل مَنْ أنعم الله عليه فنسب النعمة إلى نفسه، وتكبر وعصى الله، وقصة يوسف هي قصة كل إخوة حقدوا على أخ لهم، وتآمروا عليه، وأهل الكهف هم كل فتية آمنوا بربهم، فنشر الله لهم من رحمته في الدنيا والآخرة، ما عدا قصة واحدة هي قصة مريم وعيسى عليهما السلام، فهي معجزة لن تتكرر ولذلك عرَّف الله سبحانه وتعالى أبطالها، فقال عيسى بن مريم وقال مريم ابنة عمران. والكتاب الذي أنزله الله سبحانه وتعالى فيه لفتة الى آيات الله في كونه. واقرأ قوله تعالى:**{ الۤمۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ٱلْحَقُّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ \* ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ }** [الرعد: 1-2]. وهكذا بيَّن لنا الله في الكتاب آياته في الكون ولفتنا إليها، فالسماء مرفوعة بغير عمد نراها، والشمس والقمر مسخران لخدمة الإنسان، وهذه كلها آيات لا يستطيع أحد من خلق الله أن يدعيها لنفسه أو لغيره، فلا يوجد حتى يوم القيامة مَنْ يستطيع أن يدَّعي أنه رفع السماء بغير عمد، أو أنه خلق الشمس والقمر وسخرهما لخدمة الإنسان. ولو تدبر الناس في آيات الكون لآمنوا ولكنهم في غفلة عن هذه الآيات. ثم يحدد الحق سبحانه وتعالى مهمة هذا الكتاب وكيف أنه رحمة للناس جميعاً، فيقول جل جلاله:**{ الۤر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ \* ٱللَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [إبراهيم: 1-2]. أي أن مهمة هذا الكتاب هي أن يخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والشرك إلى نور الإيمان، لأن كل كافر مشرك تحيط به ظلمات، يرى الآيات فلا يبصرها، ويعرف أن هناك حساباً وآخرة ولكنه ينكرهما، ولا يرى إلا الحياة الدنيا القصيرة غير المأمونة في كل شيء، في العمر والرزق والمتعة، ولو تطلع إلى نور الإيمان، لرأى الآخرة وما فيها من نعيم أبدي ولَعَمِلَ من أجلها، ولكن لأنه تحيط به الظلمات لا يرى.. والطريقُ لأن يرى هو هذا الكتاب، القرآن الكريم لأنه يخرج الناس إذا قرأوه من ظلمات الجهل والكفر إلى نور الحقيقة واليقين. وبيَّن الحق سبحانه وتعالى أن الذين يلتفتون إلى الدنيا وحدها، هم كالأنعام التي تأكل وتشرب، بل إن الأنعام أفضل منهم، لأن الأنعام تقوم بمهمتها في الحياة، بينما هم لا يقومون بمهمة العبادة، فيقول الحق تبارك وتعالى:**{ الۤرَ تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ \* رُّبَمَا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ \* ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }** [الحجر: 1-3]. هكذا يخبرنا الحق أن آيات كتابه الكريم ومنهجه لا تؤخذ بالتمني، ولكن لابد أن يعمل بها، وأن الذين كفروا في تمتعهم بالحياة الدنيا لا يرتفعون فوق مرتبة الأنعام، وأنهم يتعلقون بأمل كاذب في أن النعيم في الدنيا فقط، ولكن الحقيقة غير ذلك وسوف يعلمون. وهكذا بعد أن تعرضنا بإيجاز لبعض الآيات التي ورد فيها ذكر الكتاب أنه كتاب يبصرنا بقضية القمة في العقيدة وهي أنه لا إله إلا الله وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله. وهو بهذا يخرج الناس من الظلمات الى النور. ويلفتهم إلى آيات الكون.. وليعرفوا أن هناك آخرة ونعيماً أبدياً وشقاء أبدياً، وليقيم الدليل والحجة على الكافرين، وأن قوله تعالى: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ.. } [البقرة: 2] يحمل معنى التفوق الكامل الشامل على كل ما سبقه من كتب. وأنه سيظل كذلك حتى قيام الساعة ولذلك وصفه الحق تبارك وتعالى بأنه " كتاب " ليكون دليلاً على الكمال. ولابد أن نعرف أن { ذَلِكَ.. } [البقرة: 2] ليست كلمة واحدة.. وإنما هي ثلاث كلمات.. " ذا " إسم إشارة.. " واللام " تدل على الابتعاد ورفعة شأن القرآن الكريم، و " ك " لمخاطبة الناس جميعاً بأن القرآن الكريم له عمومية الرسالة إلى يوم القيامة. ونحن عندما نقرأ سورة البقرة نستطيع أن نقرأ آيتها الثانية بطريقتين.. الطريقة الأولى أن نقول { الۤمۤ \* ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ.. } [البقرة: 1-2] ثم نصمت قليلاً ونضيف: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] والطريقة الثانية أن نقول: { الۤمۤ \* ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ.. } [البقرة: 2] ثم نصمت قليلاً ونضيف: { فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] وكلتا الطريقتين توضح لنا معنى " لا ريب " أي: لا شك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | . أو نفي للشك وجزم مطلق أنه كتاب حكيم منزل من الخالق الأعلى. وحتى نفهم المنطلق الذي نأخذ منه قضايا الدين، والتي ستكون دستورنا في الحياة، فلابد أن نعرف ما هو الهدى ومَنْ هم المتقون؟ الهدى هو الدلالة على طريق يوصلك إلى ما تطلبه. فالإشارات التي تدل المسافر على الطريق هي هدى له لأنها تبين له الطريق الذي يوصله إلى المكان الذي يقصده.. والهدى يتطلب هادياً ومهدياً وغاية تريد أن تحققها. فإذا لم تكن هناك غاية أو هدف فلا معنى لوجود الهدى لأنك لا تريد أن تصل إلى شيء.. وبالتالي لا تريد مَنْ أحد أن يدلك على طريق. إذن لابد أن نوجد الغاية أولا ثم نبحث عمَّنْ يوصلنا اليها. وهنا نتساءل: مَنْ الذي يحدد الهدف ويحدد لك الطريق للوصول إليه؟ إذا أخذنا بواقع حياة الناس، فإن الذي يحدد لك الهدف لابد أن تكون واثقاً من حكمته.. والذي يحدد لك الطريق لابد أن يكون له من العلم ما يستطيع به أن يدلك على أقصر الطرق لتصل إلى ما تريد. فإذا نظرنا إلى الناس في الدنيا نجد أنهم يحددون مطلوبات حياتهم ويحددون الطريق الذي يحقق هذه المطلوبات.. فالذي يريد أن يبني بيتاً مثلاً يأتي بمهندس يضع له الرسم، ولكن الرسم قد يكون قاصراً على أن يحقق الغاية المطلوبة فيظل يُغَيِّر ويُبدِّل فيه. ثم يأتي مهندس على مستوى أعلى فيضع تصوراً جديداً للمسألة كلها.. وهكذا يكون الهدف متغيراً وليس ثابتاً. وعند التنفيذ قد لا توجد المواد المطلوبة فنغير ونبدل لنأتي بغيرها ثم فوق ذلك كله قد تأتي قوة أعلى فتوقف التنفيذ أو تمنعه. إذن، فأهداف الناس متغيرة تحكمها ظروف حياتهم وقدراتهم: والغايات التي يطلبونها لا تتحقق لقصور علم البشر وإمكاناته. إذن، فكلنا محتاجون إلى كامل العلم والحكمة ليرسم لنا طريق حياتنا.. وأن يكون قادراً على كل شيء، ومالكا لكل شيء، والكون خاضع لإرادته حتى نعرف يقينا أن ما نريده سيتحقق، وأن الطريق الذي سنسلكه سيوصلنا إلى ما نريده. وينبهنا الله سبحانه وتعالى إلى هذه القضية فيقول:**{ قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ.. }** [البقرة: 120]. إن الله يريد أن يلفت خلقه ألى أنهم إذا أرادوا أن يصلوا إلى الهدف الثابت الذي لا يتغير فليأخذوه عن الله. وإذا أرادوا أن يتبعوا الطريق الذي لا توجد فيه أي عقبات أو متغيرات.. فليأخذوا طريقهم عن الله تبارك وتعالى.. إنك إذا أردت باقياً.. فخذ من الباقي، وإذا أردت ثابتاً.. فخذ من الثابت. ولذلك كانت قوانين البشر في تحديد أهدافهم في الحياة وطريقة الوصول إليها قاصرة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | . علمت أشياء وغابت عنها أشياء.. ومن هنا فهي تتغير وتتبدل كل فترة من الزمان. ذلك أن مَنْ وضع القوانين من البشر له هدف يريد أن يحققه، ولكن الله جل جلاله لا هوى له.. فإذا أردت أن تحقق سعادة في حياتك، وأن تعيش آمنا مطمئناً.. فخذ الهدف عن الله، وخذ الطريق عن الله. فإن ذلك ينجيك من قلق متغيرات الحياة التي تتغير وتتبدل. والله قد حدد لخلقه ولكل ما في كونه أقصر طريق لبلوغ الكون سعادته. والذين لا يأخذون هذا الطريق يتعبون أنفسهم ويتعبون مجتمعهم ولا يحققون شيئاً. إذن، فالهدف يحققه الله لك، والطريق يبينه الله لك.. وما عليك إلا أن تجعل مراداتك في الحياة خاضعة لما يريده الله. ويقول الله سبحانه وتعالى: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2].. ما معنى المتقين؟ متقين جمع مُتَّقٍ. والاتقاء من الوقاية.. والوقاية هي الاحتراس والبعد عن الشر.. لذلك يقول الحق تبارك وتعالى:**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ.. }** [التحريم: 6]. أي اعملوا بينكم وبين النار وقاية. احترسوا من أن تقعوا فيها.. ومن عجيب أمر هذه التقوى أنك تجد الحق سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم - والقرآن كله كلام الله -**{ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ.. }** [البقرة: 278]. ويقول:**{ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ.. }** [البقرة: 24]. كيف نأخذ سلوكاً واحداً تجاه الحق سبحانه وتعالى وتجاه النار التي سيعذب فيها الكافرون؟! الله تعالى يقول:**{ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ.. }** [البقرة: 24]. أي لا تفعلوا ما يغضب الله حتى لا تعذبوا في النار.. فكأنك قد جعلت بينك وبين النار وقاية بأن تركت المعاصي وفعلت الخير. وقوله تعالى:**{ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ.. }** [البقرة: 278]. كيف نتقيه بينما نحن نطلب من الله كل النعم وكل الخير دائماً. كيف يمكن أن يتم هذا؟ وكيف نتقي مَنْ نحب؟. نقول إن لله سبحانه وتعالى صفات جلال وصفات جمال.. صفات الجلال تجدها في القهار والجبار والمذل، والمنتقم، والضار. كل هذا من متعلقات صفات الجلال.. بل إن النار من متعلقات صفات الجلال. أما صفات الجمال فهي الغفار والرحيم وكل الصفات التي تتنزل بها رحمات الله وعطاءاته على خلقه. فاذا كنت تقي نفسك من النار ـ وهي من متعلقات صفات الجلال ـ لابد أن تقي نفسك من صفات الجلال كلها. لأنه قد يكون من متعلقاتها ما أشد عذاباً وإيلاماً من النار.. فكأن الحق سبحانه وتعالى حين يقول:**{ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ.. }** [البقرة: 24]. و:**{ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ.. }** [البقرة: 278] يعني أن نتقي غضب الله الذي يؤدي بنا إلى أن نتقي كل صفات جلاله.. ونجعل بيننا وبينها وقاية. فمَنْ اتقى صفات جلال الله أخذ صفات جماله.. ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" إذا كانت آخر ليلة من رمضان تجلى الجبار بالمغفرة "** وكان المنطق يقتضي أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم تجلى الرحمن بالمغفرة ولكن ما دامت هناك ذنوب، فالمقام لصفة الجبار الذي يعذب خلقه بذنوبهم. فكأن صفة الغفار تشفع عند صفة الجبار.. وصفة الجبار مقامها للعاصين، فتأتي صفة الغفار لتشفع عندها، فيغفر الله للعاصين ذنوبهم، وجمال المقابلة هنا حينما يتجلى الجبار بجبروته بالمغفرة فساعة تأتي كلمة جبار.. يشعر الإنسان بالفزع والخوف والرعب. لكن عندما تسمع تجلى الجبار بالمغفرة فإن السعادة تدخل إلى قلبك. لأنك تعرف أن صاحب العقوبة وهو قادر عليها قد غفر لك. والنار ليست آمرة ولا فاعلة بذاتها ولكنها مأمورة. إذن فاستعذ منها بالآمر أو بصفات الجمال في الآمر. يقول الحق سبحانه وتعالى { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] ولقد قلنا إن الهدى هدى الله.. لأنه هو الذي حدد الغاية من الخلق ودلنا على الطريق الموصل إليها. فكون الله هو الذي حدد المطلوب ودلنا على الطريق إليه فهذه قمة النعمة.. لأنه لم يترك لنا أن نحدد غايتنا ولا الطريق إليها. فرحمنا بذلك مما سنتعرض له من شقاء في أن نخطئ ونصيب بسبب علمنا القاصر، فنشقى وندخل في تجارب، ونمشي في طرق ثم نكتشف أننا قد ضللنا الطريق فنتجه إلى طريق آخر فيكون أضل وأشقى. وهكذا نتخبط دون أن نصل إلى شيء.. وأراد سبحانه أن يجنبنا هذا كله فأنزل القرآن الكريم.. كتاباً فيه هداية للناس وفيه دلالة على أقصر الطرق لكي نتقي عذاب الله وغضبه. والله سبحانه وتعالى قال: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] أي أن هذا القرآن هدى للجميع، فالذي يريد أن يتقي عذاب الله وغضبه يجد فيه الطريق الذي يحدد له هذه الغاية.. فالهدى من الحق تبارك وتعالى للناس جميعاً. ثم خَصَّ مَنْ آمن به بهديً آخر، وهو أن يعينه على الطاعة. إذن، فهناك هدى من الله لكل خلقه وهو أن يدلهم سبحانه وتعالى ويبين لهم الطريق المستقيم. هذا هو هدى الدلالة، وهو أن يدل الله خلقه جميعاً على الطريق إلى طاعته وجنته. واقرأ قوله تبارك وتعالى:**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** [فصلت: 17]. إذن الحق سبحانه وتعالى دلهم على طريق الهداية.. ولكنهم أحبوا طريق الغواية والمعصية واتبعوه.. هذه هداية الدلالة.. أما هداية المعونة ففي قوله سبحانه:**{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }** [محمد: 17]. وهذه هي دلالة المعونة.. وهي لا تحق إلا لمَنْ آمن بالله واتبع منهجه وأقبل على هداية الدلالة وعمل بها.. والله سبحانه وتعالى لا يعين مَنْ يرفض هداية الدلالة، بل يتركه يضل ويشقى.. ونحن حين نقرأ القرآن الكريم نجد أن الله تبارك وتعالى يقول لنبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ.. }** [القصص: 56]. وهكذا نفى الله سبحانه وتعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون هادياً لمَنْ أحب، ولكن الحق يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم:**{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** [الشورى: 52]. فكيف يأتي هذا الاختلاف مع أن القائل هو الله. نقول: عندما تسمع هذه الآيات اعلم أن الجهة منفكة.. يعني ما نفى غير ما أثبت.. ففي غزوة بدر مثلاً أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من الحصى قذفها في وجه جيش قريش. يأتي القرآن الكريم إلى هذه الواقعة فيقول الحق سبحانه:**{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ.. }** [الأنفال: 17]. نفي للحدث وإثباته في الآية نفسها.. كيف رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. مع أن الله تبارك وتعالى قال:**{ وَمَا رَمَيْتَ.. }** [الأنفال: 17]؟! نقول إنه في هذه الآية الجهة منفكة، الذي رمى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي أوصل الحصى إلى كل جيش قريش لتصيب كل مقاتل فيهم هي قدرة الله سبحانه وتعالى. فما كان لرمية رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من الحصى يمكن أن تصل إلى كل جيش الكفار، ولكن قدرة الله هي التي جعلت هذا الحصى يصيب كل جندي في الجيش. أما قول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:**{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** [الشورى: 52]، فهي هداية دلالة. أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغه للقرآن وبيانه لمنهج الله قد دل الناس - كل الناس - على الطريق المستقيم وبينه لهم. وقوله تبارك وتعالى:**{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ }** [القصص: 56].. أي إنك لا توصِّل الهداية إلى القلوب لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يهدي القلوب ويزيدها هدى وإيماناً. ولذلك أطلقها الله تبارك وتعالى قضية إيمانية عامة في قوله:**{ قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ.. }** [آل عمران: 73] فالقرآن الكريم يحمل هداية الدلالة للذين يريدون أن يجعلوا بينهم وبين غضب الله وعذابه وقاية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تفسير مجاهد / مجاهد بن جبر المخزومي (ت 104 هـ)
أخبرنا عبد الرحمن، قال: ثنا إِبراهيم، [قال: ثنا] آدم قال: ثنا ورقاء عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد قال: من أَول البقرة أَربع آيات في نعت المؤمنين. وآيتان في نعت الكافرين. وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين. أَنا عبد الرحمن قال: ثنا إِبراهيم، قال [ثنا] آدم قال: نا ورقاءُ عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد في قوله، عز وجل: { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } [الآية: 14]: أَصحابهم المنافقين والمشركين. أَنا عبد الرحمن، قال: نا إِبراهيم، قال: ثنا آدم قال: نا ورقاء عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، في قوله [عز وجل]:**{ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }** [الآية: 15]. يعني: في ضلالتهم، يعني يترددون [يقول] زادهم الله ضلالة إِلى ضلالتهم، وعمى إِلى عماهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ)
إنْ قيل: إن الحروفَ المقطَّعة في أوائل السور أسماءُ حروفِ التهجِّي، بمعنى أن الميم اسْمٌ لمَهْ، والعينَ اسمٌ لعَهْ، وإن فائدتَها إعلامُهم بأن هذا القرآنَ منتظمٌ مِنْ جنس ما تَنْظِمون منه كلامَكم ولكن عَجَزْتُمْ عنه، فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب، وإنما جيء بها لهذه الفائدةِ فأُلقيت كأسماءِ الأعدادِ نحو: واحد اثنان، وهذا أصحُّ الأقوالِ الثلاثة، أعني أنَّ في الأسماء التي لم يُقْصَدِ الإِخبارُ عنها ولا بها ثلاثةَ أقوالٍ، أحدها: ما تقدَّم. والثاني: أنها مُعْرَبَةٌ، بمعنى أنها صالحة للإِعراب وإنما فات شرطٌ وهو التركيبُ، وإليه مالَ الزمخشري. والثالث: أنها موقوفةٌ لا معربةٌ ولا مبنيةٌ. أو إنْ قيل: إنها أسماءُ السورِ المفتتحةِ بها، أو إنها بعضُ أسماءِ الله تعالى حُذِف بعضُها، وبقي منها هذه الحروفُ دالَّةٌ عليها وهو رأيُ ابن عباس، كقوله: الميم من عليهم والصاد من صادق فلها حينئذٍ محلُّ إعرابٍ، ويُحْتَمَلُ الرفعُ والجرُّ/، فالرفعُ على أحد وجهين: إمَّا بكونها مبتدأ، وإمَّا بكونها خبراً كما سيأتي بيانُه مفصَّلاً. والنصب على أحَدِ وجهين أيضاً: إمَّا بإضمار فعلٍ لائقٍ تقديرُه: اقرَؤوا: ألم، وإمَّا بإسقاطِ حرف القسم كقول الشاعر: | **93ـ إذا ما الخبزُ تَأْدِمُه بلَحْمٍ** | | **فذاك أمانةَ الله الثريدُ** | | --- | --- | --- | يريد: وأمانةِ الله، وكذلك هذه الحروفُ، أقسم الله تعالى بها، وقد ردَّ الزمخشري هذا الوجه بما معناه: أنَّ " القرآن " في**{ صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ }** [ص: 1] و " القلم " في:**{ نۤ وَٱلْقَلَمِ }** [القلم: 1] محلوفٌ بهما لظهور الجرِّ فيهما، وحينئذ لا يخلو أن تُجْعَلَ الواوُ الداخلةُ عليهما للقسم أو للعطف، والأول يلزم منه محذورٌ، وهو الجمع بين قسمين على مُقْسَم، قال: " وهم يستكرهون ذلك " ، والثاني ممنوعٌ لظهور الجرِّ فيما بعدها، والفرضُ أنك قدَّرْتَ المعطوفَ عليه في محلِّ نصب. وهو ردٌّ واضح، إلا أَنْ يقال: هي في محلِّ نصب إلا فيما ظهر فيه الجرُّ بعدَه كالموضعين المتقدمين و**{ حـمۤ وَٱلْكِتَابِ }** [الزخرف: 1-2] و**{ قۤ وَٱلْقُرْآنِ }** [ق: 1] ولكن القائل بذلك لم يُفَرِّقْ بين موضعٍ وموضعٍ فالردُّ لازمٌ له. والجرُّ من وجهٍ واحدٍ وهو أنَّها مُقْسَمٌ بها، حُذِف حرف القسم، وبقي عملُه كقولهم: " واللهِ لأفعلنَّ " ، أجاز ذلك أبو القاسم الزمخشري وأبو البقاء. وهذا صعيفٌ لأن ذلك من خصائص الجلالة المعظمة لاَ يَشْرَكُها فيه غيرُها. فتلخَّص ممَّا تقدم: أن في " الم " ونحوها ستةَ أوجه وهي: أنها لا محلَّ لها من الإِعراب، أو لها محلٌّ، وهو الرفعُ بالابتداء أو الخبر، والنصبُ بإضمارِ فعلٍ أو حَذْفِ حرف القسم، والجرٌّ بإضمارِ حرفِ القسم. وأمَّا " ذلك الكتاب " فيجوز في " ذلك " أن يكون مبتدأ ثانياً والكتابُ خبرُه، والجملةُ خبرُ " ألم " ، وأغنى الربطُ باسمِ الإِشارة، ويجوز أن يكونَ " الم " مبتدأً و " ذلك " خبره و " الكتاب " صفةٌ لـ " ذلك " أو بدلٌ منه أو عطفُ بيان، وأن يكونَ " ألم " مبتدأً و " ذلك " مبتدأ ثان، و " الكتاب ": إما صفةٌ له أو بدلٌ منه أو عطفُ بيان له. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } خبرٌ عن المبتدأ الثاني، وهو وخبرهُ خبرٌ عن الأول، ويجوز أن يكونَ " ألم " خبرَ مبتدأ مضمرٍ، تقديرُه: هذه ألم، فتكونُ جملةً مستقلةً بنفسها، ويكونُ " ذلك " مبتدأ ثانياً، و " الكتابُ " خبرُه، ويجوز أن يكونَ صفةً له أو بدلاً أو بياناً و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } هو الخبرُ عن " ذلك " ، أو يكون " الكتابُ " خبراً لـ " ذلك " و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } خبرٌ ثانٍ، وفيه نظرٌ من حيث إنه تعدَّد الخبرُ وأحدُهما جملةٌ، لكنَّ الظاهرَ جوازُه كقوله تعالى:**{ فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ }** [طه: 20] إذا قيل إنَّ " تَسْعَى " خبرٌ، وأمَّا إن جُعِل صفةً فلا. وقوله: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } يجوز أن يكونَ خبراً كما تقدَّم بيانُه، ويجوز أَنْ تكونَ هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، والعاملُ فيه معنى الإِشارة، و " لا " نافيةٌ للجنس محمولةٌ في العمل على نقيضتها " إنَّ " ، واسمُها معربٌ ومبنيٌّ، فيُبْنَى إذا كان مفرداً نكرةً على ما كان يُنْصَبُ به، وسببُ بنائِه تضمُّنُهُ معنى الحرفِ، وهو " مِنْ " الاستغراقية يدلُّ على ذلك ظهورُها في قول الشاعر: | **94ـ فقام يَذُوْدُ الناسَ عنها بسيفِه** | | **فقال: ألا لا مِن سبيلٍ إلى هندِ** | | --- | --- | --- | وقيل: بُني لتركُّبِه معها تركيبَ خمسةَ عشرَ وهو فاسدٌ، وبيانُه في غير هذا الكتابِ. وزعم الزجاج أنَّ حركةَ " لا رجلَ " ونحوِه حركةُ إعراب، وإنما حُذِف التنوين تخفيفاً، ويدل على ذلك الرجوعُ إلى هذا الأصلِ في الضرورةِ، كقوله: | **95ـ ألا رجلاً جزاه اللهُ خيراً** | | **يَدُلُّ على مُحَصِّلَةٍ تَبيتُ** | | --- | --- | --- | ولا دليلَ له لأنَّ التقديرَ: ألا تَرَوْنني رجلاً؟. فإن لم يكن مفرداً - وأعنى به المضاف والشبيهَ بهِ- أُعرب نصباً نحو: " لا خيراً من زيد " ولا عملَ لها في المعرفةِ البتة، وأمًّا نحوُ: | **96ـ تُبَكِّي على زيدٍ ولا زيدَ مثلُهُ** | | **بريءٌ من الحُمَّى سليمُ الجوانِحِ** | | --- | --- | --- | وقول الآخر: | **97ـ أرى الحاجاتِ عند أبي خُبَيْبٍ** | | **نَكِدْنَ ولا أُمَيَّةَ في البلادِ** | | --- | --- | --- | وقول الآخر: | **98ـ لا هيثَم الليلةَ للمَطِّي** | | | | --- | --- | --- | وقولِه عليه السلام: **" لا قريشَ بعد اليوم، إذا هَلَكَ كسرى فلا كسرى بعدَه "** فمؤولٌ. و " ريبَ " اسمُها، وخبرُها يجوز أن يكونَ الجارَّ والمجرورَ وهو " فيه " ، إلا أن بني تميم لا تكاد تَذْكر خبرَها، فالأَوْلَىٰ أن يكون محذوفاً تقديره: لا ريبَ كائنٌ، ويكون الوقف على " ريب " حينئذ تاماً، وقد يُحذف اسمها ويبقى خبرُها، قالوا: لا عليك، أي لا بأسَ عليك، ومذهبُ سيبويه أنها واسمَها في محلِّ رفع بالابتداء ولا عمَل لها في الخبر، ومذهبُ الأخفش أن اسمَها في محلِّ رفع وهي عاملةٌ في الخبر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولها أحكامٌ كثيرةٌ وتقسيماتٌ منتشرةٌ مذكورةٌ في النحو. واعلم أن " لا " لفظٌ مشتركٌ بين النفي، وهي فيه على قسمين: قسمٌ تنفي فيه الجنسَ فتعملُ عمَل " إنَّ " كما تقدم، وقسمٌ تنفي فيه الوِحْدة وتعملُ حينئذ عملَ ليس، وبين النهي والدعاء فتجزم فعلاً واحداً، وقد تجيء زيادةً كما تقدَّم في**{ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }** [الفاتحة: 7]. و " ذلك " اسمُ إشارةٍ: الاسمُ منه " ذا " ، واللامُ للبعدِ والكافُ للخطاب وله ثلاثُ رتبٍ: دنيا ولها المجردُ من اللام والكاف نحو: ذا وذي وهذا وهذي، ووسطى ولها المتصلُ بحرفِ الخطابِ نحو: ذاك وذَيْكَ وتَيْكَ، وقصوى ولها/ المتصلُ باللام والكاف نحو: ذلك وتلك، لا يجوز أن يُؤتى باللام إلا مع الكاف، ويجوز دخولُ حرفِ التنبيه على سائر أسماء الإِشارة إلا مع اللام فيمتنعُ للطول، وبعضُ النحويين لم يَذْكرْ له إلا رتبتين: دنيا وغيرَها. واختلف النحويون في ذا: هل هو ثلاثيُّ الوضع أم أصلُه حرفٌ واحدٌ؟ الأولُ قولُ البصريين. ثم اختلفوا: هل عينُه ولامه ياء فيكونُ من باب حيي أو عينُه واوٌ ولامُه ياءٌ فيكونُ من باب طَوَيْت، ثم حُذِفت لامُه تخفيفاً، وقُلبت العينُ ألفاً لتحركها وانفتاحِ ما قبلها، وهذا كلُّه على سبيل التمرين وإلا فهذا مبنيٌّ، والمبني لا يدخله تصريف. وإنما جيء هنا بإشارة البعيد تعظيماً للمشار إليه، ومنه: | **99ـ أقولُ له والرمحُ يَأطُر مَتْنَه** | | **تأمَّلْ خِفافاً إنَّني أنا ذلكا** | | --- | --- | --- | أو لأنه لمَّا نَزَل من السماء إلى الأرض أُشير بإشارة البعيد [أو لأنه كان موعوداً به نبيُّه عليه السلام، أو أنه أشير به إلى ما قضاه وقدَّره في اللوحِ المحفوظِ، وفي عبارة المفسرين أُشير بذلك للغائب يَعْنُون البعيد، وإلاَّ فالمشارُ إليه لا يكون إلا حاضراً ذهناً أو حساً، فعبَّروا عن الحاضرِ ذهناً بالغائبِ أي حساً، وتحريرُ القولِ ما ذكرته لك]. والكتابُ في الأصل مصدرٌ، قال تعالى:**{ كِتَابَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ }** [النساء: 24] وقد يُراد به المكتوبُ، قال: | **100ـ بَشَرْتُ عيالي إذ رأيتُ صحيفةً** | | **أَتَتْكَ من الحَجَّاج يُتْلى كتابُها** | | --- | --- | --- | ومثله: | **101ـ تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مني وفيها** | | **كتابٌ مثلَ ما لَصِق الغِراءُ** | | --- | --- | --- | وأصلُ هذه المادةِ الدلالةُ على الجمع، ومنه كتيبةُ الجيش، وكَتَبْتُ القِرْبَةَ: خَرَزْتُها، والكُتْبَةُ -بضم الكاف- الخُرْزَةُ، والجمع كُتَبٌ، قال: | **102ـ وَفْراءَ غَرْفيَّةٍ أَثْأى خوارِزُها** | | **مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بينها الكُتَبُ** | | --- | --- | --- | وكَتَبْتُ الدابَّةَ: [إذا جمعتَ بين شُفْرَي رَحِمها بحلَقةٍ أو سَيْر]، قال: | **103ـ لاَ تأْمَنَنَّ فزاريَّاً حَلَلْتَ به** | | **على قُلوصِك واكتبْها بأَسْيارِ** | | --- | --- | --- | والكتابةُ عُرْفاً: ضمُّ بعضِ حروفِ الهجاءِ إلى بعضٍ. والرَّيْبُ: الشكُّ مع تهمة، قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **104ـ ليس في الحقِ يا أُمَيمةُ رَيْبٌ** | | **إنما الريبُ ما يقول الكَذوبُ** | | --- | --- | --- | وحقيقته على ما قال الزمخشري: قَلَقُ النفس واضطرابُها، ومنه الحديث: **" دَعْ ما يَريبك إلى ما لا يَريبك "** ، وأنه مَرَّ بظبي خائف فقال: **" لا يُرِبْهُ أحد "** فليس قول من قال: " الريبُ الشكُّ مطلقاً " بجيدٍ، بل هو أخصُّ من الشكِّ، كما تقدَّم. وقال بعضهم: في الريب ثلاثةُ معانٍ، أحدُها: الشكُّ. قال ابن الزبعرىٰ: | **105ـ ليسَ في الحقِ يا أميمةُ رَيْبٌ** | | | | --- | --- | --- | وثانيها التهمةُ: قال جميل بثينة: | **106ـ بُثَيْنَةُ قالت: يا جميلُ أَرَبْتَني** | | **فقلت: كلانا يابُثَيْنُ مُريبُ** | | --- | --- | --- | وثالثها الحاجةُ، قال: | **107ـ قََضَيْنا من تِهامةَ كلَّ ريبٍ** | | **وخَيْبَرَ ثم أَجْمَعْنا السيوفا** | | --- | --- | --- | وقوله: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } يجوز فيه عدةُ أوجهٍ، أن يكونَ مبتدأ وخبرُه " فيه " متقدماً عليه إذا قلنا: إنَّ خبرَ " لا " محذوف، وإنْ قلنا " فيه " خبرُها كان خبرُه محذوفاً مدلولاً عليه بخبر " لا " تقديره: لا ريبَ فيه، فيه هدىً، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه هو هُدَىً، وأن يكونَ خبراً ثانياً لـ " ذلك " ، على أن " الكتاب " صفة أو بدلٌ أو بيان، و " لا ريب " خبرٌ أول، وأن يكون خبراً ثالثاً لـ " ذلك " ، على أن يكون " الكتاب " خبراً أول و " لا ريبَ " خبراً ثانياً، وأن يكونَ منصوباً على الحال من " ذلك " أو من " الكتاب " والعاملُ " فيه " ، على كلا التقديرين اسمُ الإِشارةِ، وأن يكونَ حالاً ومن الضمير في " فيه " ، والعاملُ ما في الجار والمجرور من معنى الفعل، وجَعْلُه حالاً ممَّا تقدَّم: إمَّا على المبالغة، كأنه نفس الهدى، أو على حذف مضاف أي: ذا هدى أو على وقوعِ المصدر موقعَ اسم الفاعل، وهكذا كلُّ مصدرٍ وقع خبراً أو صفة أو حالاً فيه الأقوالُ الثلاثةُ أرجحُها الأولُ. وأجازوا أن يكونَ " فيه " صفةً لريب فيتعلَّقَ بمحذوفٍ، وأن يكونَ متعلقاً بريب، وفيه إشكالٌ، لأنه يَصير مُطَوَّلاً، واسمُ " لا " إذا كان مطولاً أُعرِب، إلا أَنْ يكونَ مُرادُهم أنه معمولٌ لِما دَلَّ عليه " ريبَ " لا لنفس " ريب ". وقد تقدَّم معنى " الهدى " عند قوله تعالى:**{ ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }** [الفاتحة: 6]، و " هُدَى " مصدرٌ على فُعَل، قالوا: ولم يَجىءْ من هذا الوزن في المصادر إلا: سُرى وبُكى وهُدى، وقد جاء غيرُها، وهو: لَقِيْتُه لُقَى، قال: | **108ـ وقد زعموا حِلْماً لُقاك ولم أَزِدْ** | | **بحمدِ الذي أَعْطَاك حِلْماً ولا عَقْلا** | | --- | --- | --- | والهُدى فيه لغتان: التذكير، ولم يَذْكُرِ اللِّحياني غيرَه، وقال الفراء: " بعضُ بني أسد يؤنِّثُه فيقولون: هذه هدىً ". و " في " معناها الظرفية حقيقةً أو مجازاً، نحو: زيدٌ في الدار، | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ }** [البقرة: 197]، ولها معانٍ أُخَرُ: المصاحَبَةَ نحو:**{ ٱدْخُلُواْ فِيۤ أُمَمٍ }** [الأعراف: 38]، والتعليلُ: **" إنَّ امرأةً دخلتِ النارَ في هرة "** ، وموافقةُ " على ":**{ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ }** [طه: 71]، والباء:**{ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ }** [الشورى: 11] أي بسببه، والمقايَسَةُ:**{ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ }** [التوبة: 38]. والهاءُ في " فيه " أصلُها الضمُّ كما تقدَّم من أنَّ هاءَ الكنايةِ أصلُها الضمُّ، فإنْ تَقَدَّمها ياءٌ ساكنةٌ أو كسرةٌ كَسَرَها غيرُ الحجازيين، وقد قرأ حمزة: " لأهلهُ امكثوا " وحفص في " عاهد عليهُ الله " ، " وما أنسانيهُ إلا " بلغةِ الحجاز، والمشهورُ فيها - إذا لم يَلِها ساكنٌ وسَكَنَ ما قبلها نحو: فيه ومنه - الاختلاسُ، ويجوز الإِشباعُ، وبه قرأ ابن كثير، فإنْ تحرَّك ما قبلها أُشْبِعَتْ، وقد تُخْتَلَسُ وتُسَكَّن، وقرئ ببعضِ ذلك كما سيأتي مفصلاً. و " للمتقين " جارٌّ ومجرورٌ متعلقٌ بـ " هُدَى ". وقيل: صفةٌ لهدى، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، ومحلُّه حينئذٍ: إمَّا الرفعُ أو النصبُ بحسَبِ ما تقدم في موصوفه، أي: هدىً كائنٌ أو كائناً للمتقين. والأحسنُ من هذه الوجوه المتقدمة كلِّها أن تكونَ كلُّ جملةٍ مستقلةً بنفسها، فـ " ألم " جملةٌ إنْ قيلَ إنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ، و " ذلك الكتاب " جملةٌ، و " لا ريبَ " جملةٌ، و " فيه هدى " جملةٌ، وإنما تُرِكَ العاطفُ لشدةِ الوَصْلِ، لأنَّ كلَّ جملةٍ متعلقةٌ بما قبلها آخذةٌ بعُنُقِها تعلُّقاً لا يجوزُ معه الفصلُ بالعطفِ. قال الزمخشري ما معناه: فإن قلت: لِمَ لَمْ يتقدَّمِ الظرفُ على الريب كما قُدِّم على " الغَوْل " في قوله تعالى:**{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ }** [الصافات: 47] قلت: لأنَّ تقديمَ الظرفِ ثَمَّ يُشْعِرُ بأنَّ غيرَها ما نُفِيَ عنها، فالمعنى: ليس فيها غَوْلٌ كما في خُمور الدنيا، فلَو قُدِّم الظرفُ هنا لأَفهمَ هذا المعنى، وهو أنَّ غيرَه من الكتبِ السماويةِ فيه ريبٌ، وليس ذلك مقصوداً، وكأنَّ هذا الذي ذكره أبو القاسم الزمخشري بناءً منه على أن التقديمَ يُفيد الاختصاصَ، وكأنَّ المعنى أنَّ خمرة الآخرة اختصَّتْ بنفي الغَوْلِ عنها بخلافِ غيرِها، وللمنازَعةِ فيه مجالٌ. وقد رامَ بعضُهم الردَّ عليه بطريقٍ آخرَ، وهو أنَّ العربَ قد وَصَفَتْ/ أيضاً خَمْرَ الدنيا بأنها لا تَغْتَالُ العقولَ، قال علقمة: | **109ـ تَشْفي الصُّداعَ ولا يُؤْذيكَ صالِبُها** | | **وَلاَ يُخَالِطُها في الرأسِ تَدْويمُ** | | --- | --- | --- | وما أبعد هذا من الردِّ عليه، إذ لا اعتبارَ بوَصْفِ هذا القائلِ. فإن قيل: قد وُجِدَ الريبُ من كثيرٍ من الناس في القرآن، وقولُه تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ينفي ذلكَ. فالجوابُ من ثلاثة أوجه، أحدُهما: أنَّ المنفيَّ كونُه متعلقاً للريبِ، بمعنى أنَّ معه من الأدلَّة ما إنْ تأمَّله المنصِفُ المُحِقُّ لم يَرْتَبْ فيه، ولا اعتبارَ بريبٍ مَنْ وُجِدَ منه الريبُ، لأنه لم ينظرْ حقَّ النظرِ، فَرَيْبُه غَيرُ مُعْتَدٍّ به. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والثاني: أنه مخصوصٌ، والمعنى: لا ريبَ فيه عند المؤمنين، والثالث: أنه خبرٌ معناه النهيُ، أي لا تَرْتابوا فيه. والأول أحسنُ. و " المتقين " جمعُ مُتَّقٍ، وأصلُهُ مُتَّقْيِيْن بياءين، الأولى لامُ الكلمة والثانيةُ علامةُ الجمع، فاستُثْقِلَتِ الكسرةُ على لام الكلمة وهي الياءُ الأولى فحُذِفَت، فالتقى ساكنان، فحُذِف إحداهما، وهي الأولىٰ، ومتَّقٍ من اتَّقَى يتَّقِي وهو مُفْتَعِل من الوقاية، إلا أنه يَطَّرِدُ في الواو والياء إذا كانا فاءَيْن ووقَعَتْ بعدَهما تاءُ الافتعالِ أن يُبْدَلا تاءً نحو: اتَّعَدَ من الوَعْد، واتَّسَرَ من اليُسْر، وفِعْلُ ذلك بالهمزة شَاذٌّ، قالوا: اتَّزر واتَّكل من الإِزار والأكل. ولافْتَعَلَ اثنا عشرَ معنىً: الاتخاذ نحو: اتَّقى، والتَّسَبُّب نحو: اعْتَمَلَ، وفعلُ الفاعلِ بنفسِهِ نحو: اضطرب، والتخيُّر نحو: انتخب، والخطف نحو: اسْتَلَبَ، ومطاوعةُ أفْعَل نحو: انْتَصَفَ مطاوعُ أَنْصَفَ، ومطاوعةُ فَعَّل نحو: عَمَّمْتُه فاعتمَّ، وموافقةُ تفاعَلَ وتفعَّل واسْتَفْعَلَ نحو: اجْتَوَر واقتسَمَ واعتصَرَ، بمعنى تجاور وتقسَّم واسْتَعْصَمَ، وموافقةُ المجرد نحو: اقتَدَرَ بمعنى قَدَر، والإِغناءُ عنه نحو: استلم الحجرَ، لم يُلفظ له بمجردٍ. والوِقايةُ: فَرْطُ الصيانة وشِدَّةُ الاحتراسِ من المكروه، ومنه: فرسٌ واقٍ إذا كان يقي حافرُه أدنى شيءٍ يُصيبه. وقيل: هي في أصل اللغة قلةُ الكلام، وفي الحديث: **" التقيُّ مُلْجَمٌ "** ومن الصيانة قوله: | **110ـ سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه** | | **فتناوَلَتْه واتَّقَتْنَا باليَدِ** | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **111ـ فَأَلْقَتْ قناعاً دونَه الشمسُ واتَّقَتْ** | | **بأحسنِ مَوْصولينِ كَفٍّ ومِعْصَمِ** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير صفوة التفاسير/ الصابوني (مـ 1930م -)
التفسِير: ابتدأت السورة الكريمة بذكر أوصاف المتقين، وابتداء السورة بالحروف المقطعة { الۤمۤ } وتصديرها بهذه الحروف الهجائية يجذب أنظار المعرضين عن هذا القرآن، إِذ يطرق أسماعهم لأول وهلة ألفاظٌ غير مألوفة في تخاطبهم، فينتبهوا إِلى ما يُلقى إِليهم من آياتٍ بينات، وفي هذه الحروف وأمثالها تنبيهٌ على " إِعجاز القرآن " فإِن هذا الكتاب منظومٌ من عين ما ينظمون منه كلامهم، فإِذا عجزوا عن الإِتيان بمثله، فذلك أعظم برهان على إِعجاز القرآن. يقول العلامة ابن كثير رحمه الله: إِنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور بياناً لإِعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وهو قول جمع من المحققين، وقد قرره الزمخشري في تفسيره الكشاف ونصره أتم نصر، وإِليه ذهب الإِمام " ابن تيمية " ثم قال: ولهذا كلُّ سورة افتتحت بالحروف، فلا بدَّ أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيانُ إِعجازه وعظمته مثل { الۤمۤ \* ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ }**{ الۤمۤصۤ \* كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ }** [الأعراف: 1-2]**{ الۤـمۤ \* تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ }** [لقمان: 1-2]**{ حمۤ \* وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ \* إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ }** [الدخان: 1-3] وغير ذلك من الآيات الدالة على إِعجاز القرآن. ثم قال تعالى { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي هذا القرآن المنزل عليك يا محمد هو الكتابُ الذي لا يدانيه كتاب { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك في أنه من عند الله لمن تفكر وتدبر، أو ألقى السمع وهو شهيد { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } أي هادٍ للمؤمنين المتقين، الذين يتقون سخط الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويدفعون عذابه بطاعته، قال ابن عباس: المتقون هم الذين يتقون الشرك، ويعملون بطاعة الله، وقال الحسن البصري: اتقوا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوْا ما افتُرض عليهم.. ثم بيَّن تعالى صفات هؤلاء المتقين فقال { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } أي يصدقون بما غاب عنهم ولم تدركه حواسهم من البعث، والجنة، والنار، والصراط، والحساب، وغير ذلك من كل ما أخبر عنه القرآن أو النبي عليه الصلاة والسلام { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } أي يؤدونها على الوجه الأكمل بشروطها وأركانها، وخشوعها وآدابها قال ابن عباس: إِقامتُها: إِتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } أي ومن الذي أعطيناهم من الأموال ينفقون ويتصدقون في وجوه البر والإِحسان، والآية عامة تشمل الزكاة، والصدقة، وسائر النفقات، وهذا اختيار ابن جرير، وروي عن ابن عباس أن المراد بها زكاة الأموال، قال ابن كثير: كثيراً ما يقرن تعالى بين الصلاة والإِنفاق من الأموال، لأن الصلاة حقُّ الله وهي مشتملة على توحيده وتمجيده والثناء عليه، والإِنْفاقُ هو الإِحسان إِلى المخلوقين وهو حق العبد، فكلٌ من النفقات الواجبة، والزكاة المفروضة داخل في الآية الكريمة { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } أي يصدقون بكل ما جئت به عن الله تعالى { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } أي وبما جاءت به الرسل من قبلك، لا يفرّقون بين كتب الله ولا بين رسله { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } أي ويعتقدون اعتقاداً جازماً لا يلابسه شك أو ارتياب بالدار الآخرة التي تتلو الدنيا، بما فيها من بعثٍ وجزاءٍ، وجنةٍ، ونار، وحساب، وميزان، وإِنما سميت الدار الآخرة لأنها بعد الدنيا { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } أي أولئك المتصفون بما تقدم من الصفات الجليلة، على نور وبيان وبصيرة من الله { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي وأولئك هم الفائزون بالدرجات العالية في جنات النعيم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي: 1- المجاز العقلي { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } أسند الهداية للقرآن وهو من الإِسناد للسبب، والهادي في الحقيقة هو الله ربُّ العالمين ففيه مجاز عقلي. 2 - الإِشارة بالبعيد عن القريب { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } للإِيذان بعلو شأنه، وبعد مرتبته في الكمال، فنُزِّل بُعْد المرتبة منزلة البعد الحسي. 3 - تكرير الإِشارة { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى } { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } للعناية بشأن المتقين، وجيء بالضمير { هُمُ } ليفيد الحصر كأنه قال: هم المفلحون لا غيرهم. 4 - التيئيس من إِيمان الكفار { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } فالجملة سيقت للتنبيه على غلوهم في الكفر والطغيان، وعدم استعدادهم للإِيمان، ففيها تيئيس وإِقناط من إِيمانهم. 5 - الاستعارة التصريحية اللطيفة { خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ } شبَّه قلوبهم لتأبّيها عن الحق، وأسماعهم وأبصارهم لامتناعها عن تلمح نور الهداية، بالوعاء المختوم عليه، المسدود منافذه، المغشَّى بغشاء يمنع أن يصله ما يصلحه، واستعار لفظ الختم والغشاوة لذلك بطريق الاستعارة التصريحية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -)
{ الۤمۤ } اختلف المفسِّرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور، فمنهم من قال: هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسروها حكاه القرطبي في تفسيره، ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال بعضهم: هي أسماء السور، قال الزمخشري: وعليه إطباق الأكثر، وقيل: وهي اسم من أسماء الله تعالى يفتتح بها السور، فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفةً من صفاته، فالألف مفتاح اسم (الله) واللام مفتاح اسمه (لطيف) والميم مفتاح اسمه (مجيد)، وقال آخرون: إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لـ (إعجاز القرآن) وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، حكاه الرازي عن المبرد وجمع من المحققين، وحكاه القرطبي عن الفراء، وقرره الزمخشري ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الإمام (ابن تيمية) وشيخنا الحافظ (أبو الحجاج المزي). قال الزمخشري: ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت، كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي الصريح في أماكن، وجاء منها على حرف واحد مثل { صۤ } وحرفين مثل { حـمۤ } وثلاثة مثل { الۤمۤ } وأربعة مثل { الۤمۤصۤ } وخمسة مثل { كۤهيعۤصۤ } لأن أساليب كلامهم منها ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك. قال ابن كثير: ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء في تسع وعشرين سورة مثل: { الۤمۤ \* ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }**{ الۤمۤ \* ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ \* نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ }** [آل عمران: 1-3]**{ الۤمۤصۤ \* كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ }** [الأعراف: 1-2]**{ الۤر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ }** [إبراهيم: 1]**{ الۤمۤ \* تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ }** [السجدة: 1-2]**{ حـمۤ \* تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }** [فصلت: 1-2] وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أَمعن النظر. { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } قال ابن عباس: أي هذا الكتاب. والعربُ تعارض بين اسمي الإشارة فيستعملون كلاً منهما مكان الآخر وهذا معروفٌ في كلامهم. والكتابُ: القرآنُ، ومن قال: إن المراد بذلك الإشارة إلى التوراة والإنجيل فقد أبعدَ النُجعة، وأغرق في النزع، وتكلّف ما لا علم له به. والريبُ: الشك، أي لا شك فيه، روي ذلك عن أُناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم في هذا خلافاً. وقد يستعمل الريب في التهمة، قال جميل: | **بثينة قالت: يا جميلُ أربتني** | | **فقلتُ: كلانا يا بثينُ مريب** | | --- | --- | --- | واستعمل أيضاً في الحاجة كما قال بعضهم: | **قضينا من تهامة كل ريبٍ** | | **وخيبر ثم أجممنا السيوفا** | | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | والمعنى: إن هذا الكتاب (القرآن) لا شك فيه أنه نزل من عند الله كما قال تعالى:**{ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [السجدة: 2]. وقال بعضهم: هذا خبرٌ ومعناه النهي، أي لا ترتابوا فيه. وخصت الهداية للمتقين كما قال تعالى:**{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ }** [فصلت: 44]، وقال:**{ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ }** [الإسراء: 82] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن، لأنه هو في نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأبرار كما قال تعالى:**{ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ }** [يونس: 57]. قال السُّدي: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } يعني نوراً للمتقين، وعن ابن عباس: المتقون هم المؤمنون الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعة الله، وقال الحسن البصري: اتقوا ما حرم عليهم، وأدوا ما افترض عليهم. وقال قتادة: هم الذين نعتهم الله بقوله:**{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ }** [البقرة: 3]، واختيار ابن جرير أنَّ الآية تعمُّ ذلك كله، وهو كما قال. وفي الحديث الشريف: **" لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس ".** ويطلق الهدى ويراد به ما يقر في القلب من الإيمان، وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله عزّ وجلّ. قال تعالى:**{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }** [القصص: 56]، وقال:**{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ }** [البقرة: 272]، وقال:**{ مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ }** [الأعراف: 186]، ويطلق ويراد به بيان الحق والدلالة عليه، قال تعالى:**{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }** [الشورى: 52]، وقال:**{ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }** [الرعد: 7]، وقال:**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** [فصلت: 17]. وأصل التقوى التوقي ممّا يكره لأن أصلها (وقَوَى) من الوقاية، قال الشاعر: | **فألقت قِناعاً دونه الشمسُ واتَّقَت** | | **بأحسنِ موصولينِ كفٍ ومعْصَم** | | --- | --- | --- | وسأل عمرُ (أبيَّ بن كعب) عن التقوى فقال له: أما سلكتَ طريقاً ذا شوك؟ قال: بلى، قال: فما عملت؟ قال: شمَّرتُ واجتهدتُ، قال: فذلك التقوى، وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال: | **خلّ الذنوبَ صغيرَها** | | **وكبيرَها ذاكَ التُّقَى** | | --- | --- | --- | | **واصْنَع كماشٍ فوقَ أرْ** | | **ضِ الشوك يحذَرُ ما يرى** | | **لا تحـقـرنَّ صغيـرة** | | **إِنَّ الجبال من الحصى** | وفي سنن ابن ماجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: **" ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيراً من زوجة صالحة، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الغرناطي (ت 741 هـ)
{ الۤمۤ } اختلف فيه وفي سائر حروف الهجاء في أوائل حروف السور، وهي: المص، والر، والمر، وكهيعص، وطه، وطسم، وطس، ويس، وص، وق، وحم، وحم عسق، ون. فقال قوم: لا تفسر لأنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، قال أبو بكر الصديق: لله في كل كتاب سرّ، وسرّه في القرآن فواتح السور، وقال قوم تفسر، ثم اختلفوا فيها، فقيل: هي أسماء الله، وقيل: أشياء أقسم الله بها، وقيل: هي حروف مقطعة من كلمات: فالألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد صلى الله عليه وسلم، ومثل ذلك في سائرها، وإعراب هذه الحروف يختلف بالاختلاف في معناها؛ فيتصور أن تكون في موضع رفع أو نصب أو خفض. فالرفع على أنها مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر، والنصب على أنها مفعول بفعل مضمر، والخفض على قول من جعلها مقسماً بها كقولك: اللّهِ لأفعلن { ذَلِكَ ٱلْكِتَٰبُ } هو هنا القرآن، وقيل: التوراة والإنجيل، وقيل: اللوح المحفوظ وهو الصحيح الذي يدل عليه سياق الكلام ويشهد له مواضع من القرآن. والمقصود منها إثبات أن القرآن من عند الله كقوله:**{ تَنزِيلُ ٱلْكِتَٰبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [السجدة: 2] يعني القرآن باتفاق، وخبر ذلك: لا ريب فيه، وقيل: خبره الكتاب فعلى هذا { ذَلِكَ ٱلْكِتَٰبُ } جملة مستقلة فيوقف عليه { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي: لا شك أنه من عند الله في نفس الأمر في اعتقاد أهل الحق، ولم يعتبر أهل الباطل، وخبر لا ريب: فيه، فيوقف عليه، وقيل: خبرها محذوف فيوقف على { لاَ رَيْبَ }. والأول أرجح لتعيّنه في قوله: { لاَ رَيْبَ } في مواضع أخر. فإن قيل: فهلا قدم قوله فيه على الريب كقوله:**{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ }** [الصافات: 47] فالجواب: أنه إنما قصد نفي الريب عنه. ولو قدم فيه: لكان إشارة إلى أن ثمّ كتاب آخر في ريب، كما أن " لا غول فيها " إشارة إلى أن خمر الدنيا فيها غول، وهذا المعنى يبعد قصده فلا يقدم الخبر. { هُدًى } هنا بمعنى الإرشاد لتخصيصه بالمتقين، ولو كان بمعنى البيان لعم كقوله: { هُدًى لِّلنَّاسِ }. وإعرابه: خبر ابتداء، أو مبتدأ وخبره: فيه، عندما يقف على لا ريب، أو منصوب على الحال والعامل فيه الإشارة { لِّلْمُتَّقِينَ } مفتعليِن من التقوى، وقد تقدّم معناه في الكتاب، فنتكلم عن التقوى في ثلاثة فصول. الأول: في فضائلها المستنبطة من القرآن، وهي خمس عشرة: الهدى كقوله: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] والنصرة، لقوله:**{ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ }** [النحل: 128] والولاية لقوله:**{ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ }** [الجاثية: 19] والمحبة لقوله:**{ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ }** [براءة: 4] والمغفرة لقوله:**{ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً }** [الأنفال: 29] والمخرج من الغم والرزق من حيث لا يحتسب لقوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً }** [الطلاق: 2] الآية وتيسير الأمور لقوله:**{ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً }** [الطلاق: 4] وغفران الذنوب وإعظام الأجور لقوله:**{ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً }** [الطلاق: 5] وتقبل الأعمال لقوله:**{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ }** [المائدة: 27] والفلاح لقوله:**{ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }** [البقرة: 189] والبشرى لقوله:**{ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }** [يونس: 64] ودخول الجنة لقوله:**{ إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ }** [القلم: 34] والنجاة من النار لقوله:**{ ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ }** [مريم: 72]. الفصل الثاني: البواعث على التقوى عشرة: خوف العقاب الأخروي، وخوف العقاب الدنيوي، ورجاء الثواب الدنيوي، ورجاء الثواب الأخروي، وخوف الحساب، والحياء: من نظر الله، وهو مقام المراقبة، والشكر على نعمه بطاعته، والعلم لقوله:**{ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ }** [فاطر: 28] وتعظيم جلال الله، وهو مقام الهيبة، وصدق المحبة لقول القائل: | **تعصي الإله وأنت تظهر حبه** | | **هذا لعمري في القياس بديع** | | --- | --- | --- | | **لو كان حبك صادقاً لأطعته** | | **إن المحب لمن يحب مطيع** | ولله در القائل: | **قالت وقد سألت عن حال عاشقها:** | | **لله صفه ولا تنقص ولا تزد** | | --- | --- | --- | | **فقلت: لو كان يظن الموت من ظمإ** | | **وقلت: قف عن ورود الماء لم يرد** | الفصل الثالث: درجات التقوى خمس: أن يتقي العبد الكفر، وذلك مقام الإسلام، وأن يتقي المعاصي والحرمات وهو مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات، وهو مقام الورع، وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد، وأن يتقي حضور غير الله على قلبه، وهو مقام المشاهدة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير غريب القرآن / زيد بن علي (ت 120 هـ)
وقولُه تعالى: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } معناه هذا الكتابُ. وقولهُ تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } معناه لا شَكَّ فِيهِ. والرَّيبُ أَيضاً: السّوءُ. وقولهُ تعالى: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } فالهُدى: البَيانُ. والمتَّقونَ: المُطيعونَ الخَاشِعونَ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير النهر الماد / الأندلسي (ت 754 هـ)
" الم " حروف التهجي هذه التي في أوائل السور اختلف الناس في المراد بها اختلافاً كثيراً ولم يقم دليل على تعيين شيء مما ذكروه والذي اختاره هو ما ذهب إليه الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين قالوا: هي سر الله في القرآن وهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه نؤمن بها ونمرها كما جاءت وإلى هذا ذهب الوزير الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب الظاهري رحمه الله تعالى قال: هذه الحروف التي في فواتح السور هو المتشابه الذي استأثر الله بعلمه وسائر كلامه تعالى محكم " انتهى ". وهذه الحروف أوردت مفردة من غير عامل ولا عطف فاقتضت أن تكون مسكنة كأسماء الأعداد إذا أوردت من غير عامل ولا عطف فلا محل لها من الاعراب وقال الكوفيون: ألم ونظائرها آية في خلاف لهم في بعضها. وقال البصريون وغيرهم: ليس شيء من ذلك آية ولم ينضبط لي ما سمى العادون في القرآن آية ولا عرفت مقدار ما لحظوا في ذلك ووقف أبو جعفر على كل حرف من حروف التهجي وقفه وقفة وأظهر النون من طسَم، ويَس، وعَسق ونَ الا من طس تلك فلم يظهر ذلك. " ذلك " اسم إشارة واللام مشعرة ببعد المشار إليه والكاف للخطاب وإذا كان على موضوعه من البعد فأقوال كثيرة مضطربة: الأولى: أن تكون إشارة لما نزل بمكة من القرآن أو البعد بالنسبة إلى الغاية التي هي بين المنزل، والمنزل إليه. وسمعت شيخنا الأستاذ أبا جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يقول ذلك إشارة إلى الصراط المستقيم كأنهم لما سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب وبهذا الذي ذكره الأستاذ يتبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره لا إلى شيء لم يجر له ذكر وقد ركبوا وجوهاً من الإِعراب في قوله. " ذلك الكتاب لا ريب فيه " والذي اختاره أن يكون ذلك الكتاب جملة مستقلة لأنه متى أمكن حمل الكلام على الاستقلال دون إضمار ولا افتقار كان أولى. " ولا ريب " جملة مستأنفة لا موضع لها من الاعراب أو في موضع نصب أي مبرّأ من الريب وقرىء لا ريب بالرفع وسياق الكلام يدل على أن المراد نفي كل ريب في هذه القراءة والفتح نص في العموم والذي نختاره أن الخبر محذوف للعلم به إذ لغة تميم إذا علم لا يلفظ به ولغة الحجاز كثرة حذفه إذ ذاك ولا ريب يدل على نفي الماهية أي ليس مما يحله الريب ولا يدل على نفي الارتياب لأنه قد وقع ارتياب من ناس ضلال، وعلى هذا لا يحتاج إلى حمله على نفي التعليق والمظنة كما حمله الزمخشري ولا يزد علينا وإن كنتم في ريب لاختلاف الحال والمحل فالحال في كنتم المخاطبون والريب هو المحل والحال هنا الريب منفياً والمحل الكتاب فلا تعارض بين كونهم في ريب من القرآن وكون الريب منفياً عن القرآن واختيار الزمخشري أن فيه خبر ولذلك بني عليه سؤالاً وهو ان قال هلا قدم الظرف على الريب كما قدم على الغول في قوله: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | **{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ }** [الصافات: 47]، وأجاب بأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد وهو أن كتاباً غيره فيه الريب، كما قصد في قوله: لا فيها غول، تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل: ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة. وقد انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر ولا نعلم أحداً يفرق بين ليس في الدار رجل، وليس رجل في الدار. والأولى جعل كل جملة مستقلة من قوله: ذلك الكتاب لا ريب وفيه هدى. ولم يحتج إلى حرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق بعض، فالأولى أخبرت أن المشار إليه هذا الكتاب الكامل. كما تقول: زيد الرجل، أي الكامل في الأوصاف. والثانية نفت أن يكون فيه شيء من الريب. والثالثة أخبرت أن فيه الهدى للمتقين. والمجاز في فيه " هدى " أي استمرار هدى لأن المتقين مهتدون، والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه أن يتعاطى ما توعد عليه بعقوبة من فعل أو ترك وعلى ما اخترناه من الاعراب تكون الجملة. الأولى: كاملة الأجزاء حقيقة، والثانية: فيها مجاز الحذف إذا اخترنا أن خبر لا محذوف، والثالثة: فيها تنزيل المعاني منزلة الأجسام إذ جعل الكتاب ظرفاً والهدي مظروفاً وأتى بلفظة في التي للوعاء فهو مشتمل على الهدى كاشتمال البيت على زيد في قولك زيد في البيت. و " الإِيمان " التصديق وأصله من الأمان أو الأمان أو الأمن، ومعناها: الطمأنينة. والهمزة فيه للصيرورة وضمَّن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدى بالباء أو باللام. و " الغيب " مصدر غاب يغيب إذا توارى. والأجود أن يكون أطلق على الغائب لا أنه فعيل من غاب فخفف كلين والباء متعلقة بيؤمنون. والصلاة وزنها فعلة، وألفه منقلبة من واو وهي مشتقة من الصلا وهو عرق متصل بالظهر أو من صلى بمعنى دعا. و " الرزق " العطاء. وبفتح الراء المصدر. و " الانفاق " الانفاد وللمتقين في موضع الصفة فلا يتعلق بهدي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ)
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }؛ أي لا شَكَّ فيه. ونصب { رَيْبَ } لتعميمِ النفي؛ ألا ترى أنكَ تقولُ: لا رجلَ في الدار؛ بالنصب، فيكون نفياً عامّاً. وإذا قلتَ: لا رجلٌ في الدار؛ بالرفع، جازَ أن يكون في الدار رجلان أو ثلاثةٌ. قوله عَزَّ وَجَلَّ: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }؛ نُصب على الحال؛ إما من { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ }؛ كأنه قالَ: ذلك الكتابُ هادياً. وإما مِن { لاَ رَيْبَ فِيهِ } كأنه قال { لاَ رَيْبَ فِيهِ } في حالِ هدايته. ويجوزُ أن يكون موضعهُ رفعاً على إضمار (هو)، أو (فيه). فإن قِيلَ: لِمَ خَصَّ المتقين؛ وهو هدًى لهم ولغيرِهم؟ قيلَ: تخصيصُ الشيء بالذكرِ لا يدلُّ على نفي ما عداهُ، وفائدةُ التخصيصِ تشريفُ المتقين، ومثلهُ:**{ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ }** [يس: 11]**{ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَٰهَا }** [النازعات: 45]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ)
قوله عز وجل: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ }. أكثر أهل التفسير على أن " ذلك " بمعنى " هذا ". كما تقول للرجل وهو يحدثك: " ذلك، والله الحق " ، أي هذا والله الحق. قال الله جل ذكره:**{ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ }** [ق: 19]. أي هذا ما كنت منه تحيد. وقال:**{ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ }** [البقرة: 196]، أي هذه عشرة كاملة. وقال:**{ ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ }** [البقرة: 196]. أي هذا الحكم لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. وقال:**{ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ }** [ص: 64] أي إن هذا وهو كثير في كلام العرب والقرآن. وقيل: إن { ذٰلِكَ } / على بابها للإشارة إلى شيء / معلوم. واختلف في ذلك المشار إليه. ما هو؟ فقيل: إن { ذٰلِكَ } إشارة إلى ما نزل من القرآن قبل سورة البقرة. وقال الكسائي: " { ذٰلِكَ } إشارة إلى الرسالة والقرآن وعمّا في السماء ". وقيل: إشارة إلى اللوح المحفوظ. وحكى الطبري أن بعض المفسرين قال: " { ذٰلِكَ }: إشارة إلى التوراة والإنجيل ". وقيل: { ذٰلِكَ }: إشارة إلى ما وعد به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه سينزل عليه كتاب فوقعت الإشارة على ما تقدم من الوعد. وجيء باللام في { ذٰلِكَ } للتأكيد في بعد الإشارة. وقال الكسائي: " جيء بها لئلا يتوهم أن { ذٰلِكَ } مضاف إلى الكاف ". وقيل: جيء بها عوضاً عن المحذوف من " ذا " ، لأن أصل " ذا " أن يكون على ثلاثة أحرف، لأن أقل الأسماء ما يأتي على ثلاثة أحرف. وقال علي بن سليمان: " جيء باللام لتدل على شدة التراخي، وكسرت لئلا تشبه لام الملك. وقيل: كسرت لأنها بدل من همزة مكسورة لأن أصل " ذا " " ذاء " على ثلاثة أحرف بهمزة مكسورة، ومن العرب من يقول في " ذلك " " ذاءك " بالهمز حكاه الفراء وغيره، قال: " وإنما أبدلوا من الهمزة لاماً لأن " ذاء " خرج عن لفظ المضاف، وليس بمضاف، واللام من أدوات المضاف، فأبدلوا من الهمزة لاماً وكسرت لأن الهمزة كانت مكسورة لالتقاء الساكنين ". كان أصل ذا / أن يكون بألفين ليكون على ثلاثة أحرف إذ هي أقل أصول الأسماء فأبدلت الألف الثانية همزة وكسرت لسكونها وسكون الألف قبلها. وقد قال الكسائي: " إنما أبدلوا من الهمزة لاماً لئلا تشبه المضاف " وقيل: إنما كسرت اللام لالتقاء الساكنين لأنها اجتلبت ساكنة، وقبلها الألف من " ذا " ساكنة، وكسرت اللام لالتقاء الساكنين. والاسم من " ذلك " ، ذا وقيل: الاسم الذال، وزيدت الألف للتقوية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | ولا موضع للكاف من الإعراب، إنما هي للخطاب، ولو كان لها موضع من الإعراب لكانت في موضع خفض بالإضافة على ظاهر اللفظ. و " ذا " لا يضاف في شيء من كلام العرب، لأنه معرفة، ولأن اللام تفصل بينهما، ولأن المعنى على غير معنى الإضافة. والكتاب مشتق من الكتيبة وهي الخيل المجتمعة، يقال: " تَكتَّب القَوْمُ " إذا اجتمعوا. فسمي المكتوب كتاباً لاجتماع بعض الحروف إلى بعض. ومنه قول العرب: " كُتِبَتْ القِرْبَة " إذا جُمِعَتْ خُرَزاً إلى خُرَز، وكَتَبْتُ البَغلَةَ " إذا جَمَعْتَ بين شُفْرَيْهَا بِحَلْقَة. قوله عز وجل: { لاَ رَيْبَ فِيهِ }. / الهاء تعود على (الكتاب) /. وقيل على { ذٰلِكَ }. وقيل: على { الۤـمۤ } على أن تكون { الۤـمۤ } إسماً من أسماء القرآن. وقيل: هي راجعة على { هُدًى } مقدمة عليه، يراد به التقديم. أي ذلك الكتاب هدى لا ريب فيه، أي في الهدى. ورجوعها على { ٱلْكِتَابُ } أبينها. والكتاب القرآن هو نفي عام نفى الله جل ذكره / أن يكون فيه شك عند من وفقه الله، وقد ارتاب فيه من خذله الله ولم يوفقه، ولذلك قال:**{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا }** [البقرة: 23]. معناه: وإن كنتم على زعمكم في شك من ذلك فأتوا ببرهان على ذلك، فقد أتيناكم بما لا ريب فيه لمن وفق. والريب مصدر " رَابَني الأَمْرُ رَيْباً ". وحكى المبرد: " رَابَني الشيء تبينت فيه الريبة، وأَرَابَنِي إذا لم أتبينها فيه ". وحكى غيره: " أَرَابَ الرجل في نفسه، ورَابَ غيره ". وقوله: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }. الهدى: الرشد والبيان. والتقى: اسم جامع لكل خصلة محمودة العاقبة، ومن اتقى الشرك فهو من المتقين، وهو أعظم التقى، وأصله من التَّوقّي وهو التستر، فكأن التقي يستر على جميع ما يذم عليه. وقد فسرنا إعراب هذا وما شابهه في كتاب " تفسير مشكل الإعراب " ، فأخلينا هذا الكتاب من بسط الإعراب لئلا يطول إلا أن يقع نادر من الإعراب فنذكره على شرطنا المتقدم. فاعلم ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ)
{ الۤـمۤ } قيل: فيه وجوهٌ: روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قوله: { الۤـمۤ } أنا الله أعلم. وقيل: إنه قسم أقسم بها. وقيل: إن هذه الحروف المعجمة مفتاح السورة. وقيل: إن كل حرف من هذه الحروف كناية اسم من أسماءِ الله: الأَلف الله، واللام لطفه، والميم ملكه. وقيل: إن اللام آلاؤه، والميم مجدهُ. وقيل: إن الأَلف هو الله، واللام جبريل، والميم محمد. وقيل: إنها من التشبيب؛ ليفصل بين المنظوم من الكلام، والمنثور من نحو الشعر ونحوه. وقيل: إن تفسير هذه الحروف المقطعة ما أَلحق ذكرها بها على أَثرها نحو قوله: { الۤـمۤ \* ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } [أول سورة البقرة]، { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } هو تفسير { الۤـمۤ } ، و { الۤمۤ \* ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [أول سورة آل عمران]، { الۤمۤصۤ \* كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ } [أول سورة الأعراف]، و { الۤر كِتَابٌ } [أول سورة هود، وإبراهيم]، و { الۤـمۤ \* تِلْكَ آيَاتُ } [أول سورة لقمان] كلُّ ملحقٍ بها فهو تفسيرُها. وقيل: إن فيها بيان غاية ملك هذه الأُمة من حساب الجُمَّل، ولكنهم عدوا بعضها وتركوا البعض. وقيل: إنه من المتشابه الذي لم يطلع الله خلقه علم ذلك، ولله أن يمتحن عباده بما شاءَ من المحن. وقيل: إنهم كانوا لا يستمعون لهذا القرآن؛ كقولهم:**{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ }** [فصلت: 26]، وكقوله:**{ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً }** [الأنفال: 35] فأنزل الله عز وجل هذه الحروف المعجمة ليستمعوا إليها فيلزمهم الحجة. والأصل في الحروف المقطعة: أنه يجوز أن تكون على القَسَم بها على ما ذكرنا. وأريد بالقدْر الذي ذكر كليةُ الحروف بما كان من شأْن العرب القسمُ بالذي جلَّ قدْرُه، وعظم خطره. وهي مما بها قوام الدارين، وبها يتصل إلى المنافع أَجمع. مع ما دّلت على نعمتين عظيمتين - اللسان والسمع - وهما مجرى كل أنواع الحكمة، فأَقسم بها على معنى إضمار ربّها، أَو على ما أَجلّ قدرها في أعين الخلق، فيقسم بها، ولله ذلك، ولا قوة إلا بالله. ويحتمل: أَن يكون بمعنى الرمز والتضمين في كل حرف منها أمراً جليلاً يعظم خطره على ما عند الناس في أَمر حساب الجُمل. ثم يُخرَّج على الرمز بِها عن أَسماءِ الله وصفاته ونعمه على خلقه، أَو على بيانِ منتهى هذه الأُمة، أَو عددِ أَئمتها، وملوكها، والبقاع التي ينتهي أمرها، وذلك هو في نهاية الإيجاز، بل بالاكتفاءِ بالرمز عن الكلام، وبما هو بمعنى من الإشارة في الاكتفاءِ بها عن البسط، ولا قوة إلا بالله؛ ليُعلم الخلائقَ قدرة الله، وأَنَّ له أَنْ يضمن ما شاء فيما شاءَ على ما عليه أَمرُ الخلائق من لطيف الأَشياءِ التي كادت العقولُ وأَسباب الإدراك تقصر عنها، وكنهِها التي يدركها كل أَحد، وبين الأَمرين، فعلى ذلك أَمر تركيب الكلام، ولا قوة إلا بالله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | ويجوز أن يكون بمعنى اسم السور، ولله تسميتها بما شاءَ كما سمى كتبه، وعلى ذلك منتهى أَسماءِ الأَجناس خمسة أحرف، وكذلك أمر السور، دليل ذلك وصْلُ كل سورة فتحت بها إليها، كأَنه بنى بها. ولا قوة إلا بالله. ويجوز أن يكون على التشبيب، على ما ذكرنا للتفصيل بين المنظوم من الكلام والمنثور في المتعارف أن المنظوم في الشاهد يشبب فيخرج عن المقصود بذلك الكلام، فعلى ذلك أمر الكلام المنزل. أَلا ترى أَنه خرج على ما عليه فنون الكلام في الشاهد إلا أَنه على وجه ينقطع له المثال من كلامهم، فمثله أَمر التشبيب. ولا قوة إلا بالله. وجائِز: أن يكون الله أَنزلها على ما أَراد؛ ليمتحن عبادَه بالوقف فيها، وتسليم المراد في حقيقة معناه والذي له يزول ذلك، ويعترف أَنه من المتشابه، وفيها جاءَ تعلق الملحدة، ولا قوة إلا بالله. ويحتمل: أَن يكون إذ علم الله من تعنت قوم وإعراضهم عنه وقولهم:**{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ }** [فصلت: 26] أَنزل على وجه يبعثهم على التأَمل في ذلك بما جاءَ بالعجيب الذي لم يكونوا يعرفون ذلك: إما لما عندهم أَنه كأَحدهم، أو لسبيل الطعن؛ إذ خرج عن المعهود عندهم، فتلا عليهم ما يضطرهم إلى العلم بالنزول من عند من يملك تدبير الأشياءِ؛ ولذلك اعترضوا لهذه الأَحرف بالتأَمل فيها من بين الجميع. ولا قوة إلا بالله. وقيل: إنه دعا خلقه إلى ذلك، والله أَعلم بما أَراد. وقوله: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ }. أي: هذا الكتاب، إشارة إلى ما عنده، وذلك شائع في اللغة، جائز بمعنى هذا. وقيل: ذلك بمعنى ذلك، إشارة إلى ما في أَيدي السفرة والبررة. وقوله: { لاَ رَيْبَ فِيهِ }. قيل: فيه وجوهٌ؛ لكن الحاصل يرجع إلى وجهين: أي: لا ترتابوا فيه أنه من عند الله. وقيل: لا ريب فيه أنه منزل على أَيدي الأُمناءِ والثقات. وقوله: { هُدًى }. قيل فيه بوجهين: { هُدًى }: أَي: بياناً ووضوحاً، فلو كان المراد هذا، فالتَّقيُّ وغير التَّقِيِّ سواء. والثاني: هُدىً أي: رشداً، وحجة، ودليلاً. ثم اختلفوا في الدليل: فقال الراوندي: الدليل إنما يكون دليلاً بالاستدلال؛ لأَنه فعل المستدل. مشتق من الاستدلال؛ كالضرب من الضارب وغيره. وقال غير هؤلاءِ: الدليل بنفسه دليل، وإن لم يستدل به؛ لأَنه حجة، والحجة حجة وإن لم يحتج بها. غير أَن الدليل يكون دليلاً بالاستدلال، ومن لم يستدل به فلا يكون له دليلاً، وإن كان بنفسه دليلاً، بل يكون عليه عمى وحيرة كقوله:**{ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ }** [التوبة: 124] ثم قال:**{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ \* وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | [التوبة: 124-125]. وقوله: { لِّلْمُتَّقِينَ \* ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }. قيل: فيه بوجهين: يؤمنون بالله غيباً، ولم يطلبوا منه ما طلبه الأُمم السالفة، من أنبيائهم؛ كقول بني إسرائيل لموسى:**{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً }** [البقرة: 55]. والثاني: يؤمنون بغيب القرآن، وبما يخبرهم القرآن من الوعدِ والوعيدِ، والأَمر والنهي، والبعث، والجنة، والنار. والإيمانُ إنما يكون بالغيب؛ لأَنه تصديق، والتصديقُ والتكذيب إنما يكونان عن الخبر، والخبرُ يكون عن غيب لا عن مشاهدة. والآية تنقض قول من يقول: بأَن جميع الطاعات إيمان؛ لأَنه أَثبت لهم اسم الإيمان دون إقامة الصلاة والزكاة بقوله: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }. وقوله: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ }. يحتمل وجهين: يحتمل: الصلاةَ المعروفةَ، يقيمونها بتمام ركوعها وسجودها، والخشوغ، والخضوع له فيها، وإخلاص القلب في النِّية؛ على ما جَاءَ في الخبر **" انْظُر مَنْ تُنَاجِي ".** ويحتمل: الحمد له والثناء عليه. فإن كان المراد هذا فهو لا يحتمل النسخ، ولا الرفع في الدنيا والآخرة. وقوله: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }. من الأَموال يحتمل فرضاً ونفلاً. ويحتمل: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ } من القوى في الأَنفس وسلامة الجوارح، { يُنْفِقُونَ }: يعينون. والله أعلم. وقوله: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ }. يحتمل وجهين: أي: ما أنزل إليك من القرآن. ويحتمل: ما أنزل إليك من الأَحكام، والشرائع التي ليس ذكرها في القرآن. وقوله: { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ }. يحتمل وجهين أيضاً: يعني الكتب التي أنزلت على سائِر الأَنبياءِ عليهم السلام. ويحتمل: الشرائع، والأَخبار سوى الكتب، والله أعلم. وقوله: { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }. بمعنى يؤمنون. والإيقان بالشيء هو العلم به. والإيمان هو التصديق، لكنه إذا أَيقن آمن به وصدق به لعلمه به؛ لأَن طائفة من الكفار كانوا على ظن من البعث؛ كقوله:**{ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ }** [الجاثية: 32] فأَخبر عز وجل عن حال هؤلاءِ أَنهم على يقين، ليسوا على الظن والشك كأُولئك. وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ }. قِيل: على صواب، ورشد من ربهم. وقيل: إنهم على بيان من ربهم، لكن البيان ليس المؤمنُ أحقَّ به من الكافر؛ لأَنه يبين للكافر جميع ما يحتاج إليه، إما من جهة العقل، وإما من جهة السمع. فظهر بهذا أَن الأَول أَقرب إلى الاحتمال من الثاني. وقوله: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }. قيل فيه بوجوه: قيل: الباقون في نعم الله والخير. وقيل: الظافرون بحاجاتهم، يقال: أَفلح، أَي: ظفر بحاجته. وقيل: { ٱلْمُفْلِحُونَ } هم السعداءُ، يقال: أَفلح، أي: سعد. وقيل: { ٱلْمُفْلِحُونَ } الناجون؛ يقال: أَفلح، أي: نجا. وكله يرجع إلى واحد؛ كقوله:**{ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ }** [آل عمران: 185] وكل واحد ممن زحزح عن النار فقد فاز ومن أُدخل الجنة فقد فاز فكذلك الأَول. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تفسير الجيلاني/ الجيلاني (ت713هـ)
{ الۤـمۤ } [البقرة: 1] أيها الإنسان الكامل، اللائق لخلافتنا، الملازم لاستشكاف أسرار ربوبيتنا كيفية بركات هويتنا الذاتية السارية على صفائح المكونات، المنتزعة عنها والمأخوذة منها. { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، المتعبد درجة كماله عن إفهام الجامع مراتب الأسماء والصفات في عالم الغيب والشهادة، المنزل على مرتبتك يا أكمل الرسل، الجامعة لجميع مراتب الكائنات من الأزل إلى الأبد بحيث لا يشذ عنها مرتبة أصلاً { لاَ رَيْبَ فِيهِ } بأنه منزل من عندنا لفظاً ومعنى: أمَّا لفظاً: فلعجز جماهير البلغاء ومشاهير الفصحاء عن معارضة أقصر آية منه مع وفور دواعيهم. وأمَّا معنى: فلا شتماله على جميع أحواله الحقائق العينية والأسرار الغيبية مما كان وسيكون في النشأتين، ولا يتيسر الاطلاع عليها والإتيان بها على هذا النمط البديع إلا لمن هو علام الغيوب. وإنما أنزلناه إليك أيها اللائق لأمر الرسالة والنيابة، لتهتدي به أنت إلى بحر الحقيقة، وتهدي به أيضاً من تبعك من التائهين في بيداء الضلالة؛ إذ فيه { هُدًى } عظيم { لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] الذين يحفظون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه نفوسهم عن خبائث المعاصي المانعة من الطهارة الحقيقية والوصول إلى المرتبة الإصلية. و { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } يوقنون ويذعنون بأسراره ومعارفه { بِٱلْغَيْبِ } أي: غيب الهوية الذي هو ينبوع بحر الحقيقة وإليه منتهى الكلم، وبعد ذلك يتوجهون بمقتضيات أحكامه نحوه، ويهدون إليه بسببه { وَيُقِيمُونَ } يديمون { ٱلصَّلٰوةَ } الميل بجميع الأعضاء والجوارح على وجه الخضوع والتذلل إلى جنابه؛ إذ هو المقصد للكل إجمالاً وتفصيلاً، ولكل عضو وجارحة تذلل خاص وله طريق مخصوص يناسبه، يرشدك إلى تفاصيل الطرق، فعله صلى الله عليه وسلم في صلاته على الوجه الذي وصل إلينا من الرواة المجتهدين - رضوان الله عليهم أجمعين - ولما تنبهوا له به بمتابعته ومالوا نحو جنابه بالميل الحقيقي بالكلية لم يبق لهم ميل إلى ما سواه من المزخرفات الفانية لذلك { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ } سقنا إليهم ليكون بقياً لحياتهم ومقوماً لمزاجهم { يُنْفِقُونَ } [البقرة: 3] في سبيلنا طلباً لمرضاتنا وهرباً عما يشغلهم عنا، فكيف إنفاق الفواضل؟. { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } ينقادون ويمتثلون { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } من الكتاب الجامع أسرار جميع ما أنزل من الكتاب السالفة على الوجه الأحسن الأبلغ، ومن السنن ومن الأخلاق الملهمة إليك { وَ } مع ذلك صريحاً يعتقدون { مَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين مع الإيمان بجميع الكتب المنزلة، وإن كان كل كتاب متضمناً للإيمان بالنشأة الآخرة بل هو المقصود الأصلي من جميعها { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة: 4] أفردها بالذكر؛ اهتماماً بشأنها لكثرة المرتابين فيها. { أُوْلَـٰئِكَ } أي: جزاء أولئك المؤمنون المتعقدون بجميع الكتب المنزلة على الرسل، والمؤمنون المذعنون بالنشأة الآخرة بل خاصة أنهم { عَلَىٰ هُدًى } عظيم { مِّن رَّبِّهِمْ } الذي رباهم بأنواع اللطف والكرم إلى أن يبلغوا إلى هذه المرتبة التي هي الاهتداء إلى جانب قدسه { وَ } مع ذلك الجزاء العظيم والنفع الجسيم { وَأُوْلَـٰئِكَ } السعداء { هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [البقرة: 5] الفائزون، الناجون عن مضائق الإمكان الواصلون إلى فضاء الوجوب، رزقنا الله الوصول إليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير حاشية الصاوي / تفسير الجلالين (ت1241هـ)
قوله: { ذَلِكَ } اسم الإشارة مبتدأ واللام للبعد والكاف حرف خطاب والكتاب نعت لاسم الإشارة أو عطف بيان وجملة لا ريب فيه خبر كما قال المفسر. قوله: (أي هذا) أشار بذلك إلى أن حق الإشارة أن يؤتى بها للقريب وسيأتي الجواب عنه. قوله: { ٱلْكِتَابُ } بمعنى المكتوب وهو القرآن، إن قلت إن القران قريب فلا يشار له بإشارة البعيد، أجاب المفسر بقوله والإشارة به للتعظيم، أي والقرآن وإن كان قريباً منا إلا أنه مرفوع الرتبة وعظيم القدر من حيث إنه منزه عن كلام الحوادث، وذلك كمناداة المولى سبحانه وتعالى بيا التي ينادي بها البعيد مع كونه اقرب إلينا من حبل الوريد، لكونه سبحانه منزها عن صفات الحوادث، فنزل تنزهه عن الحوادث منزلة بعدنا عنه، والكتاب في الأصل مصدر يطلق بمعنى الجمع. قوله: (الذي يقرؤه محمد) أي وهو القرآن احترز بذلك عن باقي الكتب السماوية. قوله: (لا شك) هذا أحد معاني ثلاثة والثاني النهمة والثالث القلق والاضطراب وكلها منزه عنها القرآن لخروجه عن طاقة البشر، قال تعالى:**{ قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ }** الآية [الإسراء: 88]. إن قلت إن قوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } خبر وهو لا يتخلف، مع أن بعض الكفار ارتاب فيه حيث قالوا: سحر وكهانة وأساطير الأولين إلى غير ذلك، أجيب بأجوبة أحسنها أن قوله: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ، أي لمن أذعن وأقام البرهان وتأمل، فلا ريب للعارفين المنصفين، وأما من عاند فلا يعتد به، (إن هم إلا كالإنعام بل هم أضل) ومنها أن معنى قوله: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا ينبغي أن يرتاب فيه لقيام الأدلة الواضحة على كونه من عند الله. ومنها أن المعنى { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي للمؤمنين، وأما الكافرون فلا يعتد بهم، فالجواب الأول عام، فمن تأمل لا يحصل له ريب مسلما أو كافراً أو جحده بعد ذلك عناداً، والجواب الثاني أنه نفي بمعنى النهي، والثالث خاص بالمسلم. قوله: (أنه من عند الله) بفتح الهمزة بدل من الضمير في قوله: { فِيهِ } ويدل على قوله تعالى في الآخرى { لاَ رَيْبَ فِيهِ } من { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }. قوله: (والإشارة به للتعظيم) تقدم أن هذا الجواب عن سؤال مقدر، إن قلت إنه لا يشار إلا المحسوس أو الإِشارة لما في المصاحف أو اللوح المحفوظ. قوله: { هُدًى } أي رشاد وبيان، وهو مصدر إما بمعنى اسم الفاعل وهو الذي اقتصر عليه المفسر أي مرشد ومبين، والاسناد له مجاز عقلي من الاسناد للسبب أو ذو هدى أو بولغ فيه حتى جعل نفس الهدى على حد: زيد عدل. قوله: { لِّلْمُتَّقِينَ } إن قلت إن القرآن هدى بمعنى مبين طريق الحق من الباطل للناس مؤمنهم وكافرهم فلم خص المتقين؟ أجيب بأنه خصهم بالذكر لكونهم انتفعوا بثمرته عاجلاً وآجلاً وهذا إن اريد به البيان حصل وصول للمقصود أم لا؟ وأما إن إريد به الوصول للمقصود فالتخصيص ظاهر، وأصل متقين متقيين استثقلت الكسرة على الياء الاولى فحذفت الياء فالتقى ساكنان حذفت الياء لالتقاء الساكنين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | قوله: (الصائرين إلى التقوى) اشار بذلك إلى أن في الكلام مجاز الأول أي المتقين في علم الله أومن يؤول إلى كونهم متقين، فهو جواب عن سؤال مقدر حاصله أنهم إذا كانوا متقين فهم مهتدون فلا حاجة له. قوله: (بامتثال الأوامر) يصح أن تكون سببية أو التصوير. وقوله: (واجتناب النواهي) عطف عليه، والمعنى أن امتثال الأوامر على حسب الطاقة واجتناب النواهي جميعها سبب للتقوى أو هي مصورة بذلك. قوله: (لاتقائهم) علة لتسميتهم متقين. وقوله: (بذلك) أي المذكور وهو امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وهذا إشارة إلى تقوى الخواص وتحتها تقوى العوام وهي تقوى الشرك وفوقها تقوى خواص الخواص وهي تقوى ما يشغل عن الله. قال العارف: | **ولو خطرت لي في سواك إرادة** | | **على خاطري يوماً حكمت بردتي** | | --- | --- | --- | والآية في حد ذاتها شاملة للمراتب الثلاث. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي/ الإمام أحمد بن عمر (ت618 هـ)
{ الۤـمۤ } [البقرة: 1]، قال الشيخ الإمام مصنف الكتاب رحمه الله: يحمل أن يكون { الۤـمۤ } وسائر الحروف المقطعة من قبيل المواضعات المعميات بالحروف بين المحبين لا يطلع عليها غيرهم، وقد وضعها الله مع نبيه صلى الله عليه وسلم في وقت لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ليتكلم بها معه على لسان جبريل عليه السلام بأسرار وحقائق لا يطلع عليها جبريل عليه السلام ولا غيره، يدل على هذا ما روي في الأخبار: **" أن جبريل عليه السلام لما نزل بقوله تعالى: { كۤهيعۤصۤ } [مريم: 1]، فلما قال: { كۤ } [مريم: 1]، قال: النبي علمت، فقال: { هـ } [مريم: 1]، فقال: علمت، فقال: { ي } [مريم: 1]، فقال: علمت، فقال: { عۤ } [مريم: 1]، فقال: علمت، فقال: { صۤ } [مريم: 1]، فقال: علمت، فقال جبريل عليه السلام: كيف علمت ما لم أعلم ".** وفي الحروف المقطعة إشارة إلى أن كلام الله تعالى لا يسعه الحروف والكلمات؛ لأن الكافر غير متناهٍ، والحروف والكلمات متناهية؛ وذلك لأن الصبيان يعلمون أولاً الحروف المقطعة الفارغة من معاني القرآن، ولكنها دالة على كلمات القرآن وبها يهتدى إلى قراءة القرآن، ثم يعلمونهم المركبات من الحروف، ثم يعلمون القرآن كلاماً وسوراً، فيفقهون منها المعاني كل واحد على قدر علمه، وفهمه ومعرفته وصدق نيته وصفاء طويته، ومواهب الحق في حقه؛ فيظن بعض الظانين منهم إذا انقطعت الكلمات والسور المعدودة أن كلام الله انقطع ومعانيه تناهت، فالله سبحانه وتعالى بكمال حكمته أنزل بعد الكلمات والسور الحروف المقطعة بعضها مركبة بالكتابة مقطعة بالقرآن مثل { الۤـمۤ } و { الۤر } وغيرها. وبعضها مفردة مقطعة بالكتابة والقرآن مثل { صۤ } و { قۤ } و { نۤ } ليعلموا أن كلام الله القديم والقرآن العظيم لا تحويه الكلمات المعدودة ولا تحصيه السور المحدودة، فإن الحروف المقطعة تدل على ما تدل عليه الكلمات من المعاني، والكلمات منحصرة معدودة ودلالة الحروف عليها غير منحصرة معدودة؛ لأن هذا يشير إلى أن الحروف المقطعة لو ركب بعضها بعضاً إلى الأبد لا ينقضي كلام الله تعالى، ولا يضيق نطاق نطق الحروف عن توسع محيط الكلام الأزلي؛ لأنه فرق ظاهر بين الحروف المقطعة وبين الحروف المحدثة جمعاً. والكلمات القائمة بالحروف المحدثة منحصرة، ومعاني الحروف القائمة بالكلام القديم غير متناهية ولا منحصرة لقوله تعالى:**{ قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً }** [الكهف: 109]، وفي الحروف المقطعة إشارة أخرى، وهي: أن المركبة بالكتابة تشير إلى أن إلباس كسوة الحروف المحدثة في الكلام القديم لقصور فهم الإنسان، والمفردة منها تشير إلى أن الله تعالى متكلم بكلام أزلي أبدي غير ذي عدد، وتجدد الآيات والكلمات والسور العربية والعبرية والسريانية إنما جعلت كسوة الكلام الفرداني المنزه ليفهم الخلق لقوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ }** [الشورى: 7]. قال الشيخ الإمام رحمه الله: والإشارة في تحقيق { الۤـمۤ } أن جميع ما ذكرنا في تفسير الفاتحة من طلب الهداية إلى حضرة الربوبية والخلاص من ظلمات الوجود والوصول إلى الوحدانية وإجابة الحق تعالى دعاء العبد في إفنائه عن حجاب أنانيته بشهود كشف هويته، والمودع في الفاتحة مناجاة بين العبد والرب، ولكل مناج موضع خاص للمناجاة كما كان الطور ميثاق مناجاة موسى عليه السلام لقوله تعالى:**{ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ }** [الأعراف: 143]. وكان المعراج مقام مناجاة نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:**{ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ }** [النجم: 9]، وكان مقام مناجاة المؤمنين الصلاة كما قال صلى الله عليه وسلم: **" الصلاة معراج المؤمن "** فكما أن الصلاة بغير فاتحة غير تامة، فكذلك من قرأ الفاتحة في غير الصلوات تكون مناجاته غير تامة وقد سمى الله فاتحة الكتاب صلاة، وقال: **" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين إلى قوله: ولعبدي ما سأل "** إذا قرأها في الصلاة وإذا تحققت هذا فاعلم أن هذه الصلاة التي ذكرت في القرآن ثلث القيام لقوله تعالى:**{ وَقُومُواْ للَّهِ قَٰنِتِينَ }** [البقرة: 238]. والركوع لقوله تعالى:**{ وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ }** [البقرة: 43]، والسجود لقوله تعالى:**{ وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب }** [العلق: 19]، فالألف إشارة إلى القيام، واللام إشارة الركوع، والميم إشارة إلى السجود، يعني: من قرأ فاتحة الكتاب التي هي مناجاة العبد مع الله في الصلاة التي هي معراج المؤمنين ليجيبه الله بالهداية التي طلب منه بقوله: { ٱهْدِنَا } فيكون له أم الكتاب هدى بلا شك، ولهذا قال عقيب: { الۤـمۤ \* ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } [البقرة: 1-2]، للغائب فلو كانت الإشارة بذلك الكتاب إلى القرآن تعالى هذا الكتاب { لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى } [البقرة: 2]، أي: أم القرآن إذا قرئت في الصلاة وناجى به العبد ربه، وسأل منه الهداية بقوله { ٱهْدِنَا } لا شك فيه أنه يهدي لما سأل؛ لأنه قال: ولعبدي ما سأل، منه هاهنا ما كان بالإشارة والتعريض لقوله { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ \* ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } [البقرة: 2-3]. وفي: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } إشارة أخرى أي: كتاب العهد الذي أخذ يوم الميثاق بإقرار العبد على التوحيد ليوم التلاق، يدل على هذا قرينة { الۤـمۤ } الألف واللام حرفان مقدمان من قوله**{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ }** [الأعراف: 172]، والميم المؤخر عنه الحرف الآخر من قوله: { بِرَبِّكُمْ } معناه في عهد:**{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ }** [الأعراف: 172]، أخذت منكم ذلك الكتاب في الميثاق على التوحيد في الربوبية وعلى العبودية بالعبادة لي دون غيري؛ لقوله تعالى:**{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ \* وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [يس: 60-61]، أي: هادياً إلى صراط مستقيم التوحيد والعبودية التي لا شرك فيها لغيري، وإلى محبتي للمتقين أي: للمؤمنين الموقنين يدل عليه ما بعده وهو قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } [البقرة: 3]، أي: يوقنون وقد شرط الله تعالى على الهداية بالتقوى قال: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2]، فالهداية تكون على قدر التقوى والتقوى على ثلاثة أوجه: تقوى العام عن الشرك والكفر والبدع، وتقوى الخاص عن الذنوب والعصيان، وتقوى الأخص عن ملاحظة غير الرحمن، فهداية العام بالإسلام والإيمان، وهداية الخاص بالإيقان والإحسان، وهداية الأخص بكشف الحجب ومشاهدة العيان ليتقي على نفسه بربه، كما قال تعالى:**{ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ }** [المائدة: 100]. والمتقون هم الذين أوفوا بعهد الله من ميثاقه ووصلوا بها ما أمر الله به أن يوصل به من مأمورات الشرع ظاهرة وباطناً وانقطعوا عما نهاهم الله عنه من منهيات الشرع ظاهراً وباطناً، يدل على هذا قوله تعالى:**{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }** [البقرة: 40]، إلى قوله**{ وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ }** [البقرة: 41]، معناه إذ أنتم أقررتم بربوبيتي بقولكم { بَلَىٰ } يوم الميثاق فأوفوا بعهدي الذي عاهدتموني عليه وهو العبودية الخالصة أوف بعهدكم الذي عاهدك عليه: الهداية إلي، وحقيقة التقوى الإعراض عن الدنيا والعقبى بالإقبال على المولى يؤمنون بالغيب؛ أي: بنور غيبتي وهو من الله في قلوبهم نظروا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فشاهد وصدقوا قوله وآمنوا به كما قال صلى الله عليه وسلم: **" المؤمن ينظر بنور الله "** واعلم أن الغيب غيبان، غيب غاب عنك وغيب غبت عنه، فالذي غاب عنك عالم الأرواح فإنه كان حاضراً حين كنت فيه بالروح وكذرَّة وجودك في**{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ }** [الأعراف: 172]. واستماع خطاب الحق ومطالعة آثار الربوبية وشهود الملائكة وتعاون الأرواح من الأنبياء والأولياء وغيرهم، فغاب عنك إذا تعلقت بالقلب، ونظرت بالحواس الخمس إلى المحسوسات عن عالم الأجسام، وأما الغيب الذي غبت عنه فغيب الغيب، وهو حضرة الربوبية قد غبت عنه بالوجود**{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ }** [الحديد: 4] أنت بعيد عنه وهو قريب منك، كما قال تعالى:**{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ }** [ق: 16]. وكذلك الإيمان مراتب؛ فأول مرتبة: تصديق القلب بحقائق الغيب بلا ريب، كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان "** ، وعلى ما أخبرنا أبو المظفر عبد الرحيم بن عبد الكريم السمعاني قال: أخبرنا أبو الحسن مسعود بن محمود الغانمي، قال: أخبرنا أبو القاسم بن أبي منصور الخليل، أخبرنا أبو القاسم علي بن محمد الخزاعي، أخبرنا الهيثم بن كليب الشاشي، ثنا أحمد عيسى بن أحمد العقلاني، أنا يزيد بن هارون، أنا كهمس بن الحسن عن عبد الله بن يزيد عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من تكلم في القدر - يعني بالبصرة - معبد الجهني، فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن نريد مكة، فقلنا: لو لقينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلسألنه عن القدر، فلقيناه عبد الله بن عمر، فالتقيته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فعلمت أنه سيكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر عندنا ناس يعتقدون هذا العلم ويطلبونه ويزعمون أن الأقدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت لهم فأخبرهم أني برئ منهم ومن ربهم براء، | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" والذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً، فأنفقه في سبيل الله ما قبل منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ".** ثم قال: حدثنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: **" كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، ما برئ عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فأقبل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبتيه تمس ركبتيه فقال: " يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإِسْلاَمُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِىَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً. قَالَ: صَدَقْتَ: قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِى عَنِ الإِيِمَانِ. قَالَ: " أَنْ تُؤْمِنَ بِالله، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ". قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ فأَخْبِرْنِى عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ: " أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ". قَالَ: فَأَخْبِرْنِى عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ: " مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ". قَالَ: فَأَخْبِرْنِى عَنْ أَمَارَتِهَا. قَالَ: " أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِى الْبُنْيَانِ ". قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ؛ فَلَبِثْتُ مَلِيّاً ثُمَّ قَالَ لِى: " يَا عُمَرُ أَتَدْرِى مَنِ السَّائِلُ؟ ". قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ، وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا في صورته هذه "** ، هذا حديث صحيح أخرجه مسلم، واتفقا على إخراجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وعلى ما أخبرنا المؤيد بن محمد بن علي المقري، أخبرنا العباس بن محمد الطوسي، أنا أبو محمد الناوي، ثنا الحسن بن علي إمام عصره، حدثني محمد بن سعيد قال: خبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد الخيري، أخبرنا أبو محمد بن علي السيد المحجوب حدثني بن علي ابن موسى الرضا حدثني إلى موسى بن جعفر، حدثني جعفر بن محمد الصادق، حدثني أبي محمد بن علي السجّاد، حدثني أبي علي بن الحسين زين العابدين، حدثني أبي الحسين بن علي سيد شباب أهل الجنة، حدثني أبي علي ابن أبي طالب سيد الأوصياء، حدثني محمد بن عبد الله سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **" الإيمان قول مقول، وعمل معمول، وعرفان بالعقول، واتباع الرسول ".** والمرتبة الثانية من الإيمان: أن تؤمن بغيب الغيب، ولهذا الإيمان مرتبتان: فالمرتبة الأولى: أن يتخلص قلبه بالنور الغيبي الذي هو من الله تعالى عن تعلقات الجسمانيات وحجب آفات النفس وصفاتها، ويهدي إلى عالم الأرواح كما كان أول العهد يوم الميثاق؛ فالغيب الروحاني لا يبقي له غيب؛ لأنه ارتفعت الحجب وصار حضوراً وشهوداً لقوله تعالى:**{ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ }** [التغابن: 11]، أي: من كان إيمانه بنور الله يهد قلبه إلى الله؛ فيشاهد القلب ما كان الروح يشاهده في عالم الأرواح، وما كانت الذرة تشاهده يوم الميثاق، ويسمع من خطاب الرب ما كانت تسمع، ويتنور بنور تنورت الذرة به، ويتنسم من نفحات ألطاف الحق ما تنسمت؛ فالإيمان الغيبي يصير عيناً؛ فيكتب الله تعالى الإيمان بنور غيب الغيب في قلبه، كما قال تعالى:**{ أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ }** [المجادلة: 22]، فيتنوَّر ذلك القلب لإيمان، ويتأيد ذلك الروح ويشاهد أنوار الفضل الإلهي فيشتاق شوق موسى بقوله لأهله:**{ ٱمْكُثُوۤاْ }** [طه: 10]، وهو الروح والجسم**{ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً }** [طه: 10]، فيرتقي عن عالم الأرواح ويقول:**{ لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى \* فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ }** [طه: 10-11]، من شاطئ وادي الإيمان، وهو حضائر القدس في البقعة المباركة، وهي القلب من الشجرة، وهي السر**{ أَن يٰمُوسَىٰ }** [القصص: 30]، وهو المحب المشتاق**{ إِنِّيۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ }** [القصص: 30]، الذي خلقت العالمين وربَّيتُ خواص عبادي بألبان المحبة عن ثدي**{ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }** [المائدة: 54]؛ " أنا المحبوب؛ فأين أنت يا محب؟! أنا المطلوب؛ فأين أنت يا طالب؟! ألا طال شوق الأبرار إلى لقائي، وأنا أشد شوقاً إلى لقاءهم ". فلما دارت كؤوس الملاطفات، وأقداح المكاشفات بين المحب والمحبوب جعل يتساكر المحب ويتخامر مع المحبوب بلسان الانبساط على بساط القرب يقول:**{ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ }** [الأعراف: 143]، ليصير الإيمان عياناً والغيب عيناً، نودي من سرادقات العزة: ما هذه العزة! ألم تعلم بأنه عالم الغيب وغيب الغيب فلا يظهر على غيبة أحداً، فإنك مع أحديتك لن تطيق شهود أحديتي، وإن أتجلى فإنك**{ لَن تَرَانِي }** [الأعراف: 143]، وإن لم تؤمن بأن مع تجلي أنانيتي لا يستقر أنانيته شيء**{ وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي }** [الأعراف: 143]، مع استقرار جبل أنانيتك على مكان وجودك**{ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ }** [الأعراف: 143]، للجبل**{ جَعَلَهُ }** [الأعراف: 143]، جبل أنانيته**{ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [الأعراف: 143]، نفس المحب عن الوجود**{ صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ }** [الأعراف: 143]، عن سكر شراب وجود الأنانية شاهد تحقيق قوله**{ لَن تَرَانِي }** [الأعراف: 143]، مع حجاب وجود الأنانية، فتاب عن ذنب الأنانية إليه، وآمن إيمان المرتبة الثانية الذي هو هويته، وقال:**{ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ }** [الأعراف: 143]، بأن هويتك غيب، لا يعلم الغيب إلا الله، فالإيمان بهذا الغيب يكون بقدر غيبوبة الأنانية بشهود غيب الغيب، وكلما ازداد غيبوبته ازداد إيمانه، والغيبة لا تحصل إلا بجذبات شواهد الغيب، وهي مودعة في إدامة إقامة الصلاة؛ فلهذا قال عقيب الذين يؤمنون بالغيب قوله: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } [البقرة: 3]، والغيب ما لا تدركه الحواس الخمس الظاهرة وتدركه الحواس الخمس الباطنة، وهي: العقل والقلب والروح والسر والخفي يدل عليه قوله تعالى:**{ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ }** [الأنعام: 73]، فالشهادة ما تدركه الحواس الخمس، وهي: السمع والبصر والذوق والشم واللمس، وما تدركه الحواس الباطنة فهو غيب، وهي الأمور الأخروية { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } [البقرة: 3]، أي: يديمونها. قال الشيخ: بداية الصلاة إقامة ثم إدامة؛ فإقامتها المحافظة عليها بمواقيتها، وإتمام ركوعها وسجودها وحدودها وحقوقها ظاهراً وباطناً، وكل شيء واظب على شيء وقام به فهو مقيم، يقال: أقام فلان حج الناس، وأقام القوم سيوفهم إذا استعملوها ولم يعطلوها، وإدامتها بدوام المراقبة وجميع التهمة في التعرض لنفحات ألطاف الربوبية التي هي مودعة فيها لقوله صلى الله عليه وسلم: **" إن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها "** ، وصورة التعرض والأمر بها صورة جذبة الحق بأن يجذب صورتك عن الاستعمال بغير العبودية، وسر الصلاة حقيقة التعرض، ففي كل شرط من شروط صورتها، وركن من أركانها، وسنة من سننها، وأدب من آدابها، وهيئة من هيئاتها سر يشير إلى حقيقة تعرض لها فمن شرائطها: الوضوء: ففي كل أدب وسنة وفرض منها سر يشير إلى طهارة يستعد بها لإقامة الصلاة. ففي غسل اليدين: إشارة إلى تطهير نفسك عن تلوث المعاصي، وتطهير قلبك عن تلطخ الصفات الذميمة الحيوانية والسبعية والشيطانية، كما قال تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم:**{ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ }** [المدثر: 4]، جاء في التفسير أي: قلبك فطهر. وغسل الوجه: إشارة إلى نضارة وجه همتك عن دنس حب الدنيا، فإنه رأس كل خطيئة وسنبين تمامه في موضعه إن شاء الله تعالى. ومن شرائط الصلاة استقبال القبلة، وفيه إِشارة إلى الإعراض عما سوى طلب الحق والتوجه إلى حضرة الربوبية لطلب القربة والمناجاة. ورفع اليدين: إشارة إلى رفع يد الهمة عن الدنيا والآخرة، والتكبير لتعظيم الحق بأنه أعظم من كل شيء في قلب العبد طلباً ومحبة وعظماً وعزة. ومقارنة النية مع التكبير: إشارة إلى أن صدق النية في الطلب ينبغي أن يكون مقروناً بتكبير الحق وتعظيمه في الطلب عن غيره فلا يطلب منه إلا هو، فإن طلب منه غيره فقد كبر وعظم ذلك المطلوب إلا الله تعالى، فلا تجوز صلاته الحقيقية كما لا تجوز صلاة الصورة إلا بتكبير الله، فإن الدنيا أكبر والعقبى أكبر، فلا تجوز حتى يقول الله أكبر، وكذلك في الحقيقة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وفي موضع اليمنى على اليسرى، ووضعهما على الصدر: إشارة إلى إقامة رسم العبودية بين يدي مالكه، وحفظ القلب عن محبة ما سواه. وفي افتتاح القراءة بوجهه إشارة إلى توجيهه للحق خالصاً عن شرك طلب غير الحق. وفي وجوب الفاتحة وقراءتها وعدم جواز الصلاة بدونها إشارة إلى حقيقة تعرض العبد في الطلب لنفحات ألطاف الربوبية بالحمد والثناء والشكر لرب العالمين، وطلب الهداية، وهي جذبة الإلهية التي توازي جذبة منها عمل الثقلين وتقرب العبد بنصف الصلاة المقومة بين العبد والرب نصفين. والقيام والركوع والسجود: إشارة إلى رجوعه إلى عالم الأرواح، ولكن الغيب كما جاء منه فأول تعلقه بهذا العالم كان بالنباتية ثم الحيوانية ثم بالإنسانية؛ فالقيام من خصائص الإنسان والركوع من خصائص الحيوان، والسجود من خصائص النبات كما قال تعالى:**{ وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ }** [الرحمن: 6]، وللعبد في كل مرتبة من هذه المراتب ربح وخسران، والحكمة في تعلق الروح العلوي النوراني بالجسد السفلي الظلماني كان هذا الربح؛ لقوله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: **" خلقت الخلق ليربحوا عليّ لا لأربح عليهم "** لتربح الروح في كل مرتبة من مراتب السفليات فائدة لم توجد في مراتب العلو، وإن كان قد ابتلي أولاً ببلاء الخسران كما قال تعالى:**{ وَٱلْعَصْرِ \* إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ \* إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ }** [العصر: 1-3]، فبنور الإيمان، وعمل صالح الصلاة يتخلص خسران التكبر والتجبر الإنساني الذي من خاصيته إن تكامل في الإنسان يظهر منه**{ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ }** [النازعات: 24]، ويفوز بربح علو الهمة الإنسانية التي إذ أكملت في الإنسان لا يلتفت إلى كون في طلب المكون كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم:**{ إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ \* مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ \* لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ }** [النجم: 16-18]، فإذا تخلص من تكبر الإنسان يرجع من القيام الإنساني إلى الركوع الحيواني للانكسار والخضوع؛ فالركوع يتخلص من خسران حالة الصفة الحيوانية، ويفوز بربح ليس الحادث، وتحمل الأذى والختم، ثم يرجع من الركوع الحيواني إلى السجود النباتي فبالسجود ويتخلص من خسران الذلة النباتية، والدناءات السفلية، ويفوز بربح الخشوع الذي يتضمن الفلاح الأبدي والفوز العظيم السرمدي. كما قال تعالى:**{ قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ \* ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ }** [المؤمنون: 1-2]، فالخشوع أكمل آلة للروح في العبودية قد حصل في تعلقه بالجسد الترابي ليس لأحد من العالمين هذا الخشوع، وبهذا السر أبين الملائكة وغيرهم أن يحمل الأمانة وأشفقن منها وحملها الإنسان باستعداد الخشوع، وكمل خشوعه بالسجود؛ إذ هو غاية التذلل في صورة الإنسان وهيئة الصلاة ونهاية قطع تعلق الروح من العالم السفلي وعروجه إلى العالم الروحاني العلوي برجوعه من مراتب الإنسانية الحيوانية والنباتية، وكمال التعرض لنفحات ألطاف الحق وبذل المجهود وإنفاق الموجود في أنانية الوجود الذي هو من شرط المصلين؛ كقوله تعالى: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [البقرة: 3]، أي: من أوصاف الوجود ينفقون يبذلون للحق النصف المقسوم بين العبد والرب، فإذا بلغ السيل زباه والتعرض منتهاه أدركته العناية الأزلية بنفحات ألطافه، وهداه إلى درجات قرباته، فكما كانت جذبة الحق سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة خطاب؛ إذن فجذبة الحق للمؤمن تكون في صورة خطاب: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب }** [العلق: 19]، ففي التشهد بعد السجود إشارة إلى الخلاص من حجب الأنانية والوصول إلى شهود جمال الحق بجذبات الربانية؛ ثم بالتحيات مراتب رسول العباد في الرجوع إلى حضرة الملوك بمراسم تحفة الحق الثناء، والتحنن إلى اللقاء. وفي التسليم عن اليمين والشمال إشارة إلى السلام على الدارين وعلى كل داع جاهل يدعوه عن اليمين إلى النعيم الجنان، وعن الشمال إلى الشهوات واللذات، وهو مقام المناجاة والدرجات والقربات مستغرقاً في بحر الكرامات مقيداً بقيد الجذبات؛ كما قال تعالى:**{ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً }** [الفرقان: 63]، فأهل الصورة بالسلام يخرجون من إقامة الصلاة، وأهل الحقيقة بالسلام يدخلون في إدامة الصلاة؛ لقوله تعالى:**{ ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ }** [المعارج: 23]، فقوم يقيمون الصلاة، ويحافظون عليها، وقوم يديمون الصلاة والصلاة تحفظهم؛ كما قال تعالى:**{ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ }** [العنكبوت: 45]، فهم { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [البقرة: 3]، يؤمنون بما لهم في الغيب معد لقوله تعالى: **" أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أّذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ".** فعلموا إنما هو المعد لهم لا تدركه الأبصار ولا الآذان ولا القلوب التي رزقهم الله تعالى، وليس بينهم وبين ما هو المعد لهم حجاب إلا وجودهم وأوصاف وجودهم، فاشتاقوا إلى نار تحرق عليهم حجاب وجودهم، فأنسوا من جانب طور صلواتهم ناراً؛ لأن صلواتهم بمثابة الطور للمناجاة والصلاة؛ قيل: اشتقاقها من الصلاة، وهي النار قاله الخراز، وفي قوله تعالى:**{ فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [النمل: 8]، فجعلوا ما رزقهم الله تعالى من أوقاف الوجود حطب نار الصلاة ينفقون عليها، ويقيمون الصلاة حتى تؤدوا حق أنتم، وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها وارداً، ومن لم يكن ناراً أتحرق على نار جهنم الصلاة حطب وجوده، ووجود كل من يعبد من دون الله؛ فلا بد له من الحرقة بنار جهنم الآخرة، والفرق بين النارين: أن نار الصلاة: تحرق لب وجودهم الذي به محجوبون عن الله تعالى، وتبقي وجوههم وهو الصلاة، والحجاب من لب الوجود لا من جلده، وهذا شر عظيم لا يطلع عليه إلا أولو الألباب المحرقة، ونار جهنم: تحرق جلود وجود وجوههم، وتبقي لب وجودهم لا جرم ولا رفع الحجب عنهم | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ }** [المطففين: 15]؛ لأن اللب باق والجلد وإن احترق بنية اللب كما قاله تعالى:**{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا }** [النساء: 56]، فمن أتقن لب الوجود، وما بينا منه لب الوجود من المال والجاه في سبيل نار الصلاة والقربة إلى الله تعالى ينفق الله عليه، وجود نار الصلاة كما قال تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم: **" أنفق أنفق عليك "** فبقي بنار الصلاة بلا أنانية الموجود فتكون صلاته دائمة بفوز نار الصلاة يؤمن بما أنزل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة: 4] أي: لما كشف عن المؤمنين حجب أنانية الوجود ونظروا بنور نار الصلاة أبصروا ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي صورة، وما ابتلي حقيقة، وهو (أوحى إلى عبد ما أوحى)؛ فعرفوا حقيقته فآمنوا به وبما أنزل على الأنبياء قبله كما قاله تعالى في حق قوم:**{ سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ }** [المائدة: 83]، فبنور العناية عرفوا الحقيقة فآمنوا به**{ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ }** [المائدة: 83]، ومن تخلص عن ذل الحجب يجد عزة الإيقان بالأمور الأخروية، وكان مؤمناً بها من وراء حجاب صار موقناً بها بعد رفع الحجاب؛ كما قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه: " لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً "؛ لأنه قد كشف عنه الغطاء الوجودي فلا يحجب غطاء المحسوسات الدنيوية عن أمور الأخروية، فبكشف الحجب يتخلصون عن مرتبة الإيمان إلى مرتبة الإيقان، كما قال تعالى: { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة: 4]، ولكن هذا خاص أن يوقنوا بالآخرة دون ما أنزل على الأنبياء من الكتب، فإنهم لا يتخلصون عن مرتبة الإيمان بالله، وكتبه أبداً، وهذا سر عظيم، وما رأيت أحداً فرق بين هاتين المرتبتين؛ وذلك لأنه يمكن للإنسان أن يشاهد الأمور الأخروية كلها إما بطريق الكشف في الدنيا، وإما بطريق المشاهدة في الدنيا، وإما بطريق المشاهدة في العقبى؛ فيصير موقناً بها بعد ما كان مؤمناً كما قال تعالى:**{ فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ }** [ق: 22]. فأما ما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته ولا يمكن لأحد أن يشاهده بالكلية؛ لأنه منزه عن الكل والجزء فأرباب المشاهدات، وإن فازوا بشهادة شهود صفات جماله وجلاله عين اليقين؛ بل حق اليقين ولكن لم يتخلصوا عن مرتبة الإيمان بما شاهدوا بعد، | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً }** [طه: 110] إلى الآباء،**{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ }** [البقرة: 255]. { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [البقرة: 5]، ذكر هدى بالنكرة أي: على كشف من كشوف ربهم ونور من أنواره، وسر من أسراره، ولطف من ألطافه، وحقيقة من حقائقه؛ فإن جميع ما أنعم الله به على أنبيائه وأوليائه بالنسبة إلى ما عنده من كمال ذاته وصفاته وإنعامه وإحسانه؛ فقطرة من بحر محيط لا يعتريه القصور من الانفاق أبداً؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: **" يَمِينُ اللهِ مَلأَى لاَ تَغِيظُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ "** وفيه إشارة لطيفة وهي: بذلك الهدى آمنوا { بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة: 4]، { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [البقرة: 5]، يعني الذين يخلصون عن حجب الوجود بنور نار الصلاة، وشاهدوا بالآخرة وجذبتهم العناية بالهداية إلى مقامات القربة، وسرادقات العزة فما نزلوا بمنزل دون لقائه، وما حطوا رحالهم إلا بعنايته، فازوا بالسعادة العظمى والمملكة الكبرى، ونالوا الدرجة العليا وحققوا قول الحق**{ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ }** [العلق: 8]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ)
تقدم الكلام على البسملة. وأما الحروف المقطَّعة في أوائل السور، فالأسلم فيها، السكوت عن التعرض لمعناها [من غير مستند شرعي] مع الجزم بأن الله تعالى لم يُنزلها عبثاً بل لحكمة لا نعلمها. وقوله { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة، المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم، والحق المبين، فـ { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ولا شكَّ بوجهٍ من الوجوه، ونفيُ الرَّيب عنه، يستلزم ضده، إذ ضدَّ الريب والشك اليقينُ، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشكُّ والرَّيب، وهذه قاعدة مفيدة أن النفي المقصود به المدح لا بد أن يكون متضمناً لضده، وهو الكمال، لأن النفي عدم، والعدم المحضُ لا مدح فيه. فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال: { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } ، والهدى: ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة، وقال: { هُدًى } وحذف المعمول، فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية، ولا للشيء الفلاني، لإرادة العموم، وأنه هدى لجميع مصالح الدارين، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية، ومُبينٌ للحق من الباطل، والصحيح من الضعيف، ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم في دنياهم وأُخراهم. وقال في موضع آخر:**{ هُدًى لِّلنَّاسِ }** [البقرة: 185] فعمَّم، وفي هذا الموضع وغيره { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } لأنه في نفسه هدى لجميع الخلق، فالأشقياء لم يرفعوا به رأساً، ولم يقبلوا هدى الله، فقامت عليهم به الحجة، ولم ينتفعوا به لشقائهم، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر لحصول الهداية وهو التقوى التي حقيقتها: اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه بامتثال أوامره واجتناب النواهي، فاهتدوا به، وانتفعوا غاية الانتفاع، قال تعالى:**{ يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً }** [الأنفال: 29] فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية والآيات الكونية. ولأن الهداية نوعان: هداية البيان، وهداية التوفيق، فالمتقون حصلت لهم الهدايتان، وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق، وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها ليست هداية حقيقية [تامة]. ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة، لتضمن التقوى لذلك، فقال: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } حقيقة الإيمان: هو التصديق التَّام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر، إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نَره ولم نُشاهده، وإنما نؤمن به لخبر الله وخبر رسوله، فهذا الإيمان الذي يُميَّز به المسلم من الكافر، لأنه تصديق مجرد لله ورسله، فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده أو لم يشاهده، وسواء فهمه وعقله أو لم يهتد إليه عقلُه وفهمه، بخلاف الزنادقة والمكذِّبين بالأمور الغيبية لأن عقولهم القاصرة المُقصِرة لم تهتدِ إليها، فكذبوا بما لم يُحيطوا بعلمه، ففسدت عقولهم، ومَرَجتْ أحلامُهم، وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | ويدخل في الإيمان بالغيب [الإيمان بـ] جميعُ ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها، [وما أخبرت به الرسل من ذلك] فيؤمنون بصفات الله ووجودها، ويتيقنونها وإن لم يفهموا كيفيتها. ثم قال: { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } لم يقل: يفعلون الصلاة، أو يأتون بالصلاة، لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة، فإقامة الصلاة، إقامتها ظاهراً بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها، وإقامتها باطناً بإقامة روحها، وهو حضور القلب فيها، وتدبر ما يقوله ويفعله منها، فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها:**{ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ }** [العنكبوت: 45] وهي التي يترتَّب عليها الثواب، فلا ثواب للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها، ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها. ثم قال: { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة، والنفقة على الزوجات والأقارب والمماليك، ونحو ذلك، والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير، ولم يذكر المنفق عليه، لكثرة أسبابه وتنوع أهله، ولأن النفقة من حيث هي قربة إلى الله، وأتى بـ " من " الدالة على التبعيض، لينبههم أنه لم يُرد منهم إلا جزءاً يسيراً من أموالهم، غير ضارٍ لهم ولا مُثقل، بل ينتفعون هم بإنفاقه، وينتفع به إخوانهم. وفي قوله: { رَزَقْنَاهُمْ } إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم، ليست حاصلة بقوتكم وملككم، وإنما هي رزق الله الذي خوَّلكم، وأنعم به عليكم، فكما أنعم عليكم وفضَّلكم على كثير من عباده، فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم، وواسوا إخوانكم المُعدِمِين. وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن، لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود، والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود، وسعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه، فلا إخلاص ولا إحسان. ثم قال: { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } وهو القرآن والسنة، قال تعالى:**{ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ }** [النساء: 113] فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول، ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه، فيؤمنون ببعضه، ولا يؤمنون ببعضه، إما بجحده أو تأويله على غير مراد الله ورسوله، كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة، الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم، بما حاصله عدم التصديق بمعناها، وإن صدقوا بلفظها، فلم يؤمنوا بها إيماناً حقيقياً. وقوله: { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } يشمل الإيمان بالكتب السابقة، ويتضمن الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه، خصوصا التوراة والإنجيل والزبور، وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بجميع الكتب السماوية، وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | ثم قال: { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } ، و " الآخرة " اسم لما يكون بعد الموت، وخصَّه [بالذكر] بعد العموم، لأن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان ولأنه أعظم باعث على الرَّغبة والرهبة والعمل، و " اليقين " هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك، الموجب للعمل. { أُوْلَـٰئِكَ } أي: الموصوفون بتلك الصفات الحميدة { عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } أي: على هدى عظيم، لأن التنكير للتعظيم، وأيُّ هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المستقيمة، وهل الهداية [الحقيقية] إلا هدايتهم، وما سواها [مما خالفها]، فهو ضلالة. وأتى بـ " على " في هذا الموضع، الدَّالة على الاستعلاء، وفي الضلالة يأتي بـ " في " كما في قوله:**{ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }** [سبأ: 24] لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى، مرتفع به، وصاحب الضلال منغمس فيه محتَقر. ثم قال: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } والفلاح [هو] الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، حصَرَ الفلاح فيهم لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم، وما عدا تلك السبيل فهي سبل الشقاء والهلاك والخسار التي تفضي بسالكها إلى الهلاك، فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقاً، ذكر صفات الكفَّار المُظهرين لكفرهم، المعاندين للرسول، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ... }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير تفسير عبد الرزاق الصنعاني مصور /همام الصنعاني (ت 211 هـ)
16ـ عبد الرزّاق، قال أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله تعالى: { لاَ رَيْبَ فِيهِ }: [الآية: 2]، يقول: " لا شكَّ فيه ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ)
أي: هذا القرآن لا شك أنه من عند الله تعالى كما قال تعالى في السجدة:**{ الۤـمۤ \* تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [السجدة: 1-2]. قال بعض المحققين: اختصاص ذلك بالإشارة للبعيد حكم عرفيّ لا وضعي، فإن العرب تعارض بين اسمي الإشارة. فيستعملون كلاً منهما مكان الآخر، وهذا معروف في كلامهم. وفي التنزيل من ذلك آيات كثيرة. ومن جرى على أن ذلك إشارة للبعيد يقول: إنما صحت الإشارة بذلك، هنا إلى ما ليس ببعيد، لتعظيم المشار إليه، ذهاباً إلى بُعد درجته وعلوّ مرتبته ومنزلته في الهداية والشرف. والريب في الأصل: مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة. وحقيقتها: قلق النفس واضطرابها. ثم استعمل في معنى الشك مطلقاً، أو مع تهمة؛ لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة. وفي الحديث: **" دع ما يريبك إلى ما لا يَريبُك ".** ومعنى نفيه عن الكتاب: أنه في علوّ الشأن، وسطوع البرهان، بحيث ليس فيه مظنة أن يُرتاب في حقيقته، وكونه وحياً منزلاً من عند الله تعالى. والأمر كذلك؛ لأن العرب، مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية، عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن. وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه، لا أنه لا يرتاب فيه أحد أصلا. { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } أي: هادٍ لهم ودال على الدين القويم المفضي إلى سعادتي الدارين. قال الناصر في الانتصاف: الهدى يطلق في القرآن على معنيين: أحدهما: الإرشاد وإيضاح سبيل الحق. ومنه قوله تعالى:**{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ }** [فصلت: 17]، وعلى هذا يكون الهدى للضالّ باعتبار أنه رشد إلى الحق، سواء حصل له الاهتداء أو لا. والآخر: خلق الله تعالى الاهتداء في قلب العبد، ومنه:**{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ }** [الأنعام: 90]. فإذا ثبت وروده على المعنيين فهو في هذه الآية يحتمل أن يراد به المعنيان جميعاً. وعلى الأول، فتخصيص الهدى بالمتقين للتنويه بمدحهم حتى يتبين أنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به، كما قال تعالى:**{ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَٰهَا }** [النازعات: 45]. وقال:**{ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ }** [يس: 11]. وقد كان صلى الله عليه وسلم منذراً لكل الناس، فذكر هؤلاء لأجل أنهم هم الذين انتفعوا بإنذاره. وهذه الآية نظير آية:**{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }** [فصلت: 44]،**{ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }** [الإسراء: 82]. وكقوله تعالى:**{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ }** [يونس: 57]. إلى غير ذلك، مما دلّ على أن النفع به لا يناله إلا الأبرار، والمراد بالمتقين - هنا - من نعتهم الله تعالى بقوله: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ... }. \_@\_ | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تفسير المنار / محمد رشيد بن علي رضا (ت 1354هـ)
{ الۤـمۤ } هو وأمثاله أسماء للسور المبتدأة به، ولا يضرّ وضع الاسم الواحد كـ (الم) لعدّة سور؛ لأنّه من المشترك الذي يعيّن معناه اتّصاله بمسمّاه. وحكمة التسمية والإختلاف في (ألم) و (ألمص) نفوّض الأمر فيها إلى المسمّى سبحانه وتعالى. [ويسعنا في ذلك ما وسع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم، وليس من الدين في شيء أن يتنطَّع متنطِّع فيخترع ما يشاء من العلل، التي قلّما يسلم مخترعها من الزلل]. هذا ملخّص ما قاله شيخنا الأستاذ الإمام. وأقول الآن: أوّلاً: إنّ هذه الحروف تقرأ مقطّعة بذكر أسمائها لا مسمّياتها، فنقول: ألف، لام، ميم؛ ساكنة الأواخر لأنّها غير داخلة في تركيب الكلام فتعرب بالحركات. ثانياً: إنّ عدم إعرابها يرجّح أنّ حكمة افتتاح بعض السور المخصوصة بها؛ للتنبيه لما يأتي بعدها مباشرة من وصف القرآن، والإشارة إلى إعجازه؛ لأنّ المكّيّ منها كان يتلى على المشركين للدعوة إلى الإسلام، ومثل هذه السورة وما بعدها لدعوة أهل الكتاب إليه وإقامة الحجج عليهم به، وسيأتي توضيح ذلك بالتفصيل في تفسير أوّل سورة { ألمص - الأعراف }. ثالثاً: اقتصر على جعل حكمتها الإشارة إلى إعجاز القرآن بعض المحقّقين من علماء اللغة وفنونها، كالفرّاء وقطرب والمبرّد والزمخشريّ، وبعض علماء الحديث، كشيخ الإسلام أحمد تقيّ الدين ابن تيميّة، والحافظ المزّي. وأطال الزمخشريّ في بيانه وتوجيهه بما يراجع في " كشّافه " ، وفي " تفسير البيضاويّ " وغيره. رابعاً: إنّ أضعف ما قيل في هذه الحروف وأسخفه: إنّ المراد بها الإشارة بأعدادها في حساب الجمل إلى مدّة هذه الأمّة، أو ما يشابه ذلك. وروى ابن إسحاق حديثاً في ذلك عن بعض اليهود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف من رواية الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس عن جابر بن عبد الله. خامساً: يقرب من هذا ما عنى به بعض الشيعة من حذف المكرّر من هذه الحروف، وصياغة جمل ممّا بقي منها في مدح علي المرتضى (كرم الله وجهه)، أو تفضيله وترجيح خلافته. وقوبلوا بجمل أُخرى مثلها تنقض ذلك كما وضّحناه في مقالاتنا (المصلح والمقلّد). سادساً: إنّه لا يزال يوجد في الناس - حتّى علماء التاريخ واللغات منهم - من يرى أنّ في هذه الحروف رموزاً إلى بعض الحقائق الدينيّة والتاريخيّة ستظهره الأيّام. { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } الكتاب: بمعنى المكتوب، وهو اسم جنس لما يكتب، والمراد بالكتاب: هذه الرقوم والنقوش ذات المعاني. والإشارة تفيد التعيين الشخصيّ أو النوعيّ. وليس المراد هنا نوعاً من أنواع الكتب، بل المراد كتاب معروف معهود للنبيّ صلى الله عليه وسلم بوصفه. وذلك العهد مبنيّ على صدق الوعد من الله بأنّه يؤيّده بكتاب [تامّ كامل كافل لطلاب الحقّ بالهداية والإرشاد، في جميع شؤون المعاش والمعاد] فأشار بذلك إليه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولا يضرّ أنّه لم يكن موجوداً [كلّه وقت نزول أمثال هذه الإشارة، فقد يكفي في صحتها وجود البعض. وقد كان نزل من القرآن جملة عظيمة قبل نزول أوّل هذه السورة وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بكتابتها فكتبت وحفظت، فالإشارة إليها إشارة إليه]، بل يكفي في صحّة الإشارة أن يشار إلى سورة البقرة نفسها؛ لأنّه يصحّ فيها وصف { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } والأوّل أشبه. والإشارة إلى الكتاب كلّه عند نزول بعضه إشارة إلى أنّ الله تعالى منجز وعده للنبيّ صلى الله عليه وسلم بإكمال الكتاب كلّه. ومن حكمة الإشارة إليه بهذا الكتاب (أي المكتوب المرقوم) أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بكتابته دون غيره فهو الكتاب وحده، ولا يضرّ أنّه عند النزول لم يكن مكتوباً بالفعل لأنّك تقول: أنا أملي كتاباً، أو هلمّ أملي عليك كتاباً. والإشارة البعيدة بالكاف يراد بها: بعد مرتبته في الكمال وعلوّها عن متناول قريحة شاعر أو مقول خطيب قوّال. والبعد والقرب في الخطاب الإلهيّ إنّما هو بالنسبة إلى المخلوقين، ولا يقال: إنّ شيئاً بعيداً عنه تعالى أو قريباً منه في المكان الحسّيّ؛ لأنّ كلّ الأشياء بالنسبة إليه تعالى سواء. وإنّما القرب منه والبعد عنه تعالى معنويّ، وهو أقرب إلينا من أنفسنا بعلمه. { لاَ رَيْبَ فِيهِ } الريب والريبة: الشكّ والظنّة (التهمة)، والمعنى: إنّ ذلك الكتاب مبرّأ من وصمات العيب، فلا شكّ فيه، ولا ريبة تعتريه، لا من جهة كونه من عند الله تعالى، ولا في كونه هادياً مرشداً. ويصحّ أن يقال: إنّه في قوّة آياته، ونصوع بيّناته، بحيث لا يرتاب عاقل منصف، وغير متعنّت ولا متعسّف، في كونه هداية مفاضة من سماء الحقّ، مهداة إلى الخلق، على لسان أمّيّ لم يسبق له قبله الاشتغال بشيء من علومه، ولا الإتيان بكلام يقرب منه في بلاغته، ولا في أسلوبه حتّى بعد نبوّته، - ولهذا قال فيما يأتي قريباً:**{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ }** [البقرة: 23] وحاصله: إنّه كذلك في كلٍّ من نظمه وأسلوبه وبلاغته، ومن معانيه وعلومه وتأثيره في الهداية - لا يمكن أن توجّه إليه الشبهة، أو تحوم الريبة، سواء أشكّ في ذلك أحدٌ بجهالته وعمى بصيرته، أو بتكلّفه ذلك عناداً أو تقليداً، أم لا. { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } خبر بعد خبر، والهدى: مصدر - في الأصل - كالتقى والسرى. والمراد بالهداية هنا الدلالة على الصراط المستقيم، مع المعونة الخاصّة والأخذ باليد على ما تقدّم في تفسير المراد من**{ ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ }** [الفاتحة: 6]؛ لأنّ كونه هادياً للمتّقين بالفعل، غير كونه هادياً دالاًّ لسائر الناس، من غير مراعاة أخذهم بدلالته، واستقامتهم على طريقته. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكلمة " المتّقين ": من الإتّقاء، والاسم: التقوى. وأصل المادة: وقى يقي. والوقاية معروفة المعنى، وهو: البُعد أو التباعد عن المضرّ أو مدافعته، ولكن نجد هذا الحرف مستعملا بالنسبة إلى الله تعالى كقوله:**{ وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ }** [البقرة: 41]**{ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ }** [البقرة: 194]**{ وٱتقون يٰأولي ٱلألباب }** [البقرة: 197]**{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }** [البقرة: 189] فمعنى اتّقاء الله تعالى: اتّقاء عذابه وعقابه، وإنّما تضاف التقوى إلى الله تعالى تعظيماً لأمر عذابه وعقابه. وإلاَّ فلا يمكن لأحد أن يتّقي ذات الله تعالى ولا تأثير قدرته، ولا الخضوع الفطريّ لمشيئته. ومدافعة عذاب الله تعالى تكون بإجتناب ما نهى، واتباع ما أمر، وذلك يحصل بالخوف من العذاب ومن المعذِّب. فالخوف يكون ابتداءً من العذاب، وفي الحقيقة من مصدره، فالمتّقي: هو من يحمي نفسه من العقاب - ولا بدّ في ذلك أن يكون عنده نظر ورشد يعرف بهما أسباب العقاب والآلام فيتّقيها. وأقول الآن: إنّ العقاب الإلهيّ الذي يجب على الناس اتّقاؤه قسمان: دنيويّ، وأخرويّ. وكلّ منهما يتّقى باتّقاء أسبابه، وهي نوعان: مخالفة دين الله وشرعه، ومخالفة سنته في نظام خلقه. فأمّا عقاب الآخرة فيتّقى بالإيمان الصحيح، والتوحيد الخالص، والعمل الصالح، واجتناب ما ينافي ذلك من الشرك والكفر والمعاصي والرذائل، وذلك مبيّن في كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأفضل ما يستعان به على فهمهما واتباعهما: سيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأوّلين من آل الرسول وعلماء الأمصار. وأمّا عقاب الدنيا فيجب أن يستعان على اتّقائه بالعلم بسنن الله تعالى في هذا العالم، ولا سيّما سنن اعتدال المزاج وصحّة الأبدان - وأمثلتها ظاهرة - وسنن الإجتماع البشريّ، فإتّقاء الفشل والخذلان في القتال يتوقّف على معرفة نظام الحرب وفنونها، وإتقان آلاتها وأسلحتها، التي ارتقت في هذا العصر إرتقاءً عجيباً. وهو المشار إليه بقوله تعالى:**{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ }** [الأنفال: 60] كما يتوقّف على أسباب القوّة المعنويّة من إجتماع الكلمة، وإتّحاد الأمّة، والصبر والثبات، والتوكّل على الله واحتساب الأجر عنده:**{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ \* وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ }** [الأنفال: 45-46]. ونحن نبيّن معنى التقوى في القرآن في كلّ موضوع بما يناسبه، كالتّقوى في الأكل من الطيّبات في سورة المائدة (91) ومثله في سياق تحريم الخمر منها (آية 90) وغير ذلك فيراجع كلّ شيء في موضعه. وقال شيخنا في بيان المراد بهؤلاء المتّقين ما معناه: كان من الجاهليّين مَنْ مقت عبادة الأصنام، وأدرك أنّ فاطر السماوات والأرض لا يرضيه الخضوع لها، وأنّ الإله الحقّ يحبّ الخير، ويبغض الشرّ، فكان منهم من اعتزل الناس لذلك. وكانوا لا يعرفون من عبادة الله إلاَّ الإلتجاء والإبتهال وتعظيم جانب الربوبيّة - وذلك ما كان يسمّى صلاةً في لسانهم - وبعض الخيرات التي يهتدي إليها العقل في معاملات الخلق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكان من أهل الكتاب من وصفهم الله تعالى بمثل قوله:**{ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ٱللَّهِ آنَآءَ ٱللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ \* يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـٰئِكَ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ }** [آل عمران: 113-114] وبقوله:**{ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ \* وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ }** [المائدة: 82-83] فأمثال هؤلاء من الفريقين هم المراد بالمتّقين. ولا حاجة إلى تخصيص ما جاء في وصفهم بالمؤمنين منهم بعد الإسلام، أو بالمسلمين، بل أولئك هم الذين كان في قلوبهم اشمئزاز ممّا عليه أقوامهم، وفي نفوسهم شيء من التشوف إلى هداية يهتدون بها، ويشعرون باستعدادهم لها، إذا جاءهم شيء من عند الله تعالى. فالمتّقون في هذه الآية - إذن - هم الذين سلمت فطرتهم فأصابت عقولهم ضرباً من الرشاد، ووجد في أنفسهم شيء من الإستعداد لتلقّي نور الحقّ يحملهم على توقّي سخط الله تعالى والسعي في مرضاته، بحسب ما وصل إليه علمهم، وأداهم إليه نظرهم واجتهادهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تفسير القرآن العزيز/ ابن أبي زمنين (ت 399هـ)
قوله عز ذكره { الۤـمۤ } قال يحيى كان الحسن يقول ما أدري ما تفسير { الۤـمۤ } و**{ الۤر }** [يونس: 1] و**{ الۤمۤصۤ }** [الأعراف: 1] وأشباه ذلك من حروف المعجم غير أن قوما ل من المسلمين كانوا يقولون أسماء السور وفواتحها. قال محمد وذكر ابن سلام في تفسير { الۤـمۤ } وغير ذلك من حروف المعجم التي في أوائل السور تفاسير غير متفقة في معانيها وهذا الذي ذكره يحيى عن الحسن والله أعلم وقد سمعت بعض من أقتدي به من مشايخنا يقول إن الإمساك عن تفسيرها أفضل. { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } يعني هذا الكتاب لا شك فيه { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } الذين يتقون الشرك { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } يعني يصدقون بالبعث والحساب والجنة والنار في تفسير قتادة { وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } يعني الصلوات المفروضة يتمونها على ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل صلاة منها { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } يعني الزكاة المفروضة على سنتها أيضا { وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } يعني القرآن { وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } يعني التوراة والإنجيل والزبور يصدقون بها ولا يعملون إلا بما في القرآن { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } بيان من ربهم { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } السعداء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير تذكرة الاريب في تفسير الغريب/ الامام ابي الفرج ابن الجوزي (ت 597 هـ)
والريب الشك | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير البرهان في تفسير القرآن/ هاشم الحسيني البحراني (ت 1107هـ)
310/ [1]- أبو الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم، قال: حدثني أبي، عن يحيى بن أبي عمران، عن يونس، عن سعدان بن مسلم، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " الكتاب: علي (عليه السلام) لا شك فيه ". { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } قال: " بيان لشيعتنا ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
* تفسير الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم / تفسير الكازروني (ت 923هـ)
{ ذَلِكَ } هذا { ٱلْكِتَابُ } القرآن المكتوب، ويجوز اتحاد المشار إليه وبه، إذا لوحظ ضمناً مثل ذلك، وقد مر له معنى آخر أي: في بيان ربط السورتين منه { لاَ رَيْبَ } أي لا شك { فِيهِ } أي: في أنه من الله لو تأمل فيه عاقل { هُدًى } دلالة عظيمة إلى الحق { لِّلْمُتَّقِينَ } الصائرين إلى التقوى، وهي: فرط الصيانة، وشرعاً: وقاية النفس عما يضرها في الأخرةِ. ومراتبها ثلاث: التوقي عن العذاب المخلد، ثُمَّ عَنْ كُلِّ مأثم ثم عما يشغل السر عن الحق. ومن الأولى:**{ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ }** [الفتح 26]، وَمن الثانية:**{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ }** [الأعراف: 96]، الآية ومن الثالثة:**{ حَقَّ تُقَاتِهِ }** [ال عمران: 102]. وخصهم لأنهم المنتفعون به، بل غيرهم يَضلُّ به كغذاء صالح يزيد صحة الصحيح وسُقْم السقيم، كما أفادتْهُ آية:**{ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ }** [الاسراء: 82]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ)
قال أبو جعفر: اختلفت تراجمة القران فـي تأويـل قول الله تعالـى ذكره: { الۤـمۤ } فقال بعضهم: هو اسم من أسماء القران. ذكر من قال ذلك: حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: الـم قال: اسم من أسماء القران. حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم الآملـي، قال: حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قال: { الۤـمۤ } اسم من أسماء القران. حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج قال: { الۤـمۤ } اسم من أسماء القرآن. وقال بعضهم: هو فواتـح يفتـح الله بها القرآن. ذكر من قال ذلك: حدثنـي هارون بن إدريس الأصم الكوفـي، قال: حدثنا عبد الرحمن ابن مـحمد الـمـحاربـي، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: { الۤـمۤ } فواتـح يفتـح الله بها القرآن. حدثنا أحمد بن حازم الغفـاري، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن مـجاهد، قال: { الۤـمۤ } فواتـح. حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، عن يحيى بن ادم، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد، قال: { الۤـمۤ } و { حـمۤ } و { الۤمۤصۤ } و { صۤ } فواتـح افتتـح الله بها. حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد مثل حديث هارون بن إدريس. وقال بعضهم: هو اسم للسورة. ذكر من قال ذلك: حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أنبأنا عبد الله بن وهب، قال: سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلـم، عن قول الله: { الـم ذلك الكتابُ } و**{ الۤـمۤ \* تَنزِيلُ }** [السجده: 1-2] و**{ الۤمۤر تِلْكَ }** [الرعد:1] فقال: قال أبـي: إنـما هي أسماء السور. وقال بعضهم: هو اسم الله الأعظم. ذكر من قال ذلك: حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، قال: سألت السديّ عن حم وطسم والـم فقال: قال ابن عبـاس: هو اسم الله الأعظم. حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنـي أبو النعمان، قال: حدثنا شعبة عن إسماعيـل السدي، عن مرة الهمدانـي، قال: قال عبد الله فذكر نـحوه. حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، عن عبـيد الله بن موسى، عن إسماعيـل، عن الشعبـي قال: فواتـح السور من أسماء الله. وقال بعضهم: هو قَسَمٌ أقسم الله به وهو من أسمائه. ذكر من قال ذلك: حدثنـي يحيى بن عثمان بن صالـح السهمي، قال: حدثنا عبد الله بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس، قال: هو قَسَم أقسم الله به وهو من أسماء الله. حدثنا يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا خالد الـحذاء عن عكرمة قال: { الۤـمۤ } قسم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال بعضهم: هو حروف مقطعة من أسماء وأفعال، كل حرف من ذلك لـمعنى غير معنى الـحرف الآخر. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، وحدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن أبـي شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبـي الضحى، عن ابن عبـاس: { الۤـمۤ } فقال: أنا الله أعلـم. وحدثت عن أبـي عبـيد قال: حدثنا أبو الـيقظان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، قال قوله: { الۤـمۤ } قال: أنا الله أعلـم. حدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي، قال: حدثنا عمرو بن حماد القناد، قال: حدثنا أسبـاط ابن نصر، عن إسماعيـل السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: { الۤـمۤ } قال: أما: { الۤـمۤ } فهو حرف اشتق من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه. حدثنا مـحمد بن معمر، قال: حدثنا عبـاس ابن زياد البـاهلـي، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس فـي قوله: { الۤـمۤ } و { حـمۤ } و { نۤ } قال: اسم مقطع. وقال بعضهم: هي حروف هجاء موضوع. ذكر من قال ذلك: حدثت عن منصور بن أبـي نويرة، قال: حدثنا أبو سعيد الـمؤدب، عن خصيف، عن مـجاهد، قال: فواتـح السور كلها { قۤ } و { صۤ } و { حـمۤ } و { طسۤمۤ } و { الۤر } وغير ذلك هجاء موضوع. وقال بعضهم: هي حروف يشتـمل كل حرف منها علـى معان شتـى مختلفة. ذكر من قال ذلك: حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم الطبري، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، عن عبد الله بن أبـي جعفر الرازي قال: حدثنـي أبـي، عن الربـيع بن أنس فـي قول الله تعالـى ذكره: { الۤـمۤ } قال: هذه الأحرف من التسعة والعشرين حرفـاً، دارت فـيها الألسن كلها، لـيس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، ولـيس منها حرف إلا وهو فـي آلائه وبلائه، ولـيس منها حرف إلا وهو مدة قوم وآجالهم. وقال عيسى ابن مريـم: «وعجيب ينطقون فـي أسمائه، ويعيشون فـي رزقه، فكيف يكفرون»؟ قال: الألف: مفتاح اسمه «الله»، واللام: مفتاح اسمه «لطيف»، والـميـم: مفتاح اسمه «مـجيد» والألف: آلاء الله، واللام: لطفه، والـميـم: مـجده الألف: سنة، واللام ثلاثون سنة، والـميـم: أربعون سنة. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن أبـي جعفر، عن الربـيع بنـحوه. وقال بعضهم: هي حروف من حساب الـجمل، كرهنا ذكر الذي حكي ذلك عنه، إذ كان الذي رواه مـمن لا يُعتـمد علـى روايته ونقله، وقد مضت الرواية بنظير ذلك من القول عن الربـيع بن أنس. وقال بعضهم: لكل كتاب سرّ، وسرّ القرآن فواتـحه. وأما أهل العربـية فإنهم اختلفوا فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: هي حروف من حروف الـمعجم استُغنـي بذكر ما ذكر منها فـي أوائل السور عن ذكر بواقـيها التـي هي تتـمة الثمانـية والعشرين حرفـاً، كما استغنَى الـمخبرُ عمن أخبر عنه أنه فـي حروف الـمعجم الثمانـية والعشرين بذكر «أ ب ت ث» عن ذكر بواقـي حروفها التـي هي تتـمة الثمانـية والعشرين، قال: ولذلك رفع ذلك الكتابُ لأن معنى الكلام: الألف واللام والـميـم من الـحروف الـمقطعة ذلك الكتاب الذي أنزلته إلـيك مـجموعاً لا ريب فـيه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ... فإن قال قائل: فإن «ألف با تا ثا» قد صارت كالاسم فـي حروف الهجاء كما صارت الـحمد اسماً لفـاتـحة الكتاب قـيـل له: لـما كان جائزاً أن يقول القائل: ابنـي فـي «ط ظ»، وكان معلوماً بقـيـله ذلك لو قاله إنه يريد الـخبر عن ابنه أنه فـي الـحروف الـمقطعة، علـم بذلك أن «أ ب ت ث» لـيس لها بـاسم، وإن كان ذلك يؤثَرَ فـي الذكر من سائرها. قال: وإنـما خولف بـين ذكر حروف الـمعجم فـي فواتـح السور، فذكرت فـي أوائلها مختلفة، وذِكْرُها إذا ذُكرت بأوائلها التـي هي «أ ب ت ث» مؤتلفة لـيفصل بـين الـخبر عنها، إذا أريد بذكر ما ذكر منها مختلفـاً الدلالة علـى الكلام الـمتصل، وإذا أريد بذكر ما ذكر منها مؤتلفـاً الدلالة علـى الـحروف الـمقطعة بأعيانها. واستشهدوا لإجازة قول القائل: ابنـي فـي «ط ظ»، وما أشبه ذلك من الـخبر عنه أنه فـي حروف الـمعجم، وأن ذلك من قـيـله فـي البـيان يقوم مقام قوله: «ابنـي فـي أ ب ت ث» برجز بعض الرجاز من بنـي أسد: | **لَـمَّا رأيْتُ أمْرَها فـي حُطِّي** | | **وفَنَكَتْ فـي كَذِبٍ ولَطِّ** | | --- | --- | --- | | **أخَذْتُ منْها بِقُرُونٍ شُمْطِ** | | **فَلَـمْ يَزَلْ ضَرْبـي بها ومَعْطِي** | | **حتـى عَلا الرأسَ دَمٌ يُغَطِّي** | | | فزعم أنه أراد بذلك الـخبر عن الـمرأة أنها فـي «أبـي جاد»، فأقام قوله: «لـما رأيت أمرها فـي حُطي» مقام خبره عنها أنها فـي «أبـي جاد»، إذ كان ذاك من قوله يدل سامعه علـى ما يدله علـيه قوله: لـما رأيت أمرها فـي أبـي جاد. وقال آخرون: بل ابتدئت بذلك أوائل السور لـيفتـح لاستـماعه أسماع الـمشركين، إذ تواصوا بـالإعراض عن القرآن، حتـى إذا استـمعوا له تُلـي علـيهم الـمؤلف منه. وقال بعضهم: الـحروف التـي هي فواتـح السور حروف يستفتـح الله بها كلامه. فإن قـيـل: هل يكون من القرآن ما لـيس له معنى؟ فإن معنى هذا أنه افتتـح بها لـيعلـم أن السورة التـي قبلها قد انقضت، وأنه قد أخذ فـي أخرى، فجعل هذا علامة انقطاع ما بـينهما، وذلك فـي كلام العرب ينشد الرجل منهم الشعر فـيقول: بل.... | **وَبَلْدَةٍ ما الإنْسُ مِنْ آهالهَا** | | | | --- | --- | --- | ويقول: لا بل... | **ما هاجَ أحْزَانا وشَجَوْاً قَدْ شَجا** | | | | --- | --- | --- | و«بل» لـيست من البـيت ولا تعدّ فـي وزنه، ولكن يقطع بها كلاماً ويستأنف الآخر. قال أبو جعفر: ولكل قول من الأقوال التـي قالها الذين وصفنا قولهم فـي ذلك وجه معروف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فأما الذين قالوا: { الۤـمۤ } اسم من أسماء القرآن، فلقولهم ذلك وجهان: أحدهما أن يكونوا أرادوا أن: { الۤـمۤ } اسم للقرآن كما الفرقان اسم له. وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك، كان تأويـل قوله: { الۤـمۤ }:**{ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ }** [البقرة: 2] علـى معنى القسم كأنه قال: والقرآن هذا الكتاب لا ريب فـيه. والآخر منهما أن يكونوا أرادوا أنه اسم من أسماء السورة التـي تعرف به كما تعرف سائر الأشياء بأسمائها التـي هي لها أمارات تعرف بها، فـيفهم السامع من القائل يقول: قرأت الـيوم { الۤمۤصۤ } و { نۤ } أي السورة التـي قرأها من سور القرآن، كما يفهم عنه إذا قال: لقـيت الـيوم عمراً وزيداً، وهما بزيد وعمر وعارفـان مَنِ الذي لقـي من الناس. وإن أشكل معنى ذلك علـى امرىء فقال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك ونظائر { الۤـمۤ } { الۤمۤر } فـي القرآن جماعة من السور؟ وإنـما تكون الأسماء أماراتٍ، إذا كانت مـميزة بـين الأشخاص، فأما إذا كانت غير مـميزة فلـيست أمارات. قـيـل: إن الأسماء وإن كانت قد صارت لاشتراك كثـير من الناس فـي الواحد منها غير مـميزة إلا بـمعان أخر معها من ضم نسبة الـمسمى بها إلـيها أو نعته أو صفته بـما يفرق بـينه وبـين غيره من أشكالها، فإنها وضعت ابتداء للتـميـيز لا شك ثم احتـيج عند الاشتراك إلـى الـمعانـي الـمفرّقة بـين الـمسمَّى بها. فكذلك ذلك فـي أسماء السور، جعل كل اسم فـي قول قائل هذه الـمقالة أمارةً للـمسمى به من السور. فلـما شارك الـمسمَّى به فـيه غيره من سور القرآن احتاج الـمخبر عن سورة منها أن يضم إلـى اسمها الـمسمى به من ذلك ما يفرق به للسامع بـين الـخبر عنها وعن غيرها من نعت وصفة أو غير ذلك، فـيقول الـمخبر عن نفسه إنه تلا سورة البقرة إذا سماها بـاسمها الذي هو { الۤـمۤ }: قرأت { الۤـمۤ } البقرة، وفـي آل عمران: { الۤـمۤ } آل عمران، و { الۤـمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } و**{ الۤـمۤ اللَّهُ لا إِلٰهَ إِلاَّ هُوَ الـحَيُّ القَـيُّومُ }** [البقرة: 255] كما لو أراد الـخبر عن رجلـين اسم كل واحد منهما عمرو، غير أن أحدهما تـميـميّ والآخر أزدي، للزمه أن يقول لـمن أراد إخبـاره عنهما: لقـيت عمراً التـميـمي وعمراً الأزدي، إذ كان لا فرق بـينهما وبـين غيرهما مـمن يشاركهما فـي أسمائهما إلا بنسبتهما كذلك، فكذلك ذلك فـي قول من تأول فـي الـحروف الـمقطعة أنها أسماء للسور. وأما الذين قالوا: ذلك فواتـح يفتتـح الله عز وجل بها كلامه، فإنهم وجهوا ذلك إلـى نـحو الـمعنى الذي حكيناه عمن حكينا عنه من أهل العربـية أنه قال: ذلك أدلة علـى انقضاء سورة وابتداء فـي أخرى وعلامة لانقطاع ما بـينهما، كما جعلت «بل» فـي ابتداء قصيدة دلالة علـى ابتداء فـيها وانقضاء أخرى قبلها كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداء فـي إنشاد قصيدة، قال: بل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | .. | **ما هاجَ أحْزَانا وشَجْواً قَدْ شَجا** | | | | --- | --- | --- | و«بل» لـيست من البـيت ولا داخـلة فـي وزنه، ولكن لـيدل به علـى قطع كلام وابتداء آخر. وأما الذين قالوا: ذلك حروف مقطعة بعضها من أسماء الله عزّ وجل، وبعضها من صفـاته، ولكل حرف من ذلك معنى غير معنى الـحرف الآخر. فإنهم نـحوا بتأويـلهم ذلك نـحو قول الشاعر: | **قُلْنا لَهَا قِـفِـي لنا قالَتْ قافْ** | | **لا تَـحْسبِـي أنَّا نَسِينا الإيجَافْ** | | --- | --- | --- | يعنـي بقوله: قالت قاف: قالت قد وقـفت. فدلّت بإظهار القاف من «وقـفت» علـى مرادها من تـمام الكلـمة التـي هي «وقـفت»، فصرفوا قوله: { الۤـمۤ } وما أشبه ذلك إلـى نـحو هذا الـمعنى، فقال بعضهم: الألف ألف «أنا»، واللام لام «الله»، والـميـم ميـم «أعلـم»، وكل حرف منها دال علـى كلـمة تامة. قالوا: فجملة هذه الـحروف الـمقطعة إذا ظهر مع كل حرف منهن تـمام حروف الكلـمة «أنا الله أعلـم». قالوا: وكذلك سائر جميع ما فـي أوائل سور القرآن من ذلك، فعلـى هذا الـمعنى وبهذا التأويـل. قالوا: ومستفـيض ظاهر فـي كلام العرب أن ينقص الـمتكلـم منهم من الكلـمة الأحرف إذا كان فـيـما بقـي دلالة علـى ما حذف منها، ويزيد فـيها ما لـيس منها إذا لـم تكن الزيادة مُلَبِّسة معناها علـى سامعها كحذفهم فـي النقص فـي الترخيـم من «حارث» «الثاء» فـيقولون: يا حار، ومن «مالك» «الكاف» فـيقولون: يا مال، وأما أشبه ذلك. وكقول راجزهم: | **ما للظَّلِـيـمِ عَالٍ كَيْفَ لاَ يا** | | **يَنْقَدُ عَنْهُ جِلْدُهُ إذَا يا** | | --- | --- | --- | كأنه أراد أن يقول: إذا يفعل كذا وكذا، فـاكتفـى بـالـياء من «يفعل». وكما قال آخر منهم: | **بـالـخَيْرِ خَيْرَاتٌ وَإِنْ شَرًّا فَـا** | | | | --- | --- | --- | يريد فشرًّا. | **ولا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلاَّ أنْ تَا** | | | | --- | --- | --- | يريد إلا أن تشاء. فـاكتفـى بـالتاء والفـاء فـي الكلـمتـين جميعاً من سائر حروفهما، وما أشبه ذلك من الشواهد التـي يطول الكتاب بـاستـيعابه. وكما حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن أيوب وابن عون، عن مـحمد، قال: لـما مات يزيد بن معاوية، قال لـي عبدة: إنـي لا أراها إلا كائنة فتنة فـافزع من ضيعتك والـحق بأهلك قلت: فما تأمرنـي؟ قال: أحبّ إلـيَّ لك أن تا قال أيوب وابن عون بـيده تـحت خده الأيـمن يصف الاضطجاع حتـى ترى أمرا تعرفه. قال أبو جعفر: يعنـي ب «تا» تضطجع، فـاجتزأ بـالتاء من تضطجع. وكما قال الآخر فـي الزيادة فـي الكلام علـى النـحو الذي وصفت: | **أقولُ إذْ خَرَّتْ علـى الكَلْكالِ** | | **يا ناقَتِـي ما جُلْتِ مِن مَـجَالِ** | | --- | --- | --- | يريد الكلكل. وكما قال الآخر: | **إِنَّ شَكْلِـي وإِنَّ شَكْلَكِ شَتَّـى** | | **فـالزَمِي الـخُصَّ واخْفِضي تَبْـيَضِضِّي** | | --- | --- | --- | فزاد ضاداً ولـيست فـي الكلـمة. قالوا: فكذلك ما نقص من تـمام حروف كل كلـمة من هذه الكلـمات التـي ذكرنا أنها تتـمة حروف { الۤـمۤ } ونظائرها، نظير ما نقص من الكلام الذي حكيناه عن العرب فـي أشعارها وكلامها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما الذين قالوا: كل حرف من { الۤـمۤ } ونظائرها دالّ علـى معان شتـى نـحو الذي ذكرنا عن الربـيع بن أنس، فإنهم وجهوا ذلك إلـى مثل الذي وجهه إلـيه من قال هو بتأويـل: «أنا الله أعلـم» فـي أن كل حرف منه بعض حروف كلـمة تامة استُغنـي بدلالته علـى تـمامه عن ذكر تـمامه، وإن كانوا له مخالفـين فـي كل حرف من ذلك، أهو من الكلـمة التـي ادعى أنه منها قائلو القول الأول أم من غيرها؟ فقالوا: بل الألف من { الۤـمۤ } من كلـمات شتـى هي دالة علـى معانـي جميع ذلك وعلـى تـمامه. قالوا: وإنـما أفرد كل حرف من ذلك وقصر به عن تـمام حروف الكلـمة أن جميع حروف الكلـمة لو أظهرت لـم تدل الكلـمة التـي تظهر بعض هذه الـحروف الـمقطعة بعضٌ لها، إلاّ علـى معنى واحد لا علـى معنـيـين وأكثر منهما. قالوا: وإذا كان لا دلالة فـي ذلك لو أظهر جميعها إلا علـى معناها الذي هو معنى واحد، وكان الله جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكل حرف منها علـى معان كثـيرة لشيء واحد، لـم يجز إلا أن يفرد الـحرف الدال علـى تلك الـمعانـي، لـيعلـم الـمخاطبون به أن الله عز وجل لـم يقصد قصد معنى واحد ودلالة علـى شيء واحد بـما خاطبهم به، وأنه إنـما قصد الدلالة به علـى أشياء كثـيرة. قالوا: فـالألف من { الۤـمۤ } مقتضية معانـي كثـيرة، منها: إتـمام اسم الرب الذي هو الله، وتـمام اسم نعماء الله التـي هي آلاء الله، والدلالة علـى أَجَلِ قوم أنه سنة، إذ كانت الألف فـي حساب الـجُمَّل واحداً. واللام مقتضية تـمام اسم الله الذي هو لطيف، وتـمام اسم فضله الذي هو لطف، والدلالة علـى أجل قوم أنه ثلاثون سنة. والـميـم مقتضية تـمام اسم الله الذي هو مـجيد، وتـمام اسم عظمته التـي هي مـجد، والدلالة علـى أجل قوم أنه أربعون سنة. فكان معنى الكلام فـي تأويـل قائل القول الأول: أن الله جل ثناؤه افتتـح كلامه بوصف نفسه بأنه العالـم الذي لا يخفـى علـيه شيء، وجعل ذلك لعبـاده منهجاً يسلكونه فـي مفتتـح خطبهم ورسائلهم ومهمّ أمورهم، وابتلاء منه لهم لـيستوجبوا به عظيـم الثواب فـي دار الـجزاء، كما افتتـح بـ**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** [الفاتحة: 2] و**{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ }** [الأنعام: 1] وما أشبه ذلك من السور التـي جعل مفـاتـحها الـحمد لنفسه. وكما جعل مفـاتـح بعضها تعظيـم نفسه وإجلالها بـالتسبـيح كما قال جل ثناؤه:**{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً }** [الإسراء: 1] وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن التـي جعل مفـاتـح بعضها تـحميد نفسه، ومفـاتـح بعضها تـمـجيدها، ومفـاتـح بعضها تعظيـمها وتنزيهها. فكذلك جعل مفـاتـح السور الأخرى التـي أوائلها بعض حروف الـمعجم مدائح نفسه أحياناً بـالعلـم، وأحياناً بـالعدل والإنصاف، وأحياناً بـالإفضال والإحسان بإيجاز واختصار، ثم اقتصاص الأمور بعد ذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وعلـى هذا التأويـل يجب أن يكون الألف واللام والـميـم فـي أماكن الرفع مرفوعاً بعضها ببعض دون قوله: { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } ويكون ذلك الكتاب خبر مبتدأ منقطعاً عن معنى { الۤـمۤ } ، وكذلك «ذلك» فـي تأويـل قول قائل هذا القول الثانـي مرفوعٌ بعضه ببعض، وإن كان مخالفـاً معناه معنى قول قائل القول الأول. وأما الذين قالوا: هن حروف من حروف حساب الـجُمَّل دون ما خالف ذلك من الـمعانـي، فإنهم قالوا: لا نعرف للـحروف الـمقطعة معنى يفهم سوى حساب الـجمل وسوى تَهَجِّي قول القائل: { الۤـمۤ }. وقالوا: غير جائز أن يخاطب الله جل ثناؤه عبـادَهُ إلا بـما يفهمونه ويعقلونه عنه. فلـما كان ذلك كذلك وكان قوله: { الۤـمۤ } لا يعقل لها وجهه تُوجَّه إلـيه إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا، فبطل أحد وجهيه، وهو أن يكون مراداً بها تهجي { الۤـمۤ } صحّ وثبت أنه مراد به الوجه الثانـي وهو حساب الـجمل لأن قول القائل: { الۤـمۤ } لا يجوز أن يـلـيه من الكلام ذلك الكتاب لاستـحالة معنى الكلام وخروجه عن الـمعقول إذا ولـي الـم ذلك الكتاب. واحتـجوا لقولهم ذلك أيضا بـما: حدثنا به مـحمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل. قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي الكلبـي، عن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، عن جابر بن عبد الله بن رباب، قال: مرّ أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فـاتـحة سورة البقرة: { الـم ذَلِكَ الكِتابُ لاَ رَيْبَ فِـيهِ } فأتـى أخاه حيـيّ بن أخطب فـي رجال من يهود فقال: تعلـمون والله لقد سمعت مـحمداً يتلو فـيـما أنزل الله عز وجل علـيه: { الۤـمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم.قال فمشى حيـيّ بن أخطب فـي أولئك النفر من يهود إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا مـحمد ألـم يذكر لنا أنك تتلو فـيـما أنزل علـيك: { الۤـمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ }؟ فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَلَـى» فقالوا: أجاءك بهذا جبريـل من عند الله؟ قال: «نَعَمْ» قالوا: لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبـياء ما نعلـمه بـين لنبـيّ منهم ما مدة ملكه وما أَجَل أمته غيرك فقال حيـيّ بن أخطب: وأقبل علـى من كان معه، فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والـميـم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، قال: فقال لهم: أتدخـلون فـي دين نبـي إنـما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ قال: ثم أقبل علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا مـحمد هل مع هذا غيره؟ قال: «نَعَمْ» قال: ماذا؟ قال: «الـمص» قال: هذه أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والـميـم أربعون، والصاد تسعون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع هذا يا مـحمد غيره؟ قال: «نَعَمْ» قال: ماذا؟ قال: «الر» قال: هذه أثقل وأطول الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة فقال: هل مع هذا غيره يا مـحمد؟ قال: «نَعَمْ الـمر»، قال: فهذه أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون، والـميـم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. ثم قال: لقد لُبِّس علـينا أمرك يا مـحمد، حتـى ما ندري أقلـيلاً أُعطيتَ أم كثـيراً ثم قاموا عنه، فقال أبو ياسر لأخيه حيـي بن أخطب ولـمن معه من الأحبـار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لـمـحمد: إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومائة، ومائتان وإحدى وثلاثون، ومائتان وإحدى وسبعون، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون، فقالوا: لقد تشابه علـينا أمره. ويزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فـيهم:**{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ }** [آل عمران: 7] فقالوا: قد صرّح هذا الـخبر بصحة ما قلنا فـي ذلك من التأويـل وفساد ما قاله مخالفونا فـيه. والصواب من القول عندي فـي تأويـل مفـاتـح السور التـي هي حروف الـمعجم: أن الله جل ثناؤه جعلها حروفـاً مقطعة ولـم يصل بعضها ببعض فـيجعلها كسائر الكلام الـمتصل الـحروف لأنه عز ذكره أراد بلفظه الدلالة بكل حرف منه علـى معان كثـيرة لا علـى معنى واحد، كما قال الربـيع بن أنس، وإن كان الربـيع قد اقتصر به علـى معان ثلاثة دون ما زاد علـيها. والصواب فـي تأويـل ذلك عندي أن كل حرف منه يحوي ما قاله الربـيع وما قاله سائر الـمفسرين غيره فـيه، سوى ما ذكرت من القول عمن ذكرت عنه من أهل العربـية أنه كان يوجّه تأويـل ذلك إلـى أنه حروف هجاء استُغنـي بذكر ما ذكر منه فـي مفـاتـح السور عن ذكر تتـمة الثمانـية والعشرين حرفـاً من حروف الـمعجم بتأويـل: أن هذه الـحروف، ذلك الكتاب، مـجموعةٌ لا ريب فـيه، فإنه قول خطأ فـاسد لـخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الـخالفـين من أهل التفسير والتأويـل، فكفـى دلالة علـى خطئه شهادة الـحجة علـيه بـالـخطأ مع إبطال قائل ذلك قوله الذي حكيناه عنه، إذ صار إلـى البـيان عن رفع ذلك الكتاب بقوله مرة إنه مرفوع كل واحد منهما بصاحبه ومرة أخرى أنه مرفوع بـالراجع من ذكره فـي قوله: { لاَ رَيْبَ فِـيهِ } ومرة بقوله: { هُدًى لِلْـمُتَّقِـينَ } وذلك ترك منه لقوله إن { الۤـمۤ } رافعة { ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } وخروج من القول الذي ادّعاه فـي تأويـل { الۤـمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } وأن تأويـل ذلك: هذه الـحروف ذلك الكتاب. فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن يكون حرف واحد شاملاً الدلالة علـى معان كثـيرة مختلفة؟ قـيـل: كما جاز أن تكون كلـمة واحدة تشتـمل علـى معان كثـيرة مختلفة كقولهم للـجماعة من الناس: أمة، وللـحين من الزمان: أمة، وللرجل الـمتعبد الـمطيع لله: أمة، وللدين والـملة: أمة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكقولهم للـجزاء والقصاص: دين، وللسلطان والطاعة: دين، وللتذلل: دين، وللـحساب: دين فـي أشبـاه لذلك كثـيرة يطول الكتاب بإحصائها، مـما يكون من الكلام بلفظ واحد، وهو مشتـمل علـى معان كثـيرة. وكذلك قول الله جل ثناؤه: «الـم والـمر»، و«الـمص» وما أشبه ذلك من حروف الـمعجم التـي هي فواتـح أوائل السور، كل حرف منها دالّ علـى معان شتـى، شامل جميعها من أسماء الله عز وجل وصفـاته ما قاله الـمفسرون من الأقوال التـي ذكرناها عنهم وهن مع ذلك فواتـح السور كما قاله من قال ذلك. ولـيس كونُ ذلك من حروف أسماء الله جل ثناؤه وصفـاته بـمانعها أن تكون للسور فواتـح لأن الله جل ثناؤه قد افتتـح كثـيرا من سور القرآن بـالـحمد لنفسه والثناء علـيها، وكثـيراً منها بتـمـجيدها وتعظيـمها، فغير مستـحيـل أن يبتدىء بعض ذلك بـالقسم بها. فـالتـي ابتُدىء أوائلها بحروف الـمعجم أحد معانـي أوائلها أنهنّ فواتـح ما افتتـح بهنّ من سور القرآن، وهنّ مـما أقسم بهن لأن أحد معانـيهن أنهن من حروف أسماء الله تعالـى ذكره وصفـاته علـى ما قدمنا البـيان عنها، ولا شك فـي صحة معنى القسم بـالله وأسمائه وصفـاته، وهن من حروف حساب الـجمل، وهنّ للسور التـي افتتـحت بهن شعار وأسماء. فذلك يحوي معانـي جميع ما وصفنا مـما بـينا من وجوهه، لأن الله جل ثناؤه لو أراد بذلك أو بشيء منه الدلالة علـى معنى واحد مـما يحتـمله ذلك دون سائر الـمعانـي غيره، لأبـان ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إبـانة غير مشكلة، إذ كان جل ثناؤه إنـما أنزل كتابه علـى رسوله صلى الله عليه وسلم لـيبـين لهم ما اختلفوا فـيه. وفـي تركه صلى الله عليه وسلم إبـانة ذلك أنه مراد به من وجوه تأويـله البعض دون البعض أوضح الدلـيـل علـى أنه مراد به جميع وجوهه التـي هو لها مـحتـمل، إذ لـم يكن مستـحيلاً فـي العقل وجهٌ منها أن يكون من تأويـله ومعناه كما كان غير مستـحيـل اجتـماع الـمعانـي الكثـيرة للكلـمة الواحدة بـاللفظ الواحد فـي كلام واحد. ومن أبى ما قلناه فـي ذلك سئل الفرق بـين ذلك وبـين سائر الـحروف التـي تأتـي بلفظ واحد مع اشتـمالها علـى الـمعانـي الكثـيرة الـمختلفة كالأمة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال. فلن يقول فـي أحد ذلك قولاً إلا أُلزم فـي الآخر مثله. وكذلك يُسأل كل من تأوّل شيئاً من ذلك علـى وجه دون الأوجه الأخر التـي وصفنا عن البرهان علـى دعواه من الوجه الذي يجب التسلـيـم له ثم يعارض بقوله يخالفه فـي ذلك، ويسأل الفرق بـينه وبـينه: من أصْلٍ، أو مـما يدل علـيه أصلٌ، فلن يقول فـي أحدهما قولاً إلا ألزم فـي الآخر مثله. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما الذي زعم من النـحويـين أن ذلك نظير، «بل» فـي قول الـمنشد شعراً: بل... | **ما هاجَ أحْزَانا وَشَجْواً قَدْ شَجا** | | | | --- | --- | --- | وأنه لا معنى له، وإنـما هو زيادة فـي الكلام معناه الطرح فإنه أخطأ من وجوه شتـى: أحدها: أنه وصف الله تعالـى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هو من لغتها وغير ما هو فـي لغة أحد من الآدميـين، إذ كانت العرب وإن كانت قد كانت تفتتـح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر بـ«بل»، فإنه معلوم منها أنها لـم تكن تبتدىء شيئا من الكلام بـ«الـم» و«الر» و«الـمص» بـمعنى ابتدائها ذلك ب«بل». وإذ كان ذلك لـيس من ابتدائها، وكان الله جل ثناؤه إنـما خاطبهم بـما خاطبهم من القرآن بـما يعرفون من لغاتهم ويستعملون بـينهم من منطقهم فـي جميع آيهِ، فلا شك أن سبـيـل ما وصفنا من حروف الـمعجم التـي افتتـحت بها أوائل السور التـي هن لها فواتـح سبـيـل سائر القرآن فـي أنه لـم يعدل بها عن لغاتهم التـي كانوا بها عارفـين ولها بـينهم فـي منطقهم مستعملـين لأن ذلك لو كان معدولاً به عن سبـيـل لغاتهم ومنطقهم كان خارجاً عن معنى الإبـانة التـي وصف الله عز وجل بها القرآن، فقال تعالـى ذكره:**{ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ \* عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ \* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ }** [الشعراء: 193-195] وأنّى يكون مبـيناً ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالـمين فـي قول قائل هذه الـمقالة، ولا يعرف فـي منطق أحد من الـمخـلوقـين فـي قوله؟ وفـي إخبـار الله جل ثناؤه عنه أنه عربـيّ مبـين ما يكذّب هذه الـمقالة، وينبىء عنه أن العرب كانوا به عالـمين وهو لها مستبـين. فذلك أحد أوجه خطئه. والوجه الثانـي من خطئه فـي ذلك: إضافته إلـى الله جل ثناؤه أنه خاطب عبـاده بـما لا فـائدة لهم فـيه ولا معنى له من الكلام الذي سواء الـخطاب به وترك الـخطاب به، وذلك إضافة العبث الذي هو منفـي فـي قول جميع الـموحدين عن الله، إلـى الله تعالـى ذكره. والوجه الثالث من خطئة: أن «بل» فـي كلام العرب مفهوم تأويـلها ومعناها، وأنها تدخـلها فـي كلامها رجوعا عن كلام لها قد تقضى كقولهم: مَا جاءنـي أخوك بل أبوك وما رأيت عمراً بل عبد الله، وما أشبه ذلك من الكلام، كما قال أعشى بنـي ثعلبة: | **وَءَلاشْرَبَنَّ ثَمَانِـياً وثَمَانِـياً** | | **وَثَلاثَ عَشْرَةَ وَاثْنَتَـيْنَ وَأرْبَعاً** | | --- | --- | --- | ومضى فـي كلـمته حتـى بلغ قوله: | **بـالـجُلَّسانِ وَطَيِّبٌ أرْدَانُهُ** | | **بـالوَنِّ يَضْرِبُ لـي يَكُد أُلاصْبُعا** | | --- | --- | --- | ثم قال: | **بَلْ عُدَّ هَذَا فـي قَرِيضِ غَيْرِهِ** | | **وَاذْكُرْ فَتًـى سَمْـحَ الـخَـلِـيقَةِ أرْوَعا** | | --- | --- | --- | فكأنه قال: دع هذا وخذ فـي قريض غيره. ف«بل» إنـما يأتـي فـي كلام العرب علـى هذا النـحو من الكلام. فأما افتتاحاً لكلامها مبتدأ بـمعنى التطويـل والـحذف من غير أن يدل علـى معنى، فذلك مـما لا نعلـم أحداً ادعاه من أهل الـمعرفة بلسان العرب ومنطقها، سوى الذي ذكرت قوله، فـيكون ذلك أصلاً يشبَّه به حروف الـمعجم التـي هي فواتـح سور القرآن التـي افتتـحت بها لو كانت له مشبهة، فكيف وهي من الشبه به بعيدة؟ | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | | | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ)
«الۤمۤ» إعلم أنّ الألفاظ التي يتهجى بها أسماء، مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم، فقولك ـــ ضاد ـــ اسم سمي به «ضه» من ضرب إذا تهجيته، وكذلك را، با اسمان لقولك ره، به وقد روعيت في هذه التسمية لطيفة، وهي أن المسميات لما كانت ألفاظاً كأساميها وهي حروف وحدان والأسامي عدد حروفها مرتق إلى الثلاثة، اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في التسمية على المسمى فلم يغفلوها، وجعلوا المسمى صدر كل اسم منها كما ترى، إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها لأنه لا يكون إلا ساكناً. ومما يضاهيها في إيداع اللفظ دلالة على المعنى التهليل، والحوقلة، والحيعلة، والبسملة وحكمها ـــ ما لم تلها العوامل ـــ أن تكون ساكنة الأعجاز موقوفة كأسماء الأعداد، فيقال ألف لام ميم، كما يقال واحد اثنان ثلاثة فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب. تقول هذه ألف، وكتبت ألفاً، ونظرت إلى ألف وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية ذاته فحسب، قبل أن يحدث فيه بدخول العوامل شيء من تأثيراتها، فحقك أن تلفظ به موقوفاً. ألا ترى أنك إذا أردت أن تلقى على الحاسب أجناساً مختلفة ليرفع حسبانها، كيف تصنع وكيف تلقيها أغفالاً من سمة الإعراب؟ فتقول دار، غلام، جارية، ثوب، بساط. ولو أعربت ركبت شططاً. فإن قلت لم قضيت لهذه الألفاظ بالإسمية؟ وهلا زعمت أنها حروف كما وقع في عبارات المتقدّمين؟ قلت قد استوضحت بالبرهان النير أنها أسماء غير حروف، فعلمت أن قولهم خليق بأن يصرف إلى التسامح، وقد وجدناهم متسامحين في تسمية كثير من الأسماء التي لا يقدح إشكال في اسميتها كالظروف وغيرها بالحروف، مستعملين الحرف في معنى الكلمة، وذلك أن قولك «ألف» دلالته على أوسط حروف «قال، وقام» دلالة «فرس» على الحيوان المخصوص، لا فضل فيما يرجع إلى التسمية بين الدلالتين. ألا ترى أنّ الحرف ما دلّ على معنى في غيره، وهذا كما ترى دال على معنى في نفسه ولأنها متصرف فيها بالإمالة كقولك با، تا. وبالتفخيم كقولك يا، ها. وبالتعريف، والتنكير، والجمع والتصغير، والوصف، والإسناد، والإضافة، وجميع ما للأسماء المتصرفة. ثم إني عثرت من جانب الخليل على نص في ذلك. قال سيبويه قال الخليل يوماً ـــ وسأل أصحابه ـــ كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف التي في لك، والباء التي في ضرب؟ فقيل نقول باء، كاف فقال إنما جئتم بالإسم، ولم تلفظوا بالحرف، وقال أقول كه، به. وذكر أبو علي في كتاب الحجة في يسۤ وإمالة يا، أنهم قالوا يا زيد، في النداء فأمالوا وإن كان حرفاً، قال فإذا كانوا قد أمالوا ما لا يمال من الحروف من أجل الياء، فلأن يميلوا الاسم الذي هو يسۤ أجدر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ألا ترى أنّ هذه الحروف أسماء لما يلفظ بها؟ فإن قلت من أي قبيل هي من الأسماء، أمعربة أم مبنية؟ قلت بل هي أسماء معربة، وإنما سكنت سكون زيد وعمرو وغيرهما من الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضيه وموجبه. والدليل على أنّ سكونها وقف وليس ببناء أنها لو بنيت لحذى بها حذو كيف، وأين، وهؤلاء. ولم يقل ص، ق، ن مجموعاً فيها بين الساكنين. فإن قلت فلم لفظ المتهجي بما آخره ألف منها مقصوراً، فلما أعرب مدّ فقال هذه باء، وياء، وهاء وذلك يخيل أن وزانها وزان قولك «لا» مقصورة فإذا جعلتها إسماً مددت فقلت كتبت لاء؟ قلت هذا التخيل يضمحل بما لخصته من الدليل والسبب في أن قصرت متهجاة، ومدّت حين مسها الإعراب أنّ حال التهجي خليقة بالأخف الأوجز، واستعمالها فيه أكثر. فإن قلت قد تبين أنها أسماء لحروف المعجم، وأنها من قبيل المعربة، وأن سكون أعجازها عند الهجاء لأجل الوقف، فما وجه وقوعها على هذه الصورة فواتح للسور؟ قلت فيه أوجه أحدها وعليه إطباق الأكثر أنها أسماء السور. وقد ترجم صاحب الكتاب الباب الذي كسره على ذكرها في حد ما لا ينصرف بـــ«باب أسماء السور» وهي في ذلك على ضربين أحدهما ما لا يتأتى فيه إعراب، نحوكهيعص ،والمر. والثاني ما يتأتى فيه الإعراب، وهو إما أن يكون اسماً فرداً كص، وق، ون، أو أسماء عدّة مجموعها على زنة مفرد كـــ«حم وطس ويس» فإنها موازنة لقابيل وهابيل، وكذلك طسم يتأتى فيها أن تفتح نونها، وتصير ميم مضمومة إلى طس فيجعلا اسما واحد كدارا بحرد فالنوع الأول محكى ليس إلاّ وأما النوع الثاني فسائغ فيه الأمران الإعراب، والحكاية قال قاتل محمد بن طلحة السجاد وهو شريح بن أوفى العبسي. | **يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ فَهَلاَّ تَلاَ حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ** | | | | --- | --- | --- | فأعرب حاميم ومنعها الصرف، وهكذا كل ما أعرب من أخواتها لاجتماع سببي منع الصرف فيها، وهما العلمية، والتأنيث. والحكاية أن تجيء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى. كقولك دعني من تمرتان، وبدأت بالحمد لله، وقرأت**{ سُورَةٌ أَنزَلْنَـٰهَا }** النور 1 قال | **وَجَدْنا في كِتَابِ بَني تَمِيم أَحَقُّ الْخَيّلِ بالرَّكْضِ المُعَارُ** | | | | --- | --- | --- | وقال ذو الرمّة | **سَمِعْتُ النَّاسَ يَنْتَجِعُونَ غَيثاً فَقُلْتُ لِصَيْدَح انْتَجِعي بِلاَلاَ** | | | | --- | --- | --- | وقال آخر | **تَنَادَوْا بالرَّحِيلِ غَداً وَفي تَرْحَالِهمْ نَفْسِي** | | | | --- | --- | --- | وروى منصوباً ومجروراً. ويقول أهل الحجاز في استعلام من يقول رأيت زيداً، من زيداً؟ وقال سيبويه سمعت من العرب لا من أين يا فتى. فإن قلت فما وجه قراءة من قرأ ص، وق، ون مفتوحات؟ قلت الأوجه أن يقال ذاك نصب وليس بفتح، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف على ما ذكرت. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وانتصابها بفعل مضمر. نحو اذكر وقد أجاز سيبويه مثل ذلك في حم، وطس، ويس لو قرىء به. وحكى أبو سعيد السيرافي أنّ بعضهم قرأ يس. ويجوز أن يقال حرّكت لالتقاء الساكنين، كما قرأ من قرأ «ولا الضالين». فإن قلت هلا زعمت أنها مقسم بها؟ وأنها نصبت قولهم نعم الله لأفعلن، وأي الله لأفعلن، على حذف حرف الجر وإعمال فعل القسم؟ وقال ذو الرمة | **أَلاَ رُبَّ مَنْ قَلْبي لَهُ للَّهَ نَاصِح** | | | | --- | --- | --- | وقال آخر | **فَذَاكَ أَمَانَةُ اللَّهِ الثَّرِيدُ** | | | | --- | --- | --- | قلت إنّ القرآن والقلم بعد هذه الفواتح محلوف بهما، فلو زعمت ذلك لجمعت بين قسمين على مقسم واحد وقد استكرهوا ذلك. قال الخليل في قوله عزّ وجلّ**{ وٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ وٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ وَمَا خَلَق ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنْثَىٰۤ }** الليل 1-3 الواوان الأخريان ليستا لمنزلة الأولى، ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك مررت بزيد وعمرو، والأولى بمنزلة الباء والتاء، قال سيبويه قلت للخليل فلم لا تكون الأخريان بمنزلة الأولى؟ فقال إنما أقسم بهذه الأشياء على شيء، ولو كان انقضى قسمه بالأوّل على شيء لجاز أن يستعمل كلاماً آخر، فيكون كقولك بالله لأفعلنّ، بالله لأخرجنّ اليوم، ولا يقوى أن تقول وحقك وحق زيد لأفعلنّ. والواو الأخيرة واو قسم لا يجوز إلا مستكرهاً قال وتقول وحياتي ثم حياتك لأفعلنّ فثم هٰهنا بمنزلة الواو. هذا ولا سبيل فيما نحن بصدده إلى أن تجعل الواو للعطف لمخالفة الثاني الأول في الإعراب. فإن قلت فقدّرها مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها، فقد جاء عنهم الله لأفعلن مجروراً، ونظيره قولهم لاه أبوك غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة، واجعل الواو للعطف حتى يستتب لك المصير إلى نحو ما أشرت إليه. قلت هذا لا يبعد عن الصواب، ويعضده ما رووا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال أقسم الله بهذه الحروف. فإن قلت فما وجه قراءة بعضهم ص وق بالكسر؟ قلت وجهها ما ذكرت من التحريك لالتقاء الساكنين، والذي يبسط من عذر المحرّك أن الوقف لما استمرّ بهذه الأسامي، شاكلت لذلك ما اجتمع في آخره ساكنان من المبينات، فعوملت تارة معاملة «الآن» وأخرى معاملة «هؤلاء». فإن قلت هل تسوغ لي في المحكية مثل ما سوّغت لي في المعربة من إرادة معنى القسم؟ قلت لا عليك في ذلك، وأن تقدّر حرف القسم مضمراً في نحو قوله عز وجل**{ حم والكتاب المبين }** الدخان 2، كأنه قيل أقسم بهذه السورة، وبالكتاب المبين إنا جعلناه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم 9 **" حم لا ينصرون "** فيصلح أن يقضى له بالجرّ والنصب جميعاً على حذف الجار وإضماره. فإن قلت فما معنى تسمية السور بهذه الألفاظ خاصة؟ قلت كأن المعنى في ذلك الإشعار بأن الفرقان ليس إلا كلما عربية معروفة التركيب من مسميات هذه الألفاظ، كما قال عز من قائل | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ قرآناً عَرَبِيّاً }** يوسف 2. فإن قلت فما بالها مكتوبة في المصحف على صور الحروف أنفسها، لا على صور أساميها؟ قلت لأنّ الكلم لما كانت مركبة من ذوات الحروف، واستمرّت العادة متى تهجيت ومتى قيل للكاتب اكتب كيت وكيت أن يلفظ بالأسماء وتقع في الكتابة الحروف أنفسها، عمل على تلك الشاكلة المألوفة في كتابة هذه الفواتح. وأيضاً فإن شهرة أمرها، وإقامة ألسن الأسود والأحمر لها، وأنّ اللافظ بها غير متهجاة لا يحلى بطائل منها ،وأنّ بعضها مفرد لا يخطر ببال غير ما هو عليه من مورده أمنت وقوع اللبس فيها، وقد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياسات التي بني عليها علم الخط والهجاء ثم ما عاد ذلك بضير ولا نقصان لاستقامة اللفظ وبقاء الحفظ، وكان أتباع خط المصحف سنة لا تخالف. قال عبد الله بن درستويه في كتابه المترجم بكتاب الكتاب المتمم في الخط والهجاء خطان لا يقاسان خط المصحف، لأنه سنة، وخط العروض لأنه يثبت فيه ما أثبته اللفظ ويسقط عنه ما أسقطه. الوجه الثاني أن يكون ورود هذه الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدّى بالقرآن وبغرابة نظمه وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة، وهم أمراء الكلام وزعماء الحوار، وهم الحرّاص على التساجل في اقتضاب الخطب، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كل ناطق، وشقت غبار كل سابق، ولم يتجاوز الحدّ الخارج من قوى الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء إلا لأنه ليس بكلام البشر، وأنه كلام خالق القوى والقدر. وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزل، ولناصره على الأوّل أن يقول إن القرآن إنما نزل بلسان العرب مصبوباً في أساليبهم واستعمالاتهم، والعرب لم تتجاوز ما سموا به مجموع اسمين، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة، والقول بأنها أسماء السور حقيقة يخرج إلى ما ليس في لغة العرب، ويؤدّي أيضاً إلى صيرورة الاسم والمسمى واحداً. فإن اعترضت عليه بأنه قول مقول على وجه الدهر وأنه لا سبيل إلى ردّه، أجابك بأن له محملاً سوى ما يذهب إليه، وأنه نظير قول الناس فلان يروي قفا نبك، وعفت الديار. ويقول الرجل لصاحبه ما قرأت؟ فيقول { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } و**{ بَرَاءةٌ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }** التوبة 1 و**{ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِى أَوْلَـٰدِكُمْ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | النساء 11 و**{ الِلَّهِ نُورُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ }** النور 35. وليست هذه الجمل بأسامي هذه القصائد وهذه السور والآي، وإنما تعني رواية القصيدة التي ذاك استهلالها، وتلاوة السورة أو الآية التي تلك فاتحتها. فلما جرى الكلام على أسلوب من يقصد التسمية، واستفيد منها ما يستفاد من التسمية، قالوا ذلك على سبيل المجاز دون الحقيقة. وللمجيب عن الاعتراضين على الوجه الأول أن يقول التسمية بثلاثة أسماء فصاعداً مستنكرة لعمري وخروج عن كلام العرب، ولكن إذا جعلت إسماً واحداً على طريقة حضرموت، فأما غير مركبة منثورة نثر أسماء العدد فلا استنكار فيها لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية، كما سموا بتأبط شراً، وبرق نحره، وشاب قرناها. وكما لو سمي بزيد منطلق، أو بيت شعر. وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر، وبين التسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم، دلالة قاطعة على صحة ذلك. وأما تسمية السورة كلها بفاتحتها، فليست بتصيير الاسم والمسمى واحداً، لأنها تسمية مؤلف بمفرده، والمؤلف غير المفرد. ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفاً منه ومن حرفين مضمومين إليه، كقولهم صاد، فلم يكن من جعل الاسم والمسمى واحداً حيث كان الاسم مؤلفاً والمسمى مفرداً. الوجه الثالث أن ترد السور مصدّرَةً بذلك ليكون أوّل ما يقرع الأسماع مستقلاً بوجه من الإعراب، وتقدمة من دلائل الإعجاز. وذلك أنّ النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام الأميون منهم وأهل الكتاب، بخلاف النطق بأسامي الحروف. فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم، وكان مستغرباً مستبعداً من الأمي التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة، كما قال عز وجل**{ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَـٰبٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَـٰبَ ٱلْمُبْطِلُونَ }** العنكبوت 48. فكان حكم النطق بذلك ـــ مع اشتهار أنه لم يكن ممن اقتبس شيئاً من أهله ـــ حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن، التي لم تكن قريش ومن دان بدينها في شيء من الإحاطة بها، في أن ذلك حاصل له من جهة الوحي، وشاهد بصحة نبوته، وبمنزلة أن يتكلم بالرطانة من غير أن يسمعها من أحد. واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء. وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء، وهي الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون ـــ في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم. ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها الصاد، والكاف، والهاء، والسين، والحاء. ومن المجهورة نصفها الألف، واللام، والميم، والراء، والعين، والطاء، والقاف، والياء، والنون. ومن الشديدة نصفها الألف، والكاف، والطاء، والقاف. ومن الرخوة نصفها اللام، والميم، والراء، والصاد، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والياء، والنون. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن المطبقة نصفها الصاد، والطاء. ومن المنفتحة نصفها الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والقاف، والياء، والنون. ومن المستعلية نصفها القاف، والصاد، والطاء. ومن المنخفضة نصفها الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والسين، والحاء، والنون. ومن حروف القلقلة نصفها القاف، والطاء. ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها، رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله، وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته، فكأن الله عز اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم. ومما يدل على أنه تغمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعاً في تراكيب الكلم، أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكرّرتين. وهي فواتح سورة البقرة، وآل عمران، والروم، والعنكبوت، ولقمان، والسجدة، والأعراف، والرعد، ويونس، وإبراهيم، وهود، ويوسف، والحجر. فإن قلت فهلا عدّدت بأجمعها في أوّل القرآن؟ وما لها جاءت مفرقة على السور؟ قلت لأنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلف منها لا غير، وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقرّ له في الأسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرر في النفوس وتقريره. فإن قلت فهلا جاءت على وتيرة واحدة؟ ولم اختلفت أعداد حروفها فوردت ص و ق و ن على حرف، وطه و طس و يس و حم على حرفين، والم والر وطسم على ثلاثة أحرف، والمص والمر على أربعة أحرف، وكهيعص وحم عسق على خمسة أحرف؟ قلت هذا على إعادة افتنانهم في أساليب الكلام، وتصرفهم فيه على طرق شتى ومذاهب متنوّعة. وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك، سلك بهذه الفواتح ذلك المسلك. فإن قلت فما وجه اختصاص كل سورة بالفاتحة التي اختصت بها؟ قلت إذا كان الغرض هو التنبيه ـــ والمبادىء كلها في تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة ـــ كان تطلب وجه الاختصاص ساقطاً، كما إذا سمى الرجل بعض أولاده زيداً والآخر عمراً، لم يقل له لم خصصت ولدك هذا بزيد وذاك بعمرو؟ لأنّ الغرض هو التمييز وهو حاصل أية سلك ولذلك لا يقال لم سمي هذا الجنس بالرجل وذاك بالفرس؟ ولم قيل للاعتماد الضرب؟ وللانتصاب القيام؟ ولنقيضه القعود؟ فإن قلت ما بالهم عدّوا بعض هذه الفواتح آية دون بعض؟ قلت هذا علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور. أمّا الم فآية حيث وقعت من السور المفتتحة بها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهي ست. وكذلك المص آية، والمر لم تعدّ آية، والر ليست بآية في سورها الخمس، وطسم آية في سورتيها، وطه ويس آيتان، وطس ليست بآية، وحم آية في سورها كلها، و حم عسق آيتان، وكهيعص آية واحدة، وص و ق و ن ثلاثتها لم تعدّ آية. هذا مذهب الكوفيين ومن عداهم، لم يعدّوا شيئاً منها آية. فإن قلت فكيف عدّ ما هو في حكم كلمة واحدة آية؟ قلت كما عدّ الرحمٰن وحده ومدهامّتان وحدها آيتين على طريق التوقيف. فإن قلت ما حكمها في باب الوقف؟ قلت يوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله عز قائلاً الم الله أي هذه الم ثم ابتدأ فقال**{ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ }** آل عمران 1-2. فإن قلت هل لهذه الفواتح محل من الإعراب؟ قلت نعم لها محل فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام. فإن قلت ما محلها؟ قلت يحتمل الأوجه الثلاثة، أما الرفع فعلى الابتداء، وأما النصب والجرّ، فلما مرّ من صحة القسم بها وكونها بمنزلة الله والله على اللغتين. ومن لم يجعلها أسماء للسور، لم يتصوّر أن يكون لها محل في مذهبه، كما لا محل للجمل المبتدأ وللمفردات المعدّدة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ)
كوفيّ: اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور فذهب بعضهم إلى أنها من المتشابهات التي استأثر الله تعالى ولا يعلم تأويلها إلا هو هذا هو المروي عن أئمتنا عليهم السلام وروت العامة عن أمير المؤمنين ع أنه قال إنّ لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي. وعن الشعبي قال: لله في كل كتاب سرٌّ وسره في القرآن سائر حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور وفسرها الآخرون على وجوه: أحدها: إنها أسماء السور ومفاتحها عن الحسن وزيد بن أسلم. وثانيها: أن المراد بها الدلالة على أسماء الله تعالى فقولـه تعالى: { الم } معناه أنا الله أعلم و { المر } معناه: أنا الله أعلم وأرى و { المص } معناه أنا الله أعلم وأفصل والكاف في كهيعص من كاف والهاء من هادٍ والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق عن ابن عباس. وعنه أيضاً: إن الم الألف منه تدل على اسم الله واللام تدل على اسم جبرائيل والميم تدل على اسم محمد صلى الله عليه وسلم وروى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره مسنداً إلى علي بن موسى الرضا عليه السلام قال: سئل جعفر بن محمد الصادق عن قولـه الم فقال في الألف ست صفات من صفات الله تعالى: الابتداء فإِن الله ابتدأ جميع الخلق والألف ابتداء الحروف والإستواء فهو عادل غير جائر والألف مستو في ذاته والانفراد فالله فرد والألف فرد واتصال الخلق بالله والله لا يتصل بالخلق وكلهم محتاجون إلى الله والله غني عنهم وكذلك الألف لا يتصل بالحروف والحروف متصلة به وهو منقطع من غيره والله عز وجل باين بجميع صفاته من خلقه ومعناه من الألفة فكما أن الله عز وجل سبب إلفة الخلق فكذلك الألف عليه تألفت الحروف وهو سبب ألفتها. وثالثها: أنها أسماء الله تعالى منقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم تقول: الر وحم ون فيكون الرحمن وكذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على وصلها والجمع بينها عن سعيد بن جبير. ورابعها: أنها أسماء القرآن عن قتادة. وخامسها: أنها أقسام أقسم الله تعالى بها وهي من أسمائه عن ابن عباس وعكرمة. قال الأخفش: وإنما أقسم الله تعالى بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة وأسمائه الحسنى وصفاته العليا وأصول كلام الأمم كلها بها يتعارفون ويذكرون الله عز اسمه ويوحدونه فكأنه هو أقسم بهذه الحروف أن القرآن كتابه وكلامه. وسادسها: أن كل حرف منها مفتاح اسم من أسماء الله تعالى وليس فيها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه وليس فيها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجال آخرين عن أبي العالية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وقد ورد أيضاً مثل ذلك في أخبارنا. وسابعها: أن المراد بها مدة بقاء هذه الامة. عن مقاتل بن سليمان قال مقاتل: حسبنا هذه الحروف التي في أوائل السور باسقاط المكرر فبلغت سبعمائة وأربعاً وأربعين سنة وهي بقية مدة هذه الامة. قال علي بن فضال المجاشعي النحوي: وحسبت هذه الحروف التي ذكرها مقاتل فبلغت ثلاثة آلاف وخمسة وستين فحذفت المكررات فبقي ستمائة وثلاث وتسعون والله أعلم بما فيها. وأقول قد حسبتها أنا أيضاً فوجدتها كذلك. ويروى أن اليهود لما سمعوا الم قالوا مدة ملك محمد صلى الله عليه وسلم قصيرة إنما تبلغ إحدى وسبعين سنة فلما نزلت الر والمر والمص وكهيعص اتسع عليهم الأمر هذه أقوال أهل التفسير. وثامنها: أن المراد بها حروف المعجم استغنى بذكر ما منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تمام الثمانية والعشرين حرفاً كما يستغنى بذكر قِفانَبَكِ عن ذكر باقي القصيدة وكما يقال اب في أبجد وفي أ ب ت ث ولم يذكروا باقي الحروف قال الراجز: | **لَمَّا رَأيْتُ أنَّها في حُطِّي** | | **أَخَذَت مِنْها بقُرُونٍ شُمْطِ** | | --- | --- | --- | وإِنما أراد الخبر عن المراءة بأنها في أبجد فأقام قولـه حطي مقامه لدلالة الكلام عليه. وتاسعها: أنها تسكيت للكفار لأن المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا لهذا القرآن وأن يلغوا فيه كما ورد به التنزيل من قولـه:**{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ }** [فصلت: 26] فربما صفروا وربما صفقوا وربما لغطوا ليُغلِّطوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الحروف حتى إذا سمعوا شيئاً غريباً استمعوا إليه وتفكروا واشتغلوا عن تغليطه فيقع القرآن في مسامعهم ويكون ذلك سبباً موصلاً لهم إلى درك منافعهم. وعاشرها: أن المراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم فإِذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من عند الله لأن العادة لم تجر بأن الناس يتفاوتون في القدر هذا التفاوت العظيم وإنما كررت في مواضع استظهاراً في الحجة وهو المحكي عن قطرب واختاره أبو مسلم محمد ابن بحر الأصفهاني. اللغة: أجود هذه الأقوال القول الأول المحكي عن الحسن لأن أسماء الأعلام منقولة إلى التسمية عن أصولها للتفرقة بين المسميات فتكون حروف المعجم منقولة إلى التسمية ولهذا في أسماء العرب نظير قالوا أوس بن حارثة بن لام الطائي ولا خلاف بين النحويين أنه لا يجوز أن يسمى بحروف المعجم كما يجوز أن يسمى بالجمل نحو تأبط شراً وبرق نحره وكل كلمة لم تكن على معنى الأصل فهي منقولة إلى التسمية للفرق نحو جعفر إذا لم يرد به معنى النهر لم يكن إلا منقولاً إلى العلمية وكذلك اشباهه ولو سميت بألم لحكيت جميع ذلك وأما قول ابن عباس أنه اختصار من أسماء يعلم النبي صلى الله عليه وسلم تمامها فنحوه قول الشاعر: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | **نَادَوهُمُ أنْ أَلْجِمُوا ألاَتا** | | **قَالُوا جَمِيعاً كُلُّهُمْ ألافَا** | | --- | --- | --- | يريد ألا تركبون قالوا ألا فاركبوا وقول الآخر: | **قُلْنَا لَهَا قفِي قَالَتْ قَافْ** | | **لا تَحْسَبِي أَنَّا نَسِينَا الايجَافْ** | | --- | --- | --- | يريد: قالت أنا واقفة. الإعراب: أما موضع الم من الإعراب فمختلف على حسب اختلاف هذه المذاهب إما على مذهب الحسن فموضعها رفع على اضمار مبتدأ محذوف كأنه قال هذه الم وأجاز الرماني أن يكون الم مبتدأ وذلك الكتاب خبره وتقديره حروف المعجم ذلك الكتاب وهذا فيه بعد لأن حكم المبتدأ أن يكون هو الخبر في المعنى ولم يكن الكتاب هو حروف المعجم ويجوز أن يكون ألم في موضع نصب على اضمار فعل تقديره اتلُ الم وأما على مذهب من جعلها قسماً فموضعها نصب بإضمار فعل لأن حرف القسم إذا حذف يصل الفعل إلى المقسم به فينصبه فإِن معنى قولك بالله: أقسم بالله ثم حذفت أقسم فبقي بالله فلو حذفت الباء لقلت الله لأفعلنَّ وأما على مذهب من جعل هذه الحروف اختصاراً من كلام أو حروفاً مقطعة فلا موضع لها من الإعراب لأنها بمنزلة قولك زيد قائم في أن موضعه لاحظ له في الاعراب وإِنما يكون للجملة موضع إذا وقعت موقع الفرد كقولك زيد أبوه قائم وإن زيداً أبوه قائم لأنه بمنزلة قولك زيد قائم وأن زيداً قائم وهذه الحروف موقوفة على الحكاية كما يفعل بحروف التهجي لأنها مبنية على السكت كما أن العدد مبني على السكت يدل على ذلك جمعك بين ساكنين في قولك لام ميم وتقول في العدد واحد اثنان ثلاثة أربعة فتقطع ألف اثنين وألف اثنين ألف وصل وتذكر الهاء في ثلاثة وأربعة ولولا أنك تقدر السكت لقلت ثلاثة بالتاء ويدل عليه قول الشاعر: | **أَقْبَلْتُ مِنْ عِنْدِ زِيادٍ كالخَرفِ** | | | | --- | --- | --- | | **تَخُطُّ رِجْلاي بِخَطٍّ مُخْتَلِفِ** | | | | **تُكتِبانِ في الطَّريقِ لامَ الفِ** | | | كأنه قال لام ألف ولكنه ألقى حركة همزة الألف على الميم ففتحها وإِذا أخبرت عن حروف الهجاء أو أسماء الأعداد أعربتها لأنك أدخلتها بالأخبار عنها في جملة الأسماء المتمكنة وأخرجتها بذلك من حيّز الأصوات كما قال الشاعر: | **كما بُيِّنت كافٌ تلوح وميمُها** | | | | --- | --- | --- | وقال آخر: | **إذا اجْتَمَعُوا عَلَى ألِفٍ وبَاءٍ** | | **وَواوٍ هَاجَ بَينَهُمُ جِدالُ** | | --- | --- | --- | وتقول هذا كاف حسن وهذه كاف حسنة من ذكَّره فعلى معنى الحرف ومن أنَّثه فعلى معنى الكلمة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ)
تفسير آلم حروف الهجاء: { الم } فيه مسألتان: المسألة الأولى: ـ اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة، لأن الضاد مثلاً لفظة مفردة دالة بالتواطؤ على معنى مستقل بنفسه من غير دلالة على الزمان المعين لذلك المعنى، وذلك المعنى هو الحرف الأول من «ضرب» فثبت أنها أسماء ولأنها يتصرف فيها بالأمالة والتفخيم والتعريف والتنكير والجمع والتصغير والوصف والإسناد والإضافة، فكانت لا محالة أسماء. فإن قيل قد روى أبو عيسى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: **" من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف، لكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف "** الحديث، والاستدلال به يناقض ما ذكرتم قلنا: سماه حرفاً مجازاً لكونه اسماً للحرف، وإطلاق اسم أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور.معاني تسمية حروفها: فروع: الأول: أنهم راعوا هذه التسمية لمعان لطيفة، وهي أن المسميات لما كانت ألفاظاً كأساميها وهي حروف مفردة والأسامي ترتقي عدد حروفها إلى الثلاثة اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في الاسم على المسمى، فجعلوا المسمى صدر كل اسم منها إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها لأنه لا يكون إلا ساكناً.حكمها ما لم تلها العوامل: الثاني: حكمها ما لم تلها العوامل أن تكون ساكنة الأعجاز كأسماء الأعداد فيقال ألف لام ميم، كما تقول واحد اثنان ثلاثة فإذا وليتها العوامل أدركها الأعراب كقولك هذه ألف وكتبت ألفاً ونظرت إلى ألف، وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية مسماه فحسب، لأن جوهر اللفظ موضوع لجوهر المعنى، وحركات اللفظ دالة على أحوال المعنى، فإذا أريد إفادة جوهر المعنى وجب إخلاء اللفظ عن الحركات. كونها معربة: الثالث: هذه الأسماء معربة وإنما سكنت سكون سائر الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد موجبه، والدليل على أن سكونها وقف لا بناء أنها لو بنيت لحذي بها حذو كيف وأين وهؤلاء ولم يقل صاد قاف نون مجموع فيها بين الساكنين.معاني آلم: المسألة الثانية: للناس في قوله تعالى: { الم } وما يجري مجراه من الفواتح قولان: أحدهما: أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله تبارك وتعالى به. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لله في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور، وقال علي رضي الله عنه: إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي. وقال بعض العارفين: العلم بمنزلة البحر فأجرى منه وادٍ ثم أجرى من الوادي نهر. ثم أجرى من النهر جدول، ثم أجرى من الجدول ساقية، فلو أجرى إلى الجدول ذلك الوادي لغرقه وأفسده، ولو سال البحر إلى الوادي لأفسده، وهو المراد من قوله تعالى: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا }** [الرعد: 17] فبحور العلم عند الله تعالى، فأعطي الرسل منها أودية، ثم أعطت الرسل من أوديتهم أنهاراً إلى العلماء، ثم أعطت العلماء إلى العامة جداول صغاراً على قدر طاقتهم، ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم. وعلى هذا ما روي في الخبر «للعلماء سر، وللخلفاء سر. وللأنبياء سر، وللملائكة سر، ولله من بعد ذلك كله سر، فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم، ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم، ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم، ولو اطلع الأنبياء على سرالملائكة لاتهموهم، ولو اطلع الملائكة على سر الله تعالى لطاحوا حائرين، وبادوا بائرين». والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية، كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش، فلما زيدت الأنبياء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار النبوة، ولما زيدت العلماء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار ما عجزت العامة عنه، وكذلك علماء الباطن، وهم الحكماء زيد في عقولهم فقدروا على احتمال ما عجزت عنه علماء الظاهر. وسئل الشعبي عن هذه الحروف فقال: سر الله فلا تطلبوه، وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: عجزت العلماء عن إدراكها، وقال الحسين بن الفضل: هو من المتشابه. واعلم أن المتكلمين أنكروا هذا القول، وقالوا لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوماً للخلق، واحتجوا عليه بالآيات والأخبار والمعقول.حجج المتكلمين بالآيات: أما الآيات فأربعة عشر. أحدها: قوله تعالى:**{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }** [محمد: 24] أمرهم بالتدبر في القرآن، ولو كان غير مفهوم فكيف يأمرهم بالتدبر فيه وثانيها: قوله:**{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱلَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً }** [النساء: 82] فكيف يأمرهم بالتدبر فيه لمعرفة نفي التناقض والاختلاف مع أنه غير مفهوم للخلق؟ وثالثها: قوله:**{ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ }** [الشعراء: 192 ـ 195] فلو لم يكن مفهوماً بطل كون الرسول صلى الله عليه وسلم منذراً به، وأيضاً قوله: { بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ } يدل على أنه نازل بلغة العرب، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون مفهوماً. ورابعها: قوله:**{ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }** [النساء: 83] والاستنباط منه لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه وخامسها: قوله**{ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء }** [النحل: 89] وقوله**{ مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ مِن شَىْء }** [الأنعام: 38] وسادسها: قوله:**{ هُدًى لّلنَّاسِ }** [البقرة: 185]،**{ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ }** [البقرة: 2] وغير المعلوم لا يكون هدى وسابعها: قوله:**{ حِكْمَةٌ بَـٰلِغَةٌ }** [القمر: 5] وقوله:**{ وَشِفَاء لِمَا فِى ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ }** [يونس: 57] وكل هذه الصفات لا تحصل في غير المعلوم وثامنها: قوله:**{ قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَـٰبٌ مُّبِينٌ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [المائدة: 15] وتاسعها: قوله:**{ أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }** [العنكبوت: 51] وكيف يكون الكتاب كافياً وكيف يكون ذكرى مع أنه غير مفهوم؟ وعاشرها: قوله تعالى: { هَـٰذَا بَلَـٰغٌ لّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } فكيف يكون بلاغاً، وكيف يقع الإنذار به مع أنه غير معلوم؟ وقال في آخر الآية**{ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَـٰبِ }** [إبراهيم: 52] وإنما يكون كذلك لو كان معلوماً الحادي عشر: قوله:**{ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً }** [النساء: 174] فكيف يكون برهاناً ونوراً مبيناً مع أنه غير معلوم؟ الثاني عشر: قوله:**{ فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً }** [طه: 123، 124] فكيف يمكن اتباعه والأعراض عنه غير معلوم؟ الثالث عشر:**{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ }** [الإسراء: 9] فكيف يكون هادياً مع أنه غير معلوم؟ الرابع عشر: قوله تعالى:**{ آمن ٱلرَّسُولُ }** [البقرة: 285] إلى قوله**{ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا }** [البقرة: 285] والطاعة لا تمكن إلا بعد الفهم فوجب كون القرآن مفهوماً.الاحتجاج بالأخبار: وأما الأخبار: فقوله عليه السلام: **" إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنّتي "** فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم؟ وعن علي رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: **" عليكم بكتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن اتبع الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، والذكر الحكيم والصراط المستقيم، هو الذي لاتزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم "** الاحتجاج بالمعقول: أما المعقول فمن وجوه: أحدها: أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم به لكانت المخاطبة به تجري مجرى مخاطبة العربي باللغة الزنجية، ولما لم يجز ذاك فكذا هذا وثانيها: أن المقصود من الكلام الإفهام، فلو لم يكن مفهوماً لكانت المخاطبة به عبثاً وسفهاً، وأنه لا يليق بالحكيم وثالثها: أن التحدي وقع بالقرآن وما لا يكون معلوماً لا يجوز وقوع التحدي به، فهذا مجموع كلام المتكلمين، واحتج مخالفوهم بالآية، والخبر، والمعقول.احتجاج مخالفي المتكلمين بالآيات: أما الآية فهو أن المتشابه من القرآن وأنه غير معلوم، لقوله تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } والوقف ههنا واجب لوجوه. أحدها: أن قوله تعالى:**{ وَٱلرٰسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ }** [آل عمران: 7] لو كان معطوفاً على قوله: { إِلاَّ ٱللَّهُ } لبقي { يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } منقطعاً عنه وأنه غير جائز لأنه وحده لا يفيد، لا يقال أنه حال، لأنا نقول حينئذٍ يرجع إلى كل ما تقدم، فيلزم أن يكون الله تعالى قائلاً { كل من عند ربنا } وهذا كفر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وثانيها: أن الراسخين في العلم لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه، فإنهم لما عرفوه بالدلالة لم يكن الإيمان به إلا كالإيمان بالمحكم، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح وثالثها: أن تأويلها لو كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذماً، لكن قد جعله الله تعالى ذماً حيث قال:**{ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاء ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاء تَأْوِيلِه }** [آل عمران: 7].احتجاجهم بالخبر: وأما الخبر فقد روينا في أول هذه المسألة خبراً يدل على قولنا، وروي أنه عليه السلام قال: **" إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله "** ولأن القول بأن هذه الفواتح غير معلومة مروي عن أكابر الصحابة فوجب أن يكون حقاً، لقوله عليه السلام **" أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم "** احتجاجهم بالمعقول: وأما المعقول فهو أن الأفعال التي كلفنا بها قسمان. منها ما نعرف وجه الحكمة فيها على الجملة بعقولنا: كالصلاة والزكاة والصوم فإن الصلاة تواضع محض وتضرع للخالق، والزكاة سعي في دفع حاجة الفقير، والصوم سعي في كسر الشهوة. ومنها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه: كأفعال الحج فإننا لا نعرف بعقولنا وجه الحكمة في رمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة، والرمل، والاضطباع، ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول فكذا يحسن الأمر منه بالنوع الثاني، لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وجه المصلحة فيه، أما الطاعة في النوع الثاني فإنه يدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم، لأنه لما لم يعرف فيه وجه مصلحة البتة لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال فلم لا يجوز أيضاً أن يكون الأمر كذلك في الأقوال؟ وهو أن يأمرنا الله تعالى تارة أن نتكلم بما نقف على معناه، وتارة بما لا نقف على معناه، ويكون المقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر، بل فيه فائدة أخرى، وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب، وإذا لم يقف على المقصود مع قطعه بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه متلفتاً إليه أبداً، ومتفكراً فيه أبداً، ولباب التكليف إشغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه، فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبداً مصلحة عظيمة له، فيتعبده بذلك تحصيلاً لهذه المصلحة، فهذا ملخص كلام الفريقين في هذا الباب. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | هل المراد من الفواتح معلوم: القول الثاني: قول من زعم أن المراد من هذه الفواتح معلوم، ثم اختلفوا فيه وذكروا وجوهاً. الأول: أنها أسماء السور، وهو قول أكثر المتكلمين واختيار الخليل وسيبويه وقال القفال: وقد سمت العرب بهذه الحروف أشياء، فسموا بلام والد حارثة بن لام الطائي، وكقولهم للنحاس: صاد، وللنقد عين، وللسحاب غين، وقالوا: جبل قاف، وسموا الحوت نوناً، الثاني: أنها أسماء لله تعالى، روي عن علي عليه السلام أنه كان يقول: «يا كهۤيعص، يا حۤم عۤسق» الثالث: أنها أبعاض أسماء الله تعالى، قال سعيد بن جبير: قوله آلر، حۤم، نۤ مجموعها هو اسم الرحمن، ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البواقي، الرابع: أنها أسماء القرآن، وهو قول الكلبي والسدي وقتادة الخامس: أن كل واحد منها دال على اسم من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته، قال ابن عباس رضي الله عنهما في آلم: الألف إشارة إلى أنه تعالى أحد، أول، آخر، أزلي، أبدي، واللام إشارة إلى أنه لطيف، والميم إشارة إلى أنه ملك مجيد منان، وقال في: { كهيعص } إنه ثناء من الله تعالى على نفسه، والكاف يدل على كونه كافياً، والهاء يدل على كونه هادياً، والعين يدل على العالم، والصاد يدل على الصادق وذكر ابن جرير عن ابن عباس أنه حمل الكاف على الكبير والكريم، والياء على أنه يجير، والعين على العزيز والعدل. والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصص كل واحد من هذه الحروف باسم معين، وفي الثاني ليس كذلك، السادس: بعضها يدل على أسماء الذات، وبعضها على أسماء الصفات. قال ابن عباس في { ألم } أنا الله أعلم، وفي { المص } أنا الله أفصل، وفي { الر } أنا الله أرى، وهذا رواية أبي صالح وسعيد بن جبير عنه. السابع: كل واحد منها يدل على صفات الأفعال، فالألف آلاؤه، واللام لطفه، والميم مجده. قاله محمد بن كعب القرظي. وقال الربيع بن أنس: ما منها حرف إلا في ذكر آلائه ونعمائه. الثامن: بعضها يدل على أسماء الله تعالى وبعضها يدل على أسماء غير الله، فقال الضحاك: الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد، أي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، التاسع: كل واحد من هذه الحروف يدل على فعل من الأفعال، فالألف معناه ألف الله محمداً فبعثه نبياً، واللام أي لامه الجاحدون، والميم أي ميم الكافرون غيظوا وكبتوا بظهور الحق. وقال بعض الصوفية: الألف معناه أنا، واللام معناه لي، والميم معناه مني، العاشر: ما قاله المبرد واختاره جمع عظيم من المحققين ـ إن الله تعالى إنما ذكرها احتجاجاً على الكفار، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة فعجزوا عنه أنزلت هذه الحروف تنبيهاً على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف، وأنتم قادرون عليها، وعارفون بقوانين الفصاحة، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من البشر، الحادي عشر: قال عبد العزيز بن يحيـى: إن الله تعالى إنما ذكرها لأن في التقدير كأنه تعالى قال: اسمعوها مقطعة حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك، كما أن الصبيان يتعلمون هذه الحروف أولاً مفردة ثم يتعلمون المركبات، الثاني عشر: قول ابن روق وقطرب: إن الكفار لما قالوا: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ لا تسمعوا لهذاالقرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون }** [فصلت: 26] وتواصلوا بالإعراض عنه أراد الله تعالى لما أحب من صلاحهم ونفعهم أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون ذلك سبباً لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن فأنزل الله تعالى عليهم هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عليه السلام، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم وطريقاً إلى انتفاعهم، الثالث عشر: قول أبي العالية إن كل حرف منها في مدة أقوام، وآجال آخرين، قال ابن عباس رضي الله عنه: مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلو سورة البقرة**{ ألم ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ }** [البقرة: 1، 2] ثم أتى أخوه حيـي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه عن ألم وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحق أنها أتتك من السماء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: **" نعم كذلك نزلت "** ، فقال حيـى إن كنت صادقاً إني لأَعلم أجل هذه الأمة من السنين، ثم قال كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أجل أمته إحدى وسبعون سنة، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال حيـى فهل غير هذا؟ فقال: نعم { المص } ، فقال حيـي: هذا أكثر من الأول هذا مائة وإحدى وستون سنة، فهل غير هذا، قال: نعم { الر } ، فقال حيـى هذا أكثر من الأولى والثانية، فنحن نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة، فهل غير هذا؟ فقال: نعم { المر } ، قال حيـي: فنحن نشهد أنا من الذين لا يؤمنون ولا ندري بأي أقوالك نأخذ. فقال أبو ياسر: أما أنا فاشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عن ملك هذه الأمة ولم يبينوا أنها كم تكون، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول إني لأراه يستجمع له هذا كله فقام اليهود، وقالوا اشتبه علينا أمرك كله، فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟ فذلك قوله تعالى:**{ هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [آل عمران: 7] الرابع عشر: هذه الحروف تدل على انقطاع كلام واستئناف كلام آخر، قال أحمد بن يحيـى بن ثعلب: إن العرب إذا استأنفت كلاماً فمن شأنهم أن يأتوا بشيء غير الكلام الذي يريدون استئنافه، فيجعلونه تنبيهاً للمخاطبين على قطع الكلام الأول واستئناف الكلام الجديد. الخامس عشر: روى ابن الجوزي عن ابن عباس أن هذه الحروف ثناء أثنى الله عزّ وجلّ به على نفسه، السادس عشر: قال الأخفش: إن الله تعالى أقسم بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة، ومباني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وأصول كلام الأمم، بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه ثم إنه تعالى اقتصر على ذكر البعض وإن كان المراد، هو الكل، كما تقول قرأت الحمد، وتريد السورة بالكلية، فكأنه تعالى قال: أقسم بهذه الحروف إن هذا الكتاب هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ، السابع عشر: أن التكلم بهذه الحروف، وإن كان معتاداً لكل أحد، إلا أن كونها مسماة بهذه الأسماء لا يعرفه إلا من اشتغل بالتعلم والاستفادة، فلما أخبر الرسول عليه السلام عنها من غير سبق تعلم واستفادة كان ذلك إخباراً عن الغيب فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكرها ليكون أول ما يسمع من هذه السورة معجزة دالة على صدقه. الثامن عشر: قال أبو بكر التبريزي: إن الله تعالى علم أن طائفة من هذه الأمة تقول بقدم القرآن فذكر هذه الحروف تنبيهاً على أن كلامه مؤلف من هذه الحروف، فيجب أن لا يكون قديماً. التاسع عشر: قال القاضي الماوردي: المراد من «ألم» أنه ألم بكم ذلك الكتاب. أي نزل عليكم، والإلمام الزيارة، وإنما قال تعالى ذلك لأن جبريل عليه السلام نزل به نزول الزائر العشرون: الألف إشارة إلى ما لا بدّ منه من الاستقامة في أول الأمر، وهو رعاية الشريعة، قال تعالى:**{ إِن ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ }** [فصلت: 30] واللام إشارة إلى الانحناء الحاصل عند المجاهدات، وهو رعاية الطريقة، قال الله تعالى:**{ وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }** [العنكبوت: 69] والميم إشارة إلى أن يصير العبد في مقام المحبة، كالدائرة التي يكون نهايتها عين بدايتها وبدايتها عين نهايتها، وذلك إنما يكون بالفناء في الله تعالى بالكلية، وهو مقام الحقيقة، قال تعالى:**{ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }** [الأنعام: 91] الحادي والعشرون: الألف من أقصى الحلق، وهو أول مخارج الحروف، واللام من طرف اللسان، وهو وسط المخارج، والميم من الشفة، وهو آخر المخارج، فهذه إشارة إلى أنه لا بدّ وأن يكون أول ذكر العبد ووسطه وآخره ليس إلا الله تعالى، على ما قال:**{ فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ }** [الذاريات: 50].كون فواتح السور أسماءها: والمختار عند أكثر المحققين من هذه الأقوال أنها أسماء السور، والدليل عليه أن هذه الألفاظ إما أن لا تكون مفهومة، أو تكون مفهومة، والأول باطل، أما أولاً فلأنه لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج، وأما ثانياً فلأنه تعالى وصف القرآن أجمع بأنه هدى وذلك ينافي كونه غير معلوم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما القسم الثاني فنقول: إما أن يكون مراد الله تعالى منها جعلها أسماء الألقاب، أو أسماء المعاني، والثاني باطل لأن هذه الألفاظ غير موضوعة في لغة العرب لهذه المعاني التي ذكرها المفسرون، فيمتنع حملها عليها لأن القرآن نزل بلغة العرب، فلا يجوز حملها على ما لا يكون حاصلاً في لغة العرب ولأن المفسرين ذكروا وجوهاً مختلفة، وليست دلالة هذه الألفاظ على بعض ما ذكروه أولى من دلالتها على الباقي فأما أن يعمل على الكل، وهو معتذر بالإجماع لأن كل واحد من المفسرين إنما حمل هذه الألفاظ على معنى واحد من هذه المعاني المذكورة، وليس فيهم من حملها على الكل، أو لا يحمل على شيء منها، وهو الباقي، ولما بطل هذا القسم وجب الحكم بأنها من أسماء الألقاب.جعلها أسماء ألقاب أو معاني: فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: هذه الألفاظ غير معلومة، قوله: «لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج» قلنا: ولم لا يجوز ذلك؟ وبيانه أن الله تعالى تكلم بالمشكاة وهو بلسان الحبشة، والسجيل والاستبرق فارسيان، قوله: «وصف القرآن أجمع بأنه هدى وبيان» قلنا: لا نزاع في اشتمال القرآن على المجملات والمتشابهات، فإذا لم يقدح ذلك في كونه هدى وبياناً فكذا ههنا، سلمنا أنها مفهومة، لكن قولك: «إنها إما أن تكون من أسماء الألقاب أو من أسماء المعاني» إنما يصح لو ثبت كونها موضوعة لإفادة أمر ما وذلك ممنوع، ولعل الله تعالى تكلم بها لحكمة أخرى، مثل ما قال قطرب من أنهم لما تواضعوا في الابتداء على أن لا يلتفتوا إلى القرآن أمر الله تعالى رسوله بأن يتكلم بهذه الأحرف في الابتداء حتى يتعجبوا عند سماعها فيسكتوا، فحينئذٍ يهجم القرآن على أسماعهم، سلمنا أنها موضوعة لأمر ما، فلم لا يجوز أن يقال: إنها من أسماء المعاني؟ قوله: «إنها في اللغة غير موضوعه لشيء البتة» قلنا لا نزاع في أنها وحدها غير موضوعة لشيء، ولكن لم لا يجوز أن يقال: إنها مع القرينة المخصوصة تفيد معنى معيناً؟ وبيانه من وجوه: أحدها: أنه عليه السلام كان يتحداهم بالقرآن مرة بعد أخرى فلما ذكر هذه الحروف دلت قرينة الحال على أن مراده تعالى من ذكرها أن يقول لهم: إن هذا القرآن إنما تركب من هذه الحروف التي أنتم قادرون عليها، فلو كان هذا من فعل البشر لوجب أن تقدروا على الإتيان بمثله، وثانيها: أن حمل هذه الحروف على حساب الجمل عادة معلومة عند الناس، وثالثها: أن هذه الحروف لما كانت أصول الكلام كانت شريفة عزيزة، فالله تعالى أقسم بها كما أقسم بسائر الأشياء، ورابعها: أن الاكتفاء من الاسم الواحد بحرف واحد من حروفه عادة معلومة عند العرب، فذكر الله تعالى هذه الحروف تنبيهاً على أسمائه تعالى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | سلمنا دليلكم لكنه معارض بوجوه: أحدها: أنا وجدنا السور الكثيرة اتفقت في { الم } و { حـم } فالاشتباه حاصل فيها، والمقصود من اسم العلم إزالة الاشتباه. فإن قيل: يشكل هذا بجماعة كثيرين يسمون بمحمد فإن الاشتراك فيه لا ينافي العلمية. قلنا: قولنا { ألم } لا يفيد معنى ألبتة، فلو جعلناه علماً لم يكن فيه فائدة سوى التعيين وإزالة الاشتباه فإذا لم يحصل هذا الغرض امتنع جعله علماً، بخلاف التسمية بمحمد، فإن في التسمية به مقاصد أخرى سوى التعيين، وهو التبرك به لكونه إسماً للرسول، ولكونه دالاً على صفة من صفات الشرف، فجاز أن يقصد التسمية به لغرض آخر من هذه الأغراض سوى التعيين، بخلاف قولنا: { ألم } فإنه لا فائدة فيه سوى التعيين، فإذا لم يفد هذه الفائدة كانت التسمية به عبثاً محضاً. وثانيها: لو كانت هذه الألفاظ أسماء للسور لوجب أن يعلم ذلك بالتواتر لأن هذه الأسماء ليست على قوانين أسماء العرب، والأمور العجيبة تتوفر الدواعي على نقلها لا سيما فيما لا يتعلق بإخفائه رغبة أو رهبة، ولو توفرت الدواعي على نقلها لصار ذلك معلوماً بالتواتر وارتفع الخلاف فيه، فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنها ليست من أسماء السور، وثالثها: أن القرآن نزل بلسان العرب، وهم ما تجاوزوا ما سموا به مجموع اسمين نحو معد يكرب وبعلبك، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة، فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغة العرب، وأنه غير جائز، ورابعها: أنها لو كانت أسماء هذه السور لوجب اشتهار هذه السور بها لا بسائر الأسماء، لكنها إنما اشتهرت بسائر الأسماء، كقولهم سورة البقرة وسورة آل عمران، وخامسها: هذه الألفاظ داخلة في السورة وجزء منها، وجزء الشيء مقدم على الشيء بالرتبة، واسم الشيء متأخر عن الشيء بالرتبة، فلو جعلناها اسماً للسورة لزم التقدم والتأخر معاً، وهو محال، فإن قيل: مجموع قولنا: «صاد» اسم للحرف الأول منه، فإذا جاز أن يكون المركب اسماً لبعض مفرداته فلم لا يجوز أن تكون بعض مفردات ذلك المركب اسماً لذلك المركب؟ قلنا: الفرق ظاهر لأن المركب يتأخر عن المفرد، والاسم يتأخر عن المسمى، فلو جعلنا المركب اسماً للمفرد لم يلزم إلا تأخر ذلك المركب عن ذلك المفرد من وجهين، وذلك غير مستحيل، أما لو جعلنا المفرد اسماً للمركب لزم من حيث أنه مفرد كونه متقدماً ومن حيث أنه اسم كونه متأخراً، وذلك محال، وسادسها: لو كان كذلك لوجب أن لا تخلو سورة من سور القرآن من اسم على هذا الوجه، ومعلوم أنه غير حاصل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | الجواب: «قوله المشكاة والسجيل ليستا من لغة العرب» قلنا: عنه جوابان: أحدهما: أن كل ذلك عربي، لكنه موافق لسائر اللغات، وقد يتفق مثل ذلك في اللغتين: الثاني: أن المسمى بهذه الأسماء لم يوجد أولاً في بلاد العرب، فلما عرفوه عرفوا منها أسماءها، فتكلموا بتلك الأسماء، فصارت تلك الألفاظ عربية أيضاً. قوله: «وجد أن المجمل في كتاب الله لا يقدح في كونه بياناً» قلنا: كل مجمل وجد في كتاب الله تعالى قد وجد في العقل، أو في الكتاب، أو في السنة بيانه، وحينئذٍ يخرج عن كونه غير مفيد، إنما البيان فيما لا يمكن معرفة مراد الله منه. وقوله: «لم لا يجوز أن يكون المقصود من ذكر هذه الألفاظ إسكاتهم عن الشغب؟» قلنا: لو جاز ذكر هذه الألفاظ لهذاالغرض فليجز ذكر سائر الهذيانات لمثل هذا الغرض، وهو بالإجماع باطل. وأما سائر الوجوه التي ذكروها فقد بينا أن قولنا: «ألم» غير موضوع في لغة العرب لإفادة تلك المعاني، فلا يجوز استعمالها فيه، لأن القرآن إنما نزل بلغة العرب، ولأنها متعارضة، فليس حمل اللفظ على بعضها أولى من البعض ولأنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت أبواب تأويلات الباطنية وسائر الهذيانات، وذلك مما لا سبيل إليه. أما الجواب عن المعارضة الأولى: فهو أن لا يبعد أن يكون في تسمية السور الكثيرة باسم واحد ـ ثم يميز كل واحد منها عن الآخر بعلامة أخرى ـ حكمة خفية. وعن الثاني: أن تسمية السورة بلفظة معينة ليست من الأمور العظام، فجاز أن لا يبلغ في الشهرة إلى حد التواتر. وعن الثالث: أن التسمية بثلاثة أسماء خروج عن كلام العرب إذا جعلت اسماً واحداً على طريقة «حضرموت» فأما غير مركبة بل صورة نثر أسماء الأعداد فذاك جائز فإن سيبويه نص على جواز التسمية بالجملة، والبيت من الشعر، والتسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم. وعن الرابع: أنه لا يبعد أن يصير اللقب أكثر شهرة من الاسم الأصلي فكذا ههنا. وعن الخامس: أن الاسم لفظ دال على أمر مستقل بنفسه من غير دلالة على زمانه المعين، ولفظ الاسم كذلك، فيكون الاسم اسماً لنفسه، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون جزء الشيء اسماً له. وعن السادس: أن وضع الاسم إنما يكون بحسب الحكمة، ولا يبعد أن تقتضي الحكمة وضع الاسم لبعض السور دون البعض. على أن القول الحق: أنه تعالى يفعل ما يشاء، فهذا منتهى الكلام في نصرة هذه الطريقة. واعلم أن بعد هذا المذهب الذي نصرناه بالأقوال التي حكيناها قول قطرب: من أن المشركين قال بعضهم لبعض:**{ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [فصلت: 26] فكان إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول هذه السورة بهذه الألفاظ ما فهموا منها شيئاً، والإنسان حريص على ما منع، فكانوا يصغون إلى القرآن ويتفكرون ويتدبرون في مقاطعه ومطالعه رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم، ويوضح ذلك المشكل. فصار ذلك وسيلة إلى أن يصيروا مستمعين للقرآن ومتدبرين في مطالعه ومقاطعه. والذي يؤكد هذا المذهب أمران: أحدهما: أن هذه الحروف ما جاءت إلا في أوائل السور، وذلك يوهم أن الغرض ما ذكرنا والثاني: إن العلماء قالوا: أن الحكمة في إنزال المتشابهات هي أن المعلل لما علم اشتمال القرآن على المتشابهات فإنه يتأمل القرآن ويجتهد في التفكر فيه على رجاء أنه ربما وجد شيئاً يقوي قوله وينصر مذهبه، فيصير ذلك سبباً لوقوفه على المحكمات المخلصة له عن الضلالات، فإذا جاز إنزال المتشابهات التي توهم الضلالات لمثل هذا الغرض فلأن يجوز إنزال هذه الحروف التي لا توهم شيئاً من الخطأ والضلال لمثل هذا الغرض كان أولى. أقصى ما في الباب أن يقال: لو جاز ذلك فليجز أن يتكلم بالزنجية مع العربي. وأن يتكلم بالهذيان لهذا الغرض، وأيضاً فهذا يقدح في كون القرآن هدى وبياناً، لكنا نقول: لم لا يجوز أن يقال: إن الله تعالى إذا تكلم بالزنجية مع العربي ـ وكان ذلك متضمناً لمثل هذه المصلحة ـ فإن ذلك يكون جائزاً؟ وتحقيقه أن الكلام فعل من الأفعال، والداعي إليه قد يكون هو الإفادة، وقد يكون غيرها، قوله: «أنه يكون هذياناً» قلنا: إن عنيت بالهذيان الفعل الخالي عن المصلحة بالكلية فليس الأمر كذلك، وإن عنيت به الألفاظ الخالية عن الإفادة فلم قلت إن ذلك يقدح في الحكمة إذا كان فيها وجوه أخر من المصلحة سوى هذا الوجه؟ وأما وصف القرآن بكونه هدى وبياناً فذلك لا ينافي ما قلناه لأنه إذا كان الغرض ما ذكرناه كان استماعها من أعظم وجوه البيان والهدى والله أعلم.القول بأنها أسماء السور: فروع على القول بأنها أسماء السور: الأول: هذه الأسماء على ضربين: أحدهما: يتأتى فيه الإعراب، وهو إما أن يكون اسماً مفرداً «كصاد، وقاف، ونون» أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كحم، وطس ويس فإنها موازنة لقابيل وهابيل، وأما طسم فهو وإن كان مركباً من ثلاثة أسماء فهو كدر ابجرد، وهو من باب ما لا ينصرف، لاجتماع سببين فيها وهما العلمية والتأنيث. والثاني: ما لا يتأتى فيه الإعراب، نحو كهۤيعص، والۤمر، إذا عرفت هذا فنقول: أما المفردة ففيها قراءتان: إحداهما: قراءة من قرأ صاد وقاف ونون بالفتح، وهذه الحركة يحتمل أن تكون هي النصب بفعل مضمر نحو: اذكر، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف كما تقدم بيانه وأجاز سيبويه مثله في حمۤ وطۤس ويۤس لو قرىء به، وحكى السيرافي أن بعضهم قرأ «يۤس» بفتح النون وأن يكون الفتح جراً، وذلك بأن يقدرها مجرورة بإضمار الباء القسمية، فقد جاء عنهم: «الله لأفعلن» غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة، ويتأكد هذا بما روينا عن بعضهم «أن الله تعالى أقسم بهذه الحروف»، وثانيتهما: قراءة بعضهم صاد بالكسر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | | | --- | --- | --- | --- | وسببه التحريك لالتقاء الساكنين. أما القسم الثاني ـ وهو ما لا يتأتى الإعراب فيه ـ فهو يجب أن يكون محكياً، ومعناه أن يجاء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى كقولك: «دعني من تمرتان». الثاني: أن الله تعالى أورد في هذه الفواتح نصف أسامي حروف المعجم: أربعة عشر سواء، وهي: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون في تسع وعشرين سورة. الثالث: هذه الفواتح جاءت مختلفة الأعداد، فوردت «ص ق ن» على حرف، و «طٰه وطۤس ويۤس وحۤم» على حرفين، و «ألم والۤر وطۤسم» على ثلاثة أحرف، والمۤص والۤمر على أربعة أحرف، و «كهۤعيص وحمۤ عۤسق» على خمسة أحرف، والسبب فيه أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف فقط فكذا ههنا. الرابع: هل لهذه الفواتح محل من الإعراب أم لا؟ فنقول: إن جعلناها أسماء للسور فنعم، ثم يحتمل الأوجه الثلاثة، أما الرفع فعلى الابتداء، وأما النصب والجر فلما مر من صحة القسم بها، ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل على قوله، كما لا محل للجمل المبتدأة وللمفردات المعدودة.الإشارة في «ذلك الكتاب»: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ)
بسم الله الرحمن الرحيم { الم } وسائر الألفاظ التي يتهجى بها، أسماء مسمياتها الحروف التي ركبت منها الكلم لدخولها في حد الاسم، واعتوار ما يخص به من التعريف والتنكير والجمع والتصغير ونحو ذلك عليها، وبه صرح الخليل وأبو علي. وما روي ابن مسعود رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: **" من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف "** فالمراد به غير المعنى الذي اصطلح عليه، فإن تخصيصه به عرف مجدَّد بل المعنى اللغوي، ولعله سماه باسم مدلوله. ولما كانت مسمياتها حروفاً وحداناً وهي مركبة، صدرت بها لتكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع، واستعيرت الهمزة مكان الألف لتعذر الابتداء بها وهي ما لم تلها العوامل موقوفة خالية عن الإعراب لفقد موجبه ومقتضيه، لكنها قابلة إياه ومعرضة له إذا لم تناسب مبنى الأصل ولذلك قيل: { ص } و { ق } مجموعاً فيهما بين الساكنين ولم تعامل معاملة أين وهؤلاء. ثم إن مسمياتها لما كانت عنصر الكلام وبسائطه التي يتركب منها. افتتحت السورة بطائفة منها إيقاظاً لمن تحدى بالقرآن وتنبيهاً على أن أصل المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم، فلو كان من عند غير الله لما عجزوا عن آخرهم مع تظاهرهم وقوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه، وليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلاً بنوع من الإعجاز، فإن النطق بأسماء الحروف مختص بمن خط ودرس، فأما من الأمي الذي لم يخالط الكتاب فمستبعد مستغرب خارق للعادة كالكتابة والتلاوة سيما وقد راعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق في فنه، وهو أنه أورد في هذه الفواتح أربعة عشر اسماً هي نصف أسامي حروف المعجم، إن لم يعد فيها الألف حرفاً برأسها في تسع وعشرين سورة بعددها إذا عد فيها الألف الأصلية مشتملة على أنصاف أنواعها، فذكر من المهموسة وهي ما يضعف الاعتماد على مخرجه ويجمعها (ستشحثك خصفه) نصفها الحاء والكاف والهاء والصاد والسين والكاف، ومن البواقي المجهورة نصفها يجمعه «لن يقطع أمر». ومن الشديدة الثمانية المجموعة في (أجدت طبقك) أربعة يجمعها (أقطك). ومن البواقي الرخوة عشرة يجمعها «خمس» على نصره، ومن المطبقة التي هي الصاد والضاد والطاء والظاء نصفها، ومن البواقي المنفتحة نصفها، ومن القلقلة وهي: حروف تضطرب عند خروجها ويجمعها (قد طبج) نصفها الأقل لقلتها، ومن اللينتين الياء لأنها أقل ثقلاً، ومن المستعلية وهي: التي يتصعد الصوت بها في الحنك الأعلى، وهي سبعة القاف والصاد والطاء والخاء والغين والضاد والظاء نصفها الأقل، ومن البواقي المنخفضة نصفها، ومن حروف البدل وهي أحد عشر على ما ذكره سيبويه، واختاره ابن جني ويجمعها (أحد طويت) منها الستة الشائعة المشهورة التي يجمعها «أهطمين» وقد زاد بعضهم سبعة أخرى وهي اللام في (أصيلال) والصاد والزاي في (صراط وزراط) والفاء في (أجداف) والعين في (أعن) والثاء في (ثروغ الدلو) والباء في «باسمك» حتى صارت ثمانية عشر وقد ذكر منها تسعة الستة المذكورة واللام والصاد والعين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومما يدغم في مثله ولا يدغم في المقارب وهي خمسة عشر: الهمزة والهاء والعين والصاد والطاء والميم والياء والخاء والغين والضاد والفاء والظاء والشين والزاي والواو نصفها الأقل. ومما يدغم فيهما وهي الثلاثة عشر الباقية نصفها الأكثر: الحاء والقاف والراء والسين واللام والنون لما في الإدغام من الخفة والفصاحة، ومن الأربعة التي لا تدغم فيما يقاربها ويدغم فيها مقاربها وهي: الميم والزاي والسين والفاء نصفها. ولما كانت الحروف الذلقية التي يعتمد عليها بذلق اللسان وهي ستة يجمعها (رب منفل) والحلقية التي هي الحاء والخاء والعين والغين والهاء والهمزة، كثيرة الوقوع في الكلام ذكر ثلثيهما. ولما كانت أبنية المزيد لا تتجاوز عن السباعية ذكر من الزوائد العشرة التي يجمعها (اليوم تنساه) سبعة أحرف منها تنبيهاً على ذلك، ولو استقريت الكلم وتراكيبها وجدت الحروف المتروكة من كل جنس مكثورة بالمذكورة ثم إنه ذكرها مفردة وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية، إيذاناً بأن المتحدى به مركب من كلماتهم التي أصولها كلمات مفردة، ومركبة من حرفين فصاعداً إلى الخمسة، وذكر ثلاث مفردات في ثلاث سور لأنها توجد في الأقسام الثلاثة: الاسم والفعل والحرف وأربع ثنائيات لأنها تكون في الحرف بلا حذف (كبل)، وفي الفعل بحذف ثقل كقل. وفي الاسم بغير حذف كمن، وبه كدم في تسع سور لوقوعها في كل واحد من الأقسام الثلاثة على ثلاثة أوجه: ففي الأسماء من وإذ وذو. وفي الأفعال قل وبع وخف. وفي الحروف من وإن ومذ على لغة من جربها. وثلاث ثلاثيات لمجيئها في الأقسام الثلاثة في ثلاث عشرة سورة تنبيهاً على أن أصول الأبنية المستعملة ثلاثة عشر، عشرة منها للأسماء، وثلاثة للأفعال، ورباعيتين وخماسيتين تنبيهاً على أن لكل منهما أصلاً: كجعفر وسفرجل، وملحقاً: كقردد وجحنفل، ولعلها فرقت على السور ولم تعد بأجمعها في أول القرآن لهذه الفائدة مع ما فيه من إعادة التحدي وتكرير التنبيه والمبالغة فيه. والمعنى أن هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف. أو المؤلف منها، كذا وقيل: هي أسماء للسور، وعليه إطباق الأكثر. سميت بها إشعاراً بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحياً من الله تعالى لم تتساقط مقدرتهم دون معارضتها، واستدل عليه بأنها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل والتكلم بالزنجي مع العربي، ولم يكن القرآن بأسره بياناً وهدى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولما أمكن التحدي به وإن كانت مفهمة، فإما أن يراد بها السور التي هي مستهلها على أنها ألقابها، أو غير ذلك. والثاني باطل لأنه؛ إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب فظاهر أنه ليس كذلك، أو غيره وهو باطل لأن القرآن نزل على لغتهم لقوله تعالى:**{ بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ }** [الشعراء: 195] فلا يحمل على ما ليس في لغتهم. لا يقال: لم لا يجوز أن تكون مزيدة للتنبيه؟ والدلالة على انقطاع كلام واستئناف آخر؟ كما قاله قطرب، أو إشارة إلى كلمات هي منها اقتصرت عليها اقتصار الشاعر في قوله: | **قلتُ لها قفي فقالتْ قَافْ** | | | | --- | --- | --- | كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: الألف آلاء الله، واللام لفظه، والميم ملكه. وعنه أن الر و حم و ن مجموعها الرحمن. وعنه أن الم معناه: أنا الله أعلم ونحو ذلك في سائر الفواتح. وعنه أن الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد أي: القرآن منزل من الله بلسان جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام، أو إلى مدد أقوام وآجال بحساب الجمل كما قال أبو العالية متمسكاً بما روي: **" أنه عليه الصلاة والسلام لما أتاه اليهود تلا عليهم الم البقرة. فحسبوه وقالوا: كيف ندخل في دين مدته إحدى وسبعون سنة، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: فهل غيره، فقال: المص والر والمر، فقالوا: خلطت علينا فلا ندري بأيها نأخذ ".** فإن تلاوته إياها بهذا الترتيب عليهم وتقريرهم على استنباطهم دليل على ذلك، وهذه الدلالة وإن لم تكن عربية لكنها لاشتهارها فيما بين الناس حتى العرب تلحقها بالمعربات كالمشكاة والسجيل والقسطاس، أو دلالة على الحروف المبسوطة مقسماً بها لشرفها من حيث إنها بسائط أسماء الله تعالى ومادة خطابه. هذا وإن القول بأنها أسماء السور يخرجها ما ليس في لغة العرب، لأن التسمية بثلاثة أسماء فصاعداً مستكره عندهم ويؤدي إلى اتحاد الاسم والمسمى، ويستدعي تأخر الجزء عن الكل من حيث إن الاسم متأخر عن المسمى بالرتبة، لأنا نقول: إن هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للتنبيه والدلالة على الانقطاع والاستئناف يلزمها وغيرها من حيث إنها فواتح السور، ولا يقتضي ذلك أن لا يكون لها معنى في حيزها ولم تستعمل للاختصار من كلمات معينة في لغتهم، أما الشعر فشاذ، وأما قول ابن عباس، فتنبيه على أن هذه الحروف منبع الأسماء ومبادىء الخطاب وتمثيل بأمثلة حسنة، ألا ترى أنه عد كل حرف من كلمات متباينة لا تفسير، وتخصيص بهذه المعاني دون غيرها إذ لا مخصص لفظاً ومعنى ولا بحساب الجمل فتلحق بالمعربات، والحديث لا دليل فيه، لجواز أنه عليه الصلاة والسلام تبسم تعجباً من جهلهم، وجعلها مقسماً بها وإن كان غير ممتنع لكنه يحوج إلى إضمار أشياء لا دليل عليها، والتسمية بثلاثة أسماء إنما تمتنع إذا ركبت وجعلت اسماً واحداً على طريقة بعلبك، فأما إذا نثرت نثر أسماء العدد فلا، وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم، والمسمى هو مجموع السورة والاسم جزؤها فلا اتحاد، وهو مقدم من حيث ذاته مؤخر باعتبار كونه اسماً، فلا دور لاختلاف الجهتين. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | والوجه الأول أقرب إلى التحقيق وأوفق للطائف التنزيل وأسلم من لزوم النقل ووقوع الاشتراك في الأعلام من واضع واحد فإنه يعود بالنقض على ما هو مقصود بالعلمية، وقيل: إنها أسماء القرآن ولذلك أخبر عنها بالكتاب والقرآن. وقيل: إنها أسماء لله تعالى ويدل عليه أن علياً كرم الله وجهه كان يقول: يا كهيعص، ويا حمعسق، ولعله أراد يا منزلهما. وقيل الألف: من أقصى الحلق وهو مبدأ المخارج، واللام: من طرف اللسان وهو أوسطها، والميم: من الشفة وهو آخرها جمع بينها إيماء إلى أن العبد ينبغي أن يكون أول كلامه وأوسطه وآخره ذكر الله تعالى. وقيل: إنه سر استأثره الله بعلمه وقد روي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة ما يقرب منه، ولعلهم أرادوا أنها أسرار بين الله تعالى ورسوله ورموز لم يقصد بها إفهام غيره إذ يبعد الخطاب بما لا يفيد. فإن جعلتها أسماء الله تعالى، أو القرآن، أو السور كان لها حظ من الإعراب إما الرفع على الابتداء، أو الخبر، أو النصب بتقدير فعل القسم على طريقة الله لأفعلن بالنصب أو غيره كما ذكر، أو الجر على إضمار حرف القسَم، ويتأتى الإعراب لفظاً والحكاية فيما كانت مفردة أو موازنة لمفرد كحم فإنها كهابيل، والحكاية ليست إلا فيما عدا ذلك، وسيعود إليك ذكره مفصلاً إن شاء الله تعالى، وإن أبقيتها على معانيها فإن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف كان في حيز الرفع بالابتداء أو الخبر على ما مر، وإن جعلتها مقسماً بها يكون كل كلمة منها منصوباً أو مجروراً على اللغتين في الله لأفعلن، وتكون جملة قسمية بالفعل المقدر له، وإن جعلتها أبعاض كلمات أو أصواتاً منزلة منزلة حروف التنبيه لم يكن لها محل من الإعراب كالجمل المبتدأة والمفردات المعدودة ويوقف عليها وقف التمام إذا قدرت بحيث لا تحتاج إلى ما بعدها، وليس شيء منها آية عند غير الكوفيين. وأما عندهم فـ { الم } في مواضعها، و**{ الۤمۤصۤ }** [الأعراف: 1] و**{ كۤهيعۤصۤ }** [مريم: 1] و**{ طه }** [طه: 1] و**{ طسۤمۤ }** [الشعراء، القصص: 1] و**{ طسۤ }** [النمل: 1] و**{ يسۤ }** [يس: 1] و**{ حـمۤ }** [الشورى: 1] آية، و**{ حـمۤ }** [الشورى: 1]**{ عۤسۤقۤ }** [الشورى: 2] آيتان، والبواقي ليست بآيات وهذا توقيف لا مجال للقياس فيه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تفسير القرآن العظيم/ ابن كثير (ت 774 هـ)
قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور، فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردّوا علمها إلى الله، ولم يفسرها حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم، واختاره أبو حاتم بن حبان. ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها، فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم إنما هي أسماء السور. قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره وعليه إطباق الأكثر ونقله عن سيبويه أنه نص عليه ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة آلم السجدة وهل أتى على الإنسان وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال الم، وحم، والمص، وص. فواتح افتتح الله بها القرآن، وكذا قال غيره عن مجاهد وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال الم اسم من أسماء القرآن وهكذا قال قتادة وزيد بن أسلم ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه اسم من أسماء السور فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن فإنه يبعد أن يكون { الۤمۤصۤ } اسماً للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف، لا لمجموع القرآن، والله أعلم. وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى. فقال الشعبي فواتح السور من أسماء الله تعالى. وكذلك قال سالم ابن عبد الله وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير. وقال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس قال { الۤمۤ } اسم من أسماء الله الأعظم. هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة. ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال سألت السدي عن { حـمۤ } و { الۤمۤ } فقال ابن عباس هي اسم الله الأعظم. وقال ابن جرير وحدثنا محمد بن المثنى حدّثنا أبو النعمان حدّثنا شعبة عن إسماعيل السدي عن مرة الهمداني قال قال عبد الله، فذكر نحوه. وحكى مثله عن علي وابن عباس. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله تعالى. وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث ابن علية عن خالد الحذاء عن عكرمة أنه قال { الۤمۤ } قسم. ورويا أيضاً من حديث شريك بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس، الم قال أنا الله أعلم، وكذا قال سعيد بن جبير. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال السدي عن أبي مالك. وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم { الۤمۤ } قال أما { الۤمۤ } فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى { الۤمۤ } قال هذه الأحرف الثلاثة من التسعة، والعشرين حرفاً دارت فيها الألسن كلها، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه، وبلألائه، وليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام وآجالهم. قال عيسى بن مريم عليه السلام وعجب، فقال أعجب أنهم ينطقون بأسمائه، ويعيشون في رزقه، فكيف يكفرون به؟ فالألف مفتاح اسم الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد، فالألف آلاء الله، واللام لطف الله، والميم مجد الله، والألف سنة، واللام ثلاثون سنة، والميم أربعون سنة. هذا لفظ ابن أبي حاتم. ونحوه رواه ابن جرير، ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال، ويوفق بينها، وأنه لا منافاة بين كل واحد منها وبين الآخر، وأن الجمع ممكن، فهي أسماء للسور، ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور، فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته كما افتتح سوراً كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه، قال ولا مانع من دلالة الحرف منها على اسم من أسماء الله، وعلى صفة من صفاته، وعلى مدة، وغير ذلك كما ذكره الربيع بن أنس عن أبي العالية لأن الكلمة الواحدة تطلق على معاني كثيرة كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد بها الدين كقوله تعالى**{ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ }** الزخرف 23 وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله كقوله تعالى**{ إِنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَـٰنِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ }** النحل 120 وتطلق ويراد بها الجماعة كقوله تعالى**{ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ }** القصص 23 وقوله تعالى**{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً }** النحل 36 وتطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله تعالى**{ وَقَالَ ٱلَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ }** يوسف 45 أي بعد حين، على أصح القولين، قال فكذلك هذا. هذا حاصل كلامه موجهاً، ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا وعلى هذا معاً، ولفظة الأمة وما أشبهها من الألفاظ المشتركة في الاصطلاح إنما دل في القرآن في كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام، فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن، فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول، ليس هذا موضع البحث فيها، والله أعلم. ثم إن لفظة الأمة تدل على كل من معانيها في سياق الكلام بدلالة الوضع، فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير أو الإضمار بوضع ولا بغيره، فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف، والمسألة مختلف فيها، وليس فيها إجماع حتى يحكم به، وما أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة، فإن في السياق ما يدل على ما حذف بخلاف هذا كما قال الشاعر | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | **قُلْنا قِفِي لنا فقالَتْ قافْ لا تَحْسَبِي أَنَّا نَسِيْنا الإيجافْ** | | | | --- | --- | --- | تعني وقفت. وقال الآخر | **ما للظليمِ عال كيفَ لا يا يَنْقَدُّ عنهُ جِلْدُهُ إذا يا** | | | | --- | --- | --- | فقال ابن جرير كأنه أراد أن يقول إذا يفعل كذا وكذا، فاكتفى بالياء من يفعل. وقال الآخر | **بالخَيْر خيراتٍ وإن شَرّاً فا ولا أريدُ الشَّرَّ إلا أَنْ تا** | | | | --- | --- | --- | يقول وإن شراً فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء، فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما، ولكن هذا ظاهر من سياق الكلام، والله أعلم. قال القرطبي وفي الحديث **" من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة "** الحديث. قال سفيان هو أن يقول في اقتل «اق». وقال خصيف عن مجاهد أنه قال فواتح السور كلها ق وص وحم وطسم والر وغير ذلك هجاء موضوع. وقال بعض أهل العربية هي حروف من حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة الثمانية والعشرين حرفاً كما يقول القائل ابني يكتب في - ا ب ت ث - أي في حروف المعجم الثمانية والعشرين، فيستغني بذكر بعضها عن مجموعها، حكاه ابن جرير. قلت مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفاً، وهي - ا ل م ص ر ك هـ ي ع ط س ح ق ن - يجمعها قولك نص حكيم قاطع له سر. وهي نصف الحروف عدداً، والمذكور منها أشرف من المتروك، وبيان ذلك من صناعة التصريف. قال الزمخشري وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف، يعني من المهموسة والمجهورة، ومن الرخوة والشديدة، ومن المطبقة والمفتوحة، ومن المستعلية والمنخفضة، ومن حروف القلقلة. وقد سردها مفصلة، ثم قال فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. وهذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله، ومن ههنا لحظ بعضهم في هذا المقام كلاماً فقال لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثاً ولا سدى، ومن قال من الجهلة إن في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية، فقد أخطأ خطأً كبيراً، فتعين أن لها معنى في نفس الأمر، فإن صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به، وإلا وقفنا حيث وقفنا، وقلنا | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | **{ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا }** آل عمران 7 ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين، وإنما اختلفوا، فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه، وإلا فالوقف حتى يتبين. هذا مقام. المقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ما هي مع قطع النظر عن معانيها في أنفسها، فقال بعضهم إنما ذكرت ليعرف بها أوائل السور. حكاه ابن جرير، وهذا ضعيف لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه، وفيما ذكرت فيه البسملة تلاوة وكتابة. وقال آخرون بل ابتدىء بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين إذ تواصوا بالإعراض عن القرآن، حتى إذا استمعوا له، تلا عليهم المؤلف منه. حكاه ابن جرير أيضاً، وهو ضعيف لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور، لا يكون في بعضها، بل غالبها، وليس كذلك، ولو كان كذلك أيضاً لانبغىٰ الابتداء بها في أوائل الكلام معهم، سواء كان افتتاح سورة، أو غير ذلك. ثم إن هذه السورة والتي تليها، أعني البقرة وآل عمران، مدنيتان، ليستا خطاباً للمشركين، فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه. وقال آخرون بل إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا، وقرره الزمخشري في كشافه، ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية. قال الزمخشري ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة، وكرر التحدي بالصريح في أماكن. قال وجاء منها على حرف واحد كقوله - ص ن ق - وحرفين مثل { حم } وثلاثة مثل { الۤمۤ } وأربعة مثل { الۤمۤر } و { الۤمۤصۤ } وخمسة مثل { كۤهيعۤصۤ } و { حـمۤ عۤسۤقۤ } لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك قلت ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة، ولهذا يقول تعالى { الۤمۤ ذَٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }**{ الۤمۤ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْه }** آل عمران 1 - 3**{ الۤمۤصۤ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ }** الأعراف 1 ـ 2**{ الۤر كِتَابٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ }** إبراهيم1**{ الۤـمۤ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | السجدة 1 - 2**{ حـمۤ تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }** فصلت 1 - 2**{ حـمۤ عۤسۤقۤ كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }** الشورى 1 - 3 وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر والله أعلم. وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادعى ما ليس له وطار في غير مطاره وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته، وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رباب قال مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } فأتى أخاه حيــــي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل الله تعالى عليه { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } فقال أنت سمعته قال نعم قال فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل الله عليك { الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ }؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" بلى "** فقالوا جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال **" نعم "** قالوا لقد بعث الله قبلك أنبياء، ما نعلمه بيّن لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام حيي بن أخطب، وأقبل على من كان معه، فقال لهم الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد هل مع هذا غيره؟ فقال **" نعم "** ، قال ما ذاك؟ قال **" المص "** قال هذا أثقل وأطول، الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد سبعون، فهذه إحدى وثلاثون ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال **" نعم "** ، قال ما ذاك؟ قال **" الــر "** قال هذا أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال **" نعم "** قال ماذا؟ قال **" المر "** قال هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتان. ثم قال لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً؟ ثم قال قوموا عنه، ثم قال أبو ياسر لأخيه حيــــي بن أخطب ولمن معه من الأحبار ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون، وإحدى وثلاثون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع سنين؟ فقالوا لقد تشابه علينا أمره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم**{ هُوَ ٱلَّذِىۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ مِنْهُ آيَـٰتٌ مُّحْكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ }** آل عمران 7 فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما انفرد به، ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحاً أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة، وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم، والله أعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ)
{ الم } الله أعلم بمراده بذلك. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير فتح القدير/ الشوكاني (ت 1250 هـ)
{ الم } قال القرطبي في تفسيره اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور، فقال الشعبي، وسفيان الثوري، وجماعة من المحدثين هي سرّ الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سرّ، فهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه، ولا نحبّ أن نتكلم فيها، ولكن نؤمن بها، وتُمَرُّ كما جاءت، وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق، وعليّ ابن أبي طالب، قال وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، أنهم قالوا الحروف المقطعة من المكتوم الذي لايفسر، وقال أبو حاتم لم نجد الحروف في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله عزّ وجل. وقال جمع من العلماء كثير بل نحبّ أن نتكلم فيها، ونلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها. واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، فروي عن ابن عباس، وعليّ أيضاً أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها. وقال قُطْرُب، والفراء، وغيرهما هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحدّاهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي بناء كلامهم عليها ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم. قال قطرب كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما نزل { المۤ، } و**{ المصۤ }** الأعراف 1 استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم، وآذانهم، ويقيم الحجة عليهم. وقال قوم روي أن المشركين لما أعرضوا عن القرآن بمكة قالوا**{ وَقَالُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ }** فصلت 26 ــ فأنزلها استغربوها، فيفتحون أسماعهم، فيسمعون القرآن بعدها، فتجب عليهم الحجة. وقال جماعة هي حروف دالة على أسماء أخذت منها، وحذفت بقيتها، كقول ابن عباس، وغيره الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد. وذهب إلى هذا الزجاج، فقال وذهبوا إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معناه!. وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة كقوله فقلت لها قفى، فقالت قاف أي وقفت. وفي الحديث **" من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة "** قال شقيق هو أن يقول فقرة في اقتل اق، كما قال صلى الله عليه وسلم **" كفى بالسيف شا "** أي شافياً، وفي نسخة شاهداً. وقال زيد بن أسلم هي أسماء للسور. وقال الكلبي هي أقسام أقسم الله بها لشرفها وفضلها وهي من أسمائه. ومن أدقّ ما أبرزه المتكلمون في معاني هذه الحروف ما ذكره الزمخشري في الكشاف، فإنه قال وأعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عزّ سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء وهي الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم، ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر، وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها الصاد، والكاف، والهاء، والسين، والحاء، ومن المجهورة نصفها الألف، واللام، والميم، والراء، والعين، والطاء، والقاف، والياء، والنون، ومن الشديدة نصفها الألف، والكاف، والطاء، والقاف، ومن الرخوة نصفها اللام، والميم، والراء، والصاد، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والياء، والنون، ومن المطبقة نصفها الصاد، والطاء،ومن المنفتحة نصفها الألف، والام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والقاف، والياء، والنون، ومن المستعلية نصفها القاف، والصاد، والطاء، ومن المنخفضة نصفها الألف واللام والميم، والراء، والكاف، والهاء، والتاء، والعين، والسين، والحاء، والنون، ومن حروف القلقة نصفها القاف، والطاء، ثم إذا استقريت الكلم، وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكنوزة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته، وقد علمت أن معظم الشيء وجُلَّه ينزل منزلة كله، وهو المطابق للطائف التنزيل، واختصاراته، فكأن الله عزّ اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم، وإلزام الحجة إياهم، وما يدل على أنه تعمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها، وقوعاً في تراكيب الكلم، ان الألف، واللام لما تكاثر، وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين، وهي فواتح سورة البقرة، وآل عمران، والروم، والعنكبوت، ولقمان، والسجدة، والأعراف، والرعد، ويونس، وإبراهيم، وهود، ويوسف، والحجر. انتهى. وأقول هذا التدقيق لا يأتي بفائدة يعتدّ بها، وبيانه أنه إذا كان المراد منه إلزام الحجة، والتبكيت كما قال، فهذا متيسر بأن يقال لهم هذا القرآن هو من الحروف التي تتكلمون بها ليس هو من حروف مغايرة لها، فيكون هذا تبكيتاً، وإلزاماً يفهمه كل سامع منهم من دون إلغاز، وتعمية، وتفريق لهذه الحروف، في فواتح تسع وعشرين سورة، فإن هذا مع ما فيه من التطويل الذي لا يستوفيه سامعه إلا بسماع جميع هذه الفواتح، هو أيضاً مما لا يفهمه أحد من السامعين، ولا يتعقل شيئاً منه فضلاً عن أن يكون تبكيتاً له وإلزاماً للحجة أياً كان، فإن ذلك هو أمر وراء الفهم مترتب عليه، ولم يفهم السامع هذا، ولا ذكر أهل العلم عن فرد من أفراد الجاهلية الذين وقع التحدي لهم بالقرآن، أنه بلغ فهمه إلى بعض هذا فضلاً عن كله. ثم كون هذه الحروف مشتملة على النصف من جميع الحروف التي تركبت لغة العرب منها، وذلك النصف مشتمل على أنصاف تلك الأنواع من الحروف المتصفة بتلك الأوصاف هو أمر لا يتعلق به فائدة لجاهلي، ولا إسلامي، ولا مقرّ، ولا منكر، ولا مسلم، ولا معارض، ولا يصح أن يكون مقصداً من مقاصد الرّب سبحانه، الذي أنزل كتابه للإرشاد إلى شرائعه، والهداية به. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وهب أن هذه صناعة عجيبة، ونكتة غريبة، فليس ذلك مما يتصف بفصاحة، ولا بلاغة حتى يكون مفيداً أنه كلام بليغ، أو فصيح، وذلك لأن هذه الحروف الواقعة في الفواتح ليست من جنس كلام العرب حتى يتصف بهذين الوصفين، وغاية ما هناك أنها من جنس حروف كلامهم، ولا مدخل لذلك فيما ذكر. وأيضاً لو فرض أنها كلمات متركبة بتقدير شيء قبلها، أو بعدها لم يصح وصفها بذلك، لأنها تعمية غير مفهومة للسامع إلا بأن يأتي من يريد بيانها بمثل ما يأتي به من أراد بيان الألغاز، والتعمية، وليس ذلك من الفصاحة، والبلاغة في ورد، ولا صدر بل من عكسهما، وضد رسمهما، وإذا عرفت هذا، فاعلم أن من تكلم في بيان معاني هذه الحروف جازماً بأن ذلك هو ما أراده الله عزّ وجل، فقد غلط أقبح الغلط، وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط، فإنه إن كان تفسيره لها بما فسرها به راجعاً إلى لغة العرب، وعلومها فهو كذب بحت، فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك، وإذا سمعه السامع منهم كان معدوداً عنده من الرَّطَانة، ولا ينافي ذلك أنهم قد يقتصرون على أحرف، أو حروف من الكلمة التي يريدون النطق بها، فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن تقدمه ما يدل عليه، ويفيد معناه، بحيث لا يلتبس على سامعه كمثل ما تقدم ذكره. ومن هذا القبيل ما يقع منهم من الترخيم، وأين هذه الفواتح الواقعة في أوائل السور من هذا؟ وإذا تقرر لك أنه لا يمكن استفادة ما ادّعوه من لغة العرب، وعلومها لم يبق حينئذ إلا أحد أمرين الأوّل التفسير بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه، والوعيد عليه، وأهل العلم أحق الناس بتجنبه، والصدّ عنه، والتنكُّب عن طريقه، وهم أتقى لله سبحانه من أن يجعلوا كتاب الله سبحانه ملعبةً لهم يتلاعبون به، ويضعون حماقات أنظارهم، وخُزَعْبَلات أفكارهم عليه. الثاني التفسير بتوقيف عن صاحب الشرع، وهذا هو المهيع الواضح، والسبيل القويم، بل الجادة التي ما سواها مردوم، والطريقة العامرة التي ما عداها معدوم، فمن وجد شيئاً من هذا، فغير ملوم أن يقول بملء فيه، ويتكلم بما وصل إليه علمه، ومن لم يبلغه شيء من ذلك فليقل لا أدري، أو الله أعلم بمراده، فقد ثبت النهي عن طلب فهم المتشابه، ومحاولة الوقوف على علمه مع كونه ألفاظاً عربية، وتراكيب مفهومة، وقد جعل الله تتبع ذلك صنيع الذين في قلوبهم زيغ، فكيف بما نحن بصدده؟ فإنه ينبغي أن يقال فيه إنه متشابه المتشابه على فرض أن للفهم إليه سبيلاً، ولكلام العرب فيه مدخلاً، فكيف وهو خارج عن ذلك على كل تقدير. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وانظر كيف فهم اليهود عند سماع { ألم } فإنهم لما لم يجدوها على نمط لغة العرب فهموا أن الحروف المذكورة رمز إلى ما يصطلحون عليه من العدد الذي يجعلونه لها، كما أخرج ابن إسحاق، والبخاري في تاريخه، وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله قال «مرّ أبو ياسر بن أخْطَبَ في رجالٍ من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة { الم \* ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ } فأتى أخاه حُيَـيَّ بن أخطب في رجال من اليهود فقال تعلمون، والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه { آلم. ذلك الكتاب } ، فقال أنت سمعته؟ فقال نعم، فمشى حُيَـيَّ في أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا محمد ألم تذكر أنك تتلو، فيما أنزل عليك { الم \* ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } قال **" بلى "** ، قالوا أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال **" نعم "** قالوا لقد بعث الله قبلك الأنبياء ما نعلمه بيَّن لنبي منهم ما مدّة ملكه، وما أجَلُ أمته غيرك، فقال حُيَيُّ بن أخطب وأقبل على من كان معه الألف، واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى، وسبعون سنة، أفتدخلون في دين نبيّ إنما مدّة ملكه، وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال **" نعم "** ، قال وما ذاك؟ قال **" { المصۤ } "** ، قال هذه أثقل، وأطول الألف، واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه إحدى وستون ومائة سنة، هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال **" نعم "** ، قال وما ذاك؟ قال **" { الر } "** قال هذه أثقل، وأطول الألف، واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، هذه إحدى وثلاثون سنة ومائتان، فهل مع هذا غيره؟ قال **" نعم { المر } "** قال فهذه أثقل، وأطول الألف، واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان، ثم قال لقد لُبِّس علينا أمرك يا مُحمدُ حتى ما ندري قليلاً أعطيت أم كثيراً، ثم قاموا، فقال أبو ياسر لأخيه حُيـيّ، ومن معه من الأحبار ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وستون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة، فقالوا لقد تشابه علينا أمره، فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم**{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتُ }** آل عمران 7 فانظر ما بلغت إليه أفهامهم من هذا الأمر المختص بهم من عدد الحروف، مع كونه ليس من لغة العرب في شيء، وتأمل أيّ موضع أحق بالبيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الموضع، فإن هؤلاء الملاعين قد جعلوا ما فهموه عند سماع { الم \* ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } من ذلك العدد موجباً للتثبيط عن الإجابة له، والدخول في شريعته، فلو كان لذلك معنى يعقل، ومدلولٌ يفهم، لدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ظنوه بادىء بدء حتى لا يتأثر عنه ما جاءوا به من التشكيك على من معهم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فإن قلت هل ثبت عن رسول الله في هذه الفواتح شيء يصلح للتمسك به؟ قلت لا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم في شيء من معانيها، بل غاية ما ثبت عنه هو مجرد عدد حروفها، فأخرج البخاري في تاريخه، والترمذي وصححه والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف "** وله طرق عن ابن مسعود. وأخرج ابن أبي شيبة، والبزار بسند ضعيف عن عوف بن مالك الأشجعي نحوه مرفوعاً. فإن قلت هل روي عن الصحابة شيء من ذلك بإسناد متصل بقائله أم ليس إلا ما تقدم من حكاية القرطبي عن ابن عباس وعليّ؟ قلت قد روى ابن جرير والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن ابن مسعود أنه قال { آلم } أحرف اشتقت من حروف اسم الله. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس في قوله { آلم } ، و { حمۤ } ، و { نۤ } قال اسم مقطع. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في كتاب الأسماء عن ابن عباس أيضاً في قوله { الم } ، { والمصۤ } ، { وآلر } ،، و { المر } و { كهعيصۤ } ، و { وطه } ، و { طسمۤ } ، و { وطس } و { ويسۤ } ، و { وصۤ } ، و { وحمۤ } ، و { تَعْمَلُونَ ق } ، و { ن } ، قال هو قسم أقسمه الله، وهو من أسماء الله. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله { آلم } قال هي اسم الله الأعظم. وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس في قوله { آلم } قال ألف مفتاح اسمه الله، ولام مفتاح اسمه لطيف وميم مفتاح اسمه مجيد. وقد روي نحو هذه التفاسير عن جماعة من التابعين فيهم عكرمة والشعبي والسُّدِّي وقتادة ومجاهد والحسن. فإن قلت هل يجوز الاقتداء بأحد من الصحابة؟ قال في تفسير شيء من هذه الفواتح قولاً صح إسناده إليه. قلت لا لما قدمنا، إلا أن يعلم أنه قال ذلك عن علم أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه، ولا مدخل للغة العرب، فلم لا يكون له حكم الرفع؟ قلت تنزيل هذا منزلة المرفوع، وإن قال به طائفة من أهل الأصول وغيرهم، فليس مما ينشرح له صدور المنصفين، ولا سيما إذا كان في مثل هذا المقام، وهو التفسير لكلام الله سبحانه، فإنه دخول في أعظم الخطر بما لا برهان عليه صحيح إلا مجرد قولهم إنه يبعد من الصحابي كل البعد أن يقول بمحض رأيه فيما لا مجال فيه للاجتهاد، وليس مجرد هذا الاستبعاد مسوّغاً للوقوع في خطر الوعيد الشديد. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | على أنه يمكن أن يذهب بعض الصحابة إلى تفسير بعض المتشابه، كما نجده كثيراً في تفاسيرهم المنقولة عنهم ويجعل هذه الفواتح من جملة المتشابه، ثم ها هنا مانع آخر، وهو أن المروي عن الصحابة في هذا مختلف متناقض فإن عملنا بما قاله أحدهم دون الآخر كان تحكماً لا وجه له، وإن عملنا بالجميع كان عملاً بما هو مختلف متناقض، ولا يجوز. ثم ها هنا مانع غير هذا المانع، وهو أنه لو كان شيء مما قالوه مأخوذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لاتفقوا عليه ولم يختلفوا كسائر ما هو مأخوذعنه، فلما اختلفوا في هذا علمنا أنه لم يكن مأخوذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لو كان عندهم شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا لما تركوا حكايته عنه ورفعه إليه، لا سيما عند اختلافهم واضطراب أقوالهم في مثل هذا الكلام الذي لا مجال للغة العرب فيه ولا مدخل لها. والذي أراه لنفسي ولكل من أحبّ السلامة واقتدى بسلف الأمة ألا يتكلم بشيء من ذلك، مع الاعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عزّ وجل لا تبلغها عقولنا ولا تهتدي إليها أفهامنا، وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه، وسيأتي لنا عند تفسير قوله تعالى ــ**{ مِنْهُ آيَـٰتٌ مُّحْكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ }** آل عمران 7 كلام طويل الذيول، وتحقيق تقبله صحيحات الأفهام وسليمات العقول. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير النكت والعيون/ الماوردي (ت 450 هـ)
قوله عز وجل: { الم } اختلف فيه المفسرون على ثمانية أقاويل: أحدها: أنه اسم من أسماء القرآن كالفرقان والذكر، وهو قوله قتادة وابن جريج. والثاني: أنه من أسماء السور، وهو قول زيد ابن أسلم. والثالث: أنه اسم الله الأعظم، وهو قول السدي والشعبي. والرابع: أنه قسم أقسم الله تعالى به، وهو من أسمائه، وبه قال ابن عباس وعكرمة. والخامس: أنها حروف مقطعة من أسماء وأفعال، فالألف من أنا واللام من الله، والميم من أعلم، فكان معنى ذلك: أنا الله أعلم، وهذا قول ابن مسعود وسعيد بن جبير، ونحوه عن ابن عباس أيضاً. والسادس: أنها حروف يشتمل كل حرف منها على معانٍ مختلفة، فالألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد، والألف آلاء الله، والميم مجدُه، والألِفُ سَنَةٌ، واللامُ ثلاثون سنة، والميم أربعون سنة، آجال قد ذكرها الله. والسابع: أنها حروف من حساب الجمل، لما جاء في الخبر عن عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس وجابر بن عبد الله، قال: مَرَّ أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة الكتاب وسورة البقرة: { الم. ذلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } فأتى أخاه حُيَيَّ بْنَ أَخْطبَ في رجال من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد ألم تذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل اللهُ عليك: { الم. ذلك الكِتَابُ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بلى " ، فقالوا: " أجاءك بها جبريل من عند الله ". قال: " نعم " ، قالوا: " لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلم أنه بُيِّنَ لنبي منهم مدة ملكه وما أُكل أمته غيرك " ، فقال حُيَيُّ بن أخطب وأقبل على من كان معه، فقال لهم: " الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة " ، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: " يا محمد هل كان مع هذا غيره "؟، قال: " نعم " ، قال: " ماذا "؟ قال: " المص " ، قال هذه أثقل وأطول، الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه إحدى وستون ومائة سنة، فهل مع هذا يا محمد غيره " ، قال: " نعم " ، قال: " ماذا " قال: " الر " قال: " هذه أثقل وأطول، الألف واحد، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتان سنةٍ، فهل مع هذا يا محمد غيره " ، قال: " نعم " قال: " ماذا "؟، قال: " المر " ، قال هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | .، ثم قال: " لقد التبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً " ، ثم قاموا عنه، فقال أبو ياسر لأخيه حُيَيَّ بن أخطبَ ولمن معه من الأحبار: " ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون سنة " ، قالوا: " لقد تشابه علينا أمره ". فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم: { هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ }. والثامن: أنه حروف هجاء أَعلم الله تعالى بها العَرَب حين تحداهم بالقرآن، أنه مُؤلَف من حروف كلام، هي هذه التي منها بناء كلامهم ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم، إذ لم يخرج عن كلامهم. فأما حروف أبجدَ فليس بناء كلامهم عليها، ولا هي أصل، وقد اختلف أهل العلم فيها على أربعة أقاويل: أحدها: أنها الأيام الستة، التي خلق الله تعالى فيها الدنيا، وهذا قول الضحاك بن مزاحم. والثاني: أنها أسماء ملوك مَدْيَن، وهذا قول الشعبي وفي قول بعض شعراء مَدْيَن دليل على ذلك قال شاعرهم: | **أَلاَ يَا شُعَيْبٌ قَدْ نَطَقْتَ مَقَالةً** | | **سَبَبْتَ بِهَا عَمْراً وَحَيَّ بني عَمْرو** | | --- | --- | --- | | **مُلُوكُ بني حطّى وَهَوَّزُ مِنْهُمُ** | | **وَسَعْفَصُ أَصْلٌ لِلْمَكَارِمِ وَالْفَخْرِ** | | **هُمُ صَبَّحُوا أَهْلَ الحِجَازِ بغارَةٍ** | | **كَمِثْل شُعَاعِ الشَّمْسِ أَوْ مَطْلَعِ الْفَجْرِ** | والثالث: ما روى ميمون بن مهران، عن ابن عباس، أن لأبي جاد حديثاً عجباً: (أبى) آدمُ الطاعة، و (جد) في أكل الشجرة، وأما (هوّز)، فنزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض، وأما (حطي) فحطت خطيئته، وأما (كلمن) فأكل من الشجرة، ومَنَّ عليه بالتوبة، وأما (سعفص) فعصى آدم، فأُخرج من النعيم إلى النكد، وأما قرشت فأقرّ بالذنب، وسَلِمَ من العقوبة. والرابع: أنها حروف من أسماء الله تعالى، روى ذلك معاوية بن قرة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز/ ابن عطية (ت 546 هـ)
اختلف في الحروف التي في أوائل السورة على قولين: قال الشعبي عامر بن شراحيل وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: " هي سرّ الله في القرآن، وهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن يؤمن بها وتُمَرُّ كما جاءت ". وقال الجمهور من العلماء: " بل يجب أن يُتكلم فيها وتُلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها " واختلفوا في ذلك على اثني عشر قولاً: فقال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما: " الحروف المقطعة في القرآن هي اسم الله الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها ". وقال ابن عباس أيضاً: " هي أسماء الله أقسم بها ". وقال زيد بن أسلم: " هي أسماء للسور ". وقال قتادة: " هي أسماء للقرآن كالفرقان والذكر ". وقال مجاهد: " هي فواتح للسور ". قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: كما يقولون في أول الإنشاد لشهير القصائد: " بل " و " لا بل ". نحا هذا النحو أبو عبيدة والأخفش. وقال قوم: " هي حساب أبي جاد لتدل على مدة ملة محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث حيي بن أخطب " وهو قول أبي العالية رفيع وغيره. وقال قطرب وغيره: " هي إشارة إلى حروف المعجم، كأنه يقول للعرب: إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم، فقوله { الم } بمنزلة قولك أ، ب، ت، ث، لتدل بها على التسعة والعشرين حرفاً ". وقال قوم: " هي أمارة قد كان الله تعالى جعلها لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتاباً في أول سور منه حروف مقطعة ". وقال ابن عباس: " هي حروف تدل على: أنا الله أعلم، أنا الله أرى، أنا الله أفصّل ". وقال ابن جبير عن ابن عباس: " هي حروف كل واحد منها إما أن يكون من اسم من أسماء الله، وإما من نعمة من نعمه، وإما من اسم ملك من ملائكة، أو نبي من أنبيائه ". وقال قوم: " هي تنبيه كـ " يا " في النداء ". وقال قوم: " روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة نزلت ليستغربوها فيفتحوا لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة ". قال القاضي أبو محمد: والصواب ما قاله الجمهور أن تفسر هذه الحروف ويلتمس لها التأويل: لأنا نجد العرب قد تكلمت بالحروف المقطعة نظماً لها ووضعاً بدل الكلمات التي الحروف منها، كقول الشاعر: [الوليد بن المغيرة] [الرجز]. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | **قلنا لها قفي فقالت قاف** | | | | --- | --- | --- | أراد قالت: وقفت. وكقول القائل: [زهير بن أبي سلمى] [الرجز]. | **بالخير خيرات وإن شرّاً فا** | | **ولا أريد الشر إلا أن تا** | | --- | --- | --- | أراد: وإن شرّاً فشر، وأراد: إلا أن تشاء. والشواهد في هذا كثيرة، فليس كونها في القرآن مما تنكره العرب في لغتها، فينبغي إذا كان معهود كلام العرب أن يطلب تأويله ويلتمس وجهه، والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرْتَ عنها أو عطفْتَها فإنك تُعربها. وموضع { الم } من الإعراب رفع على أنه خبر ابتداء مضمر، أو على أنه ابتداء، أو نصب بإضمار فعل، أو خفض بالقسم، وهذا الإعراب يتجه الرفع منه في بعض الأقوال المتقدمة في الحروف، والنصب في بعض، والخفض في قول ابن عباس رضي الله عنه أنها أسماء لله أقسم بها. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ)
وأما التفسير. فقوله: { ألم } اختلف العلماء فيها وفي سائر الحروف المقطعة في أوائل السور على ستة أقوال. أحدها: أنها من المتشابه الذي لا يعلمه الا الله. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لله عز وجل في كل كتاب سر، وسر الله في القرآن أوائل السور، وإلى هذا المعنى ذهب الشعبي، وأبو صالح، وابن زيد. والثاني: أنها حروف من أسماء، فاذا أُلفت ضرباً من التأليف كانت أسماء من أَسماء الله عز وجل. قال علي بن أبي طالب: هي أسماء مقطعة لو علم الناس تأليفها علموا اسم الله الذي إِذا دعي به أجاب. وسئل ابن عباس عن «آلر» و«حم» و «نون» فقال: اسم الرحمن على الهجاء، وإِلى نحو هذا ذهب أبو العالية، والربيع بن أنس. والثالث: أنها حروف أقسم الله بها، قاله ابن عباس، وعكرمة. قال ابن قتيبة: ويجوز أن يكون أقسم بالحروف المقطعة كلها، واقتصر على ذكر بعضها كما يقول القائل: تعلمت «أ ب ت ث» وهو يريد سائر الحروف، وكما يقول: قرأت الحمد، يريد فاتحة الكتاب، فيسميها بأول حرف منها، وإِنما أقسم بحروف المعجم لشرفها ولأنها مباني كتبه المنزلة، وبها يذكر ويوحد. قال ابن الانباري: وجواب القسم محذوف، تقديره: وحروف المعجم لقد بين الله لكم السبيل، وأنهجت لكم الدّلالات بالكتاب المنزل، وإِنما حذف لعلم المخاطبين به، ولأن في قوله: { ذلك الكتاب لا ريب فيه } دليلاً على الجواب. والرابع: انه أشار بما ذكر من الحروف إِلى سائرها، والمعنى أنه لما كانت الحروف أُصولاً للكلام المؤلف، أخبر أن هذا القرآن إِنما هو مؤلف من هذه الحروف، قاله الفراء، وقطرب. فان قيل: فقد علموا أنه حروف، فما الفائدة في إِعلامهم بهذا؟ فالجواب أنه نبه بذلك على إِعجازه، فكأنه قال: هو من هذه الحروف التي تؤلفون منها كلامكم، فما بالكم تعجزون عن معارضته؟! فاذا عجزتم فاعلموا أنه ليس من قول محمد عليه السلام. والخامس: أنها أسماء للسور. روي عن زيد بن أسلم، وابنه، وأبي فاختة سعيد ابن علاقة مولى أم هانىء. والسادس: أنها من الرمز الذي تستعمله العرب في كلامها. يقول الرجل للرجل: هل تا؟ فيقول له: بلى، يريد هل تأتي؟ فيكتفي بحرف من حروفه. وأنشدوا: | **قلنا لها قفي لنا فقالت قاف** | | **لا تحسبى أنا نسينا الإيجاف** | | --- | --- | --- | أراد قالت: أقف. ومثله: | **نادوهم ألا الجموا ألا تا** | | **قالوا جميعاً كلهم ألا فا** | | --- | --- | --- | يريد: ألا تركبون؟ قالوا: بلى فاركبوا. ومثله: | **بالخير خيرات وإن شراً فا** | | **ولا أريد الشر إِلا أن تا** | | --- | --- | --- | معناه: وإن شراً فشر ولا أريد الشر إِلا أن تشاء. وإِلى هذا القول ذهب الأخفش، والزجاج، وابن الأنباري. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | وقال أبو روق عطية بن الحارث الهمداني: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة في الصلوات كلها، وكان المشركون يصفّقون ويصفّرون، فنزلت هذه الحروف المقطعة، فسمعوها فبقوا متحيرين. وقال غيره: إِنما خاطبهم بما لا يفهمون ليقبلوا على سماعه، لأن النفوس تتطلع إِلى ما غاب عنها معناه، فاذا أقبلوا اليه خاطبهم بما يفهمون، فصار ذلك كالوسيلة إلى الإبلاغ، إلا أنه لا بد له من معنى يعلمه غيرهم، أو يكون معلوماً عند المخاطبين، فهذا الكلام يعم جميع الحروف. وقد خص المفسرون قوله «الۤمۤ» بخمسة أقوال: أحدها: أنه من المتشابه الذي لا يعلم معناه الا الله عز وجل، وقد سبق بيانه. والثاني: أَن معناه: أَنا الله أعلم. رواه أَبو الضحى عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، وسعيد بن جبير. والثالث: أنه قسم. رواه أبو صالح عن ابن عباس، وخالد الحذاء عن عكرمة. والرابع: أنها حروف من أسماء. ثم فيها قولان. أَحدهما: أَن الألف من «الله» واللام من «جبريل» والميم من «محمد» قاله ابن عباس. فان قيل: إِذا كان قد تنوول من كل اسم حرفه الأول اكتفاءً به، فلم أُخذت اللام من جبريل وهي آخر الاسم؟! فالجواب: أن مبتدأَ القرآن من الله تعالى، فدلَّ على ذلك بابتداء أول حرف من اسمه، وجبريل انختم به التنزيل والإِقراء، فتنوول من اسمه نهاية حروفه، و«محمد» مبتدأ في الإقراء، فتنوول أول حرف فيه. والقول الثاني: أَن الألف من «الله» تعالى، واللام من «لطيف» والميم من «مجيد» قاله أبو العالية. والخامس: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله مجاهد، والشعبي، وقتادة، وابن جريج. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ)
{ الۤمۤ } اسم من أسماء القرآن، كالذكر، والفرقان، أو اسم للسورة أو اسم الله الأعظم، أو اسم من أسماء الله أقسم به، وجوابه ذلك الكتاب، أو افتتاح للسورة يفصل به ما قبلها، لأنه يتقدمها ولا يدخل في أثنائها، أو هي حروف قطعت من أسماء، أفعال، الألف من أنا، اللام من الله، الميم، من أعلم، معناه " أنا الله أعلم " ، أو هي حروف لكل واحد منها معاني مختلفة، الألف مفتاح الله، أو آلاؤه، واللام مفتاح لطيف، والميم مجيد أو مجده، والألف سنة، واللام ثلاثون، والميم أربعون سنة، آجالا ذكرها، أو هي حروف من حساب الجُمَّل، لما روى جابر قال: **" مر أبو ياسر بن أخطب بالنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ { الۤمۤ } ، فأتى أخاه حُيي بن أخطب في نفر من اليهود، فقال: سمعت محمداً صلى الله عليه وسلم يتلو فيما أُنزل عليه { الۤمۤ } ، قالوا: أنت سمعته قال: نعم، فمشى حُيي في أولئك النفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا محمد، ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أُنزل عليك { الۤمۤ } ، قال: " بلى " فقال: أجاءك بها جبريل ـ عليه السلام ـ من عند الله ـ تعالى ـ قال: " نعم " ، قالوا: لقد بعث قبلك أنبياء، ما نعلمه بُين لنبي منهم مدة ملكه، وأجل أمته غيرك. فقال حُيي لمن كان معه: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، ثم قال: يا محمد هل كان مع هذا غيره قال: " نعم " ، قال: ماذا، قال: { الۤمۤصۤ } قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحدة واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه إحدى وستون ومائة سنة، وهل مع هذا غيره قال: " نعم " فذكر { الۤمۤر } فقال: هذه أثقل، وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومئتا سنة، ثم قال: لقد التبس علينا أمرك، ما ندري أقليلاً أُعطيت أم كثيراً: ثم قاموا عنه. فقال لهم أبو ياسر؟ ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة، قالوا: قد التبس علينا أمره. فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم "** **{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ }** [آل عمران: 7] أو أعلم الله تعالى العرب لما تحدوا بالقرآن أنه مؤتلف من حروف كلامهم، ليكون عجزهم عن الإتيان بمثله أبلغ في الحجة عليهم، أو الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد صلى الله عليه وسلم، أو افتتح به الكلام كما يفتتح بألا........ أبجد: كلمات أبجد حروف أسماء من أسماء الله ـ تعالى ـ مأثور أو هي أسماء الأيام الستة التي خلق الله [تعالى] فيها الدنيا أو هي أسماء ملوك مدين قال: | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | **ألا يا شعيب قد نطقت مقالة** | | **سَببْت بها عمرا وحي بني عمرو** | | --- | --- | --- | | **ملوك بني حطي وهواز منهم** | | **وسعفص أصل في المكارم والفخر** | | **هم صبحوا أهل الحجاز بغارة** | | **كمثل شعاع الشمس أو مطلع الفجر** | أو أول من وضع الكتاب العربي ستة أنفس " أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت " ، فوضعوا الكتاب على أسمائهم، وبقي ستة أحرف لم تدخل في أسمائهم، وهي الضاء، والذال، والشين، والغين، والثاء، والخاء، وهي الروادف التي تحسب بعد حساب الجُمَّل، قاله عروة بن الزبير، ابن عباس " أبجد " أبى آدم الطاعة، وجد في أكل الشجرة، " هوز " فزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض، " حطي " ، فحطت عنه خطيئته، " كلمن " فأكل من الشجرة، ومَنَّ عليه بالتوبة " سعفص " فعصى آدم فأُخرج من النعيم إلى النكد " قرشت " فأقر بالذنب، وسلم من العقوبة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | | | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ)
قوله تعالى: { الۤمۤ } قال ابن عطية: اختلف في الحروف التي في أوائل السور فقال الشعبي وسفيان الثوري وجماعة: إنّها من المتشابه الذى انفرد الله بعلمه. قال ابن عرفة: قال الفخر في المحصول: اختلفوا هل يرد في القرآن ما لا يفهم أو لا على قولين؟ قال (السراج): في اختصاره إنما ذلك في الألفاظ الحادثة (وأما) الكلام القديم الأزلي فمجمع عليه. قال ابن عرفة: وهذا لا يحتاج إليه إلاّ لو قال: اختلفوا هل يصح أن يرد في القرآن اللفظ المهمل الذي لا معنى له؟ وقوله: ما لا يفهم دليل على أنه عنده معنى ودلالة لم تفهم. قال ابن عطية: (والجمهور) على أن لها معاني اختلفوا فيها على اثني عشر قولا. قال ابن عرفة: اعلم أن قول الصحابي إذا كان مخالفا للقياس هو عندهم من قبيل المسند لأن التجاسر (على) التفسير بمثل هذا لا يكون إلا عن توقيف من نصّ أو إجماع. وقال قوم: هو بحساب (أبجد) (دليل) على مدة النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر السهيلي في الروض الأنف حديثا استخرج منه المدة ومن أوائل السور وأسقط المتكرر من الحروف. وقال قوم هي أمارة على أن الله تعالى وعد أهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتابا في أول كل سورة منه حروف مقطعة. قال ابن عرفة: يقال له: ما معنى تلك الحروف؟ (فلم يزل) الإشكال فيها، (وهذه الم مبنية على الوقف). فإن قلت: إنما تكون موقوفة قبل الترتيب مثل: واحد - اثنان - ثلاثة - إذا أردت مجرد العَدَدِ (وهذه) جزء كلام (وقع) الإسناد (فيزول) الوقف (ويعرف). قال: (في) الجواب (إنها) محكية مثل سائر الأسماء المحكية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ)
أخرج وكيع وعبد بن حميد عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كان يعد { الۤمۤ } آية و { حمۤ } آية. وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وصححه وابن الضريس ومحمد بن نصر وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو ذر الهروي في فضائله والبيهقي في شعب الإِيمان عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. لا تقول { الۤمۤ } حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف ".** وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والدارمي وابن الضريس والطبراني ومحمد بن نصر عن ابن مسعود موقوفاً. مثله. وأخرج محمد بن نصر وأبو جعفر النحاس في كتاب الوقف والابتداء والخطيب في تاريخه وأبو نصر السجزي في الإِبانة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" اقرأوا القرآن، فإنكم تؤجرون عليه. أما إني لا أقول { الۤمۤ } حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر، فتلك ثلاثون ".** وأخرج ابن أبي شيبة والبزار والمرهبي في فضل العلم وأبو ذر الهروي وأبو نصر السجزي بسند ضعيف عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" من قرأ القرآن كتب الله له بكل حرف حسنة. لا أقول { الۤمۤ، ذلك الكتاب } حرف، ولكن الألف، والذال، والألف، والكاف ".** وأخرج محمد بن نصر والبيهقي في شعب الإيمان والسجزي عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له به حسنة. لا أقول { بسم الله } ولكن باء، وسين، وميم، ولا أقول { الۤمۤ } ولكن الألف ، واللام، والميم ".** وأخرج محمد بن نصر السلفي في كتاب الوجيز في ذكر المجاز والمجيز عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال **" من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له عشر حسنات: بالباء، والتاء، والثاء ".** وأخرج ابن أبي داود في المصاحف وأبو نصر السجزي عن ابن عمر قال: إذا فرغ الرجل من حاجته، ثم رجع على أهله ليأت المصحف، فليفتحه فليقرا فيه، فإن الله سيكتب له بكل حرف عشر حسنات. أما إني لا أقول { الۤمۤ } ولكن الألف عشر، واللام عشر، والميم عشر. وأخرج أبو جعفر النحاس في الوقف والابتداء وأبو نصر السجري عن قيس بن سكن قال: قال ابن مسعود: تعلموا القرآن فإنه يكتب بكل حرف منه عشر حسنات، ويكفر به عشر سيئات. أما إني لا أقول { الۤمۤ } حرف، ولكن أقول ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس من طرق عن ابن عباس في قوله { الۤمۤ } قال: أنا الله أعلم. وأخرج ابن جرير والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن ابن مسعود قال { الۤمۤ } حروف اشتقت من حروف هجاء أسماء الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { الۤمۤ } و { حمۤ } و { نۤ } قال: اسم مقطع. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله { الۤمۤ } و { الۤمۤصۤ } و { الۤر } و { الۤمۤر } و { كۤهيعۤصۤ } و { طهۤ } و { طسۤ } و { يسۤ } و { صۤ } و { حمۤ } و { قۤ } و { نۤ } قال:هو قسم أقسمه الله، وهو من أسماء الله. وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال { الۤمۤ } قسم. وأخرج ابن جريج عن ابن مسعود في قوله { الۤمۤ } قال: هو اسم الله الأعظم. وأخرج ابن جريج وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { الۤمۤ } و { حمۤ } و { طسۤ } قال: هي اسم الله الأعظم. وأخرج ابن أبي شيبة في تفسيره وعبد بن حميد وابن المنذر عن عامر. أنه سئل عن فواتح السور نحو { الۤمۤ } و { الۤر } قال: هي أسماء من أسماء الله مقطعة الهجاء، فإذا وصلتها كانت أسماءً من أسماء الله. وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس في قوله { الۤمۤ } قال: ألف مفتاح اسمه الله، ولام مفتاح اسمه لطيف، وميم مفتاح اسمه مجيد. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: فواتح السور أسماء من أسماء الله. وأخرج أبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن السدي قال: فواتح السور كلها من أسماء الله. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { الۤمۤ } قال: اسم من أسماء القرآن. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله { الۤمۤ } قال: اسم من أسماء القرآن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ بن حبان عن مجاهد قال { الۤمۤ } و { حمۤ } و { الۤمۤصۤ } و { صۤ } فواتح افتتح الله بها القرآن. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال { الۤمۤ } و { طسۤمۤ } فواتح يفتتح الله بها السور. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال: فواتح السور كلها { الۤمۤ } و { الۤمۤر } و { حمۤ } و { قۤ } وغير ذلك هجاء موضوع. وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال { الۤمۤ } ونحوها أسماء السور. وأخرج ابن اسحق والبخاري في تاريخه وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رباب قال **" مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة { الۤمۤ ذلك الكتاب } فأتاه أخوه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال: تعلمون ـ والله ـ لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه { الۤمۤ ذلك الكتاب } فقالوا أنت سمعته؟ قال: نعم. فمشى حيي في أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد ألم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك { الۤمۤ ذلك الكتاب }؟ قال: بلى. قالوا: قد جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال: نعم. قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء، ما نعلمه بين لنبي لهم ما مدة ملكه، وما أجل أمته غيرك فقال حيي بن أخطب: وأقبل على من كان معه الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه احدى وسبعون سنة. أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة!** **ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال: ما ذاك؟ قال { الۤمۤصۤ } قال: هذه أثقل وأطول. الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه مائة واحدى وستون سنة.** **هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم. قال: ماذا؟ قال { الۤر } قال: هذه أثقل وأطول. الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة.** **فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم. { الۤمۤر } قال فهذه أثقل وأطول. الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلاً أُعطيت، أم كثيراً! ثم قاموا فقال أبو ياسر لأخيه حيي ومن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله. إحدى وسبعون، وإحدى وستون، ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم**{ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات }** [آل عمران: 7]. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: إن اليهود كانوا يجدون محمداً وأمته، إن محمداً مبعوث ولا يدرون ما مدة أمة محمد. فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل { الۤمۤ } قالوا: قد كنا نعلم أن هذه الأمة مبعوثة، وكنا لا ندري كم مدتها، فإن كان محمد صادقاً فهو نبي هذه الأمة قد بين لنا كم مدة محمد، لأن { الۤمۤ } في حساب جملنا إحدى وسبعون سنة، فما نصنع بدين إنما هو واحد وسبعون سنة؟ فلما نزلت { الۤر } وكانت في حساب جملهم مائتي سنة وواحداً وثلاثين سنة قالوا: هذا الآن مائتان وواحد وثلاثون سنة وواحدة وسبعون. قيل ثم أنزل { الۤمۤر } فكان في حساب جملهم مائتي سنة وواحدة وسبعين سنة في نحو هذا من صدور السور فقالوا: قد التبس علينا أمره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفاً، دارت فيها الألسن كلها، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو من آية وثلاثة، وليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجالهم. فالألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه اللطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد. فالألف آلاء الله، واللام لطف الله، والميم مجد الله. فالألف سنة، واللام ثلاثون، والميم أربعون. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ بن حبان في التفسير عن داود بن أبي هند قال: كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور قال: يا داود إن لكل كتاب سراً، وإن سر هذا القرآن فواتح السور، فدعها وسَل عما بدا لك. وأخرج أبو نصر السجزي في الإِبانة عن ابن عباس قال: آخر حرف عارض به جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم { الۤمۤ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين }. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ)
سورة البقرة مدنية وهي مائتان وست وثمانون آية { بسم الله الرحمن الرحيم } { الم } الألفاظُ التي يعبّر بها عن حروف المعجمِ التي من جملتها المُقطّعاتُ المرقومةُ في فواتح السورِ الكريمة أسماءٌ لها، لاندراجها تحت حدِّ الاسم، ويشهدُ به ما يعتريها من التعريف والتنكيرِ والجمعِ والتصغيرِ وغير ذلك من خصائص الاسم، وقد نص على ذلك أساطينُ أئمة العربـية، وما وقع في عبارات المتقدمين من التصريح بحَرْفيتها محمولٌ على المسامحة، وأما ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه من أنه عليه السلام قال: **" من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنةٌ والحسنةُ بعشر أمثالها، لا أقول ألمْ حرفٌ بل ألفٌ حرفٌ ولامٌ حرفٌ وميمٌ حرف "** وفي رواية الترمذي والدارمي: **" لا أقول ألم حرفٌ وذلك الكتابُ حرف ولكنِ الألفُ حرفٌ واللامُ حرفٌ والميمُ حرفٌ والذالُ حرفٌ والكافُ حرفٌ "** فلا تعلّقَ له بما نحن فيه قطعاً، فإن إطلاقَ الحرف على ما يقابل الاسمَ والفعلَ عرفٌ جديدٌ اخترعه أئمةُ الصناعة. وإنما الحرفُ عند الأوائل ما يتركب منه الكلمُ من الحروف المبسوطة، وربما يطلق على الكلمة أيضاً تجوزاً، وأريد به في الحديث الشريف دفعُ توهمِ التجوُّز، وزيادةُ تعيـينِ إرادةِ المعنى الحقيقي ليتبـين بذلك أن الحسنةَ الموعودةَ ليست بعدد الكلماتِ القرآنية، بل بعدد حروفها المكتوبةِ في المصاحف، كما يلوِّح به ذكرُ كتابِ الله دون كلامِ الله أو القرآن، وليس هذا من تسمية الشيء باسم مدلولهِ في شيء كما قيل، كيف لا والمحكومُ عليه بالحرفية واستتباعِ الحسنةِ إنما هي المسمّياتُ البسيطةُ الواقعةُ في كتاب الله عز وعلا، سواءٌ عُبّر عنها بأسمائها أو بأنفسها كما في قولك السينُ مهملة والشينُ مثلثة وغير ذلك مما لا يصدُق المحمولُ إلا على ذات الموضوع لا أسماؤها المؤلفة كما إذا قلنا الألف مؤلف من ثلاثة أحرف، فكما أن الحسنات في قراءة قوله تعالى: { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } بمقابلة حروفهِ البسيطة، وموافقةٌ لعددها كذلك في قراءة قوله تعالى: { الم } بمقابلة حروفهِ الثلاثة المكتوبة وموافقةٌ لعددها، لا بمقابلة أسمائِها الملفوظة والألفاتِ الموافقةِ في العدد، إذِ الحكمُ بأن كلاً منها حرفٌ واحد مستلزمٌ للحكم بأنه مستتبعٌ لحسنةٍ واحدة، فالعبرةُ في ذلك بالمعبَّر عنه دون المعبَّر به، ولعل السرَّ فيه أن استتباعَ الحسنةِ منوطٌ بإفادة المعنىٰ المرادِ بالكلمات القرآنية. فكما أن سائرَ الكلماتِ الشريفة لا تفيد معانيَها إلا بتلفظ حروفِها بأنفسها، كذلك الفواتحُ المكتوبةُ لا تفيد المعانيَ المقصودةَ بها إلا بالتعبـير عنها بأسمائها، فجُعل ذلك تلفظاً بالمسمَّيات كالقسمِ الأول من غير فرقٍ بـينهما. ألا ترى إلى ما في الروايةِ الأخيرةِ من قوله عليه السلام: **" والذالُ حرفٌ والكاف حرف "** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | كيف عبّر عن طَرَفي «ذلك» باسميهما، مع كونهما ملفوظين بأنفسهما، ولقد روعيَتْ في هذه التسميةِ نُكتةٌ رائعة حيث جُعِلَ كلُ مسمىً - لكونه من قبـيل الألفاظ - صَدْراً لاسمه، ليكون هو المفهومَ منه إثرَ ذي أثير، خلا أن الألفَ حيث تعذّر الابتداءُ بها استُعيرت مكانها الهمزة، وهي مُعرَبة إذ لا مناسبةَ بـينها وبـين مبنيِّ الأصل، لكنها ما لم تلِها العواملُ ساكنةُ الأعجاز على الوقف كأسماء الأعدادِ وغيرِها، حين خلت عن العوامل، ولذلك قيل: صادْ، وقافْ، مجموعاً فيهما بـين الساكنين، ولم تعامَلْ معاملةَ أين وكيف وهؤلاءِ، وإن وَلِيَها عاملٌ مسها الإعرابُ، وقصرُ ما آخِرُه ألفٌ عند التهجي لابتغاء الخِفّةِ لا لأن وِزانَه وزانُ (لا) تقصَرُ تارةً فتكونُ حرفاً وتمُدّ أخرى فتكون اسماً لها كما في قولِ حسانَ رضي الله عنه: [البسيط] | **ما قال (لا) قطُّ إلا في تشهُّده** | | **لولا التشهُّدُ لم تُسْمَعْ له لاءُ** | | --- | --- | --- | هذا وقد تكلموا في شأن هذه الفواتح الكريمةِ وما أريد بها فقيل: إنها من العلوم المستورةِ، والأسرارِ المحجوبة، رُوي عن الصّدّيق أنه قال: «في كل كتاب سرٌّ، وسرُّ القرآن أوائلُ السور»، وعن عليّ رضي الله عنه: «إن لكل كتابٍ صفوةً وصفوةُ هذا الكتابِ حروفُ التهجّي» وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «عجِزتِ العلماءُ عن إدراكها» وسُئل الشعبـي عنها فقال: «سرُّ الله عز وجل فلا تطلُبوه» وقيل: إنها من أسماء الله تعالى، وقيل: كلُّ حرفٍ منها إشارة إلى اسمٍ من أسماء الله تعالى، أو صفةٍ من صفاته تعالى. وقيل: إنها صفاتُ الأفعال، الألفُ آلاؤُه، واللام لُطفه، والميمُ مجدُه ومُلكُه، قاله محمدُ بنُ كعبٍ القُرَظي. وقيل: إنها من قبـيل الحساب، وقيل: الألفُ من الله، واللامُ من جبريلَ، والميمُ من محمد، أي الله أنزل الكتابَ بواسطة جبريلَ على محمدٍ عليهما الصلاة والسلام. وقيل: هي أقسام من الله تعالى بهذه الحروف المعجمة، لشرفها من حيث إنها أصولُ اللغاتِ ومبادىءُ كتبِه المنزلة، ومباني أسمائِه الكريمة، وقيل: إشارةٌ إلى انتهاء كلامٍ وابتداءِ كلامٍ آخرَ، وقيل، وقيل. ولكن الذي عليه التعويلُ: إما كونُها أسماءً للسور المصدرة بها، وعليه إجماعُ الأكثر، وإليه ذهب الخليلُ وسيبويه، قالوا سمِّيت بها إيذاناً بأنها كلماتٌ عربـيةٌ معروفةُ التركيب من مسميات هذه الألفاظ، فيكون فيه إيماءٌ إلى الإعجاز والتحدّي على سبـيل الإيقاظِ، فلولا أنه وحيٌ من الله عز وجل لما عجِزوا عن معارضته، ويقرُب منه ما قاله الكلبـيُّ والسّدي وقَتادة من أنها أسماءٌ للقرآن، والتسمية بثلاثة أسماءٍ فصاعداً إنما تُستنكر في لغة العرب إذا رُكِّبَتْ وجُعلت إسماً واحداً، كما في حَضْرَموت، فأما إذا كانت منثورة فلا استنكار فيها، والمسمى هو المجموعةُ لا الفاتحة فقط، حتى يلزمَ اتحادُ الاسمِ والمسمى، غايةُ الأمر دخولُ الاسم في المسمى، ولا محذورَ فيه، كما لا محذورَ في عكسه حسبما تحققْتَه آنفاً، وإنما كُتبت في المصاحف صورُ المسميات دون صور الأسماءِ لأنه أدلَّ على كيفية التلفّظ بها، وهي [إمَّا] أن يكون على نهْج التهجّي دون التركيب ولأن فيه سلامةً من التطويل لا سيما في الفواتحِ الخُماسية، على أن خطَّ المُصحف مما لا يناقَشُ فيه بمخالفة القياسِ، وإما كونها مسرودةً على نمط التعديد، وإليه جنَح أهلُ التحقيق. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | قالوا إنما وردت هكذا ليكون إيقاظاً لمن تُحِدِّيَ بالقرآن، وتنبـيهاً لهم على أنه منتظمٌ من عين ما ينظِمون منه كلامَهم، فلولا أنه خارجٌ عن طوْق البشر، نازلٌ من عند خلاّق القُوى والقَدَر، لما تضاءلت قوتُهم، ولا تساقطت قدرتُهم، وهم فرسانُ حَلْبةِ الحِوار، وأُمراءُ الكلام في نادي الفخار، دون الإتيانِ بما يُدانيه، فضلاً عن المعارَضة بما يُساويه، مع تظاهرهم في المضادّة والمضارّة، وتهالُكِهم على المعَازة والمعارّة. أو ليكونَ مطلَعُ ما يُتلى عليهم مستقلاً بضربٍ من الغرابة، أُنموذجاً لما في الباقي من فنون الإعجاز، فإن النطقَ بأنفُس الحروفِ في تضاعيف الكلام، وإن كان على طرَف التمام، يتناولُه الخواصُّ والعوامُّ، من الأعراب والأعجام، لكن التلفظَ بأسمائها إنما يتأتَّى ممن درَس وخطَّ، وأما ممن لم يحُمْ حولَ ذلك قطّ، فأعزُّ من بَـيْض الأَنُوق، وأبعدُ من مَناط العَيُّوق، لا سيما إذا كان على نمط عجيب، وأسلوبٍ غريب، مُنْبىءٍ عن سرَ سِرِّيَ، مبنيٍّ على نهجٍ عبقري، بحيث يَحارُ في فهمه أربابُ العقول، ويعجِزُ عن إدراكه ألبابُ الفحول. كيف لا وقد وردت تلك الفواتحُ في تسعٍ وعشرين سورةً على عدد حروف المُعجم، مشتملةً على نصفها تقريباً، بحيث ينطوي على أنصاف أصنافِها تحقيقاً أو تقريباً، كما يتّضحُ عند الفحص والتنقير، حسبما فصّله بعضُ أفاضِلِ أئمةِ التفسير. فسبحان من دقّتْ حكمتُه من أن تطالعَها الأنظارُ، وجلّت قُدرتُه عن أن تنالَها أيدي الأفكار، وإيرادُ بعضِها فرادىٰ وبعضِها ثنائيةً إلى الخماسية جرَى على عادة الافتنان، مع مراعاة أبنيةِ الكَلِم وتفريقِها على السور، دون إيرادِ كلِّها مرةً لذلك ولِما في التكرير والإعادة من زيادة إفادةٍ، وتخصيصُ كلَ منها بسُورتها مما لا سبـيلَ إلى المطالبة بوجهه، وعدُّ بعضِها آيةً دون بعضٍ مبنيٌّ على التوقيف البحت. أما { الم } فآيةٌ حيثما وقعت، وقيل في آل عمرانَ ليست بآية، و(المص) آية، و(المر) لم تُعدَّ آية، و(الر) ليست بآية في شيءٍ من سورها الخمس، و(طـسم) آية في سورتيها، و(طٰه) و(يٰس) آيتان، و(طس) ليست بآية، و(حم) آيةٌ في سُوَرِها كلِّها، و(كهيعص) آية، و(حم عسق) آيتان، و(ص) و(ق) و(ن) لم تُعَدَّ واحدةٌ منها آية. هذا على رأي الكوفيـين. وقد قيل: إن جميعَ الفواتحِ آياتٌ عندهم في السور كلِّها بلا فرقٍ بـينها، وأما مَنْ عداهم فلم يعُدّوا شيئاً منها آية، ثم إنها على تقدير كونها مسرودةً على نَمطِ التعديدِ لا تُشَمُّ رائحةَ الإعراب، ويوقفُ عليها وقفَ التمام، وعلى تقدير كونِها أسماءً للسور أو للقرآنِ كان لها حظٌّ منه، إما الرفعُ على الابتداء أو على الخبرية، وإما النصبُ بفعل مُضمَرٍ، كاذكُرْ، أو بتقدير فعلِ القَسَم على طريقة: الله لأفعلن، وإما الجرُ بتقدير حرفِه حسبما يقتضيه المقام، ويستدعيه النظام، ولا وقف فيما عدا الرفعَ على الخبرية، والتلفظُ بالكل على وجه الحكاية ساكنةَ الأعجاز، إلا أن ما كانت منها مفردةً مثل: (ص) و(ق) و(ن) يتأتى فيها الإعرابُ اللفظيُ أيضاً، وقد قُرئت بالنصب على إضمار فعلِ، أي اذكُرْ أو اقرأْ صادَ وقافَ ونونَ، وإنما لم تنوَّنْ لامتناع الصرف، وكذا ما كانت منها موازنةً لمفردٍ نحوِ (حم) و(يٰس) و(طس) الموازنةَ لقابـيلَ وهابـيلَ، حيث أجاز سيبويهِ فيها مثلَ ذلك قال في باب أسماء السور من كتابه: وقد قرأ بعضُهم ياسينَ والقرآنِ، وقافَ والقرآنِ، فكأنه جعله اسماً أعجمياً، ثم قال اذكُرْ ياسينَ، انتهى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وحكى السيرافيُّ أيضاً عن بعضهم قراءةَ (ياسينَ) ويجوز أن يكون ذلك في الكل تحريكاً لالتقاء الساكنين، ولا مَساغَ للنصب بإضمار فعلِ القسم لأن ما بعدها من القرآن والقلمِ محلوفٌ بهما، وقد استكرهوا الجمعَ بـين قَسَمين على مُقسَمٍ عليه واحدٍ قبل انقضاءِ الأول، وهو السرُّ في جعل ما عدا الواوِ الأولى في قوله تعالى:**{ وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلاْنثَىٰ }** [الليل، الآيات: 1-3] عاطفةً، ولا مجال للعطف هٰهنا للمخالفة بـين الأولِ والثاني في الإعراب، نعم يجوز ذلك بجعل الأولِ مجروراً بإضمارِ الباءِ القسَمية، مفتوحاً لكونه غيرَ منصرِف، وقرىء (ص) و(ق) بالكسر على التحريك لالتقاءِ الساكنين، ويجوز في (طاسين ميم) أن تفتح نونُها، وتُجعلَ من قبـيل (داراً بجَرَد) ذكره سيبويه في كتابه. وأما ما عدا ذلك من الفواتح فليس فيها إلا الحكايةُ. وسيجيء تفاصيلُ سائر أحكامِ كلَ منها مشروحةً في مواقعها بإذن الله عزَّ سلطانُه. أما هذه الفاتحةُ الشريفةُ فإن جُعلت اسماً للسورة أو للقرآنِ فمحلُها الرفع، إما على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، والتقديرُ هذا (الم) أي مسمًّى به، وإنما صحت الإشارةُ إلى القرآن بعضاً أو كلاً مع عدم سبْق ذكرِه لأنه باعتبار كونِه بصدد الذكرِ صار في حكم الحاضِرِ المشاهَد، كما يقال هذا ما اشترى فلان. وإما على أنه مبتدأ، أي المسمَّى به والأولُ هو الأظهر، لأن ما يُجعلُ عنوانَ الموضوع حقُه أن يكون قبل ذلك معلومَ الانتساب إليه عند المخاطَب، وإذ لا عِلْمَ بالتسمية قبلُ فحقُها الإخبارُ بها، وادعاءُ شهرتها يأباه الترددُ في أن المسمَّى هي السورةُ أو كلُّ القرآن | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ)
قيل: إن الألف ألف الوحدانية واللام لام اللطف والميم ميم الملك. معناه: من وجدنى على الحقيقة بإسقاط العلائق والأغراض فلطفت له فى معناه فأخرجته من رق العبودية إلى الملك الأعلى، وهو الاتصال بمالك الملك بعد الاشتغال بشئ من الملك. وقيل { الۤمۤ }: سر الحق إلى حبيبه صلى الله عليه وسلم ولا يعلم سر الحبيب، ألا تراه يقول: **" لو تعلمون ما أعلم "** أى من حقائق سر الحق وهو الحروف المفردة فى الكتاب. وقيل { الۤمۤ }: معناه أنا الله أعلم. وقيل { الۤمۤ }: معنى الألف أى أفرد سرك لى واللام لين جوارحك لعبادتى والميم أتم معى بحور شوقك وصفاتك أذبتك بصفات الأنس بى ولمشاهدة آياتى، والقرب منى. وقال سهل بن عبد الله: الألف هو الله واللام جبريل والميم محمد صلى الله عليه وسلم. وقال بعض العراقيين: حَيَّر عقول الخلق فى ابتداء خطابه وهو محل الفهم ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى معرفة حقائق خطابه إلا بعلمهم بالعجز عن معرفة خطابه. وقال بعضهم: { الۤمۤ } أى: أنزلت عليك هذا الكتاب من اللوح المحفوظ. وقال بعضهم: لكل كتاب أنزله الله على النبيين منسىٌّ، وسره فى القرآن هذه الحروف فى أوائل السور. وقيل الألف: ألف الوحدانية واللام لام الإلهية والميم ميم المهيمنية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ)
هذه الحروف المقطعة في أوائل السورة من المتشابِه الذي لا يعلم تأويله إلا الله - عند قوم، ويقولون لكل كتاب سر، وسر الله في القرآن هذه الحروف المقطعة. وعند قوم إنها مفاتح أسمائه، فالألف من اسم (الله)، واللام يدل على اسمه " اللطيف " ، والميم يدل على اسمه " المجيد " و " الملك ". وقيل أقسم الله بهذه الحروف لشرفها لأنها بسائط أسمائه وخطابه. وقيل إنها أسماء السور. وقيل الألف تدل على اسم " الله " واللام تدل على اسم " جبريل " والميم تدل على اسم " محمد " صلى الله عليه وسلم، فهذا الكتاب نزل من الله على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم. والألِف من بين سائر الحروف انفردت عن أشكالها بأنها لا تتصل بحرف في الخط وسائر الحروف يتصل بها إلا حروف يسيرة، فينتبه العبد عند تأمل هذه الصفة إلى احتياج الخلق بجملتهم إليه، واستغنائه عن الجميع. ويقال يتذكر العبد المخلص مِنْ حالة الألف تَقَدُّسَ الحق سبحانه وتعالى عن التخصص بالمكان؛ فإن سائر الحروف لها محل من الحَلقْ أو الشفة أو اللسان إلى غيره من المدارج غير الألف فإنها هويته، لا تضاف إلى محل. ويقال الإشارة منها إلى انفراد العبد لله سبحانه وتعالى فيكون كالألف لا يتصل بحرف، ولا يزول عن حالة الاستقامة والانتصاب بين يديه. ويقال يطالب العبد في سره عند مخاطبته بالألف بانفراد القلب إلى الله تعالى، وعند مخاطبته باللام بلين جانبه في (مَراعاة) حقه، وعند سماع الميم بموافقة أمره فيما يكلفه. ويقال اختص كل حرف بصيغة مخصوصة وانفردت الألف باستواء القامة، والتميز عن الاتصال بشيء من أضرابها من الحروف، فجعل لها صدر الكتاب إشارة إلى أن من تجرَّد عن الاتصال بالأمثال والأشغال حَظِي بالرتبة العليا، وفاز بالدرجة القصوى، وصلح للتخاطب بالحروف المنفردة التي هي غير مركبة، على سنة الأحباب في ستر الحال، وإخفاء الأمر على الأجنبي من القصة - قال شاعرهم: | **قلت لها قفي قالت قاف** | | | | --- | --- | --- | | **لا تحسبي أَنَّا نسبنا لا يخاف** | | | ولم يقل وقفت ستراً على الرقيب ولم يقل لا أقف مراعاة لقلب الحبيب بل: " قالت قاف ". ويقال تكثر العبارات للعموم والرموز والإشارات للخصوص، أَسْمَعَ موسى كلامَه في ألف موطن، وقال لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم: أَلِفْ... وقال عليه السلام: **" أوتيتُ جوامْع الكلِم فاختُصِرَ لي الكلامُ اختصاراً "** وقال بعضهم: قال لي مولاي: ما هذا الدنَف؟ قلت: تهواني؟ قال: لام ألف. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ)
{ الۤمۤ } معناه ان الالف إشارة الى وحدانيّة الذات واللام إشارة الى ازليّة الصفات والميم إشارة الى ملكه في اظهار الآيات بالالف اخبر عن فردانية الذات وباللام اخبر عن سرمديّة الصفات وبالميم اخبر عن سلطانيته في اظهار الآيات والالف سرّ الذات واللام سرّ الصفات والميم سرّ القدم في ظهور الآيات اما سرّ الذات فلا ينكشف الا بوحدانىّ الذات وسرّ الصفات لا ينكشف الاّ لمَنِ اتخذ صفاته بالصفات وسر القدم لا ينكشف الا لمن خرج من الايات تجلّى بالألفِ لارواحِ الانبياء من سرّ ذاته فأفناها عن البشريات وكَسَاها من أنوار الذات فخصائصهم في ذلك اظهار المعجزات وتجلّى باللام لقلوب العارفين عن سرّ صفاته فأفناها عن الكدورات والَبَسها من سَنَا الصفات فكرامتهم في ذلك اظهار الشطحيات وتجلى بالميم لعقول الاولياء من سرّ قدمه فإفناؤها عن الشهوات وانوارها صفاء القدرة بوسائط الآيات فشرفهم في ذلك اظهار الكرامات وقال جعفر الصادق { الۤمۤ } رمز وإشارة بينه وبين حبيبه عليه السلام أراد ان لا يطلع عليه احد سواهما اخرجه بحروف بعيدة عن درك الاغيار وفهم السرّ بينهما لا غير وقال بعضهم إن الله خص حبيبهُ صلى الله عليه وسلم بهذه الأحرف التي في أوائل السُّور وخاطبه بها مخاطبة الحبيب الى الحبيب باسرارٍ تقصر الأفهامُ والأوهام غيرةً من اطلاع الغير عليها وقال ابن مسعود عرضتِ الاحْرفُ المُعْجم على الرحمٰن عزّ وجل وهي تسعة وعشرون حرفاً فتواضع الالف من بين الحروف له تواضعه فجعله قائما وجعله مفتاح كل اسم من اسمائه وقيل انّ الألف الفُ الوحدانيّة واللام لام اللطف والميم ميم الملك معناه من وجدني على الحقيقة بإسقاط العلائق والاعراض تَلَطّفت له في معناه واخرَجْته من المعبودية الى مُلكِ الاعلى وهو الانفصال بمالك الملك دون الاشتغال بشئ من الملك وقيل الۤمۤ سرّ الحق الى حبيبه صلوات الله وسلامه عليه ولا يعلم سرّ الحبيب غيره الا تراه بقوله **" لو تعلمون ما اعلم "** اي من حقائق سرّ الحقّ وهو الحروف المفردة في الكتاب وقال بعض العراقيين فحيَّر عقول الخلق في ابتداء خطابه وهو مَحلّ الفهم ليعلموا ان لا سبيل الى معرفة حقائق خطابه لا بعلمهم بالعجز عن معرفة خطابه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ)
{ الم \* ذلك الكتاب } أشار بهذه الحروف الثلاثة إلى كلّ الوجود من حيث هو كلّ لأن أ إشارة إلى ذات الذي هو أوّل الوجود على ما مرّ. و ل إلى العقل الفعّال المسمّى جبريل، وهو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى. و م إلى محمد الذي هو آخر الوجود تتمّ به دائرته وتتصل بأوّلها، ولهذا ختم وقال: **" إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض "** وعن بعض السلف أن ل ركبت من ألفين، أي: وضعت بإزاء الذات مع صفة العلم اللذين هما عالمان من العوالم الثلاثة الإلهية التي أشرنا إليها، فهو اسم من أسماء الله تعالى، إذ كل اسم هو عبارة عن الذات مع صفة ما. وأمّا م فهي إشارة إلى الذات مع جميع الصفات والأفعال التي احتجبت بها في الصورة المحمدية التي هي اسم الله الأعظم بحيث لا يعرفها إلا من يعرفها. ألا تدري أن م التي هي صورة الذات كيف احتجب فيها، فإن الميم فيها الياء، وفي الياء ألف. والسرّ في وضع حروف التهجيّ هو أن لا حرف إلا وفيه ألف، ويقرب من هذا قول من قال: معناه القسم بالله العليم الحكيم، إذ جبريل مظهر العلم، فهو اسمه العليم. ومحمد مظهر الحكمة، فهو اسمه الحكيم. ومن هذا ظهر معنى قول من قال: تحت كلّ اسم من أسمائه تعالى أسماء بغير نهاية. والعلم لا يتمّ ولا يكمل إلا إذا قرن بالفعل في عالم الحكمة الذي هو عالم الأسباب والمسببات، فيصير حكمة. ومن ثم لا يحصل الإسلام بمجرّد قول: لا إله إلا الله، إلا إذا قُرِنَ: بمحمد رسول الله. فمعنى الآية { الم \* ذلك الكتاب } الموعود، أي: صورة الكلّ المومى إليها بكتاب الجفر والجامعة المشتملة على كل شيء، الموعود بأنه يكون مع المهدي في آخر الزمان لا يقرأه كما هو بالحقيقة إلا هو، والجفر لوح القضاء الذي هو عقل الكلّ والجامعة لوح القدر الذي هو نفس الكلّ، فمعنى كتاب الجفر والجامعة: المحتويان على كلّ ما كان ويكون، كقولك سورة البقرة وسورة النمل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ)
{ آلم } ان قلت ما الحكمة فى ابتداء البقرة بالم والفاتحة بالحرف الظاهر المحكم الجواب قال السيوطى رحمه الله فى الاتقان اقول فى مناسبة ابتداء البقرة بالم انه لما ابتدئت الفاتحة بالحرف المحكم الظاهر لكل احد بحيث لا يعذر فى فهمه ابتدئت البقرة بمقابلة وهو الحرف المتشابه البعيد التأويل ليعلم مراتبه للعقلاء والحكماء ليعجزهم بذلك ليعتبروا ويدبروا آياته كذا فى خواتم الحكم وحل الرموز وكشف الكنوز للعارف بالله الشيخ المعروف بعلى دده. واعلم انهم تكلموا فى شأن هذه الفواتح الكريمة وما اريد بها فقيل انها من العلوم المستورة والاسرار المجحوبة اى من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه وهى سر القرآن فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها الى الله تعالى وفائدة ذكرها طلب الايمان بها والالف الله واللام لطيف والميم مجيد اى انا الله اللطيف المجيد كما ان قوله تعالى**{ الر }** يوسف 1. انا الله ارى و**{ كهيعص }** مريم 1 انا الله الكريم الهادى الحكيم العليم الصادق وكذا قوله تعالى**{ ق }** ق 1. اشارة الى انه القادر القاهر و**{ ن }** اشارة الى انه النور الناصر فهى حروف مقطعة كل منها مأخوذ من اسم من اسمائه تعالى والاكتفاء ببعض الكلمة معهود فى العربية كما قال الشاعر | **قلت لها قفى فقالت ق** | | | | --- | --- | --- | اي وقفت وقيل ان هذه الحروف ذكرت فى اوائل بعض السور لتدل على ان القرآن مؤلف من الحروف التى هى " ا ب ت ث " فجاء بعضها مقطعا وبعضها مؤلفا ليكون ايقاظا لما تحدى بالقرآن وتنبيها لهم على انهم منتظم من عين ما ينظمون منه كلامهم فلولا انه خارج عن طوق البشر نازل من عند خلاق القوى والقدر لأتوا بمثله هذا ما جنح اليه اهل التحقيق ولكن فيه نظر لانه يفهم من هذا القول ان لا يكون لتلك الحروف معان واسرار والنبى عليه السلام اوتى علم الاولين والآخرين فيحتمل ان يكون الم وسائر الحروف المقطعة من قبيل المواضعات المعميات بالحروف بين المحبين لا يطلع عليها غيرهما وقد واضعها الله تعالى مع نبيه عليه السلام فى وقت لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبى مرسل ليتكلم بها معه على لسان جبريل عليه السلام باسرار وحقائق لا يطلع عليها جبريل ولا غيره يدل على هذا ما روى فى الاخبار ان جبريل عليه السلام لما نزل بقوله تعالى**{ كهيعص }** مريم 1 فلما قال " كاف " قال النبى عليه السلام " علمت " فقال " ها " فقال " علمت " فقال " ياء " فقال " علمت " فقال " عين " فقال " علمت " فقال " صاد " فقال " علمت } فقال جبريل عليه السلام كيف علمت ما لم اعلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وقال الشيخ الاكبر قدس سره فى اول تفسيره { الم ذلك الكتاب } البقرة1. واما الحروف المجهولة التى انزلها الله تعالى فى اوائل السور فسبب ذلك من أجلها لغو العرب عند نزول القرآن فانزلها سبحانه حكمة منه حتى تتوفر دواعيهم لما انزل الله اذا سمعوا مثل هذا الذى ما عهدوه والنفوس من طبعها ان تميل الى كل امر غريب غير معتاد فينصتون عن اللغو ويقبلون عليها ويصغون اليها فيحصل المقصود فيما يسمعونه مما يأتى بعد هذه الحروف النازلة من عند الله تعالى وتتوفر دواعيهم للنظر فى الامر المناسب بين حروف الهجاء التى جاء بها مقطعة وبين ما يجاورها من الكلم وابهم الامر عليهم من عدم اطلاعهم عليها فرد الله بذلك شرا كبيرا من عنادهم وعتوهم ولغوهم كان يظهر منهم فذاك رحمة للؤمنين وحكمة منه سبحانه انتهى كلامه. قال بعض العارفين كل ما قيل فى شرحها بطريقة النظر والاعتبار فتخمين النظر من قائله لا حقيقة الا لمن كشف الله له عن قصده تعالى بها. يقول الفقير جامع هذه المعارف واللطائف شكر الله مساعيه وبسط اليه من عنده اياديه قال شيخى الاكمل فى هامش كتاب اللائحات البرقيات له بعد ما ذكر بعض خواص الم على طريق الحقيقة زلق فى امثال هذا المتشابه اقدام الزائغين عن العلم وتحير عقول الراسخين فى العلم وبعضهم توقف تأدبا مع الله تعالى ولم يتعرض بل قالوا آمنا به كل من عند ربنا وبعضهم تأولوا لكن بوجوه بعيدة عن المرام والمقام بعدا بعيدا الا انها مستحسنة شرعا مقبولة دينا وعقلا وما يذكر اى بالمقصود والمرام على ما هو عليه فى نفسه فى الواقع الا اولوا الباب لكن بتذكير الله تعالى والهامه واطلاعه تخصيصا لهم وتمييزا لهم عما عداهم اختصاصا اليها ازليا لهم من عند الله لا بتفكر انفسهم ونظر عقولهم بل بمحض فيض الله والهامه انتهى كلامه الشريف قدس سره اللطيف. وقال عبد الرحمن البسطامى قدس سره مؤلف الفوائح المسكية فى بحر الوقوف ثم ان بعض الانبياء علموا اسرار الحروف بالوحى الربانى والالقاء الصمدانى وبعض الاولياء بالكشف الجلى النورانى والفيض العلى الروحانى وبعض العلماء بالنقل الصحيح والعقل الرجيح وكل منهم قد اخبر اصحابه ببعض اسرارها إما بطريق الكشف والشهود او بطريق الرسم والحدود والصحيح ان الله تعالى طوى علم اسرار الحروف عن اكثر هذه الامة لما فيها من الحكم الالهية والمصالح الربانية ولم يأذن للاكابر ان يعرفوا منه الا بعض اسراره التى يشتمل عليها تركيبها الخاص المنتج انواع التسخيرات والتأثيرات فى العوالم العلويات والسفليات الى غير ذلك انتهى كلام بحجر الوقوف. وفى التأويلات النجمية هيئة الصلاة التى ذكرت فى القرآن ثلاثة القيام لقوله تعالى | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | **{ وقوموا لله قانتين }** البقرة 238والركوع لقوله تعالى**{ واركعوا مع الراكعين }** البقرة 43 والسجود لقوله تعالى**{ واسجد واقترب }** العلق 19 فالألف في المن إشارة الى القيام واللام اشارة الى الركوع والميم اشارة الى السجود يعنى من قرأ سورة الفاتحة التى هى مناجاة العبد مع الله فى الصلاة التى هى معراج المؤمنين يجيبه الله تعالى بالهداية التى طلبها منه بقوله اهدنا. ثم اعلم ان المتشابه كالمحكم من جهة اجر التلاوة لما ورد عن ابن مسعود رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم **" من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر امثالها لا اقول الم حرف بل الف حرف ولام حرف وميم حرف "** ففى الم تسع حسنات. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ)
{ الم } وقد حارت العقول في رموز الحكماء، فكيف بالأنبياء؟ فكيف بالمرسلين؟ فكيف بسيد المرسلين؟، فكيف يطمع أحد في إدراك حقائق رموز رب العالمين؟! قال الصديق رضي الله عنه: في كل كتاب سر، وسر القرآن فواتح السور. هـ. فمعرفة أسرار هذه الحروف لا يقف عليها إلا الصفوة من أكابر الأولياء. وكل واحد يلمع له على قدر صفاء شربه. وأقرب ما فيها أنها أشياء أقسم الله بها لشرفها. فقيل: إنها مختصرة من أسمائه تعالى، فالألف من الله، واللام من اللطيف، والميم من مهيمن أو مجيد. وقيل: من أسماء نبيه صلى الله عليه وسلم فالميم مختصرة إما من المصطفى، ويدل عليه زيادة الصاد في**{ المص }** [الأعرَاف: 1]، أو من المرسل، ويدل عليه زيادة في الراء**{ المر }** [الرعّد: 1]. و**{ الر }** [الحِجر: 1] مختصرة من الرسول. فكأن الحق تعالى يقول: يا أيها المصطفى أو يا أيها الرسول**{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }** [البَقَرَة: 2] أو هذا**{ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ }** [الأعراف: 2] أو غير ذلك، ويدل على هذا توجيه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم بعد هذه الرموز. و**{ كهيعص }** [مريَم: 1] مختصرة من الكافي والهادي والولي والعالم والصادق، و**{ طه }** [طه: 1] من طاهر، و**{ طس }** [النَّمل: 1] من يا طاهر يا سيد، ويا محمد في**{ طسم }** [الشُّعَرَاء: 1]، إلى غير ذلك. وعند أهل الإشارة يقول الحق جلّ جلاله: ألف: أفْرِدْ سِرَّك إِلّيَّ، انفراد الألف عن سائر الحروف، واللام: لَيِّنْ جوارحك لعبادتي، والميم: أقم معي بمحو رسومك وصفاتك، أزينك بصفاء الأنس والقرب مني. قاله الثعلبي. قلت: والأظهر أنها حروف تشير للعوالم الثلاثة، فالألف لوحدة الذات في عالم الجبروت، واللام لظهور أسرارها في عالم الملكوت، والميم لسريان أمدادها في عالم الرحموت، والصاد لظهور تصرفها في عالم الملك. وكل حرف من هذه الرموز يدل على ظهور أثر الذات في عالم الشهادة، فالألف يشير إلى سريان الوحدة في مظاهر الأكوان، واللام: يشير إلى فيضان أنوار الملكوت من بحر الجبروت، والميم يشير إلى تصرف الملك في عالم الملك، وكأن الحق تعالى يقول: هذا الكتاب الذي تتلو يا محمد - هو فائض من بحر الجبروت إلى عالم الملكوت، ومن عالم الملكوت إلى الرحموت، ثم نزل به الروح الأمين إلى عالم الملك والشهادة، فلا ينبغي أن يرتاب فيه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ)
آلم آية عند الكوفيين المعنى: ـ واختلف العلماء في معنى أوائل هذه السور مثل { آلم } و { آلمص } و { كهيعص } و { طه } و { صاد } و { قاف } و { حم } وغير ذلك على وجوه فقال بعضهم انها إسم من أسماء القرآن ذهب اليه قتادة ومجاهد وابن جريح وقال بعضهم هي فواتح يفتح بها القرآن، روي ذلك عن مجاهد أيضاً واختاره البلخي وفائدتها أن يعلم ابتداء السورة وانقضاء ما قبلها وذلك معروف في كلام العرب وأنشد بعضهم | **بل وبلدة ما الأنس من أهلها** | | | | --- | --- | --- | ويقول آخر | **بل ما هيج أحزانا وشجواً قد شجا** | | | | --- | --- | --- | وقوله (بل) ليس من الشعر وانما أراد أن يعلم أنه قطع كلامه وأخذ في غيره وأنه مبتدأ الذي أخذ فيه غير ناسق له على قبله وقال بعضهم هي اسم للسورة روي ذلك عن زيد بن أسلم والحسن وقال بعضهم هي اسم الله الأعظم وروي ذلك عن السدي اسماعيل وعن الشعبي وقال بعضهم هي قسم اقسم الله به وهي من اسمائه وروي ذلك عن ابن عباس وعكرمة وقال قوم هي حروف مقطعة من اسماء واقعاً كل حرف من ذلك بمعنى غير معنى الحرف الآخر يعرفه النبي صلى الله عليه وآله نحو قال الشاعر | **نادوهم أن ألجموا ألاتا** | | **قالوا جميعاً كلهم ألافا** | | --- | --- | --- | يريد ألا تركبون قالوا ألا فاركبوا وقال آخر: | **قلنا لها قفي فقالت قاف** | | | | --- | --- | --- | بمعنى قالت انا واقفه. روى ذلك أبو الضحى عن ابن عباس وعن ابن مسعود وجماعة من الصحابة وقال بعضهم هي حروف هجاء موضوعة. روي ذلك عن مجاهد وقال بعضهم هي حروف هجاء يشتمل كل حرف على معان مختلفة. روي ذلك عن أنس واختاره الطبري وقال بعضهم هي حروف من حساب الجمل وقال بعضهم لكل كتاب سر وسر القرآن في فواتحه. هذه أقوال المفسرين فاما أهل اللغة فانهم اختلفوا فقال بعضهم هي حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تمام ثمانية وعشرين حرفا كما يستغنى بذكر أ ب ت ث عن ذكر الباقي وبذكر قفا نبك عن ذكر باقي القصيدة قالوا ولذلك رفع ذلك الكتاب لأن معناه عن الألف واللام والميم من الحروف المقطعة وقوله ذلك الكتاب الذي أنزلته اليك مجموعاً لا ريب فيه كما قالوا في أبي جاد أ ب ت ث ولم يذكروا باقي الحروف وقال راجز بني أسد: | **لما رأيت أمرها في حطي** | | **أخذت منها بقرون شمط** | | --- | --- | --- | فاراد الخبر عن المرأة بانها من أبي جاد فاقام قوله في حطي مقامه لدلالة الكلام عليه وقال آخرون بل ابتدئت بذلك أوائل السور ليفتح لاستماعه أسماع المشركين اذ تواصوا بالاعراض عن القرآن حتى اذا استمعوا له، تلا عليهم آلم. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وقال بعضهم الحروف التي هي اوائل السور حروف يفتتح الله بها كلامه وقال ابو مسلم: المراد بذلك، ان هذا القرآن الذى عجزتم عن معارضته، ولم تقدروا على الاتيان بمثله هو من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في كلامكم وخطابكم، فحيث لم تقدروا عليه فاعلموا انه من فعل الله، وانما كررت في مواضع استظهاراً في الحجة وحكي ذلك عن قطرب. وروي في اخبارنا ان ذلك من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، واختاره الحسين بن علي المغربي واحسن الوجوه التي قبلت قول من قال: انها اسماء للسور خص الله تعالى بها بعض السور بتلك كما قيل للمعوذتين: المقشقشتان؛ أي تبرءان من النفاق، وكما سميت الحمد أم القرآن وفاتحة الكتاب. ولا يلزم أن لا تشترك سورتان أو ثلاث في إسم واحد، وذلك أنه كما يشترك جماعة من الناس في إسم واحد، فاذا اريد التمييز زيد في صفته، وكذلك اذا أرادوا تمييز السورة قالوا: الم ذلك، الم الله، الم، وغير ذلك. وليس لأحد أن يقول: كيف تكون أسماء للسور، والاسم غير المسمى، فكان يجب ألا تكون هذه الحروف من السورة، وذلك خلاف الاجماع. قيل: لا يمتنع أن يسمى الشيء ببعض ما فيه، ألا ترى انهم قالوا: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، ولا خلاف انها اسماء للسور وان كانت بعضاً للسور، ومن فرق بين الأشخاص وغيرها في هذا المعنى: فاوجب في الأشخاص أن يكون الاسم غير المسمى ولم يوجب في غيرها، فقد أبعد، لأنه لا فرق بين الموضعين على ما مضى القول فيه، ولا يلزم أن تسمى كل سورة بمثل ذلك، لأن المصلحة في ذلك معتبرة، وقد سمى الله كل سورة بتسمية تخصها وإن لم تكن من هذا الجنس، كما انه لما سمى الحمد باسمائها لم يلزم ذلك في كل سورة. وقيل انها أوائل أسماء يعلم النبي (صلى الله عليه وسلم) تمامها، والغرض بها، نحو ما رويناه عن ابن عباس، كما قال الشاعر: | **سألتها الوصل فقالت: قاف** | | | | --- | --- | --- | يعني: وقفت. وقال آخر: | **بالخير خيرات وإن شراً فا** | | | | --- | --- | --- | يريد: فشراً، وقال آخر: | **ولا أريد الشر إلا أن تا** | | | | --- | --- | --- | يعني: إلا أن تشاء. وقال آخر: | **ما للظليم عال كيف لا يا** | | **ينقد عنه جلده اذا يا** | | --- | --- | --- | أي: اذا يفزع. فعلى هذا يحتمل ان يكون الالف: انا، واللام: الله، والميم: اعلم، وكذلك القول في لحروف، وعلى هذا لا موضع (لالف لام ميم) من الاعراب، وعلى قول من قال انها اسماء السور موضعها الرفع، كأنه قال هذه الم، او يكون ابتداءه ويكون خبره ذلك الكتاب، واجمع النحويون على ان هذه الحروف وجميع حروف الهجاء مبنية على الوقف لا تعرب، كما بني العدد على الوقف، ولأجل ذلك جاز ان يجمع بين ساكنين كما جاز ذلك في العدد، تقول واحد، اثنان، ثلاثة، اربعة، فتقطع الف اثنين وهي الف وصل، وتذكر الهاء في ثلاثة واربعة، فلو لم تنو الوقف لقلت ثلاث بالثاء. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | وحكي عن عاصم في الشواذ وغيره آلم الله بقطع الهمزة، الباقون بفتح الميم، وقالوا فتح الميم لالتقاء الساكنين وقال قوم: لأنه نقل حركة الهمزة اليه، واختار ابو علي الاول، لأن همزة الوصل تسقط في الوصل، فلا يبقى هناك حركة تنقل، وانشد في نقل حركة همزة الوصل قول الشاعر | **اقبلت من عند زياد كالخرف** | | **تخط رجلاي بخط مختلف** | | --- | --- | --- | | **فيكتبان في الطريق لام الف** | | | ومتى أجريتها مجرى الأسماء لا الحكاية واخبرت عنها، قلت: هذه كاف حسنة، وهذا كاف حسن، وكذلك باقي الحروف فتذكر وتؤنث، فمن أنث قصد الكلمة، ومن ذكر قصد الحرف، فأما إعراب: ابي جاد، هواز، وحطي وكلمن، فزعم سيبويه انها مصروفات، تقول: علمت ابا جاد، ونفعني ابو جاد، وانتفعت بأبي جاد. وكذلك: هوازٌ، وهوازٍ، وهوازاً. وحطياً، وحطيُّ، وحطيٍ، وأما كلمن وسعفص وقرشيات فأعجميات، تقول: هذه كلمن، وتعلمت كلمن، وانتفعت بكلمن، وكذلك سعفص وقرشيات اسم للجمع مصروفة لأجل الألف والتاء. وأما معنى ابي جاد، فقال الضحاك: انها اسماء الايام الستة التي خلق الله تعالى فيها الدنيا وقال الشعبي: انها أسماء ملوك مدين، وانشد: | **ألا يا شعيب قد نطقت مقالة** | | **سببت بها عمرواً وأوحى بني عمرو** | | --- | --- | --- | | **ملوك بي حطي وهواز منهم** | | **وسعفص أهل للمكارم والفخر** | | **هم صبحوا أهل الحجاز بغارة** | | **لميل شعاع الشمس أو مطلع الفجر** | وروي عن ابن عباس ان لأبي جاد حديثاً عجيباً، ابي: آدم جد في اكل الشجرة، وهواز: فزل آدم فهوى من السماء إلى الارض. واما حطي فحطت عنه خطيئته واما كلمن فأكل من الشجرة ومنَّ عليه بالتوبة. وسعفص: عصى آدم فاخرج من النعيم إلى الكبد. وقرشيات: اقر بالذنب فسلم من العقوبة وهذا خبر ضعيف يتضمن وصف آدم، وهو نبي بما لا يليق به. وقال قوم: انها حروف من أسماء الله، وروي ذلك عن معاوية بن قرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم). | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | | | --- | --- | --- | --- | --- |
سُورَةُ البَقَرَةِ
Medinan
الۤـمۤ
* تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ)
فصل في نبذ من أسرار الحروف لمّا ذكر الله عن نفسه أنّه الظاهر وأنّه الباطن وأنّه المتكلم، وأنّ له كلاماً وكلماتٍ وكتباً، وذكر نبيُّه (صلّى الله عليه وآله): **" أنّ له نفَساً من الإسم الرحمن، الذي به استوى على العرش، وهو بمنزلة قلب الإنسان كما قال: قلبُ المؤمنِ عرشُ الله "** صحّ لنا الإيمان بهذه الأمور. فلمّا علمنا أنّ له نفساً لا كأنفاسنا، بل على وجه يليق بذاته وصفاته أنّه الباطن والظاهر كبطوننا وظهورنا، وأنّ له كلاماً على وجه يناسب عظمته وجلاله، علِمنا أنّ كلماته هي الموجودات الصادرة عنه، الناشية عن ذاته بذاته، من غير توسّط مادة أو محل أو استعداد على مثال الحروف والكلمات الناشية من الإنسان التي يتشكّل بها الهواءُ الخارج من باطنه؛ ولا كمثل أفعال الإنسان التي تتوسّط فيها الآلات الجسمانيّة الخارجة عنه. ولما علمت أنّ قلب الإنسان - لمكان الروح الحيواني الذي هو سبب حياة البدن، - بمنزلة عرش الرحمن ومحل الرحمة، وان صدره الواسع - لمكان الروح الطبيعي الساري في جميع البدن أعلاه وأسفله - بمنزلة كرسيّه الذي وسع السموات والأرض؛ فاعلم أنّ الله جعل للهواء الخارج من الصدر بعد نزوله إليه من القلب ثمانية وعشرين مَقطعاً للنفَس، يظهر في كل مقطَع حرفاً معيّناً ما هو عين الآخر، ميّزه القطع مع كونه ليس غير النفَس. فالعين واحدة من حيث إنّها نَفسٌ، وكثيرة من حيث المقاطِع، وهي أمورٌ عدميّة كما انّ امتياز الوجودات الخاصّة ليست بأمر زائد على حقيقة الوجود الانبساطي الفائض من الحق تعالى. بل امتيازها عنها، وامتياز بعضها عن بعض، ليس إلا من جهة مراتب النقصانات والتنزّلات اللازمة للمعلوليّة، فليس التفاوت بينها إلاّ من جهة الكمال والنقص، والتقدّم والتأخّر، والقرب والبعد من العلّة الأولى. فكذلك حال الحروف الصوتيّة الإنسانيّة، المنقسمة إلى ثمانية وعشرين حرفاً. لأن الكرسيّ، وهو فلَك المنازل - ومِثاله الصدْرُ فينا - منقسمٌ باعتبار المنازل والأمكنة للسيّارات الفلكيّة - من الكواكب وأرواحها ونفوسها المتحرّكة بأمر الله، المتردّدة على حسب ما حملها الله من أحكام الوحي والرسالة الى خلْقه - الى ثمانية وعشرين منزلاً. ولك أن تستشكل هذا بما قد ورَد في الخبر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): إنّ المُنزَل عليه تسعة وعشرون حرفاً، وما أنزل الله على آدم إلاّ تسعة وعشرين حرفاً، وإنّ " لام ألف " حرفٌ واحدٌ قد أنزله الله عزّ وجل على آدم في صحيفة واحدة، ومعه ألْف مَلَك، ومن كذب ولم يؤمن به فقد كفَر بما أنزل الله على محمد (صلّى الله عليه وآله)، ومن لم يؤمن بالحروف - وهي تسعة وعشرون فلا يخرج من النار أبداً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فاعلم أنّ هذا غير مناقضٍ لما ذكَرنا، من كون الحروف ثمانية وعشرين، فإنّ الألف اللينة ليست كسائر الحروف متعيّنة بتعيّن خاصّ وحيّزٍ مخصوص ومخرَجٍ مشخَص، بل هي بحقيقتها الهوائيّة ساريةٌ في جميع التعيّنات الحرفيّة، فكأنَها ظلٌّ للوحدة الإلٰهيّة السارية في وحدات الأكوان الوجودّية. وقد مرّت الإشارةُ إلى أنّها عين النفس الإنساني، كالعقل الأول الذي مرتبته عين مرتبة الوجود الانبساطي المنبسط على هياكل الماهيات المتعيّنة، وهو الحقّ المخلوق به. فللألِف اعتباران: اعتبار اللاّتعيّن، لكونها عين النَّفَس الهوائي، واعتبار التعيّن الذي هو أول التعيّنات كالهمزة، فإنّها من أقصى الحلْق، إلاّ انّ مخرَجَ الهمزة كالهاء أول المخارج، ومخرَج الألِف الساكنة من الجوف وهو الفضاء الواقع في جهة العلو، وتغاير الحروفِ بتغايُرِ المَخارج. ومن هذا الاعتبار يجبُ عدّ الألِف المتحرّكة والساكنة حرفين، ولمّا كانت أسماءُ الحروفِ مصدَّرة بمسمّياتها التي هي الزُّبُر، وهذه القاعدة غير مطرّدة بالقياس إلى الألف لِما فيه من سرّ الوحدة الإلٰهيّة التي لا اسم لها بخصوصيّة ذاتها، لاستحالة الابتداء بالساكن الحقيقي، فلم يكن بدٌّ من ارتدافِها بحرفٍ ينوبُ عن ذاتها سادّاً مسدّ التصدير بها. وكانت " اللامُ " بحسب عددها - الذي هو بمنزلة روح الحرف - يساوي عدَد الحروف كلّها مع واحدٍ، وكان فيها سرّ الجمعيّة الألِفيّة، وأيضاً كان عددُ الحروفِ أعني التسعة والعشرين مقوّم عدد لام، والألف الساكنة أيضاً هي التاسعة والعشرون، كان ضمّ الألِف إلى اللاّم هو الأحق بالاعتبار، فاعتبر " لا " في منزلة الألف اللّينة، فجعل لام ألِف اسماً لها، والألف إسماً للهمزة، فلا محالة صارت الحروف تسعة وعشرين. ومن اعتبر الحروفَ ثمانية وعشرين - وهي عدد منازل القمر -، كان نظرُه إلى الحروفِ الصِّرْفة المتعيّنة بالمخارج المتحيّزة بالأمكنة من جهة قبولِها للحركة والسكون، وهما من صفات الحدثان وسِمات النقصان، والألف لسيت متحرّكة ولا ساكنة إلاّ بالمعنى السلبي التحصيلي، تقابِل الحرَكة تقابُل السلب والايجاب، لا تقابُل العدَم والملكة، فلا جَرَمَ جعل أمراً خارجاً عن سلسلة الأكوان الحرفيّة، لأنها في الحقيقة فاعلها وراسمها ومقومها. وفيها سرّ الإلٰهيّة وظلّ الربوبيّة، ونسبتها الى سائِر الحروف، نسبة الحقّ المخلوق به إلى صوَر الموجودات العالَميّة. ومما يؤيِّد هذا ما رواه [أبو] إسحـٰق الثعلبي في تفسيره مسنِداً إلى عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام)، قال: سُئل جعفر الصادق (عليه السلام) عن قوله تعالى: آلم، فقال: في الألِف ستّ صفاتٍ من صفات الله عز وجل: " الابتداء " ، فإن الله تعالى ابتدأ جميع الخلْق، والألف ابتداء الحروف. " والاستواء " ، فهو عادلٌ غير جائر، والألِف مستوٍ في ذاته. " والانفراد " ، فالله فردٌ والألِف فردٌ و " اتّصال الخلْق بالله والله لا يتّصل بالخلق، وكلّهم يحتاجون إليه والله غنيّ عنهم ". | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | فكذلك الألِف لا يتّصل بالحروف والحروف متّصلة به وهو منقطعٌ من غيره، والله عز وجل بائِنٌ بجميع صفاته من خلقه، ومعناه من الألْفة، وكما أن الله عز وجل سبب ألفَةِ الخلْق، فكذلك الألِف، علّة تألّف الحروف وهو سبب ألفَتِها. بحث وتنبيه [الالف وأسرارها] إنّ ما ورَد في الكشّاف وغيره من التفاسير سيّما الكبير من " أن هذه الألفاظ لمّا كانت أسماء لمسمّياتها التي هي حروفٌ يتركب منها الكِلم، وكانت هذه الأسماء مؤلَّفاتٍ، ومسمّياتها حروفاً وحدانا، صدرت بتلك الحروف لتكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمْع، واستعيرت الهمزة مكان الألفِ لتعذّر الابتداء بها " ففيه نظَرٌ. لأنّ المراد من الألِف المذكورة ها هنا، إن كان هي الهمزة، فقد وقَع التصدير بالمسمّى في اسمها، فإن أول حروف لفظ " الألف " هي الهمزة المفتوحة. وإن كان المراد منه الألف اللينة التي هي من حروف العلّة، ففيه حزازتان: تصديرُ الهمزة بغير مسمّاها وهو خرْقُ القاعدة المذكورة، والترجيح من غير مرجّح، فإنّ الهمزة أولى من الألِف بأن يصدّر اسمها بمسمّى الهمزة. بل الأولىٰ أن يجعلَ القاعدةُ مطّردة في الحروف الصحيحة الثمانية عشر كلّها، ويجعل لفظ " الألِف " اسماً لما هو من جنس الحروف الصحيحة، أعني الهمزة على الحقيقة، كما هو الرسم في سائر الحروف، ويجعل " اللام ألِف " اسماً للألِف اللينة بناء على ما ذكرنا سابقاً. ومن تأمّل في أحوال الألف وأسرارها حقّ التأمّل، انكشفت عليه أسرارٌ شريفة من أحوال المبدإ وخصائصه الإلٰهيّة. منها: إنه لا اسم لها من جهة ذاتها الأحديّة ولا رسم. ومنها: إنّها الأول في تعداد الحروف من حيث تعيّنها بالهمزة. ومنها: إنّها بإزاء الواحد في الأرقام الحسابيّة. ومنها: إنّها ليست في ذاتها متحرّكة ولا ساكنة كما مرّ، بل سكونها على وجه آخر أعلى من سكون الهمزة وسائر الحروف. ومنها: إنّها لا مخرَج لها على التعيين من جملة المخارج؛ كما لا حيّز للبارى جلّ اسمه. ومنها: إنّها تقع أول الكلمات باعتبار تعيّنها الهمزي، وتقع غاية الكلمات لا آخر بعدها، كما انّ البارى أول الأشياء لا أول له وغاية الأشياء لا غاية له. ومنها: إنها أبسط من كل حرف في الوجود الهوائي السمعي، وشكلها أبسط أشكال الحروف في الوجود الكَتْبي البصري. ومنها: ما مر ذكره في الوجود الستّة من الصفات المذكورة في الحديث المرويّ عن جعفر الصادق (عليه السلام) وعلى آبائه التحيّة والإكرام. كشف غطاء [الروح البخاري مثال العَماء] ثم اعلم هداك الله طريق المعرفة والشهود، أنّ النفْس الناطقة هي المدبّرة باذن الله تدبيراً طبيعيّاً أو نفسانيّاً لهذا البدن الجسماني، الذي هو بجميع ما فيه من القُوى والحواسّ والأعضاء والآلات، عالَم صغيرٌ بمنزلة العالَم الكبير بما فيه من الأفلاك والعناصر والبسائط والمركبات، الذي دبّره الله تدبيراً إلٰهيّاً وتصرّف فيه برحمته وعنايته. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ثم إنّ النفْس لم تدبّر لهذا البدن، ولم تتصرّف في قواه وأعضائه، إلاّ بعد أن نزلت من علوّ تجرّدها وسماء تقدُّسها، وبرزت من مكمن ذاتها الروحانيّة، وباطن كينونتها العقلانيّة إلى عالَم الحسِّ والتجسُّم. فتوسَّطت بين غيب هويّتها ومظهر شهادتها، في ألطف ما يوجَد من حدود عالَم البدن من البخار اللطيف النفساني المتعلّق بالقلْب الصنوبري الشكل، المستدير الهيكل، المحدّد لجهات البدن من أعلاه وأسفله. فالنفْس قبل تعلّقها بالبدن وتصرّفها فيه، وتدبيرها لقواه وحواسّه التي هي كالسمـٰوات، وأعضائه التي هي كالأرضيّات، نزلت وتجسّمت بخاراً لطيفا يتكوّن منه جميع لطائف البدن، وبسببه تقع الأفاعيل الإنسانيّة سيما المتكلّم بالحروف والكلمات، التي هي أخص أفاعيل النفس الناطقة في هذا العالَم. وهذه اللطيفة البخاريّة، التي تنزل فيها النفْس قبل تصرّفها وفعلها في عالَم البدن، مثال للعَماء الذي جاء في الخبر وصْفُه بقوله: إنّه كان ربُّنا قبل أن يخلق الخلق في عماء ما فوقه هواه وما تحته هواء. فذكر انّ له الفوق، وهو كون الحقّ فيه، والتحت، وهو كون العالَم فيه. والعماء يحدث عن بخار رطوبات الأركان الأربعة، والفلك أيضاً دخانٌ لطيفٌ الطف من هذه الأبخرة الحاصلة من لطائف هذه العناصر، بل عناصره كائنة على وجهٍ يناسب عالَم السماء، وهي التي ينقسم بها الفلك أرباعاً، ممّا يطول شرحُه. فالحاصل، إنّ العماء الذي ورد في الحديث، إنّ الله قبل أن يخلُق، كان فيه مثالُه اللطيفة الجسمانيّة الموجودة في خِلقة الإنسان التي تعلّقت بها اللطيفة القدسيّة النازلة فيها من نفخ الحق من روحه، وهي كلمة من كلمات الله، وينبعث منها النَّفَس الهوائي المتصوَر بصور الحروف والكلمات الإنسانيّة المطابقة للحروف والكلمات الكائنة في النَّفَس الرحماني والوجود الانبساطي، ليتحقّق ويتنوّر على البصير المحدِق بنور هذه المكاشفة البرهانيّة أن من عرف نفسَه فقد عرف ربَّه. فصل في الإشارة الى سر هذه الصفوة من المفاتيح الحرفية الواقعة في فواتيح السور روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): إنّ لكلّ كتاب صفوة، وصفوة هذه الكتاب حروف التهجّي. وعن الشَّعبي قال: لله تعالى في كلّ كتابٍ سرٌّ، وسرُّه في القرآن سائر حروف الهجاء المذكورة في أوائل السوَر. إعلم أنّ الذين اقتصرت علومُهم على ما يتعلّق بعالَم الشهادة، وانحصرت عندهم معاني الموضوعات اللفظية فيما يوجَد في عالَم المحسوسات، قالوا: إنّ الألفاظ التي تتهجّى بها أسماء مسمّياتها الحروف المبسوطة، فإنّ الضاد مثلاً لفظةٌ مفردة دالّة بالتواطؤ على معنى مستقلٍّ بنفسه، من غير دلالة على الزمان المعيّن، وذلك المعنى هو الحرف الأول من " ضرب " فثبت أنّها أسماءٌ، لأنها ممّا يصدق عليها حدّ الاسميّة، ولأنها أيضاً يوجد فيها خواصّ الاسم - من كونها متصرّفاً فيها بالتعريف والتنكير والجمع والتصغير والإسناد والإضافة - فكانت لا محالة أسماء، وبه صرّح الخليل وأبو علي. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وأما ما رواه أبو عيسى الترمذي عن ابن مسعود أنّه قال (صلّى الله عليه وآله): **" من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسَنة، والحسَنة بعشر أمثالها. لا أقول الۤمۤ حرف، بل الألف حرفٌ واللام حرفٌ، والميم حرفٌ "** - الحديث، فقيل: إنّ المراد به غير المعنى الذي اصطُلح عليه، فإنّ تخصيصه به عُرفٌ جديد. بل المعنى اللغوي، ولعله سمّاه باسم مدلوله. وأقول: يمكن أن يراد بهذه الأسماء الثلاثة المذكورة في الحديث مسمّياتها من الحروف الوحدان. قالوا: إنّ حكم هذه الألفاظ مع كونها معربة أن تكون ساكنة الأعجاز ما لم تِلها العواملُ كأسماء الأعداد، فيقال: ألِفْ لامْ ميمْ، كما نقول: واحد إثنان ثلاثة، فهي معربة، وإنّما سكنت سكون الوقفِ لا سكون البِناء إذ لم تناسب مبنيَّ الأصل. ولذلك لم تُحدّ بحدٍ ككيفَ وأينَ وهؤلاءِ ومُنذ، بل جمع فيها بين ساكنين فقيل: صْ قْ. فسكونُها سكون المعربات حيث لا يمسّها إعرابٌ لفقْد موجبه وعامله، مع كونها قابلة للعمل، معرّضة للإعراب. ثمّ قالوا: إنّ مسمّياتها لمّا كانت عنصر الكلام وبسائطه التي منها تركّبت، افتتح الكلام في السور بطائفة منها ايقاظاً لمن تحدّىٰ بالقرآن، وتنبيهاً على أنّ المتلوَّ عليهم كلامٌ منظومٌ مما ينظمون منه كلامَهم، فلو كان من عند غير الله لما عجَزوا عن آخرِهم مع تظاهرهم وقوّة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه. وليكون أول ما يقرع الأسماع مستقّلاً بنوع من الإعجاز، فإنّ النطق بأسماء الحروف مختصٌّ بمن خطَّ ودرَسَ. فأمّا من الأمّي الذي لم يخالط الكتاب، فمستبعَدٌ مستغربٌ خارقٌ للعادة كالكتابة والتلاوة، سيّما وقد راعىٰ في ذلك ما يعجز عنه الأديبُ الأريبُ الفائقُ في فنّه. وهو أنّه أورد في هذه الفواتح أربعةَ عشر اسماً في نصف أسامي حروف المُعجم - ان لم يعدّ الألف فيها حرفاً برأسه - في تسع وعشرين سورة بعددها، إذا عدّ فيها الألف مشتملة على أنصاف أنواعها. فذكَر من المهموسة هي ما يضعف الاعتماد على مخرَجه، ويجمعها: " فحثه شخص سكت " نصفها: الحاء والهاء والصاد والسين والكاف. ومن البواقي المجهورة نصفها: " لن يقطع امر ". ومن الشديدة، الثمانية المجموعة يجمعها: " اجد قط بكت " ، أربعة يجمعها " اقطك ". والبواقي الرخوة عشرة، يجمعها: " حمس على نصره ". ومن المطبقة، التي هي الصاد والضاد والطاء والظاء نصفها، ومن البواقي المنفتحة نصفها. ومن القلقة: وهي حروف تضطرب عند خروجها، ويجمعها: " قطب جد " نصفها الأقل لقلتها. ومن اللينتين الياء، لأنّها أقلّ ثقلاً، ومن المستعلية - وهي التي يتصعّد الصوت بها في الحنَك الأعلى - وهي سبعة، يجمعها: " خص ضغط قض " - نصفها الأقلّ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ومن البواقي المنخفضة نصفها. ومن حروف البدل؛ وهي أحد عشر - على ما ذكره سيبويه واختاره ابن جني - ويجمعها: " اجد طويت " منها الستّة الشائعة المشهورة التي يجمعها: " اهطمين " ، وممّا يدغم في مثله ولا يدغم في المقارب، وهي خمسة عشرة: الهمزة والهاء والعين والصاد والطاء والميم والياء والخاء والغين والضاد والفاء والظاء والشين والزاي والواو، نصفها الأقل. ومما يدغم فيهما وهي الثلاثة عشر الباقية، نصفها الأكثر؛ الحاء والقاف والكاف والراء والسين واللام والنون، لما في الإدغام من الخفّة والفصاحة، ومن الأربعة التي لا تدغم فيما يقاربها وتدغم فيما يتقاربها وهي: الميم والزاي والسين والفاء نصفها. ولمّا كانت الحروف الذلقية التي يعتمد عليها بذلق اللسان، وهي ستّة يجمعها: " رب منفل ". والحلقيّة التي هي: الحاء والخاء والعين والغين والهاء والهمزة، كثيرة الوقوع في الكلام، ذكر ثلثيهما. ولما كانت أبنية المزيد لا تتجاوز عن السباعية، ذكر من الزوائد العشرة التي يجمعها: " اليوم تنساه " سبعة أحرف منها تنبيهاً على ذلك. ولو استقريت الكلم وتراكيبها، وجدت الحروف المتروكة من كلّ جنس مكثورة بالمذكورة. ثم إنّه ذكرها مفردة وثنائيّة وثلاثية ورباعية وخماسيّة، ايذاناً بأن المتحدى به مركب من كلماتهم التي أصولها كلمات مفردة ومركّبة من حرفين فصاعداً الى الخمسة. وذكر ثلاث مفردات في ثلاث سور: " صۤ نۤ قۤ " ، لأنّها توجَد في الأقسام الثلاثة: الاسم والفعل والحرف. وأربع ثنائيات: " حـمۤ يسۤ طسۤ طٰه " ، لأنّها تكون في الحرف بلا حذفٍ؛ كبَلْ وفي الفعل بحذف: كقُلْ. وفي الاسم بغير حذف: كمَنْ، وبه: كدَمْ، في تسع صور لوقوعه في كلّ واحدٍ من الأقسام الثلاثة على ثلاثة أوجه. ففي الأسماء: " مَن " و " إذ " و " ذو ". وفي الأفعال: قُلْ وبِغْ بِعْ وخفْ، وفي الحروف: إنْ ومِنْ ومُذْ، على لغة من جرّبها. وثلاث ثلاثيات لمجِيئها في الأقسام الثلاثة في ثلاث عشرة سورة، تنبيهاً على أنّ أصول الأبنية المستعملة ثلاثة عشر، عشرة منها للأسماء، وثلاثة للأفعال. ورباعيتين وخماسيتين، تنبيهاً على أن لكلّ منهما أصلاً، كجعفَر وسفرجَل، وملحقاً كقردد وجحنفل. ولعلّها فرّقت على السوَر ولم تعدّ بأجمعها في أول القرآن لهذه الفائدة، مع ما فيه من إعادة التحدّي وتكرير التنيبه والمبالغة فيه. والمعنى: هذا المتحدىٰ به مؤلَّفٌ من جنس هذه الحروف، والمؤلَّف منها كذي. هذا ما ذكره علماء اللسان في هذا الباب، وأما الذين ارتفعت درجتُهم عن هؤلاء، فاختلفوا في معاني هذه الأسماء على قولين: القول الأول: إنّ هذا عِلْم مستورٌ وسرٌّ محجوبٌ وغيب مبطونٌ ودرٌّ مكنون استأثر الله بعلمِه، وعليه يُحمل الخبَرانِ المذكوران سابقاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقال بعض العارفين: العلم بمنزلة البحْر، فأجري منه وادٍ ثمّ أجري من الوادي نهرٌ، ثمّ اجري من النهر جدولٌ، ثمّ اجري من الجدول ساقيةٌ، فلو اجري إلى الجدول ذلك الوادي لغرّقه وافسده ولو سالَ البحرُ الى الوادي لأفسده، وهو المراد من قوله تعالى:**{ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا }** [الرعد:17]. فبحور العلم عند الله، وأعطى الرسل منها أودية، ثمّ أجرى الرسل من أوديتهم أنهاراً [إلى العلماء]، ثمّ أَعطت العلماءَ للعامة جداول صغاراً على قدر طاقتهم، ثم أجرت العامّة سواقي إلى أهليهم بقدر طاقتهم. ومن هذا روي في الخبر: للعلماء سرٌّ، وللخلفاء سرٌّ، وللأنبياء سرٌّ، وللملائكة سرٌّ، ولله تعالى بعد ذلك كلّه سرٌّ، ولو اطّلع الجهّال على سرّ العلماء لأبادوهم، ولو اطّلع العلماء على سرّ الخلفاء لنابذوهم، ولو اطّلع الخلفاءُ على سرّ الأنبياء لخالفوهم، ولو اطّلع الأنبياء على سرِّ الملائكة لاتّهموهم، ولو اطّلع الملائكة على سرِّ الله، لطاحوا حائرين وبادوا بائرين. والسبب في ذلك: أنّ العقولَ الضعيفة لا تحتمل الأسرارَ القويّة، كما لا يتحتمل نورَ الشمس أبصارُ الخفافيش، ولما زيد الأنبياء في عقولهم قدَروا على احتمال أسرار النبوّة، ولما زيد العلماء في عقولهم قدَروا على احتمال ما عجزَت عنه العامّة. وكذلك علماءُ الباطن - وهم الحكماء - زيد في عقولهم فقدَروا على احتمال ما عجز عنه علماء الظاهر. وسُئل الشعبيُّ عن الحروف، فقال: سرُّ الله لا تطلبوه. وروى أبو ظبيان عن ابن عباس، قال: عجزت العلماء عن إدراكها، وقال الحسين بن الفضل: هو من المتشابهات. تنبيه [ردٌّ على القائلين بعدم امكان فهم تفسير الحروف المقطعة] واعلم أنّ هذا القول ليس بسديد، لأنّه لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لا يكون مفهوماً للخلق، إذ هو مما أنزله لهداية الخلق وإرشادهم وتكميلهم وإخراج عقولهم عن القوّة إلى الفعل، وسياقة نفوسهم عن ظلمات الحِيرة والجهْل والعمى إلى نور المعرفة والعلم والبصيرة، لتتنوّر ذواتهم بأنوار معارف القرآن، ويستعدّوا للقاء الله في دار المثوبة والرضوان، ويتخلّصوا عن آفات الجهالة الموجبة لكثير من الأمراض القلبيّة والآلام النفسانيّة المؤدِّية الى الهلاك، المستلزمة لعذاب البُعد والاحتجاب، كما للمطرودين عن باب الرحمة الإلٰهيّة، المحترقين بنيران الجهالات المتراكمة، المتألّمين بآلام الاعتقادات الرديّة الفاسدة، فلا بدّ أن يوجد في عباد الله مَن كان عنده علم الكتاب، وإلاّ لكان إنزاله عبثاً. نعم، درجات الناس بحسب العقول متفاوتةٌ كما مرّ فيما ذكر من الخبَر. فلا جَرَم حظوظهم من آيات كتاب الله مختلفةٌ، كتفاوت أغذية الناس والأنعام ممّا ينبت في الأرض من سائر الطعام. فلطائفةٍ منها القشور، كالتبن والنخالة، ولطائفه اللبوب والأدهان كالحَبِّ من الحنطة والدُّهن من الزيتون:**{ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ }** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | [النازعات:33]. والحجّة لنا في هذا المقصد من الآيات والأخبار كثيرة: أما الآيات: فمنها قوله:**{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ }** [محمد:24]. أمرهم بالتدبّر في معاني القرآن، ولو كانت غير مفهومة لَما أمرهم بالتدبّر فيها. ومنها قوله:**{ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ }** [الشعراء:192-195]. فلو لم يكن مفهوماً بطل كونه (صلَّى الله عليه وآله) منذِراً به. وأيضاً فقوله { بِلِسَانٍ عَربِيٍّ مُبينٍ }. يدلّ على أنه نازلٌ بلغة العرب، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مفهوماً. ومنها قوله:**{ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }** [النساء:83]. والاستنباط منه لا يمكن إلاّ مع الإحاطة بمعناه. ومنها قوله:**{ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ }** [النحل:89]. وقوله:**{ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ }** [الأنعام:38]. وقوله:**{ هُدىً لِّلنَّاسِ }** [البقرة:185]**{ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ }** [البقرة:2]. وغير المعلوم لا يكون هدىٰ. ومنها قوله تعالى:**{ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ }** [القمر:5]. وقوله:**{ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ }** [يونس: 57]. وكلّ هذه الصفات لا تحصل في غير المعلوم. ومنها قوله:**{ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ }** [المائدة:15]. وقوله:**{ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً }** [النساء:174]. فكيف يكون برهاناً وكتاباً مبيناً ونوراً مبيناً مع انّه غير مفهوم. ومنها قوله تعالى:**{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }** [الإسراء:9]. فكيف يكون هادياً مع انّه غير معلوم؟! إلى غير ذلك من الآيات المشيرة الى كون الغرض من إنزال القرآن تعليم العباد. وأما الأخبار، فمنها قوله (صلّى الله عليه وآله): **" إنّي تركتُ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا أبداً كتابُ الله وعترتي ".** وروى العامّة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: **" عليكم بكتاب الله، فيه نبأُ ما قبلكم، وخبرُ ما بعدكم، وحكْم ما بينكم، هو الفَصْل ليس بالهزِل من تَركه من جّبار قصَمه الله، ومن اتّبع الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، والذكْر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخْلق على كثرة الردّ، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدَق ومن حكَم به عدَل، ومن خاصَم به فلَج، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم ".** وأما ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): إنّ لكل كتاب صفوة وانّ صفوة هذا الكتاب حروف التهجّي، فليس فيه ما يدلّ على أنّ معاني هذه الحروف غير مفهومة، وكذا ما روي عن الشعبي لا تزيد دلالته على أن هذه الحروف من أسرار الله الخفيّة التي لا يعلمها كلّ أحد، ولا يدلّ على أن الراسخين في العلم لا سبيل إلى إدراكها. وكذا ما ذكره بعض العارفين، ليس فيه دلالة على عدم اطّلاع الناس على سرّ هذه الحروف، بل فيه ما يدل على ضد ذلك كما لا يخفى. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | واحتجّ المخالفون بوجوه من العقل والنقل كلّها ضعيفة مدخولة: منها: انّه من المتشابه من القرآن وانّه غير معلوم لقوله تعالى:**{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ }** [آل عمران:7]، والوقف ها هنا لازمٌ، إذ لو عطف عليه قولُه:**{ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ }** [آل عمران:7]، لبقي قوله:**{ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ }** [آل عمران:7] منقطعاً عنه، وهو غير جائز. وهو مجابٌ - لا بأنّ " يَقولُونَ " حالٌ. وإلاّ لكان حالاً للمعطوف عليه كما للمعطوف، فيلزم أن يكون الله قائلاً: { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } وهو كفرٌ - بل بأنّه خبر مبتدأ محذوف بقرينة سابقة. ومنها: أنه روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) انّه قال: **" إنّ من العلْم كهيئة المكنون لا يعلَمه إلاّ العلماء بالله فإذا نطَقوا به أنكره أهل الْعِزّة بالله "** ودلالة هذا الخبر على ثبوت هذا الجانب، أكثر من دلالته على ثبوت طرف المخالف. ومنها: أنّ القول بان هذه الفواتح غير معلومة، مرويٌّ عن أكابر الصحابة، فوجَب أن يكون حقاً. والجواب - بعد التسليم - أنّ دلالة ما روي عنهم على كونها غير معلومة لأحد من الناس مطلقاً وإن كان من الراسخين، غير مسلّم. وعلى كونها غير معلومة لجمهور الناس، لا تضرّنا ونحن نقول به. ومنها: أن الأفعال التي كُلفنا بها قسمان، منها ما يُعرف وجهُ الحكمة فيها كالصلاة والصيام والزكاة. ومنها ما لا يُعرف وجهُ الحكمة فيها كأفعال الحجّ، فكما يحسن من الله الأمرُ بالنوع الأول، فكذا يحسن منه الأمُر بالنوع الثاني، لأن الطاعة فيه تدلّ على كمال الانقياد ونهاية التسليم، لأنه لمّا لم يعرف فيه وجه مصلحة، لم يكن إتيانه إلاّ لمحض الانقياد والتسليم، وإذا كان الأمرُ كذلك في الأفعال، فلِمَ لا يجوز أيضاً أن يكون الأمر كذلك في الأقوال، وهو أنّ الله يأمرنا تارةً بأن نتكلّم بما نقفُ على معناه، وتارةً بما لا نقفُ على معناه، ويكون المقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر. أقول: وهذا أيضاً ساقط، لأنّ كون الغاية في التكليف بالأعمال، التسليم والانقياد، وإن كان مسلَّماً، لكن كون الغاية في العلوم كذلك، غير مسلّم كما حقِّق في مقامه. وبالجملة، المقصود من العلوم والمعارف، تنويرُ القلب بأنوار الحقائق الإلٰهيّة، ومن الأعمال والأفعال، تطويعُ النفسِ الأمّارة للنفسِ المطمئنّة لئلا تزاحمها القُوى الشهويّة والغضبيّة وغيرها في السلوك إلى الله. وأعجبُ من ذلك قولهم: بل فيه فائدةٌ أخرى، وهو أنّ الإنسان إذا وقع على المعنى وأحاط به، سقط وقعه عن القلْب، وإذا لم يقف على المقصود مع القطع بأنّ المتكلم بذلك أحكم الحاكمين، فإنّه يبقى ملتفتاً إليه أبداً ومتفكّراً فيه دائماً، ولُباب التكليف اشتغال السرّ بذكر الله والتفكّر في كلامه. أقول: ما أشبه هذا بكلام العوامّ والجهّال، فإنّ التفكّر ليس من الغايات المتأصّلة، ليكون بقاءُ الإنسان في التردّد الفكريّ أبداً سرمداً سعادةً، على أن فيه تعباً ومشقّة في الحال، وإنّما الفائدة فيه انتقال الذهن الى ما هو المطلوب الأصلي، وهو الابتهاج بإدارك الحضرة الإلٰهية، والاستسعاد بالأنوار الملكوتية. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | القول الثاني: قول من زعَم أنّ المراد من هذه الفواتح معلومٌ، وهم اختلفوا وفسَّروها على وجوه متخالفة. أحدها: إنّها أسماء السوَر عن الحسَن وزيد بن أسلم، وهو قول أكثر المتكلّمين. الثاني: إنّها أسماء الله، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه كان يقول يا كهيعص يا حمعسق. الثالث: إنّها أسماء القرآن. الرابع: إنّها أبعاض أسماء الله. قال سعيد بن جبير قوله: " الۤر، حـمۤ، نۤ " مجموعها هو اسم الرحمن. ولكنّنا لا نقدرُ على كيفية التركيب في البواقي. الخامس: أن تكون إشارة الى التي كانت هي منها، اقتصرت عليها اقتصار الشاعر في قوله: قلتُ لها: قِفي. فقالتْ: قاف. فيكون فيها دلالة على أسماء الله وأسماءِ صفاته، كما قال ابن عباس في الۤمۤ: " أنا الله أعلم " ، وفي الۤمۤر: " أنا الله أعلم وأرى " ، والۤمۤصۤ معناه: " أنا الله أعلم وأفصل ". وكما قال: " ألف ": آلاء الله. و " اللام ": لطفه. و " الميم ": ملكه. وهذا رواية أبي صالح وسعيد بن جبير عنه. السادس: إنّ بعضها يدلّ على أسماء الله، وبعضها يدلّ على أسماء غيره، فقال الضحّاك: الألف من الله، واللام من جبرائيل، والميم من محمد، أي انزل الله الكتاب على لسان جبرائيل (عليه السلام) إلى محمّد صلوات الله عليه وآله. وهو المروي عن ابن عباس. السابع: قول أبي زيد وقُطرب: إنّ الكفار لمّا قالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوا فيه، وتواصوا بالإعراض عنه، فأنزل الله تعالى عليهم هذه الأحرف. فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: استمعوا الى ما يجيء به محمّدٌ، فإذا أصغَوا هجَم عليهم القرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم وطريقاً الى انتفاعهم. والثامن: قول أبي العالية: إنّ كلّ حرف منها مدّة أقوام وآجال آخرين بحساب الجمل، متمسّكا بما **" روي انَه (صلّى الله عليه وآله) أتاه أبو ياسر بن أخطب وهو يتلو سورةَ البقرة، ثمّ جاء أخوه حيي وكعب بن الأشرف فسألوه عن الۤمۤ، وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلاّ هو، أحقٌّ أنّها أتتكَ من السماء؟ فقال (صلّى الله عليه وآله): نعم، كذلك نزل، فقال حيي: إن كنت صادقاً، إني لأعلم أَجَلَ هذه الأمة من السِّنين. ثمّ قال: كيف ندخل في دينِ رجُلٍ دلّت هذه الحروفُ بحساب الجمل أن تنتهي مدّتُه إحدى وسبعون سَنة؟ فضحك رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله). فقال حيي: هل غير ذلك؟ فقال: نعم " الۤمۤصۤ " فقال: هذا أكثر من الأول، فهل غير هذا؟ فقال (صلّى الله عليه وآله): نعم. الۤر. فقال حيي: هذا أكثر من الأول والثاني. فنحن نشهد إن كنتَ صادقاً ما ملكت أمّتك إلاّ مأتين وإحدىٰ وثلاثين سنة، فهل غير هذا؟ فقال: نعم " الۤمۤر " قال نحن نشهد انّا من الذين لا يؤمنون، ولا ندري بأي أقوالك نأخذ ".** | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | مزيد | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | التاسع: ما قاله الأخفش: إنّ الله أقسَم بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها، ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسِنة المختلفة، ومباني أسمائه الحسُنىٰ، وأصول كلام الأمم، بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحّدونه. واقتصر على هذا البعض كما تقول: قرأت الحمدَ. وتريد السورةَ كلّها، فكأنّه تعالى أقسم بهذه الحروف انّ هذا الكتاب هو ذلك الكتاب المثبَت في اللوح المحفوظ. العاشر: قال أبو بكر الزهري: إنّ الله تعالى علم أنّ طائفة من هذه الأمة تقول بقِدمَ القرآن، فذكر هذه الحروف تنبيهاً على أنّ كلامَه مؤلَّف من هذه الحروف؛ فيجب أن لا يكون قديماً. فهذه عشرة من الأقوال المذكورة في معنى هذه الفواتح وهي كثيرة اكتفينا بذكر هذه من غيرها، لأنّها الأقرب إلى التصديق به، ومختار الأكثر هو كونها أسماء السور وعليه إطباقُ كثير من المفسّرين منهم الإمام الرازي، واستدلّ عليه بأنّها إن لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمَل والتكلّم بالزنجي مع العربي، ولم يكن القرآن بأسره بياناً وهدىً، ولما أمكن التحدّي به. وإن كانت مفهمة، فإمّا أن يراد بها الأعلام أو المعاني. والثاني باطلٌ، لأنّه إمّا أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب، وظاهرٌ أنّه ليس كذلك. أو غيره، وهو باطلٌ، لأنّ القرآن نزَل على لغتهم لقوله تعالى:**{ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ }** [الشعراء:95]، فلا يحمل على ما ليس في لغتهم. فثبت الأول، وهو كونها أَعْلاما للسور التي هي مستهلّتها، سمّيت بها إشعاراً بأنّها كلمات معروفة التركيب، فلو لم يكن وحياً من الله، لم تتساقط معذرتهم دون معارضتها. والاعتراض عليه من وجوه: أحدها: لِمَ لا يجوز أن تكون مزيدة للتنبيه والدلالة على انقطاع كلام واستيناف آخر كما قاله قُطرب؟ أو يكون اختصار الكلام كما في القول الرابع والخامس؟ أو يكون إشارة الى عدد آجال كما قاله ابو العالية؟ وهذه الدلالة وإن لم تكن عربيّة، لكن لاشتهارها فيما بين الناس حتّى العرب، كانت كالمعرّبات كالمِشْكـٰوة والسجّيل والقِسطَاس والإستَبْرَق. أو تكون قسَماً كما قاله الأخفش. أو تكون غير ذلك من الأقوال المذكورة؟ وثانيها: إنّ القول بأنها أسماء السور يُخرجها الى ما ليس في لغة العرب. لأنّ التسمية بثلاثة أسماء فصاعداً مستنكرةٌ عندهم. وثالثها: إنّها داخلةٌ في السور وجزءٌ منها، وجزءُ الشيء مقدّمٌ على الشيء بالرتبة، واسم الشيء متأخِّر عنه كذلك، فيلزم من تسمية الشيء بجزئه تقدّم الشيء على نفسه، والمعارضة بتسمية الحروف بأساميها - كتسمية الجزء الأول من الجيم بالجيم - ساقطةٌ، لأن المركّب متأخِّرٌ عن جزئه، والاسم متأخِّر أيضاً عن مسمّاه، فلا يلزم إلا تأخّر المركب عن جزئه بوجهين، ولا فساد فيه. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ورابعها: إنّها لو كانت أعلاماً للسوَر، لوجَب أن يُعلم ذلك بالتواتر، لأنّ التسمية على هذا النحو ليس من دأب العرب، فتتوفّر الدواعي على نقلها فوجَب اشتهارها بها لا بسائر الأسماء، والواقع خلاف ذلك. وخامسها: إنّ السوَر الكثيرة اتّفقت في الۤمۤ، حـمۤ، فالاشتباه حاصلٌ، والمقصود من العلَم إزالة الاشتباه، والمعارضة بتسمية كثيرين باسم محمّد، مدفوعةٌ بالفرق بين القبيلين، فإنّ (الۤمۤ) لا يفيد معنى آخر على ما فرضتُم، فلو جُعل علَماً لم يكن فيه فائدة، بخلاف الأعلام المشتركة، فإنّ التسميةَ بها قد تتضمّن فوائدَ اخرىٰ غير الامتياز، كالتبرّك ونحوه. وسادسها: إنّه لو كان كذلك، لوجَب أن لا تخلو سورة من القرآن من اسم على هذا الوجه، وليس كذلك. وقد يقال في الجواب: أما عن الأول: فبأنّ هذه الألفاظ لم تُعهد مزيدة للتنبيه، والدلالة على انقطاع كلام واستيناف آخر أمر لازم لها ولغيرها، من حيث إنّها فواتح السوَر، ولا يقتضي ذلك أن " يكون لها معنى في حيِّزها ولم يستعمل للاختصار من كلمات معيّنة. أما الشعر فشاذّ. وأما قول ابن عباس فتنبيهٌ على أنّ الحروف منبع الأسماء ومبادئ الخطاب وتمثيل بأمثلة حسَنة، ألا ترى أنّه عدَّ كلَّ حرف من كلمات متباينة لا تفسير ولا تخصيص بهذه المعاني دون غيرها، إذ لا مخصّص لفظاً ومعنى، ولا بحساب الجُمل فيلحق بالمعرّبات. والحديث الذي نقله أبو العالية لا دلالة فيه. لجواز أنّ تبسّم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تعجّباً من جهلهم. وجعلها مُقْسَماً به، وإن كان غير ممتنع، لكنّه يُحوج الى إضمار أشياء لا دليل عليها. وأمّا الحمل على شيء مما ذكره المفسّرون، فغير لازمٍ، لأنّهم ذكروا وجوهاً مختلفة وليست دلالة هذه الألفاظ على بعض ما ذكروه أولى من دلالتها على غيره، فإمّا أن يحمل على الكلّ وهو متعذّر للاجماع المركب، أو لا يحمل على شيء منها وهو الباقي. وأمّا عن الثاني: فبأنّ التسميةَ بثلاثة أسماء إنّما يمتنع إذا ركّبت وجُعلت إسماً واحداً على طريق " بعلبك " ، فأما إذا نثرت نَثْر أسماء العدد، فذلك جايزٌ، فإنّ سيبويه قد نصَّ على جواز التسمية بالجملة، والبيتِ من الشعر، وطائفةٍ من أسماء حروف المعجم. وأمّا عن الثالث: فبأنّ الاسم لفظٌّ دالٌّ على أمرٍ مستقلّ بنفسه، غير مقترن الدلالة بهيئته على زمان، ولفظ الإسم - كلفظ زيد مثلاً - كذلك، فيكون الاسم إسماً لنفسه، وإذا جاز ذلك فلِم لا يجوز أن يكون جزء الشيء إسماً له. أقول: وهذا الجواب مما ذكره صاحب التفسير الكبير وهو كما ترى، فإنّ الكلام في الاسم الدالّ على معنى بالوضع، ودلالة الإسم على نفسه ليس بالوضع، وإن كان هو في نفسه موضوعاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وقد يُجاب - كما ذكر البيضاوي - بأنّ الجزءَ مقدمٌ من حيث ذاته، ومؤخَّرٌ باعتبار كونه إسماً فلا دَوْرَ. أقول: هذا أيضاً فاسدٌ، فإنّ الكلام في أنّ هذه الألفاظ التي هي أجزاء السوَر، وهي من الموضوعات اللغوية، لا معنى لها إلاّ كونها أسماء للسوَر، فإذا كان تقدّمها على السوَر من حيث ذاتها لا من حيث كونها أسماء، لكانت قبل تمام السورة غير موضوعة لمعنى أصلاً فتكون مهملة، سيّما وهذا التقدّم زمانيٌّ، لأنّ السوَر والآيات وسائر أقسام الكلام إنّما هي تدريجيّة الوجود زمانيّة الحدوث. وأمّا عن الرابع: بأنّه لا بُعد في أن يصير القلب أكثر شهرةً من أصل الاسم فكذا ها هنا. وأمّا عن الخامس: فبأنّه لا يبعد أن يكون في تسمية السوَر الكثيرة باسم واحد، ثمّ تمييز كل واحد منها بعلامة اخرى، حكمةً خفيّةً. وأمّا عن السادس: فبأنّ وضع الإسم إنّما بحسب الحكمة، ولا يبعد أن تقتضي الحكمة وضعَ الإسم لبعضِ السوَر دون بعض. أقول: إذا كان الغرض من هذه الألفاظ مجرد التسمية للتمييز والتعيين، ولم يكن لها معنى آخر، يلزم الترجيح من غير مرجّح في تسمية بعض السوَر ببعض هذه الحروف دون بعض. ثمّ أقول: ويرد على أصل الدليل بحثٌ آخر لم يكن مذكوراً في التفاسير، وهو: إنّ قول المستدل: لو لم تكن هذه الألفاظ أعلاماً، لكانت موضوعة للمعاني، وظاهر أنّها ليست كذلك، ممنوعٌ، والسند ما سنذكره عن قريب إنشاء الله. حكمة قرآنية [تفسير الحروف المقطّعة حسبما قاله ابن سينا] اعلم - هداك الله تعالى إلى فهْم آياته - أنّ شيخ فلاسفة الإسلام ذهب في رسالة سمّاها بالنيروزية، إلى أن هذه الحروف أسماءٌ للحقائق الذاتية، بعضها لذات الله تعالى مطلقاً، وبعضها لذاته مضافةً الى ما أبدعه، وبعضها لمبدعاته مطلقة، وبعضها لها مضافة على الوجه الذي سنذكره، وأَقْسَم الله بهذه الأشياء العظيمة تكريماً وتعظيماً، ونحن اخترنا مذهبَه وتتبَّعنا أثر كلامه في هذا المرام. فنقول: لا شبهة أنّ الله قد أوجد الموجودات المتأصّلة على ترتيب ونظام، الأول والثاني والثالث على ترتيب مراتب العدَد. لأنّه ليس في قوة الكثرة أن تظهرَ عنه تعالى أولاً، كما ليس في قوة الزمان أن يوجد عنه في آنٍ دفعةً، ولا في استطاعة الجسم أن يتكوّن عنه مبدَعاً، فالترتيبُ يرتقي بالكثير إلى الواحد الحقيقي بحيث لا تنثلم به وحدتُه. وكما انّ الواحد مبدأ الأعداد والكثَرات كلها على الترتيب الأبسط فالأبسط، فكذلك البار جلّ كبرياؤه، مُبدِع الأشياء كلها على ترتيب الأبسط فالأبسط، وهو فاعل الإنيّات المتأصّلة والأنواع الكاملة قبل شخصيّاتها الزمانيّة على الترتيب الإلـٰهي الإبداعي، والنظم الربّاني الأحدي أولاً وثانياً وثالثاً. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكلّما كان الوجود فيه أشرف، كانت الوحدة فيه أتمّ، وكان في درجة الاستفادة للوجود أقدم، وهكذا إلى أن ينتهي الترتيب النزولي إلى الموجودات الزمانيّة والمكانيّة من الجزئيّات المتكثرة في التشخّص، المتّحدة في المعنى والحقيقة، وهي بمنزلة ظِلال وأشباح لما في العالَم الأعلى الإلـٰهي من الحقائق المتأصّلة التامّة، التي لا ينفك تمامها عن بدوها. وإذا سألت عن شيء منها بما هو ولِمَ هو، كان الجواب عنهما واحداً، لأنّه تامّ الوجود لا يعوزه شيء من وجوده، ومن كمال وجوده عنه. فلكلّ منها مرتبةٌ خاصّة من الوجود لا يمكن أن يتعدّاه سابقاً أو لاحقاً، إذ كون كلّ منهما في مرتبته كالمقوّم لذاته، وكما أنّ الأوليّة عين ذات المبدإ تعالى، فكذا الثانويّة للموجود الذي بعده بعديّة ذاتيّة والثالثيّة للموجود الذي بعده بوسطٍ واحد، بعديّة بالذات، وهكذا الرابع والخامس الى أقصى الوجود. ثمّ إنّ أشرف الموجودات الواقعة بعد مرتبة الواحد الحقّ الأول، هو عالَم العقل والملائكة المقرّبين. وهذا العالَم جملة مشتملة على موجودات قائمةٍ بلا موادٍ خاليةٍ عن القوّة والاستعداد، عقولٍ قادسيةٍ طاهرةٍ، وصورٍ مجردةٍ باهرةٍ، ليس في طباعها أن تتغيّر أو تتكثّر أو تتحيّز، كلّها كشخص واحدٍ متّصلة اتّصالا روحانيّاً. وكلّها عشّاق إلـٰهيّون، مشتاقون الى الأول والاقتداء به، والإظهار لأمره، والابتهاج به، والقُرب العقلي منه. وهم مبتهجون بذات الأول لا بذواتهم، شاعرون به ذاهلون عن ذواتهم، لاضمحلال ظلالِ إمكاناتهم تحت سطوح النور الأحدي وكبرياء جلاله. ثمّ الواقعُ في ثالثِ المراتب العدديّة الذاتيّة، وجودُ العالَم النفسي من لدن نفْس الفلَك الأعظم الى النفوس المتعلقة بالأبدان البشريّة، والقوالب الإنسيّة. فعالَمها مشتملٌ على جملة كثيرة من ذوات معقولة، ليست مفارقة للموادّ كلّ المفارقة، ولا مواصلة لها كلّ المواصلة، بل هي ملابستها ضرباً من الملابسة، وموادّ الصنف المتعلّق منها بالسماوّيات، موادٌ دائمة الحرمة الدوريّة بإذن الله، وتسخيره للملائكة المدبّرة إيّاها، الحافظة لصوَرها المحرّكة لها تشوّقاً الى الله، وتقرّباً منه وطاعة إيّاه. ولها في طباعها نوعٌ من التغيّر، ونوع من التكثّر، لا مطلقاً كالأجرام الاسطقسيّة. ثمّ الواقع في رابع المراتب عالَم الطبيعة، ويشتمل على قُوىٰ ساريةٍ في الأجرام ملابسة للمادّة على التمام، وهي دائمةَ التجدّد والزوال، سيّالة الذوات متجددة الهويّات، تفعل الحركات الذاتيّة والسكنات في إحدىٰ المقولات من الأين والوضع والكمّ والكيف. أما الحركة، فإذا لحقها ضَرْبٌ من التغيّر من جهة عارض غريب، وأما السكون، فعندما لم يلحقها عارضٌ غريبٌ. وبعد مرتبتها وجودُ العالَم الجسماني المنقسم إلى أثيري وعنصري، وخاصيّةُ الأثيري؛ استدارة الشكل والحركة، واستغراق الصوَر للموادّ، وخلوّ الجوهر عن التضاد. وخاصيّة العنصري؛ التهيّؤ للأشكال المختلفة والأحوال المتغايرة، وانقسام بين صورتين متضادّتين، أيّهما كانت بالفعل كانت الأخرى بالقوّة. وليس وجود احداهما لها دائماً، بل وجوداً زمانيّاً ومباديه الفعّالة فيه من القوى المساويّة بتوسّط الحركات، وبسبق كماله الأخير أبداً بالقوّة. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويكون ما هو أولُ فيه بالطبع، آخراً في الشرف والفضْل، ولكل واحدة من القوى المذكورة اعتبارٌ بذاته واعتبارٌ بالإضافة الى تاليه الكائن عنه، ونسبة الثواني كلّها إلى الأول بحسب الشركة نسبة الإبداع. وأمّا على التفصيل، فيخصّ العقل نسبة الإبداع، ثمّ إذا قام متوسّطاً بينه وبين الثوالث صار له نسبة الأمر، واندرج فيه معه النفْس، ثمّ كان بعده نسبةَ الخلْق. وللأمور العنصريّة بما هي كائنةٌ فاسدةٌ نسبة التكوين والابداع، يختصّ بالعقل، والأمر يفيض منه الى النفْس، والخلْق يختص بالموجودات الطبيعيّة، ويعمّ جميعها، والتكوين يختصّ بالكائنة الفاسدة منها. وإذا كانت الموجودات بالقسمة الكليّة إمّا روحانيّة وإمّا جمسانيّة، فالنسبة الكليّة للمبدإ الحقّ إليها، أنّه الذي له الخَلْق والأمر، فالأمر متعلّق بكل ذي إدراك، والخلْق بكلّ ذي تسخير، وهذا هو الغرض في هذا الفصل. فصل آخر في الدلالة على كيفية دلالة الحروف على هذه المراتب الوجودية إنّ من الضرورة أنّه إذا أريدَ الدلالةُ على هذه المراتب بالحروف، أن يكون الأول منها في الترتيب القديم - وهو ترتيب " أبجَد هّوز " إلى آخره - دالاً على الأوّل وما يتلوه، وأن يكون الدالُّ على ذوات هذه المعاني من الحروف متقدّماً على الدالّ عليها من جهة ما هي مضافة، وأن يكون المعنى المرتسم من إضافةٍ بين اثنين منها مدلولاً عليه بالحرف الذي يرتسم من ضرب الحرفين الأولين أحدهما في الآخر، اعني ما يكون من ضرب عددي الحرفين أحدهما في الآخر، وأن يكون ما يحصل من العدد الضربيّ مدلولاً عليه بحرفٍ واحد مستعملاً في هذه الدلالة مثل (ك) الذي هو من ضرب (ي) في (ب). وما يصير مدلولاً بحرفين - مثل (يه) من ضرب (ج) في (ه) ومثل (كه) الذي هو من ضرب (ه) في (ه) - مطرَحاً لأنه مشكّك توهم دلالة كلّ واحد من (ي) و (ه)، ويقع هذا الاشتباه في كلّ حرفين مجتمعين لكل واحد منهما خاصّ دلالته في حد نفسه، وان يكون الحرفُ الدالّ على مرتبةٍ من جهة أنّها بواسطة مرتبة قبلها من جميع حروف المرتبتين. فإذا تقرّر هذا، فإنّه ينبغي ضرورةً أن يُدلّ بالألف على الباري، وبالباء على العقل، وبالجيم على النفس، وبالدال على الطبيعة؛ هذا إذا أُخذت بما هي ذوات، وبالهاء على الباري، وبالواو على العقل، وبالزاي على النفس، وبالحاء على الطبيعة، هذا إذا اخذت بما هي مضافة الى ما دونها. وبقي الطاءُ لهيولى وعالَمه، وليس له وجودٌ بالإضافة الى شيء تحته، وينفد رتبة الآحاد ويكون الابداع، وهو من إضافة الأول الى العقل ذات لا مضاف الى ما بعده مدلولاً عليه بالياء، لأنه من ضرب (ه) في (ب)، ولا يحصل من إضافة الباري أو العقل الى النفْس عددٌ يدلّ عليه بحرف واحد، لأنه (ه) في (ج) يه، و (و) في (ج) يح، ويكون الأمر وهو من إضافة الأول الى العقل، مضافاً مدلولاً عليه باللام، وهو من ضرب (ه) في (و). | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ويكون الخلْق، وهو من إضافة الأول الى الطبيعة بما هي مضافة، مدلولاً عليه بالميم، وهو من ضرب (ه) في (ح)، لأنّ الحاء دلالة الطبيعة مضافة. ويكون التكوين، وهو من إضافة الباري إلى الطبيعة وهو ذات، مدلولاً عليه بالكاف، ويكون جميع نسبتي الأمر والخلْق - أعني ترتيب الخلْق بواسطة الأمر، أعني اللام والميم - مدلولاً عليه بحرف (ع)، وجميع نسبتي الخلق والتكوين كذلك - أعني الميم والكاف - مدلولاً عليه بالسين، ويكون مجموع نسبتي طرفي الوجود - أعني اللام والكاف - مدلولاً عليه بالنون، ويكون جميع نسبته الأمر والخلْق والتكوين - أعني كاف ولام وميم - مدلولاً عليه بصاد. ويكون اشتمال الجملة في الابداع - أعني (ي) في نفسه (ق) - وهو أيضاً من جمع (صاد) و (ي). ويكون ردّها إلى الأول، الذي هو مبدأ الكل ومنتهاه، على أنه أول وآخر - أعني فاعلاً وغاية كما بيّن في الإلٰهيات - مدلولاً عليه بالراء ضِعْف (ق)، وذلك هو الغرض في هذا الفصل. فصل آخر في الغرض فإذا تقرّر ذلك فنقول: إنّ المدلول عليه (بالۤمۤ) هو القسَم بالأول ذي الأمر والخلْق. و (بالۤمۤرۤ) القسَم بالأول ذي الأمر والخلْق، وهو الأول والآخر والأمر والخلْق والمبدأ الفاعلي والمبدأ الغائي جميعاً، و (بالۤمۤصۤ) القسَم بالأول ذي الأمر والخَلق والمنشىء للكلّ. و (بص) القسَم بالعناية الكلية. و (بق) القسَم بالابداع المشتمل على الكلّ بواسطة الابداع المساوي للعقل. و(بكۤهيعۤصۤ) القسَم بالنسبة التي للكاف - أعني عالَم التكوين - إلى المبدء الأول، وبنسبة الإبداع الذي هو (ي)، ثم الخَلْق بواسطة الأمر وهو (ع)، ثمّ التكوين بواسطة الخلْق والأمر وهو (ص)، فبين (ك) و (ه) ضرورة نسبة الإبداع، ثمّ نسبة الخلْق والأمر، ثمّ نسبة التكوين والخلْق والأمر. و (يسۤ) قسَم بأول الفيض والابداع وآخره، وهو الخلْق والتكوين. و (حـمۤ)، قسَم بالعالَم الطبيعي الواقع في الخَلْق. و (حـمۤ عۤسۤقۤ) قسَم بمدلول وساطة الخَلْق في وجود العالَم الطبيعي، وما يخلق بينه وبين الأمر بنسبة الخلْق إلى الأمر، ونسبة الخَلْق الى التكوين، وبأن يأخذ من هذا ويردّه الى ذلك، فيتمّ به الإبداع الكلي المشتمل على العوالِم كلّها، فإنها إذا اخذت على الإجمال، لم يكن لها نسبةٌ إلى الأول غير الابداع الكلي الذي يدل عليه (بق). و (طسۤ) يمين بعالَم الهيولى الواقع في الخلْق والتكوين. و (نۤ) قسَم بعالَم وعالَم الأمر، أعني لمجموع الكل. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | ولا يمكن أن يكون للحروف دلالة غير هذا ألبتة، ثمّ بعد هذا أسرار تحتاج الى المشافهة. فهذا غاية الكلام الواقع في هذا المرام والله أعلم بأسرار كتابه وهو علاّم الغيوب. فصل في أحوال أواخرها من حيث الإِعراب قد مرّ ان أسماء الحروف - ما لم تلها العوامل - موقوفةٌ خاليةٌ عن الإعراب، لفقْد موجبه، لا لأنها ليست قابلة له، بل هي معرَبة معرضة للإعراب غير مبنيّة. وأما هل لهذه الفواتح محلٌ للإعراب أم لا فنقول: إن جعلت أسماء لذات الله وآياته - كما اخترناه - أو للسوَر، كان لها حظٌّ من الإعراب المحلّي، ويجري فيه الوجوه الثلاثة: أما الرفع فعلى الإبتداء والخبَر، وأما النصب فبتقدير فعل القسَم على طريقة: " الله لأفعلنّ كذا " بالنصب، أو بتقدير فعل آخر: كاذكر ونحوه. وأما الجرّ، فعلى إضمار حرف القسَم، وهي في ذلك على ضربين: أحدهما: ما يتأتّى فيه الإعراب لفظاً، وهو إما أن يكون إسماً فرداً كصاد وقاف ونون، أو موازناً لمفرد وإن كان أسماء متعدّدة كحاميم وطاسين وياسين، فانها على زنة قابيل، وكذلك طسم تتأتّى فيها أن يفتح نونها ويصير ميم مضمومة إلى طاسين، فيجعلا إسماً واحداً كدار أجرد والثاني ما لا يتأتّى فيه الإعراب نحو: (كۤهيعۤصۤ) و (الۤمۤر). أما النوع الأول فيسوغ فيه الأمران: الإعراب والحكاية، قال الشاعر: | **يذكرني حاميم والرمح شاجر** | | **فهلاّ تلا حاميم قبل التقدّم** | | --- | --- | --- | فاعرب حاميم، ومنعَها من الصرف لاجتماع السببين فيها: العلَميةُ والتأنيثُ، وهكذا كل ما أعرب من أخواتها. وأما النوع الثاني، فهو محكيٌّ لا غير، وإن أبقيتها على معانيها الحرفيّة، فإن قدرت بالمؤلَّف من هذه الحروف كان في حيّز الرفع بالابتداء والخبر. وإن جعلتها مقسَما بها، تكون كلّ كلمة منها منصوبة أو مجرورة على اللغتين المذكورتين في (الله أفعلنّ كذا)، ويكون جملة قَسَميّة بالفعل المقدّر له. وإن جعلتها أبعاض كلمات، أو أصواتاً نازلة منزلة حروف التنبيه، لم يكن لها محلٌّ من الإعراب، كالجمل المبتدأة، والمفردات المعدودة، ويوقَف عليها وقف التمام إذا قدّرت بحيث لا يحتاج الى ما بعدها. ولقائل أن يقول: فما وجه قراءة من قرأ: صاد وقاف ونون، مفتوحات. قلنا: الأوْلىٰ كون ذلك نصباً لا فتحاً، وإنما لم يصحبها التنوين لامتناعها من الصرف على ما مرّ، وانتصابها بتقدير فِعْل القسَم، كما هو المختار، أو بنحو: اذكر. وقد أجاز سيبويه مثل ذلك في حـمۤ وطسۤ ويسۤلو قرأ به. وحكى السيرافي إنّ بعضهم قرأ ياسينَ (بالفتح) ويجوز أن يقال: حُرّكت لالتقاء الساكنين كما قرىء: ولا الضالين. تنبيهات: الأول: ما وجه انّ هذه الأسامي مكتوبةٌ في المصاحف على صوَر الحروف المسمّيات، مع انّ الملفوظ والمكتوب من حقائق الأشياء، أسماؤها لا مسمّياتها. قلنا: لأنّ العادة جاريةٌ في أنها متى تهجّيت أن تُلفظ بالأسماء، ومتى كُتبت أن تُكتب بالحروف أنفسها، وقد اتّقفت في خطّ المصحَف أشياء خارجة عن مقائيس علم الخطّ والهجاء، ولا ضير في ذلك ولا نقص، لاستقامة اللفظ وبقاء الحفظ. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | وكان اتّباع خطّ المصحَف سنّة معمولاً بها، على أن شهرة أمرها، وإقامة الألسُن لها، وأن التلفّظ بها لا على نهج التهجّي، غير مفيد لمعنى، وانّ بعضها مفرد لا يخطر ببال غير ما هو عيله من مورده، أمنت وقوع اللبس فيها. الثاني: ليس شيء من هذه الفواتح آية عند من عدا الكوفيين، وأما عندهم فبعضها آية واحدة كالۤمۤ في مواقعها وهي ستّة، والۤمۤصۤ، وكۤهيعۤصۤ، وطه، وطسۤمۤ، وحـمۤ، ويسۤ. وبعضها وهو حمۤ عۤسۤقۤ آيتان. والبواقي ليست بآيات، وهذا علْم توقيفي لا مجال للقياس فيه. الثالث: هل يجوز إرادة القسَم في المحكيّة كما جاز في المعربة؟ نعم، ولك أن تقدّر حرف القسَم مضمَراً في نحو قوله تعالى:**{ حمۤ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ }** [الدخان:1-2]. كأنه قيل: أُقسِمُ بهذه السورة وبالكتاب المبين، { إنَّا جَعَلْنَاهُ... } وأما قوله (صلّى الله عليه وآله): حـمۤ لا ينصرون فيصلح أن يكون منصوباً ومجروراً، جميعها على حذف الجار وإضماره. | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | | | | | | | | --- | --- | --- | --- | --- | | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | | | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- | --- |